خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 18/1/2019
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
اليوم سأحدثكم عن حضرة عامر بن فهيرة وذكْره في التاريخ طويل، فله دور في أحداث هامة في تاريخ الإسلام، أعني كان شريكا فيها، وتلك الأحداث يجب بيانُها بالتفصيل نظرا إلى أهميتها. كانت كنيته أبا عمرو وينتمي إلى قبيلة الأزد، فَكَانَ غُلَامًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخُو عَائِشَةَ لِأُمِّهَا أي كان أبوه غير أبيها. وكان من السود، وكان من السابقين إلى الإسلام. فقد كان قد أسلم قبل دخول النبي ﷺ في دار الأرقم، وكان يرعى غنم أبي بكر ؓ. بعد إسلامه اضطهده الكفار كثيرا، فاشتراه أبو بكر ؓ وأعتقه. أثناء الهجرة إلى المدينة حين لجأ النبي ﷺ وأبو بكر ؓ إلى غار ثور، كان أبو بكر ؓ قد أمر عامر بن فهيرة ؓ أن يأتي بالغنم إليهما ليلا، فكان يرعاها طوال النهار فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا. عندما كان عبد الله بن أبي بكر يذهب إليهما أي رسولِ الله ﷺ وأبي بكر ؓ كان حضرة عامر بن فهيرة يقتفي أثره لئلا يُعرف أين يذهب ابنُ أبي بكر ؓ ولا يشك الكفار فيه. فلما انطلق النبي ﷺ وأبو بكر ؓ إلى المدينة بعد الخروج من الغار، هاجر معهما عامر بن فهيرة أيضا، فكان أبو بكر ؓ قد أركبه خلفه، وكان هاديهم أو دليلهم رجلٌ مشرك من بني الدِّيل.
بعد الهجرة آخى النبيُّ ﷺ بين حضرة عامر بن فهيرة وحضرة الحارث بن أوس بن معاذ. لقد شهد عامر بن فهيرة بدرًا وأُحدًا، واستُشهد في حادثة بئر معونة يوم كان عمره 40 سنة. كان حضرة أبي بكر ؓ قد أعتق سبعة من العبيد الذين كانوا يؤذَون في سبيل الله وكان منهم حضرة بلال وحضرة عامر بن فهيرة.
تقول السيد عائشة رضي الله عنها عن الهجرة:
فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِدًا لَكَ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ قَالَ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (أي عائشة ووالدتها أم رومان) قَالَ فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ بِالثَّمَنِ. قَالَتْ فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَأَوْكَأَتْ بِهِ الْجِرَابَ وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ ثُمَّ لَحِقَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ فَمَكُثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ (رغم أنه كافرا وتربى في قريش) فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ- هذه رواية البخاري- سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ سُرَاقَةُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا (إذ كان سراقة حريصا على أن يلاحقهم فينال الجائزة) ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا. فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، (أي خرج السهم غير الموافق لإقدامي وكان يعني أنني لن أستطيع القبض عليهم. يقول:) فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ. (أي عصيت ما خرج لي من السهم غير الموافق لرغبتي) جرت فرسي وقرّبتني إليهم حَتَّى سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الاِلْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، (بعد قليل لما تقربت منهم ساخت قدما الفرس في الرمال) فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ. (أي كانت قد ساخت يدا فرسه لدرجة أنها لما أخرجتهما بقوة انتشر الغبار الناتج عن ذلك في الفضاء فملأه كالدخان. ثم يقول:) ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، (أي كان يعني ذلك أنني لن أتمكن منهم) فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، (أي أخبرتهم بأن إرادتي الآن ليست كما كانت ونيتي ليست سيئة الآن. ثم يقول:) فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، (لما صلحتْ النية جرتْ الفرس وبلغت النبي ﷺ، أو ربما رجعت هذه القافلة إلى الوراء قليلا أو وقفت في مكانها حتى لحق بهم سراقة. ثم يقول:) وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ (أي ذكرت له بالتفصيل ما يستبطنونه من نوايا خبيثة)، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي، (أي رفض النبي ﷺ قبول ذلك منه لأنه لا يحتاج له) وَلَمْ يَسْأَلاَنِي إِلاَّ أَنْ قَالَ: “أَخْفِ عَنَّا” (أي لا تخبر أحدًا عن الطريق الذي نسلكه) فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، (يقول بأنني التمست من النبي ﷺ أن يكتب لي وثيقة أمن) فَأَمَرَ ﷺ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ (الذي كان عبدًا حبشيًّا إلا أنه في ذلك الوقت كان محررًا وكان يصطحب النبي ﷺ في سفره هذا) فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ.
عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان راجعًا من الشام مع قافلة تجارية للمسلمين فلقي النبي ﷺ في الطريق فكساه وأبا بكرٍ ثوبا أبيض.
ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ﷺ من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، (أي كانوا ينتظرون قدوم النبي ﷺ صباح كل يوم، فلما تسطع الشمس بأشعتها الحارقة يرجعون إلى بيوتهم) فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، (كان يعرف عن اجتماع المسلمين يوميا في مكانٍ وانتظارهم للنبي ﷺ) فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله ﷺ بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين، من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله ﷺ صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله (ﷺ) يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله ﷺ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله (ﷺ) عند ذلك. فلبث رسول الله (ﷺ) في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله (ﷺ)، ثم ركب راحلته وسار حوله الناس يمشون، حتى بركت به مكان المسجد، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا لسهل وسهيل (وكانا شابين يتيمين يجففان تمرهما في هذا المكان وكان سعد بن زرارة قد رباهما، فلما بركت ناقة النبي ﷺ في هذا المكان قال النبي ﷺ هذا هو مكان إقامتنا إن شاء الله) ثم دعاهما النبي ﷺ فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
وهذه أيضا رواية البخاري.
لقد كتب حضرة المصلح الموعود ؓ أيضا عن واقعة الهجرة بأسلوبه المختلف عن الآخرين لذلك أذكر جزءًا مما كتبه حضرته عن تفصيل هذه الواقعة. يكتب حضرته:
“وفي النهاية، لم يبق أحد من المسلمين في مكة سوى بعض العبيد، والرسولﷺ نفسه وأبو بكر ؓ وأهله، وعليّ بن أبي طالب ؓ وتأكد لأهل مكة أن فريستهم توشك أن تفلت، فاجتمع سادتهم ثانية وقرروا أنه لا بد من قتل الرسول ﷺ، وبتدبير إلهي خاص، كان الموعد الذي حدّدوه لقتل الرسول ﷺ هو الموعد الذي حدّده الله تعالى لنجاته. وعندما اجتمعوا عند باب بيت الرسول ﷺ في نيّة مبيّتة لقتله، كان ﷺ ينسلّ خارجًا في سرّية تحت جنح ظلام الليل. ولا بد أن أهل مكة قد خافوا أن يحبط تدبيرهم الأحمق بعمل من طرف الرسول ﷺ، لذلك باشروا عملهم بحذر، وعندما مرّ الرسول ﷺ نفسه عليهم ظنوه شخصًا آخر، وانسحبوا متوارين جانبًا. وكان أبو بكر، وهو الصديق الأثير لدى الرسول ﷺ، قد علم بخطة الرسول ﷺ قبل التنفيذ بيوم، فانضم إليه في حينه. وغادر الاثنان مكة في وقت قليل، ولجآ إلى غار يسمى غار ثور؛ على قمة جبل يبعد ثلاثة أميال من مكة. وعندما علم أهل مكة بإفلات الرسول ﷺ، اجتمعوا وأرسلوا قوة مسلحة تطارده، يقودها قصّاص أثر. وبلغت القوة جبل ثور، وأمام الغار الذي يختفي فيه الرسول وأبو بكر، وقف قصّاص الأثر قائلاً إن محمدًا إمَّا أن يكون في الغار أو أنه صعد إلى السماء. وسمع أبو بكر ؓ ذلك، فدقّ قلبه بعنف وقال في همس: “لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآنا”. فقال الرسول ﷺ: “لا تحزن إن الله معنا”. فقال أبو بكر: “إني لا أخشى على نفسي بل أخشى عليك، فإنني إن مت فما أنا إلا امرؤ عادي، ولكن لو أنك مت فذلك يعني موت الإيمان والدين”. فطمأنه الرسول ﷺ قائلاً له: “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.”
كان الله ﷻ قد قدّر أن ينتهي طغيان مكة، وكتب العزة والانتشار للإسلام. لذلك فقد خدع المطاردون أنفسهم؛ فسخروا من قول قصّاص الأثر، وقالوا له إنّ الغار مكشوف ولا يُغري باللجوء إليه، ونظرًا إلى وجود الحيات والأفاعي به، فمن الخطر أن يلجأ إليه أحد. ولو أنهم انحنوا قليلاً لرأوا الرسول ﷺ وصاحبه، ولكنهم لم يفعلوا، فصرفوا قصّاص الأثر، وعادوا إلى مكة. وانتظر الرسول ﷺ وأبو بكر ؓ يومين بالغار، وفي الليلة الثالثة حسب الخطة الموضوعة، أُحضرت ناقتان سريعتان إلى الغار؛ ركب إحداهما الرسولُ ﷺ والدليل الذي سيرشد إلى الطريق، وركب الأخرى أبو بكر وخادمه عامر بن فُهَيرة. قبل أن ينطلق الرسول ﷺ نحو المدينة نظر خلفه إلى مكة التي وُلد فيها وتلقّى فيها دعوة الله ﷻ وعاش فيها آباؤه منذ إسماعيل u. ومع جيشان هذه الخواطر، ألقى عليها نظرة أخيرة وقال بحسرة: يا أرض مكة إنك أَحَبُّ الأَماكن إِليّ ولكن أَهْلَكِ لا يدعونني أعيش هنا”. عند ذلك قال أبو بكر ؓ بأسف شديد: “هل تنتظر قرية أخرجت نبيّها سوى الهلاك؟”.
عندما فشلت خطة المطاردة، وضع أهل مكة جائزة مقدارها مائة جمل لمن يأتي بالهاربيْن إلى مكة حيّين أو ميّتين، محمد ﷺ وأبي بكر ؓ. وأُعلن الخبر في القبائل المحيطة بمكة، وأغرت الجائزة سُراقة بن مالك؛ أحد سادة البدو، فبدأ في مطاردة الرهط المهاجر، وأخيرًا لمحهم على الطريق إلى المدينة. رأى جملين على البعد محمّلين، فخمّن أنهما لا بد يحملان محمدًا وأبا بكر. فهمز حصانه، غير أنه قبل أن يذهب بعيدًا، إذا به يتعثر ويسقط، ومعه سراقة. وكان سراقة قد أسلم فيما بعد فهو نفسه قصَّ قصته هذه، وقد مر ذكرها بالتفصيل، وبينها هنا المصلح الموعود ؓ ثم قال: فلما كتب عامر بن فهيرة ؓ بأمر النبي ﷺ كتاب أمن لسراقة وحين أراد سراقة أن يعود بالكتاب كشف الله تعالى على النبي ﷺ بالوحي عن حالات سراقة في المستقبل، فقال له النبي ﷺ: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ فسأل سراقةُ في دهشة: أيّ كسرى؟ كسرى بن هرمز، إمبراطور الفُرس؟ فقال الرسول ﷺ: نعم.
وبعد هذا اليوم بستة عشر أو سبعة عشر عامًا، تحققت النبوءة حرفيًّا. لقد دخل سراقة الإسلام، وذهب مهاجرًا إلى المدينة، ومات الرسول ﷺ، وبعده مات أبو بكر ؓ، ثم أصبح عمر ؓ خليفة الإسلام. ودفع نفوذ الإسلام المتنامي الفُرس إلى الإحساس بالغيرة، فهاجموا المسلمين. ولكنهم بدلا من إخضاع المسلمين، خضعوا هم للمسلمين. وسقطت عاصمة الفُرس في يد المسلمين حيث استولوا على كنوز كسرى، وفيها سواراه الذهبيان اللذان كان يلبسهما عند ممارسة السُلطة. وكان سُراقة بعد إسلامه قد تعوّد على تكرار ذكر مطاردته للرسول ﷺ ورهطه، وكان يقصّ ما جرى بينه وبين رسول الله ﷺ. فكان المسلمون يعلمون أن النبي ﷺ قال له: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ وعندما وُضعت غنائم الحرب أمام عمر ؓ، لمح السوارين وتذكّر القصة كلها وزمنَ الضعف ذلك حين اضطُر رسول الله ﷺ إلى ترك وطنه وأن يهاجر إلى المدينة ومطاردة سراقة والآخرين النبيَّ ﷺ لكي يقتلوه أو يأتوا به إلى أهل مكة حتى يفوزوا بمائة جمل. وقول النبي ﷺ لسراقة في حالة الضعف تلك: كيف بك إذا لبست سواري كسرى، إنما كان نبوءة عظيمة، وكم كان خبر الغيب هذا صافيا؟ حين رأى عمر ؓ أسورة كسرى أمامه تمثلت قدرة الله تعالى أمام عينَيه، فدعا سُراقة، وأمره أن يلبس السواريْن. فقال سُراقة: يا خليفة رسول الله، إن ارتداء الذهب محرّم على الرجال في الإسلام.
فقال عمر ؓ لا شك أن ارتداء الذهب حرام على الرجال، ولكن ليس لهذه المناسبة لأن الله تعالى نفسه قد أرى الرسول ﷺ سواري كسرى الذهبيَّين في معصمَيك، فإما أن تلبسهما أو عاقبتُك، لأن جزءا من هذه النبوءة قد تحقق ولا بد أن يتحقق الجزء الثاني أيضا. لقد كان اعتراض سُراقة قائمًا على احترامه لتعاليم الرسول ﷺ، وإلا فإنه كان يتلهف على تحقيق هذه النبوءة العظيمة تحقيقًا عمليًا. فلبس السواريْن، ورأى المسلمون تحقق نبوءة رسول الله ﷺ بأم أعينهم. وبحسب بعض الكتب كلمات النبي ﷺ عن لبس سراقة سواري كسرى لم تكن أثناء الهجرة بل قالها عند عودته ﷺ من غزوة حنين والطائف في الجعرانة ولكن القول السائد والأصح هو كما ذكرتُ أنه قالها بمناسبة الهجرة وهذا ما كتبه المصلح الموعود ؓ.
لَمَّا قَدِمَ عامر بن فهيرة ؓ الْمَدِينَةَ اشْتَكَى فدعا له الرسول ﷺ فشُفي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ اشْتَكَى أَصْحَابُهُ وَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ﷺ فِي عِيَادَتِهِمْ فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تَجِدُكَ فَقَالَ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ. ثم سألتْ عامرًا فقال: إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
(أي أن الشجاع يكون مستعدا للموت دائما، ولكن الجبان ليس كذلك) وَسَأَلَتْ بِلَالًا فَقَالَ يَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِفَجٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ. فَأَتَتْ النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِهِمْ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ وَأَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَفِي مُدِّهَا وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى مَهْيَعَةَ. (مسند أحمد، كتاب باقي مسند الأنصار)
لقد استُشهد عامر بن فهيرة يوم بئر معونة. فقد ورد في رواية في صحيح البخاري: لـمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَنْ هَذَا فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ ثُمَّ وُضِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ فَقَالُوا رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ. (صحيح البخاري، كتاب المغازي)
فقد أرى اللهُ تعالى هذا المشهد للآخرين أيضا. هناك اختلاف فيمن قتل عامرَ بن فهيرةَ، ففي رواية أن قتله عامر بن الطفيل الذي ذكر ما سبق ذكره لأنه كان من الأعداء. وفي رواية أخرى أن جبار بن سلمى قتله. على أية حال، قُتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة.
يقول سيدنا المصلح الموعود ؓ في ذكر حادث استشهاد عامر بن فهيرة:
انظروا، لم ينتصر الإسلام بقوة السيف، بل نتيجة تعليمه العظيم الذي كان يدخل في القلوب، وكان يُحدث تغيُّرا عظيما في الأخلاق. يقول أحد الصحابة أن السبب الوحيد لانضمامي إلى الإسلام هو أنني كنت ضيفا عند قوم قتلوا سبعين قارئًا غدرا وخيانة؛ فعندما هاجم العدوُ المسلمين صعد بعضهم إلى تلة وتصدى لهم بعض آخرون. ولما كان الأعداء بعدد هائل وكان المسلمون قلة وعُزَّلا دون عُدّة وعتاد، فقتلوا المسلمين واحدا بعد الآخر، وبقي في الأخير صحابي واحد كان مع رسول الله ﷺ في الهجرة، وكان مملوكا أعتقه أبو بكر ؓ واسمه عامر بن فهيرة ؓ. فأمسكه كثير من الأعداء وطعن أحدهم صدره برمح. وما إن أصابه الرمح قال عفويا: “فزتُ ورب الكعبة”. عندما سمعت هذا الكلام استغربت استغرابا ما بعده استغراب، وقلتُ في نفسي بأن الرجل بعيد عن أقاربه وعن أهله وأولاده وفي مواجهة مصيبة عظمى، وعندما يُطعن برمح في صدره لا يقول إلا: “فزتُ ورب الكعبة”، فتساءلتُ في نفسي: هل الرجل مجنون؟ ثم سألتُ الناس ما القصة؟ ولماذا تفوّه بهذه الجملة؟ قالوا: أنت لا تدري هذا الأمر. الحق أن المسلمين مجانين فعلا لأنهم عندما يموتون في سبيل الله يحسبون أن الله رضي بهم وقد فازوا فوزا عظيما. فترك هذا الحادث في قلبي تأثيرا، فقرَّرت أن أزور مركزهم وأطّلع على دينهم بنفسي، فوصلت إلى المدينة وأسلمتُ. يقول الصحابة ؓ إن هذا الشخص كان متأثرا من هذا الحادث -إذ كان الصحابي المذكور بعيدا عن أهله وأقاربه ولم يكن معه أحد، وحين طُعن في صدره لم يقل إلا: “فزتُ ورب الكعبة”- وكلما قص هذه القصة ووصل إلى جملة: “فزتُ ورب الكعبة” ارتعدت أوصاله دائما لهيبة الحادث وانهمرت عيناه دموعا عفويا. باختصار، إن الإسلام انتشر نتيجة مزاياه الفريدة ليس بقوة السيف. (السياحة الروحانية)
لقد ورد في الروايات أن مما قاله عامر بن فهيرة قبيل الاستشهاد جملتان أي: “فزتُ ورب الكعبة” و”فزتُ والله”. وقالها غيره من الصحابة أيضا. وقد ذكر ذلك سيدنا المصلح الموعود ؓ أيضا، فقال: يتبين لنا من مطالعة التاريخ أن الصحابة كانوا يعرفون جيدا عند اشتراكهم في الحروب أن في الاستشهاد سعادة كبيرة لهم. وإذا أصيبوا في الحرب بأذى كانوا يحسبونه عين الراحة. لقد ذُكرت في التاريخ أحداث كثيرة للصحابة أنهم كانوا يحسبون الموت في سبيل الله عين الراحة والسرور لهم، فمثلا القراء الذين أرسلهم النبي ﷺ إلى قبيلة عربية لتبليغ الدعوة كان منهم حرام بن ملحان، فذهب إلى عامر بن الطفيل زعيم قبيلة عامر، وتخلّف الصحابة الآخرون. فرحب به عامر بن الطفيل وأصحابه نفاقا. وعندما جلس حرام بن ملحان مطمئنا وبدأ في تبليغ الدعوة أشار بعض الأشرار منهم إلى شخص خبيث فطعن حرام بن ملحان من الخلف فورا فسقط وخرج من لسانه عفويا: “الله أكبر، فزتُ ورب الكعبة. ثم حاصر هؤلاء الأشرارُ بقيةَ الصحابة وهاجموهم. وقد ورد أن قاتل رقيقٍ أعتقه أبو بكر ؓ أي عامر بن فهيرة الذي كان مع النبي ﷺ في الهجرة- الذي أسلم فيما بعد- قال أن السبب الوحيد لإسلامه هو أنه عندما قتل عامرُ بن فهيرة قال عفويا: فزتُ والله.
فالأحداث تبين بكل جلاء أن الصحابة كانوا يرون الموت مدعاة لسعادتهم بدلا من الكُربة والإيذاء. فالسعداء، وخاصة عامر بن فهيرة الذي وجد فرصة لخدمة سيدنا أبي بكر ؓ، ثم تسنى له صحبته في الهجرة، وكان قد كُلِّف بمهمة إيصال الطعام إلى النبي ﷺ في غار ثور. عِلما أن أفضل طعام في ذلك الزمن كان حليب الشاة وكان عامر بن فهيرة مكلَّفا بإيصاله إلى النبي ﷺ، فظل يؤدي هذا الواجب إلى ثلاثة أيام بالالتزام. كذلك سنحت له الفرصة أن يكتب لسراقة وثيقة الأمن بناء على أمر النبي ﷺ. وقد أُخبر النبي ﷺ عن استشهاده نتيجة دعائه وهو ﷺ بعيد عنه. فكان عامرٌ مخلصا جدا وقد أبدى إخلاصه ووفاءه في كل مناسبة. رفع الله درجاته دائما.