خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u
يوم 1/3/2019م
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
إن سلسلة وقائع أصحاب بدر أو جوانب حياتهم مستمرة، سأذكر اليوم أيضا بعضهم، منهم خَوْلي بن أبي خَوْلي t، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي r، قال أبو معشر ومحمد بن عمر: شهد خولي وابنه بدرًا ولم يسميا ابنه. وقال محمد بن إسحاق: شهد خوْلي مع أخيه مالك بن أبي خولي بدرًا. (كل هؤلاء مؤرخون) وقيل: شهد بدرًا خولي وأخواه هلال بن أبي خولي وعبد الله بن أبي خولي. توفي خولي في خلافة عمر بن الخطاب t.
والصحابي الثاني الذي أتناول ذكره هو رافع بن المعلى t، وهو من بني حبيب من الخزرج، واسم أمه أدام بنت عوف. آخى النبي r بين رافع وصفوان بن البيضاء، وشهد كلاهما بدرا، وبحسب بعض الروايات استُشهد كلاهما يوم بدر، وفي رواية لم يُستشهد صفوان بن البيضاء يوم بدر. وروى موسى بن العقبى أن رافع وأخاه هلال المعلى كلاهما شهدا بدرا، واستُشهد رافع t يوم بدر على يد عكرمة بن أبي جهل.
والصحابي التالي هو ذو الشمالين عمير بن عبد عمرو t. واسمه عمير وكنيته أبو محمد، قال ابن هشام ليس اسمه ذا الشمالين وإنما سمي بذلك لأنه كان يعمل بشماله، وفي رواية أخرى كان يستخدم كلا يديه على حد سواء لذا سُمي بذي اليدَيْن. كان من بني خزاعة حليف بني زهرة. لـمّا هاجر عُمير من مكّة إلى المدينة نزل على سعد بن خَيْثَمَة، وآخى رسول الله r بين عُمير وبين يزيد بن الحارث، استُشهد كلاهما في معركة بدر، وقتله أسامة الجشمي يوم بدر كما ذكرتُ، وكان عمره وقت استشهاده ثلاثين عاما. وجاء في الطبقات الكبرى أن أبا أسامة الجشمي هو الذي قتله وليس أسامة الجشمي.
ثم الصحابي رافع بن يزيد t، وقيل هو رافع بن زيد. وهو من بني زَعُوراء بن عبد الأشهل من قبيلة الأوس، وأمّه عقرب بنت معاذ أخت الصحابي المعروف سعد بن معاذ t. وكان لرافع ولدان أسيد وعبد الرحمن، وأمّهما عقرب بنت سلامة. شهد رافع بَدْرًا، يقال: إنه شهد بَدْرًا على ناضح لسعيد بن زيد. وقُتِل يوم أُحدٍ شهيدًا.
ثم الصحابي ذكوان بن عبد قيس t، يكنى أبا سَبُع، كان أنصاريا من بني زُرَيْق من الخزْرج. كنيته أبو سَبُع، شهد ذكْوان العَقَبتين الأولى والثانية، ومما يميّزه هو أنه هاجر من المدينة ولحق برسول الله r بمكّة فأقام معه حتى هاجر معه إلى المدينة فكان مهاجريًّا أنصاريًّا. جاء إلى النبي مهاجرا وأقام في مكة لفترة. وشهد بدرًا وأُحُدًا وقُتل يوم أُحُدٍ شهيدًا، قتله أبو الحكم بن الأخنس. يسمى ذكوان بن عبد قيس مهاجرا أنصاريا.
كتب العلامة ابن سعد في الطبقات الكبرى: فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة كلبت قريش عليهم وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله r في العقبة الآخرة ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله r بمكة حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة، والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعًا إلى المدينة، فلم يبق بمكة منهم إلا رسول الله r وأبو بكر وعلي أو مفتون محبوس أو مريض أو ضعيف عن الخروج.
عن سهيل بن أبي صالح قال: لما خرج النبي r إلى أحد قال: “من ينتدب إلى هذه الثغرة؟” فقام رجل من بني زريق يقال له: ذكوان بن عبد قيس أبو السبع، فقال: أنا، فقال: “ومن أنت؟”، قال: أنا ذكوان بن عبد قيس أبو السبع، فقال: “اجلس”، قالها ثلاثا، ثم قال له: “كن بمكان كذا وكذا”، فقال ذكوان: يا رسول الله، ما هو إلا أنا، فقال رسول الله r: “من أحب أن ينظر إلى رجل يطأ خضرة الجنة بقدميه غدا فلينظر إلى هذا”، فانطلق ذكوان إلى أهله يودعهم، فأخذ نساؤه وبناته يقلن له: يا أبا السبع، تدعنا وتذهب؟ فاستل ثوبه حتى إذا جاوزهن أقبل عليهن وقال: موعدكن يوم القيامة، ثم قتل في معركة أحد نفسها شهيدا.
سأل رسول الله r الصحابة يوم أحد: من له علم بذكوان بن عبد قيس؟ قال علي t: أنا رأيت يا رسول الله فارسًا يركض في أثره حتى لحقه وهو يقول: لا نجوت إن نجوت! فحمل عليه بفرسه، وذكوان راجلٌ، فضربه وهو يقول: خذها وأنا ابن علاج! قال علي t: فأهويت إليه وهو فارس، فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها عن نصف الفخذ، ثم طرحته من فرسه فذففت عليه، وإذا هو أبو الحكم بن الأخنس.
ثم الصحابي خوات بن جبير الأنصاري t، يكنى عبد الله وأبا صالح، وكان خوات من بني ثعلبة، وكان خوات بن جبير أخا عبد الله بن جبير t الذي كان أمير الرماة الذين أمرهم النبي r أن يقفوا على جبل عينين يوم أحد. وكان خوات رجلًا ليس بالطويل ولا بالقصير. توفي خوات بن جبير بالمدينة المنورة سنة 40 هـ، وعمره 74 سنة، وفي رواية كان عمره عند الوفاة 94 عاما. كان يخضب بالحنّاء والكَتَم. خرج خوات بن جبير إلى بدر، فلما كان بالروحاء أصابه نصيل حجر فكسر، فرده رسول الله r إلى المدينة، ولكن النبي r ضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها. شهد خوات أحدا والخندق والمشاهد كلها مع النبي r.
قال خوات بن جبير t: نزلنا مع رسول الله r مَرّ الظَّهْران. قال: فخرجتُ من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله r من قبة، فلما رأيت رسول الله r ….قلت: يا رسول الله، جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً. ومضى فاتبعته فألقى إلي رداءه، ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل على صدره من لحيته. فقال: “أبا عبد الله، ما فعل ذلك الجمل”؟ (لم يفقد عبد الله أي جملٍ في الحقيقة، وقد شعر بذلك النبيُّ أيضا بأنه كان جالسا هناك ليسمع أحاديث النساء، وهذا أمر غير محمود) وارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: “السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل” ؟ فلما طال ذلك علي أتيت المسجد، فقمت أصلي، فخرج رسول الله r من بعض حجره. فجاء فصلى ركعتين، فطولت رجاء أن يذهب ويدعني. فقال: ” أبا عبد الله، طوِّلْ ما شئت أن تطوِّل، فلست بمنصرف حتى تنصرف”. فقلت في نفسي: والله لأعتذرن إلى رسول الله r ولأبرئن صدره. فلما انصرفت قال: “السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل” ؟ قلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت. فقال: “يرحمك الله” ، ثلاثاً، ثم لم يعد لشيء مما كان.
أقول: وكأن النبي r قال (بلسان حاله): لا تُخفِ عني شيئا فأنا أعلم بحقيقة الأمر، وثانيا: أن الجلوس في مجلس الناس على هذا النحو لسماع أحاديثهن ليس جيدا.
وعن خوات قال مرضت فعادني النبي r وعندما شفيتُ فلقيني رسول الله r فقال صح جسمك يا خوات … فلله بما وعدتَ. قلت يا رسول الله ما وعدت شيئا، قال بلى يا خواتُ إنه ليس من مريض إلا جعل الله على نفسه إذا عافاه الله يفعل خيرا وينتهي عن الشر ففِ لله بما وعدتَ.
أقول: يجب علينا أن نتأمل جميعا في هذا الأمر بوجه خاص.
عندما علم النبي r بنقض بني قريظة العهد عند غزوة خيبر أرسل إليهم وفدا. يقول مرزا بشير أحمد t بهذا الشأن في تأليفه “سيرة خاتم النبيين”: عندما علم النبيُّ بخيانة بني قريظة أرسل مرة أو مرتين الزبير بن العوام خفية للاستطلاع ثم أرسل إليهم بصورة وفد رسمي رئيسَي قبيلة الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وغيرهما من الصحابة ذوي النفوذ وأوصاهم أنه إذا كان هناك خبر مقلق فلا تذكروه علنا عند عودكم، بل يجب أن تذكروه بالإشارات والاستعارة حتى لا ينتشر الرعب بين الناس. وصل الوفد إلى مساكن بني قريظة وذهبوا إلى رئيسهم كعب بن أسد، فاستقبلهم هذا الشقي بالكِبر والاستكبار. وعندما ذكر سعدان أي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة العهد استاء منه كعب بن أسد وأهل قبيلته، وقالوا ما مفاده: اذهبوا فليس بيننا وبين محمد (r) عهدٌ. سمع وفد الصحابة هذا الكلام وانصرفوا من هنالك. وأخبر سعد بن معاذ وسعد بن عبادة النبيَّ r بالأمر بطريق مناسب. وجاء في الروايات أن خوات بن جبير أيضا كان ضمن هؤلاء الصحابة. وفي رواية أن النبيَّ r أرسله إلى بني قريظة على فرسه الذي كان اسمه الضبيح.
عن خوات بن جبير قال: خرجنا حجاجا مع عمر فسرنا في ركب فيهم أبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، فقال القوم غَنِّنا من شعر ضرار (كان ضرار بن الخطاب شاعرا في قريش وآمن عند فتح مكة) فقال عمر: دعوا أبا عبد الله فليُغَنّ من بنيات فؤاده فما زلتُ أغنِّيهم حتى كان السحر فقال عمر: ارفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا.
ثم هناك صحابي آخر اسمه ربيعة بن أكثم t من بني أسد بن خزيمة يكنى أبا يزيد وكان قصيراً دحداحاً، كان من المهاجرين. بعد الهجرة إلى المدينة مكث مع بعض الصحابة الآخرين في بيت مبشر بن عبد المنذر، شهد بدرًا وهو ابن ثلاثين سنة وشهد أُحدًا والخندق والحديبية، وقُتل بخيبر قتله الحارث اليهودي بالنطاة وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
وصحابي آخر هو رفاعة بن عمرو الجهني t، واسمه أيضا وديعة بن عمرو، شهد بدرًا وأحدًا، كان حليف بني النجار قبيلة الأنصار.
ثم الصحابي الآخر هو زيد بن وديعة t وكان من الخزرج، قبيلة الأنصار، شهد بيعة العقبة، وبدرا وأُحدا، وقُتل شهيدا في أُحد. اسم أمّه أُمّ زيد بنت الحارث. وكان لزيد بن وديعة من الولد سعد وأمامة وأم كلثوم وأمهم زينب بنت سهل. كان سعد بن زيد بن وديعة قد قدم العراق في خلافة عمر بن الخطاب فنـزل بعقرقوف. (عقرقوف قرية قرب مدينة بغداد العراقية)
الصحابي الآخر هو ربيع بن رافع الأنصاري t. هناك اختلاف في اسم جدّه فقد قيل إن اسمه حارث، وبحسب قول آخر كان اسمه زيد. كان ربيع بن رافع من قبيلة بني عجلان. شهد بدرا وأُحدا.
ثم هناك صحابي آخر اسمه زيد بن مزين بن قيس t. وقد ذُكر اسمه يزيد بن المزين أيضا. كان من قبيلة الخزرج. شهد زيدٌ بدرا وأُحدا. عند هجرته إلى المدينة آخى النبيُّ r بين زيد ومسطح بن أثاثة. كان من أولاده ابنه عمرو وابنته رملة.
والصحابي الآخر هو عياض بن زهير t، يكنى أبا سعد. اسم والدته سلمى بنت عامر. كان من بني فهر. هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية. ثم هاجر إلى المدينة ونزل في بيت كلثوم بن الهدم. شهد عياض بن زهير بدرًا، وأحدًا، والخندق، والمشاهد كلها، وتوفي بالمدينة سنة ثلاثين من الهجرة في عهد عثمان t، وفي رواية أنه توفي بالشام.
والصحابي الآخر هو رفاعة بن عمرو t، شهد العقبة وبدراً، وقتل يوم أحد، يكنى أبا الوليد. كان من بني عوف بن الخزرج، أُمُّه أمّ رفاعة. بايع يوم بيعة العقبة الثانية مع سبعين رجلا من الأنصار.
شهد بدرًا وأُحدا واستشهد في أحد.
الصحابي التالي ذكره هو زياد بن عمرو t، ويدعى ابن بشر. كان من حلفاء الأنصار. حضر بدرًا مع أخيه ضمرة. كان من بني ساعدة بن كعب. وقيل: كان عتيقَ بني ساعدة بن كعب بن الخزرج.
والصحابي التالي هو سالم بن عمير بن ثابت t. كان من الأنصار من بني عمرو بن عوف. حضر بيعة العقبة. وشهد بدرًا وأحدا والخندق وسائر الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان سالم من الصحابة الفقراء الذين جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم باكين عند غزوة تبوك، إذ كانوا يريدون الخروج لها ولكنهم لم يجدوا الرواحل.
كان هؤلاء الصحابة السبعة فقراء، جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد الخروج لغزوة تبوك، فقالوا يا رسول الله أعطنا الراحلة، فقال صلى الله عليه وسلم ليس عندي ما أحملكم عليه، فرجعوا وعيونهم تسيل من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
وروى ابن عباس: كان سالم بن عمير وثعلبة بن زيد من الذين أنزل الله تعالى فيهم: ]وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[ (التوبة 92)
يقول الخليفة الثاني رضي الله عنه في تفسير قول الله في سورة التوبة: ]وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[ (التوبة 92): هذه الآية مطلقة المفهوم، ولكن الذين قد أشير إليهم فيها هم سبعة من فقراء المسلمين الذين كانوا يتمنون بشدة أن يشتركوا في الجهاد ولكنهم لم يجدوا الأسباب لتحقيق أمنيتهم القلبية. حضر هؤلاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجوه أن يدبر لهم المطايا، فقال صلى الله عليه وسلم للأسف لا أستطيع ذلك، فحزنوا حزنًا شديدا حتى اغرورقت عيونهم بالدموع ورجعوا متحسرين ألا يجدوا ما ينفقون.
وفي رواية أنهم بعد أن رجعوا قدّم سيدنا عثمان رضي الله عنه ثلاثة إبل وقدّم مسلمون آخرون أربعة جمال، فآتى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من هؤلاء السبعة جملاً.
ويتابع الخليفة الثاني رضي الله عنه ويقول: لقد ذكر الله تعالى هذه الواقعة في القرآن الكريم ليقارن بين إخلاص هؤلاء المسلمين الفقراء وبين حالة الآخرين الذين كانت عندهم الأموال والأسباب ومع ذلك لم يخرجوا بل ظلوا يبحثون عن أعذار واهية. فكان إخلاص هؤلاء الفقراء على عكس الأثرياء.
ثم يقول الخليفة الثاني رضي الله عنه: لقد تبين من هذه الآية أن الذين تخلفوا عن الخروج لم يكونوا كلهم منافقين بل كان بينهم مسلمون مخلصون لم يستطيعوا الخروج لأنهم لم يجدوا ما يخرجون به.
ويتابع حضرته t في تفسير هذه الآية ويقول: كان أبو موسى الأشعري زعيم هؤلاء المسلمين الفقراء، فقيل له: ماذا سألتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله لم نسأل جملا وفرسا للركوب، وإنما قلنا إننا حفاة لا نملك حتى النعال، وقد تصاب أقدامنا بالجروح فكيف نقاتل، فلو وجدنا النعال فقط لجرينا بها مع إخواننا إلى ساحة القتال واشتركنا في الحرب.
لهذه الدرجة كانوا فقراء ولهذه الدرجة كان إخلاصهم وحماسهم. عاش سالم بن عمير حتى عهد معاوية.
ثم هناك الصحابي سراقة بن مالك t. كان من بني النجار. أمه عميرة بنت النعمان. شهد بدرًا وأحدا والخندق وسائر الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم. توفي في عهد معاوية، وفي رواية الكلبي: استُشهد سراقة في حرب اليمامة.
والصحابي التالي ذكره هو السائب بن مظعون t. كان شقيقَ عثمان بن مظعون رضي الله عنهما. هو من أوائل المهاجرين إلى الحبشة. له شرف المشاركة في غزوة بدر. عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بواط أمّر على المدينة سعد بن معاذ، وفي رواية: السائب بن عثمان، وفي رواية: السائب بن مظعون.
هناك رواية في سنن أبي داودَ: عن السائب قال أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r أَنَا أَعْلَمُكُمْ، يَعْنِي بِهِ. قُلْتُ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ، كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي.
وردت هذه الواقعة في سيرة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كالآتي: كانت القوافل التجارية تخرج من مكة ناحية الجنوب إلى اليمن، أما ناحية الشمال فكانت لهم مع أهل الشام تجارة منتظمة. كما كانت تجارتهم مع البحرين وغيرها. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل هذه الأماكن من أجل التجارة، وقام بمهامه بمنتهى الصدق والأمانة والكفاءة والحنكة. وكان يتعامل مع أهل مكة أيضا وكانوا جميعا يثنون عليه جدا.
ولما أسلم السائب (أي الصحابي الذي نتحدث عنه) أثنى عليه بعض القوم أمام النبي r فقال: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِهِ. فقال السائب: صَدَقْتَ يا رسول الله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، كُنْتَ شَرِيكِي في التجارة مرة، وكانت معاملتك نزيهة وطيبة دائما.
والصحابي الآخر هو عاصم بن قيس: كان من الأنصار من بني ثعلبة بن عمرو. حضر بدرا وأحدا.
وهناك صحابي اسمه الطفيل بن مالك بن الخنساء t. كان من الخزرج من بني عبيد بن عدي. أمه أسماء بنت القين. شهد الطفيل بيعة العقبة وحضر بدرًا وأحدًا. تزوجَ أدام بنت الكرد ورزق منها عبد الله وربيع.
ثم الصحابي الطفيل بن النعمان t. كان من الأنصار من الخزرج. أمه الخنساء بنت رئاب، وهي عمة جابر بن عبد الله. كان للطفيل بنت يقال لها الربيع. حضر بيعةَ العقبة. وشهد بدرًا وأحدا. أصيب يوم أحد ثلاث عشرة إصابة. حضر غزوةَ الخندق واستُشهد فيها.
قَتله وحشي. ثم آمن وحشي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد، وكان يقول: أكرم الله حمزة والطفيل النعمان على يدي، ولم يُخزِني على أيديهما، أي لم يُقتَل بيدهما على الكفر.
والصحابي الآخر هو الضحاك بن عبد عمرو t وكان من بني دينار بن النجار. اسم والده عبد عمرو وأمه السميراء بنت قيس. هو وأَخوه النعمان بن عبد عمرو، شهدا جميعًا بدرًا وأحدًا، واستشهد النعمان في أُحد. وكان له أخ ثالث عتبة بن عبد عمرو أيضا. استشهد يوم بئر معونة.
والصحابي الآخر هو الضحاك بن حارثة t، وكان من الخزرج حي الأنصار. اسم والده حارثة وأمه هند بنت مالك. شهد الضحاك بيعة العقبة الثانية في السبعين من الأنصار، وشهد غزوة بدر. كان له ولد “يزيد” من زوجته أمامة بن محرث.
والصحابي الآخر هو خلاد بن سويد الأنصاري t وكان من بني الحارث بن الخزرج. أمه عمرة بنت سعد، كان لخلاد من الولد: السائب بن خلّاد صحب النبيّ r، واستعمله عمر بن الخطّاب على اليمن، وابنه الآخر الحكم بن خلاّد؛ وأمّهما ليلى بنت عبادة. شهد خلاد بيعة العقبة وشهد بدرًا وأحدًا والخندق. يوم بني قريظة طرحَتْ عليه الرّحى بُنَانةٌ -وهي امرأةٌ يهودية من بني قريظة- فشدخَتْ رأسه واستشهد. وقال النبي r: “إِنَّ لَهُ أَجْرَينِ”، ثم قتلها رسولُ الله r قصاصًا.
وردت هذه الواقعة في كتاب سيرة خاتم النبيين كالتالي: كان عدد من المسلمين يجلسون مستريحين تحت جدار من جدران حصنهم، رمت عليهم امرأة يهودية يقال لها بنانة حجر رحى ثقيلة من فوق الجدار، فقتلت أحدهم واسمه خلاد، ونجا المسلمون الآخرون.
ثم ورد أيضا أنه لما أخبرت والدة خلاد عن استشهاد ابنها فجاءت مُتنقّبة فقيل لها: قُتل خلاّد وأنت مُتنقّبة؟ قالت: إن كنتُ رُزِئْتُ خلاّدًا فلا أرزأ حيائي. (أي رفضت أن يصدر منها النياح والبكاء، وقالت بأنها ستحافظ على حجاب الحياء.)
ولقد ذُكر أنه عند استشهاد خلاد أُخْبِرَ النبيّ r بذلك، فقال: “أما إنّ له أجرَ شهيدين”، كما ذكر. والزيادة في هذه الرواية هي لما قيل: ولِمَ ذاكَ يا رسول الله؟ أي لماذا له أجر شهيدين؟ فقال”: لأنّ أهل الكتاب قتلوه”.
والصحابي البدري الآخر هو أوس بن خولي الأنصاري t، كان من بني سالم بن غنم بن عوف من الخزرج حي الأنصار. وأمّه جميلة بنت أُبَيّ، وهي أخت عبد الله بن أبَيّ ابن سَلول، وكان لأوس بن خَوْلِيّ من الولد ابنة يقال لها فُسْحُم. شهد بَدرًا، وشهد أوس أُحُدًا والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله r. وآخى رسول الله r، بين أوس بن خَوْلِيّ وشُجاع بن وهب الأسدي. كان أوس بن خولي معدودًا في الكَمَلَة. من كان في الجاهلية وفي بداية الإسلام يُحسن الكتابة والرماية والعوم يُدعى كاملاً، فكان أوس بن خولي يتمتع بهذه الأمور الثلاثة.
عن ناجية بن الأعجم، يقول: دعاني رسول الله r حين شُكي إليه قلة الماء يوم الحديبية، فأخرج سهمًا من كنانته، ودفعه إليَّ، ودعا بدلو من ماء البئر، فجئته به، فتوضأ فمضمض فاه، ثم مجَّ في الدلوـ والناس في حرّ شديد. وإنما هي بئر واحدة، قد سبق المشركون إلى بَلْدَح فغلبوا على مياهه، فقال r: “انزل بالدلو فصبها في البئر، وأثر ماءها بالسهم”. ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني، وفارت كما تفور القدر، حتى طمت واستوت بشفيرها، فأصبح المسلمون يغترفون من جانبها حتى نهلوا من آخرهم.
وعلى الماء يومئذٍ نفر من المنافقين، منهم عبد الله بن أُبي وهو كان خال أوس بن خولي.
فقال أوس بن خولى: ويحك يا أبا الحباب!! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أي ينبغي أن تصدق النبي r. أبعد هذا شيء؟
فقال: إني قد رأيت مثل هذا.
فقال أوس: قبحك الله، وقبح رأيك!
فأقبل ابن أُبي يريد رسول الله r، فقال r: “يا أبا الحُبَاب: أنَّى رأيت مثلما رأيت اليوم”؟ أي كان هذا الخبر قد وصل إلى النبي r فسأله.
فقال: ما رأيت مثله قط.
قال: “فلم قلته”؟ أي لماذا قلت ذلك لابن أختك؟
فقال ابن أُبي: يا رسول الله استغفر لي.
فقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي: يا رسول الله استغفر له، فاستغفر له.
عن علي بن عبد الله بن عباس قال: لما أراد رسول الله r الخروج إلى مكة معتمرًا بعث أوس بن خولي وأبا رافع إلى العباس ليزوجه ميمونة، فأضلّا بعيريهما، فأقاما أياما ببطن رابغ -على بعد عشرة أميال من الجحفة- حتى أدركهما رسول الله r وقد ضمّا بعيرَيهما، فسارا معه حتى قدم مكة، فأرسل إلى العباس فذكر ذلك له، وكانت ميمونة قد جعلت أمرها إلى العباس، فجاء رسول الله r منزل العباس فخطبها إلى العباس فزوجها إياه.
ولما توفي النبي r، طلب أوس بن خولي عليًّا ابن أبي طالب t قائلا: أنشدك الله وحظّنا من رسول الله r، فسمح له علي بالدخول.
وهناك رواية أخرى أنه لما توفي النبي r نادت الأنصار: نناشدكم الله إن لنا حقا فإنما هو r ابن أختنا فلا بد أن يكون أحد منا أيضا عند رسول الله r. فقيل لهم أن يتفقوا على شخص منهم، فأجمعوا رأيهم على أوس بن خولي أن يدخل ويشترك في غسل النبي r ودفنه، وكان رجلا قويًّا يحمل الجرّة من الماء بيده، ويوفر الماء للغسل.
عن ابن عباس t قال: الذي نزل في قَبْرِ رسول الله r عليّ، والفضل، وقُثَم، وشُقْران مولى النبي r، وأوس بن خَوَلي، أي أنهم نزلوا لإنزال جسد النبي r إلى اللحد.
عن أوس بن خَولي أنني جئت النبيّ r فقال لي “يا أوس! مَنْ تَوَاضَع لله رَفَعه الله، ومن تكبّرَ وضعَهُ اللَّهُ.”
هذا هو الدرس الهام الذي ينبغي أن نتذكره دومًا. توفي أوس بن خَولي بالمدينة في خلافة عثمان بن عفّان t. رفع الله تعالى درجات هؤلاء الصحابة الأجلاء كلهم. آمين.