خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u
يوم 8/3/2019م
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
هناك صحابي بدري اسمه قيس بن محصن الأنصاري، وروي أن اسمه قيس بن حصن أيضا. وكان من الأنصار من بني زريق. أمّه أنيسة بنت قيس، وأبوه محصن بن خالد، شهد قيس بدرًا وأُحُدًا، كان له من الولد أمّ سعد بنت قيس، وتُوفي وله عقب بالمدينة.
الصحابي الآخر هو جبير بن إياس، أبوه إياس بن خلدة. شهد بدرًا، وكان من بني زريق أحد فروع الخزرج. وقال عبد الله بن محمد بن عمارة: هو جبير بن إلياس. وقد ورد في رواية أخرى أن اسمه جبر بن إياس أيضا.
لقد ورد في الأحاديث أن يهوديا سحر النبي r والعياذ بالله، وتأثر به النبي r، فقد ورد في الروايات أنه سحره يهودي على مُشْطٍ وَمُشَاطةٍ وألقاه في بئر ذي أروان، فخرج إليها النبي r فأخرجه من هناك. ولقد ورد في فتح الباري شرح صحيح البخاري أن جُبَيْر بْن إِيَاس هو مَن استخرجه من بئر ذي أروان. وفي رواية أن قيس بن محصن استخرجه ولأجل ذلك ذكرت هذين الصحابيين معًا، فهما اللذان يقال عن كل واحد منهما أنه أخرج هذه الأشياء من البئر. هذا ليس هامًّا كثيرًا، إنما الأهم هو السؤال: هل سُحر النبي r ووقع تأثير السحر عليه؟ ما حقيقة الأمر؟ وما هو رأينا في القضية؟ وينبغي أن نعرف ذلك. ومن واجبنا أن نرد على كل اعتراض يقع على شخصية النبي r أو ما يثيره الناس ضده r، لذلك فإنني سأتناول الأمر بشيء من التفصيل الوارد في أدبيات الجماعة. وسأذكره من خلال ذكر هذين الصحابيين.
لقد تناول المصلح الموعود t هذه الواقعة في بداية تفسيره لسورة الفلق فذكر عن هذه السورة آراء الناس؛ حيث قال بعضهم إن سورة الفلق والناس مكيتان، وقال بعضهم إنهما مدنيتان، أي نزلتا في المدينة. ويقول المصلح الموعود t: والذين اعتبروا سورة الفلق مدَنية دليلُهم أنها والسورة التالية لها نزلتا في مرض النبي r الذي قالوا أنه أصيب به نتيجة سحر اليهود له، فكان يدعو بهما وينفث على جسمه.
هذا ما ذكره المصلح الموعود t، وهو أن المفسرين يقولون: لما كان هذا الحادث قد وقع في المدينة، فهما مدَنيتان. فالمرجح عندهم أنهما مدنيتان، أي نزلتا في المدينة.
يقول المصلح الموعود t: هذا هو استدلال المفسرين، وليس معه أي شهادة تاريخية. وليس بأيدينا أيضًا شهادة تاريخية يقينية على أن هذه السورة مكية، غير أن الاستدلال الذي قاموا به واهٍ جدا؛ إذ من الممكن أن تكون هذه السورة قد نزلت في مكة، وكان النبي r يقرأها في مرضه في المدينة وينفث في يديه. ولا يستقيم الاستدلال على أنها نزلت في المدينة لمجرد قراءة النبي r لها فيها.
أما حادث مرض الرسول r الذي ظنّ الناس أنه كان بسبب سحر اليهود فقد ذُكر في الرواية التالية (وقد قال المصلح الموعود t في بداية تفسير سورة الفلق: وبما أن المفسرين رجحوا رواية عائشة رضي الله عنها لذلك نذكر هذه الرواية فحسب).
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سُحر رسول الله r حتى إنه ليخيَّل إليه أنه فعَل الشيء ولم يكن فعَله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا، ثم قال: أَشَعَرْتِ يا عائشةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ قلت: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ جَاءَنِي رَجُلانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: في أي شيء؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ فِي بئر ذي أروان. قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ r في أناس من أصحابه. ثمَّ قال: يا عائشةُ، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ولَكَأَنَّ نخْلَها رُءوسُ الشَّياطين (لقد وضح المصلح الموعود t لاحقا هذا الأمر وقال: يبدو أنه كان من عادة اليهود أنهم إذا سحروا أحدًا ألقَوا الحنّاء أو ما شابهه في الماء، إيهامًا للناس بأن الماء قد احمرّ بقوة السحر. أي كانوا يفعلون ذلك بتدبير ظاهري لإغواء بسطاء من الناس. ثم قال المصلح الموعود t بخصوص “لكأن نخلها رؤس الشياطين” يبدو أن النخل حول البئر كانت ذات طلوع وكأنها رؤوس الشياطين. فهنا شبه طلوع النخل وكأنها رؤوس الشياطين)
تقول عائشة فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقتَه أي ذلك الشيء الذي سحروا به؟ قال لا، أما أنا فقد عافاني الله تعالى، وكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا. فأمرتُ بها فدُفِنَتْ.
يقول المصلح الموعود t عن رواية عائشة t: يبدو أن الرجلين المذكورين فيها اللذين جاءا إلى النبي r هما ملكان رآهما النبي r، فإن كانا رجلين لرأتهما عائشة رضي الله عنها أيضا. يقول المصلح الموعود t: إن ما روته عائشة رضي الله عنها هنا يعني فقط أن الله تعالى أخبر نبيه r عن طريق ملائكته أن اليهود قد حاولوا أن يسحروه، ولا يعني ذلك أن سحرهم كان قد أثَّر في النبي r بالمعنى التقليدي الشائع للسحر، ثم يقول حضرته لما أخرج النبي r من البئر ما حاول به اليهود سحره، ودَفَنَه، ظنّوا (أي اليهود) أن سحرهم المزعوم قد بطُل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى شفى الله نبيه r أيضا. خلاصة الكلام أن اليهود كانوا يوقنون أنهم قد سحروا النبي r فكان طبيعيا أن يركّزوا على أن يمرض.
يقول حضرته t: هذه الرواية إذ تدل على ما كان اليهود يكنّونه من عداء شديد للنبي r فإنها تبيّن أيضًا أن النبي r كان رسول الله حقًا، ذلك لأن الله تعالى قد أخبره بمكايد اليهود ضده، فاطّلاعه على هذا الغيب وفشلُ اليهود في هدفهم الخبيث، لدليلٌ ساطع على أنه r كان نبيًّا صادقًا.
على أية حال، الحقيقة هي كما استنتج المصلح الموعود t أن اليهود سحروا النبي r بزعمهم ولكن لم يكن له أي تأثير على النبي r، أما مرضه r أو النسيان فيمكن أن تكون له أسباب أخرى. ولكن الله تعالى أخبر النبي r عن مكايد اليهود هذه وهكذا أبطل في الظاهر زعمهم بأنهم قاموا بالسحر. وانكشفت حقيقة الفرحة المزعومة لليهود الذين كانوا يفرحون برؤية مرض النبي r وأخذوا ينشرون بين الناس أن مرضه نتيجة سحرهم.
في أدبيات الجماعة مقال لحضرة مرزا بشير أحمد t نوقش فيه هذا الحادث تاريخيا وعلميا مما يوضح هذا الأمر أكثر، حيث كتب t: ورد في التاريخ بل في الأحاديث أن منافقا يهودي الأصل يدعى لبيد بن الأعصم سحر النبي r -والعياذ بالله- بعد صلح الحديبية، وكيفية هذا السحر أنه عقَدَ شعرا في مشط وقرأ عليه شيئا ودفنه في بئر، ويقال ظلَّ النبي r متأثرا بهذا السحر مدة طويلة. هذا ما أذاعوه. وفي هذه الفترة كان r حزينا ومكتئبا ويرجع إلى الدعاء مرة بعد أخرى مضطربا، وكان أبرز جانب لهذه الحال أنه كان ينسى كثيرا في تلك الأيام، حتى كان يُخيَّل إليه في كثير من الأحيان أنه فعل شيئا ولم يكن فعله في الحقيقة، كما كان يظن أن زار زوجة له ولم يكن قد زارها. يقول t في شرح هذا الأمر: من الجدير بالذكر هنا أنه كان أسلوب النبي r أنه بحسب أحكام الإسلام كان قد حددّ نوبة لكل زوجة له وإضافة إلى ذلك كان يزور جميع زوجاته كل مساء ويسألهن عن حالهن، وأخيرا كان يصل الزوجة التي كان نوبتها في تلك الليلة. وفي الرواية المذكورة أُشير إلى هذا الأمر. باختصار، جاء في الرواية أيضا أن الله تعالى كشف على النبي r حقيقة هذه الفتنة، هذا ملخص ما قد سلف ذكره في تفسير المصلح الموعود t وهذا الحديث جاء في صحيح البخاري بيَّن (مرزا بشير أحمد) t ملخصه ثم كتب: هذا ملخص الرواية التي وردت في كتب التاريخ والأحاديث، وقد نُسجت حول هذه الرواية شبكة قصص بحيث يصعب الوصول إلى الحقيقة. كتب t: لو قبِلْنا جميع الروايات ثبت أن شخصية النبي r المباركة والمقدسة كانت ضعيفة للغاية -والعياذ بالله- بحيث كان أعداؤه الأشقياء يستطيعون أن يحوِّلوها بسحرهم إلى أي قالب يشاؤون، وأنهم بتركيزهم السيئ عليه كانوا يُسَيْطرون على قلبه وذهنه، وكان r يجد نفسه عاجزا -والعياذ بالله- مقابل سحرهم. لو سلَّمْنا بما ورد في الروايات الواردة في كتب التاريخ والحديث فلا بد أن تكون هذه هي النتيجة، وهي نتيجة خاطئة تماما ويستحيل أن يحدث ذلك. ولكن لو تأملنا في هذه الروايات عقلا ونقلا وفحصنا الروايات على طريقة الباحثين لثبت أنه كان مجرد مرض النسيان الذي تعرض له النبي r لفترة قليلة نتيجة الأفكار العارضة والضعفِ، فاستغل الوضعَ بعضُ الأعداء الحاسدين وأشاعوا أنهم سحروا نبيَّ المسلمين، والعياذ بالله، ولكن الله تعالى أعاد صحته بسرعة وسوَّد بذلك وجوه الأعداء، وخابت دعايةُ المنافقين الكاذبة. الذي انتصر على القوى الشيطانية للعالم كله وكان أفضل الرسل الذي لم يولد إلى اليوم أعظمُ منه في دهْس رأس القوى الطاغوتية ولن يولد، فإن الظن به أنه كان عرضةً لسحر شيطاني لابن يهودي إنما هو سوء استخدام للعقل الإنساني. لا يمكن تصور ذلك، وهذا ليس ادّعاؤنا فحسب، بل رفض سيد الكونين r نفسُه هذا الأمر. ويتبين ذلك من الحديث الذي قالت فيه عائشة رضي الله عنها لرسول الله r: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟! قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟! قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟! يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ «نَعَمْ. وَلٰكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ». (صحيح مسلم) فمع وجود هذا القول الصريح أيمكن تصور أن يهوديا يكون قد سحر -مستعينا بشيطانه- عظيمًا مثل النبي r ويكون النبي r قد تأثر بسحره الشيطاني، وظل هائما ومغموما ومريضا إلى مدة طويلة؟!
ظل الكذّابون يستخدمون مقابل الحق مثل هذه الحِيَل الباطلة والكاذبة في كل زمان ولكن الله القدير العزيز يفضح كذبهم دوما كما قال: ]كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي[ (المجادلة 22) أي لقد كتب الله أنه في زمن كل رسول سيغلب رسوله، ولا يمكن أن تُفلح أي حيلة شيطانية مقابله.
كتب t: ثم ينشأ السؤال إذًا عن حقيقة هذة الواقعة التي وردت في صحيح البخاري على لسان عائشة رضي الله عنها. فلو تأملنا نظرا إلى سياق هذه الواقعة وإلى أساليب اليهود والمنافقين فلن يصعب فهم حقيقة هذه الواقعة. يجب أن نعلم أولا أن واقعة السحر المزعوم هذه وقعت بعد صلح الحديبية، ورد في طبقات ابن سعد أن النبي r قرّر بناءً على رؤيا أن يخرج إلى مكة للعمرة، فخرج إليها ولكنه بسبب اعتراض قريش له في الطريق لم يُفلح في بادئ النظر، وكان هذا صدمة عظيمة لأنه كان من المتوقع أن الكفار والمنافقين سيسخرون منه وسيطعنون فيه، وقد اهتز بعض المسلمين المخلصين حتى ورد في رواية أن شخصا عظيما مثل عمر t أيضا كان قد تزعزع مؤقّتا بسبب هذا الفشل الظاهري، وردت حال عمر t هذه في صحيح البخاري، فكان النبي r متأثرا جدا لخوفه من أن يقع ضعيفو الطبع في الابتلاء، وظل قلقا لفترة وأثّر هذا القلق في صحته يقينا، وكان في هذا الاضطراب يدعو الله تعالى كثيرا كما وردت في الحديث كلمات “دعا ودعا”، إشارة إلى أنه كان يخشى أن يقع أي عائق مؤقّت في طريق رقي الإسلام بسبب واقعة صلح الحديبية، وهذا الدعاء كان من نوع الدعاء الذي قام به النبي r في ميدان بدر مع وعْد الله تعالى بالنصر، نظرا إلى قوة العدو الظاهرية، حيث قال: “اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض”، فكانت أعصاب النبي r وذاكرته متأثرة جدا بسبب هذه الأحوال. ورد في بعض الروايات أن هذه كانت حاله إلى أربعة أيام أو يومين أو يوم أو ليلة واحدة فقط، أيًّا كانت المدة، فالمهم أنه تأثر بعض الشيء وهذا بمقتضى البشرية، (هذه النتيجة التي توصَّل إليها مرزا بشير أحمد t من أنه تأثر لبعض الأيام بسبب قلقه للإسلام ولضعف إيمان بعض المسلمين) وهذا بمقتضى البشرية الذي لا يُستثنى منها رسل الله أيضا. حين رأى اليهود والمنافقون أن النبي r مريض في هذه الأيام ومصاب بالنسيان بسبب ضعف الأعصاب وضعف الدماغ فبدؤوا يُشِيعُون كعادتهم أنهم سحروا نبي المسلمين، ابتغاء الفتنة، وأن نسيانه هذا نتيجة السحر، وبحسب طريقهم القديم وضعوا عُقَدا للشعر في مشط ودفنوه في بئر كعلامة ظاهرية للسحر، وحين بلغ النبي r خبر سحرهم المزعوم تضرع إلى الله تعالى أكثر للقضاء على هذه الفتنة كما قالت عائشة من أن النبي r بعد أن بلغه هذا الخبر دعا كثيرا ذات يوم أو ذات ليلة وطلب من مولاه السماوي أن يُطلعه على اسم مثير هذه الفتنة وكيفية هذا السحر المزعوم لكي يمزِّق هذا السحر المزعوم، فسمع الله تعالى تضرعاته وكشف عليه الحقيقة في الرؤيا.
لقد بيّن القرآن الكريم المبدأ الأساسي: ]وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[ (طه 70) أي لا يمكن أن يفلح أي ساحر مقابل الأنبياء كيفما وحيثما شن هجومه، ثم في ضوء حكم القرآن الفيصل: ]يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[ (الإسراء 48) إنما هذا ادّعاء الكفار الذي ورد في القرآن الكريم.
فبالتأمل في كلمات الحديث وأسلوب البيان ومحاورات العرب سوف تُفهم هذه الرواية الواردة في صحيح البخاري على أنها حكاية عن الغير، أي أن المتكلم يقول شيئا من عنده ظاهريا ولكن يكون المراد الحقيقي هو بيان الكلام لغيره. فقد ورد في روايةِ عائشة رضي الله عنها:
أنها قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ r (أي أشاع الأعداء أنه r سُحر، لم تقل عائشة أن النبي r سُحِر بل هذا ما قاله الأعداء) حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ. وفي رواية: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِي.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟”.
يقول مرزا بشير أحمد t: إن أسلوب الكلام نفسه يوحي بأنه حكاية عن الغير. ثم ذُكر الكلام الذي سبق ذكره قبل قليل: قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ وأن فلانا اليهودي سَحره وهذا تأثير السحر كما يزعم الناس. تقول الرواية: فَذَهَبَ النَّبِيُّ r فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (كان من عادة اليهود أن يلوّنوا ماء البئر ليخدعوا أعينَ الناس، كما سبق ذكره، وكانت النخيل تبدو كريهة المنظر مثل شجرة الزقوم)
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ؟، وفي رواية: أفأحرقتَه؟، قَالَ لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا، وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ.
يقول مرزا بشير أحمد t: اعلموا أن أسلوب البيان حكايةً عن الغير كان سائدا في العرب. وقد اختار القرآن الكريم أيضا هذا الأسلوب في بعض الأماكن. فيقول الله تعالى مخاطبا أهل الجحيم: ] ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[ أي ذُق عذاب الله وكنتَ عزيزا كريما. ليس المراد هنا أن الله تعالى يعُدّ أهل الجحيم أعزة وكراما بل الكلام هنا هو حكاية عن الغير، والمراد هو أن المخاطَب وأصحابه كانوا يزعمونه عزيزا كريما، أي كان أهل الجحيم يزعمون أنفسهم أنهم كرام على الرغم من ارتكابهم السيئات، فقال الله تعالى: ذوقوا الآن عذاب الله. هذا هو الأسلوب نفسه الذي اختاره الرجلان أو الملكان اللذان رآهما النبي r في الرؤيا أو الكشف. فحين قالا أنه r سُحر لم يقصدا من ذلك أنه سُحِر بحسب رأينا بل الناس يقولون بأنه سُحر. ولم يكن الهدف من الرؤيا إلا أن يُبطل الله سحرهم المزعوم وما أخفاه هؤلاء الخبثاء في البئر ليخدعوا به أشياعهم وليكشف الله تعالى لرسوله ما كان المنافقون يشيعونه. فهكذا كان بالضبط، إذ دُفنت أداة سحرهم ورُدم البئرُ. وبذلك زال بصورة غير مباشرة قلق النبي r على الناس، إذ كان هؤلاء الأشقياء يسعون لخداع البسطاء من الناس بمكائدهم هذه. وتحقق بكل جلاء وعد الله تعالى القائل: ]لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[ أي مهما قام الساحر بالمكائد لن يفلح مقابل الله ورسوله.
على أية حال، يثبت من الحديث المذكور آنفا ما يلي، أولا: كان النبي r بطبيعة الحال قلقا نظرا إلى تقصير البعض بعد واقعة صلح الحديبية، فكان ينسى بعض الأمور الدنيوية المتعلقة ببيته.
ثانيا: نظرا إلى حالته r هذه بدأ اليهود والمنافقون، الذين كانوا يريدون تشويه سمعة النبي r مستغلين مثل هذه الأمور، يروجون أنهم سحروا نبي المسلمين. (والعياذ بالله) إن مَثل ترويجهم هذا الأمر كمَثل تشويهم سمعة السيدة عائشة رضي الله عنها نتيجة تخلّفها في غزوة بني مصطلق، وبذلك قاموا بسعي مذموم ليعكّروا صفو حياة النبي r الطاهرة.
ثالثا: كعلامة ظاهرية للسحر المزعوم لخداع البسطاء من الناس جعل هؤلاء الأشقياء بواسطة منافق يهودي النسب اسمه لبيد بن عاصم مُشطا ومشاطة في بئر وشاعت أقاويل أحزنت النبي r أكثر.
رابعا: دعا النبي r في حضرة الله بتضرع شديد أن يسدّ بفضله ورحمته باب هذه الفتنة ويكشف عليه r حقيقتها، ليتمكن من إزالة الفتنة وينقذ بسطاء الناس من العثار، فقُبل دعاؤه.
خامسا: سمع الله تعالى أدعيته r وفضح مكيدة لبيد بن عاصم. فذهب r إلى البئر بصحبة بعض من أصحابه ودفن المشط والمشاطة وردم البئر لاستئصال الفتنة من جذورها.
ثم يبقى سؤال: معلوم أن النبي r هو نبي الله الأعظم شأنا بل هو أفضل الرسل وخاتم النبيين فلماذا أصيب بمرض النسيان الذي كان من شأنه أن يوقع الخلل في أداء مهام النبوة؟!
فليكن معلوما ردا على هذا السؤال أن كل نبي يكون نبي الله ورسوله من ناحية، وبناء على ذلك يتشرف بكلام الله تعالى، ويكون أستاذا لأتباعه في الأمور الدينية ويكون أسوة لهم. ومن ناحية ثانية يكون إنسانا مثل بقية الناس وتلازمه اللوازم البشرية والأخطار الطبيعية كلها التي تلازم أناسا آخرين، لذلك قال الله تعالى مخاطبا النبي r: ] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ[، أي أعلن أيها الرسولُ قائلا: إنني بشر مثلكم وتنطبق عليّ جميع القوانين مثل بقية الناس، غير أنني رسول الله أيضا، وقد أُكرِمتُ بالوحي والإلهام لهداية الخلق. ففي هذه الآية وُصف الأنبياء من وجهين بأسلوب جميل جدا.
أي من ناحية تم تمييزهم من غيرهم من البشر، ومن ناحية أخرى لم يُخرَجوا من صنف الناس. فالذي يظن أن الأنبياء أرفع عن لوازم البشرية ومما يواجهه الإنسان من الأخطار الطبيعية، فهو كاذب. فمن المؤكد أن الأنبياء أيضا يمرضون كسائر البشر، ويصابون مثلهم بالملاريا والتيفوئيد وغيرها من الأمراض.
فقد كتب حضرة مرزا بشير أحمد t: أود أن أوضح هنا ضمنيا أن العلامات الظاهرة الواردة في الحديث، تفيد أنه يمكن أن يتعرض الأنبياء أيضا للأمراض مثل السلّ والربُو والنـزلة والسعال والنقرس والدوار وآلام الأعصاب، وحدة الحس والاضطراب والقلق والإرهاق الذهني والنسيان والجروح نتيجة الإصابات والضربات في الشجار وغيرها، وظلوا يتعرضون لها فعلا، ويفيد التاريخ أن النبي r توفي بحمى التيفوئيد، إلا إذا كان نبي قد تلقى الوعد من الله استثناء بأنه سيعصمه من مرض معين فهذا أمر آخر. وإذا خطر ببال أحد هنا أن الله I قد قال في القرآن الكريم: ]سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى[ (الأَعلى 7)، أي سنعطيك تعليما لن تنساه، فيجب أن يتذكر جيدا أن هذا الوعد يخص وحي القرآن الكريم فقط، وهو ليس عاما. والمراد من ذلك أن الوحي الذي سنوحيه إليك أيها النبي لهداية الأمة لن تنساه، وسوف نحفظه إلى يوم القيامة. وهذا الوعد لا يشمل شؤون الحياة اليومية والأمور المادية أو المراسم الظاهرة لأمور دينية. فقد ثبت من الحديث أنه r كان ينسى في أمور كثيرة بمقتضى لوازم البشرية، بل قد ورد في الحديث أنه r نسي عدد الركعات في الصلاة وتذكَّر عند تذكير الناس. فهذه الرواية موجودة في البخاري ومسلم كليهما، ومثل ذلك كان ينسى في أمور كثيرة بل قد قال r عن نفسه: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكِّروني. فكما كان النبي r يصاب بالنسيان مؤقتا كذلك قد أصيب بمرض النسيان لمدة قصيرة بعد صلح الحديبية. فهذا هو التفسير الذي قدَّمه بعض العلماء الأسلاف لرواية السحر. فقد قال العلامة المازري: ثمة أدلة قوية لا حصر لها وبراهين عدة على صدق النبي r كما تشهد على صدقه معجزاته أيضا. أما الشؤون المادية العامة التي لم يُبعث من أجلها، فسيعدّ هذا الأمر من أعراض المرض كما يصاب الإنسان بأمراض أخرى.
ويقول العلامة ابن القصار: إن النسيان الذي أصاب النبيَّ r كان مرضا من الأمراض كما يتبين من الكلمات الأخيرة الواضحة للحديث، أي أن الله شفاني.
ملخص القول، إن حال النبي r المذكورة آنفا بعد صلح الحديبية التي وصفها الأعداء نتيجة السحر، لم تكن ناتجة بأية حال من السحر وغيره، بل كان أصيب بمرض النسيان فقط نتيجة للظروف الحاصلة، واتخذها بعض الأشرار وسيلة للدعاية المعادية ضد ذلك الرسول المقدس صاحب الخصال الحميدة r. فالقرآن الكريم يفند موضوع تعرّض الأنبياء للسحر أصلا، كما يرفض العقل الإنساني هو الآخر قبولَه. وكلمات الحديث أيضا تكذِّب الشرح الذي يقدَّم له. كما أن المكانة الرفيعة لسيد الكون وأفضل الرسل r تدحض قصة السحر.
لقد ذكر مرزا بشير أحمد t: إنه لا يخلو من الفائدة بيان ما ورد في رواية حضرة الخليفة الثاني أيده الله تعالى بنصره العزيز (فهذا كتبه في حياته t) الواردة في الجزء الأول من كتاب سيرة المهدي برقم 75:
جاء إلى قاديان هندوسي معاند من سكان غجرات، وكان ماهرًا في التنويم المغناطيسي، فحضر إلى مجلس المسيح الموعود u وبدأ يلقي عليه تأثير عِلمِه بصمت لكي يدفعه u إلى إصدار بعض التصرفات غير اللائقة، لكي يجعله هدفا لسخرية الناس. وحين بدأ يلقي على حضرته u هذا التأثير هرب من هناك صارخا. فلما سئل عن ذلك قال حين ألقيت على حضرة المرزا تأثير علمي رأيت أمامي أسدا هصورا يكاد يهاجمني، فهربت خوفا منه. ثم كتب حضرته إذا كان هذا هو مقام المسيح الموعود u وهو خادم النبي r حيث لم يدعْه الله I ليخضع لتأثير التنويم المغناطيسي فكيف يمكن القبول بحق السيد r أنه تعرَّض لتأثير التنويم المغناطيسي أو السحر لأحد اليهود، والعياذ بالله، فهذا لا يستيسغه العقل.
في الأخير أود أن أقرأ عليكم بعض المقتبسات من كلام الحكم العدل لهذا الزمن، وهي تشمل جميع التوضيحات والشروح.
سُئل المسيح الموعود u: ما رأيكم في سحر أطلقه الكفار على النبي r؟ فقال: السحر أيضًا من الشيطان، فالرسل والأنبياء أرفع من أن يؤثِّر فيهم السحر مطلقا، بل السحر يهرب منهم كما يقول الله تعالى: ]لا يفلح الساحر حيث أتى[. لقد واجه موسى أيضا السحر، فهل غلب موسى في نهاية المطاف أم لا؟ ليس صحيحا قط القولُ بأن السحر غلب النبي r، ولا يسعنا أن نقبله بحال من الأحوال. إن الاعتقاد بحرفية كل ما جاء في البخاري ومسلم ينافي مسلكنا. ولا يقبل العقل أيضا أن ينطلي السحر على نبي عظيم الشان مثله r. إن القول بأن النبي r فقدَ ذاكرته أو حدث كذا وكذا بتأثير السحر والعياذ بالله، لا يصح بحال من الأحوال. يبدو أن خبيثا قد أضاف هذه الأمور من عنده. مع أننا نحترم الأحاديث ولكننا لا نستطيع أن نقبل الحديث الذي يناقض القرآن الكريم ويناقض عصمة النبي r.
لقد جُمعت الأحاديث في تلك المرحلة، ومع أن المحدثين قد دوّنوها بتدبر وتفكر ولكنهم ما استطاعوا رغم الحرص أن يتخذوا الحذر والحيطة الشديدة.
كانت تلك المرحلة لجمع الأحاديث، أما الآن فهي مرحلة التأمل والتدبر. فتدبروا وادرسوا.
كل حديث ينافي القرآن الكريم أو عصمة النبي r وقداسته فهو جدير بالترك، أو يمكن أن يكون له تفسير آخر، كما فعل حضرة مرزا بشير أحمد المحترم أو حضرة الخليفة الثاني t.
ثم يقول سيدنا المسيح الموعود u:
إن جمع آثار النبي r عملٌ فيه ثوابٌ عظيم (أي أن تدوين أحوال حياة الأنبياء وسيرتهم عمل ينال صاحبه الثواب) ولكن المبدأ العام هو أن الذين يجمعونها لا يستطيعون أن يتأملوا فيها جيدا. فلكل واحد الخيار أن يتأمل ويتدبر جيدا وليقبل ما هو جدير بالقبول ويترك ما هو جدير بالترك.
إن القول بأن النبي r قد سُحر -والعياذ بالله- يُضيع الإيمان. يقول الله تعالى: ]إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[، فالقائلون بمثل هذه الأقوال ظالمون وليسوا بمسلمين. يقول هؤلاء الملحدون الظالمون عن النبي r: إنه سُحر. ألا يفكرون أنه إذا كان هذا هو حال النبي r، والعياذ بالله، فما بالك بالأمة؟! إنها ستغرق لا محالة. لا أدري ما الذي جرى لهؤلاء القوم إذ يقولون مثل هذه الأقوال بحق نبي معصوم r حسِبه الأنبياء جميعا بريئا من مس الشيطان؟!
نحمد الله I على أننا ندرك المكانة العظيمة والمرتبة السامية للنبي r بعد الإيمان بإمام الزمان. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد.