خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u

في مسجد بيت الفتوح بلندن

يوم 15/3/2019م

*****

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

أول الصحابة البدريين الذين سأتناول ذكرهم اليوم هو السائب بن عثمان t، وهو من بني جُـمَح، واسم أبيه عُثْمان بن مَظْعون واسم أمه خولة بنت حكيم، أسلم أول الإسلام وهاجر مع أبيه وعمه قدامة وعبد الله إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وبعد الهجرة إلى المدينة آخى النبيُّ r بين السائب بن عثمان وبين حارثة بن سراقة الأنصاري. ويُذكر في الصحابة الرماة، وشهد مع النبي r بدرا وأحدا والخندق وباقي المشاهد. استعمله النبي r على المدينة في غزوة بواط التي وقعت في السنة الثانية للهجرة، والتي كتب مرزا بشير أحمد t عنها ما مفاده: في آخر شهر ربيع الأول أو في بداية ربيع الثاني بلغ النبيَّ خبرٌ من قريش فخرج في جماعة من المهاجرين من المدينة واستخلف عليها السائب بن عثمان بن مظعون t، ولكن قريشًا لم يعلموا، فعاد بعد بلوغه بواطا. وبواط هو جبل قبيلة جهينة على بعد ثمانية وأربعين ميلا من المدينة. شهد السائب بن عثمان معركة اليمامة التي وقعت في الثانية عشرة للهجرة في عهد أبي بكر t وأصيب فيها بسهم أدى إلى استشهاده، وعمره يومها بضع وثلاثون سنة.

الصحابي التالي الذي سأذكره هو ضمرة بن عمرو الجهني، واسم والده عمرو بن عدي وقيل اسم والده بشر، كان حليف بني طريف وقال البعض حليف بني ساعدة، وهي قبيلة سعد بن عبادة. (الحليف هو من كانت بينه وبين حليفه اتفاقية يلتزم بمقتضاها كل بمساعدة الآخر كلما دعت الحاجة) كتب العلامة ابن الأثير في أسد الغابة، ليس فيه اختلاف لأن بني طريف بطن من بني ساعدة، شهد ضمرة t بدرا وأحدا واستُشهد يوم أحد.

ثم الصحابي سعد بن سهيل t، كان من الأنصار، وقيل اسمه سعيد بن سهيل. شهد بدرا وأحدا، وكانت له بنت تسمى هُزيلة. لا يوجد له ذكر إلا هذا.

ثم الصحابي سعد بن عبيد t الذي كان من أصحاب بدر، شهد مع النبي r بدرا وأحدا والخندق وباقي الغزوات. قيل اسمه سعيد، وكان معروفا بلقب “القارئ” وكنيته أبو زيد، وهو من الأصحاب الأربعة الذين جمعوا القرآن من الأنصار في زمن الرسول r، وابنه عمير بن سعد كان أميرا على بعض مناطق الشام. وفي رواية أن سعد بن عبيد t كان إماما في مسجد قباء في عهد الرسول r وفي عهد أبي بكر وعمر y أيضا. واستُشهد سعد بن عبيد t في معركة القادسية في السنة السادسة عشر للهجرة وكان عمره يومها أربعة وستين عاما، وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن المسلمين انهزموا في معركة الجسر التي وقعت في العام الثالث عشر للهجرة وشهدها سعد بن عبيد، فقال له عمر بن الخطاب t: هل لك في الشام؟ لعل الله أَن يمن عليك بالشهادة، فإنّ المسلمين قد نُزفوا به، وإنّ العدوّ قد ذَئِرُوا عليهم، ولعلّك تغسل عنك الهُنيهة، (هذا ما قاله عمر t لسعد بن عبيد لأن في موقعة الجسر لقي المسلمون خسائر فادحة فقال عمر t: إن كنت تريد أن تغسل عنك الهنيهة فعليك بالشام التي يجري فيها القتال) فقال سعد: لا، إلّا الأرض التي فررت منها، (أي لن أهب إلى مكان آخر بل سأذهب إلى الأرض التي عدتُ منها خاسرا) والعدوّ الذين صنعوا بي ما صنعوا، (يعني انتصروا عليه) قال: فجاء إلى القادسيّة واستشهد فيها أثناء القتال. قال عبد الرحمن بن عبيد أبو ليلى: حين جاء سعد بن عبيد إلى القادسية خطبهم فقال: إنّا لاقو العدوّ وإنّا مستشهدون، فلا تغسلوا عنّا دمًا، ولا نكفَن إلا في ثوب كان علينا.

كنت قد بيّنتُ بعض تفاصيل موقعة الجسر في إحدى خطبي السابقة وأذكر بعض التفصيل الآن، كما قلتُ: وقعت معركة الجسر في 13 ه على ضفة نهر الفرات بين المسلمين والفرس، كان قائدُ جيش المسلمين أبا عبيد الثقفي وقائد جيش الفرس “بهمن جاذويه”، وكان عدد جنود المسلمين عشرة آلاف، بينما كان جيش الفرس مؤلفًا من ثلاثين ألف جندي وثلاثمائة فيل. كان بين الجيشين نهر الفرات الذي منعهما من الالتحام لفترة، ثم تم بناء الجسر على الفرات باتفاق الفريقين، وبسبب هذا الجسر سُميت هذه المعركة بمعركة الجسر، حين أُقيم الجسرُ أرسلَ بهمن جاذويه رسولًا إلى الجيش الإسلامي يقول له: “إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا”. رأى أبو عبيد أن يعبر جيش المسلمين النهر ويقاتل العدو مع أن رأي سليط t -أحد القادة المسلمين- كان مختلفا ولكن أبو عبيد عبر نهر الفرات وشنّ الهجوم على جيش الفرس، استمرت المعركة على هذا النحو لبعض الوقت ثم رأى بهمن جاذويه أن جيشه يكاد أن يتفرق ويتخلّف فأمر أصحاب الأفيال بالتقدم بحيث انشقّت صفوف المسلمين وبدأ الجنود يتفرقون، فأمر أبو عبيد المسلمين بالهجوم على الأفيال وبقطع خراطيمها، وبعد ذلك تقدم أبو عبيد بنفسه وهجم على فيل وقطع خرطومه، وحين رآه الجنود الآخرون تقدموا للقتال وقطعوا خراطيم العديد من الأفيال وقتلوا أصحابَـها. حدث أن تصدَّى أبو عبيد لفيل فقطع خرطومه ولكن الفيل داسه مما أدى إلى استشهاده. وبعد مقتل أبي عبيد حمل راية المسلمين سبعة أشخاص واحدا تلو الآخر، وكان الثامن المثنى بن حارثة الذي حمل الراية وأراد شن هجوم شديد ولكن صفوف الجيش الإسلامي كانت قد انشقت وبدأ الجنود يهربون هنا وهناك بعد أن رأوا مقتل سبعة من قادتهم، وقفز بعضهم في النهر، وقاتل المثنى وأصحابه بكل شجاعة حتى أُصيب المثنى بجروح فعاد عابرا نهر الفرات، لقي المسلمون خسائر كبيرة في هذه المعركة واستُشهد أربعة آلاف جندي من المسلمين وقتل ستة آلاف من الفرس. وبدأت هذه الحرب لأن الفرس كانوا يهاجمون المسلمين مرة بعد أخرى فمن أجل صدِّهم أُذِنَ بالحرب.

ثم الصحابي سهل بن عتيك t، وقيل هو سهيل، واسم أمه جميلة بنت علقمة، شهد سهل بيعة العقبة الثانية مع سبعين من الأنصار، شهد بدرا وأحدا.

ثم الصحابي سهيل بن رافع t، وهو من بني النجار، والأرض التي بُني عليها المسجد النبوي كانت ملكه وأخيه سهل t، اسم أمه زُغيبة بنت سهل، شهد سهيل بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله r وتوفي في عهد عمر t.

قال المصلح الموعود t وهو يذكر هجرة الرسول r إلى المدينة:

عندما دخل الرسول r المدينة، تلهّف الجميع لنيل شرف استضافته. وأثناء مرور بعيره على الدروب، كانت القبائل تصطف لاستقباله ويقولون: “هلم إلى العدد والعُدّة والسلاح والمنَعة”. كانوا يعرضون بيوتهم، وأموالهم، وأنفسهم، لاستقباله وحمايته. وأظهر الكثيرون حماسًا وحَمِيَّة ولهفة بالغة، فكانوا يستقبلون الناقة ويأخذون بعنانها، ويصرّون أن يترجّل الرسول r عند أبواب دورهم ليدخلها فينالوا شرف استضافته. ويرفض الرسول r بكل أدب قائلًا: “دعوها فإنها مأمورة”. أي ستجلس أو تتوقف حيثما شاء الله تعالى، وأخيرا توقفت الناقة عند موقع يخصّ يتيمين من بني النجار، فقال الرسول r: هذا المنْزل، يبدو أن الله تعالى يريد أن نقيم هنا. ثم سأل: لمن هذه الأرض؟ كانت ليتيمين. فتقدم كافل اليتيمين وقال: هذا المكان لفلان وفلان، وهو لتستخدمه، فردّ الرسول r بأنه لن يقبل المكان مجانا، فتمَّ الاتفاق على الثمن، وقرر الرسول r أن يبني في هذه البقعة مسجدًا وبعض البيوت.

كتب مرزا بشير أحمد t تفصيل ذلك في سيرة خاتم النبيين r فقال: أول أمر قام به النبي r بالمدينة كان تعمير المسجد النبوي، والمكان الذي بَرَكَتْ فيه ناقته r كان ملكا لطفلين يتيمين من المسلمين، هما سهل وسهيل اللذان كانا في كفالة أسعد بن زرارة t، هذا المكان كان غير معمور ومهجورا تماما، وكان في أحد جوانبه بعض أشجار النخل وفي ناحية أخرى بعض الأنقاض أيْ البيوت المنهدمة.

اختارها النبي r لبناء المسجد وحُجراته، وتم شراء هذه الأرض مقابل 10 دنانير، وبدأت أعمال بناء المسجد النبوي بعد تسوية الأرض وقطع الأشجار. وفي رواية أن سيدنا أبا بكر t دفع ثمن هذه الأرض. ووضع النبي r حجر الأساس بالدعاء وعمِل الصحابة بُناةً وعُمّالا كما فعلوا في بناء مسجد قباء من قبل. أحيانا كان النبي r أيضا يشاركهم بنفسه النفيسة، وأحيانا كان الصحابة عند حمل اللبِن يرددون شعر حضرة عبد الله بن رواحة الأنصاري:

هذا الحِمال لا حِمَال خَيْبر … هذا أبر رَبّنَا وأظْهَر

أي هذا الثقل ليس كثقل متاع التجارة الذي يأتي محمولا على الأنعام، بل هو ثقل التقوى والطهارة يا ربنا ونحمله ابتغاء مرضاتك. وأحيانا كانوا أثناء العمل يرددون شعر حضرة عبد الله بن رواحة:

اللهم لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة … فاغفر للأنصار والمُهَاجرة

وأحيانا كان النبي r أيضا يردد هذه الأبيات معهم، وبذلك بعد بذل جهود شاقة لمدة طويلة اكتمل بناء المسجد النبوي. كان بناء المسجد من الأحجار واللبِن، وشِيدت الجدران بين أعمدة من الخشب. في ذلك الزمن كانت العادة أن تقام أعمدة من خشب وهكذا كان هيكل البناء، وبينها تبنى الجدران من اللبن والطين. وبُني السقف من جذوع النخل وجريده، وفي الداخل أيضا أقيمت أعمدة من النخيل لحمل السقف، وكان النبي r يقف مستندا على أحد هذه الجذوع عند إلقاء الخطبة حتى اقتُرِح وضع المنبر. وكانت أرضية المسجد غير مبلطة، وبما أن المسجد كان يقطر من سقفه الماء عند المطر الغزير، فتوحِل أرضية المسجد، لذا بُلِّطت الأرضية بالحصى لإزالة هذه المشكلة. في أول الأمر كانت القبلة تجاه بيت المقدس، وبُدِّل هذا الاتجاه عند تبديل القبلة. كان ارتفاع المسجد يوم ذاك 10 أقدام، وطوله 105 أقدام، وعرضه 90 قدما، ولاحقا تمت توسعته. وهذه المساحة تتسع لـ 1600 مصلٍّ تقريبا، في إحدى زوايا المسجد بنيت مصطبة مسقفة سميت بالصفة، وكان يجلس عليها الصحابة الفقراء الذين لم يكن لهم بيت، وكانوا يسمَّون أصحاب الصفة، وكان شغلهم الشاغل ليل نهار العيشُ بصحبة النبي r والعبادة وتلاوة القرآن الكريم. لم يكن لهم دخل ثابت، وكان النبي r يعتني بهم وكلما وصلتْه أي هدية أو حضَّر شيئا في البيت خصص لهم نصيبا منه، وكان r يهيئ لهم الأكل والشرب عادة وأحيانا كان يتحمل الجوع ويرسل إليهم ما توفر في بيته. وكان الأنصار أيضا يضيفونهم قدر المستطاع، ويأتون بقِنوان التمر ويعلقونها في المسجد من أجلهم، ومع ذلك كانت حالهم ضيقة، وأحيانا كانوا يقاسون الجوع. واستمر هذا الوضع لسنين، ثم توسعت المدينة وتيسرت لهم قليلا فرص عمل من ناحية، ومن ناحية أخرى حصلت لهم المساعدة من بيت المال. بُني بيت للنبي r بجانب المسجد، وكان عبارة عن حجرة صغيرة بمساحة عشرة أو خمسة عشر قدما مربعا، وكان لها باب إلى المسجد ومنه كان r يأتي إلى المسجد. وعندما قام r بزيجات أخرى بنيت حجرات إضافية بجانبها، كما بنيت للصحابة أيضا بيوت حول المسجد. فهذا هو المسجد النبوي الذي بني في المدينة. وفي ذلك الزمن حيث لم يكن ثمة بناية عامة لإنجاز المهام الوطنية، لذا كان المسجد يُستخدم كإيوان الحكومة، ونفس المسجد يستخدم كمكتب أيضا، وكان سكرتارية الحكومة كلها، وفيه كان يقام مجلس النبي r وفيه يحدث التشاور، ويبتّ في القضايا المختلفة، ومنه كانت تَصدر الأوامر، وكان يُستخدم كدار الضيافة الوطنية وكانت تنجَز فيه كل مهمة قومية، وعند الضرورة كان يستخدم لحبس أسرى الحرب أيضا، وكان كثير منهم يُسلمون إثر مشاهدتهم عبادةَ المسلمين وتحابّهم وتوادّهم.

باختصار قد كتب عن ذلك المستشرق السير وليام موير أيضا، وكتب كثيرا ضد الإسلام ورسولِ الله r أيضا، إلا أنه قد كتب عن المسجد النبوي ما مفاده:

صحيح أن هذا المسجد من حيث مواد البناء كان بسيطا وعاديا جدا، لكنه حائز على شأن عظيم في تاريخ الإسلام، فكان رسول الله وأصحابه يقضون معظم أوقاتهم في هذا المسجد نفسه، ففيه بدأت الصلاة الإسلامية جماعة بشكل رسمي، وفيه كان الصحابة يجتمعون يوم الجمعة للاستماع لِوَحْيٍ جديد بأدب وخاضعين لهيبته، وفيه كان محمد r يخطط لفتوحه، وكان المسجد نفسه إيوانا يمثل فيه أمامه r وفودُ القبائل المفتوحة والتائبة، وكان المسجد نفسه يشكل بلاطا تصدر منه أوامر ملكية، يهتز بسماعها المتمردون في المناطق العربية النائية، وفي الأخير توفي في حجرة زوجته عائشة الملتصقة بالمسجد نفسه، وهو دفين فيها مع خليفتيه.

هذا المسجد والحجرات الملاصقة قد تجهزت في غضون سبعة أشهر تقريبا، وانتقل النبي r إلى بيته الجديد بصحبة زوجته السيدة سودة. وبعض المهاجرين أيضا اشتروا الأرض من الأنصار وبنوا بيوتهم قرب المسجد، والذين لم يجدوا المكان قريبا من المسجد بنوا بعيدا عنه، وبعضهم وجدوا بيوتا جاهزة من الأنصار. باختصار كان الصحابي سهيل وأخوه سعيدَين إذ قد وُفقا لتقديم أرضهما لبناء هذا المركز العظيم للإسلام.

الصحابي الذي أريد ذكره الآن هو سعد بن خيثمة t وكان من قبيلة الأوس، وكان اسم والدته هند بنت أوس، كان الصحابي أبي الضياح النعمان بن ثابت، وهو الآخر من البدريين، أخاه من الأم، كان يكنى أبا خيثمة وأبا عبد الله أيضا. لقد آخى النبي r بين سعد بن خيثمة أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهما. كان حضرته من النقباء الاثنَي عشر الذين عيَّنهم النبي r في بيعة العقبة الثانية. أما لماذا عُين اثنا عشر نقيبا، وما هي أسماؤهم وأعمالهم، فقد كتب عن ذلك مرزا بشير أحمد t في كتابه سيرة خاتم النبيين فقال: في ذي الحجة من العام الثالث عشر من النبوة، جاء إلى مكة مئات من الأوس والخزرج وكان من بينهم سبعون رجلا إما قد أسلموا أو كانوا يريدون أن يسلموا. وجاؤوا إلى مكة قصد زيارة النبي r وكان مصعب بن عمير أيضا معهم. كانت أمُّه ما زالت على قيد الحياة، وكانت تحبه رغم كونها مشركة، وحين علمت بمجيئه أرسلت إليه رسالة ليزورها أولا ثم يخرج إلى أي عمل آخر، فردَّ عليها قائلا إني لم ألقَ النبي r إلى الآن وبعد زيارته سآتي إليك. ثم جاء إلى النبي r وبعد لقائه وإطْلاعه على أمور هامة توجه إلى أمه، فكانت غاضبة جدا فلما رأتْه بكت واشتكت. فقال لها مصعب t: يا أمي، أقول لك أمرا حسنا هو مفيد لك كثيرا، وينحسم به النـزاع كله. فقالت: ما هو؟ فقال لها إنما هو أن تتركي الوثنية وتسلمي، فآمِني بالنبي r. لكنها كانت مشركة عنيدة فراحت تصرخ وتصيح فورا، وقالت أقسم بالنجوم أني لن أقبل دينك أبدًا، ثم أشارت إلى أقاربها لكي يمسكوا بمصعب ويعتقلوه، لكنه هرب.

باختصار كان النبي r قد عرف من مصعب بمجيء الأنصار، وكان بعضهم قد لقوه r على انفراد سلفا، ولكن كانت هذه المناسبة تقتضي أن يكون معهم لقاء جماعي أيضا، لذا بعد مناسك الحج حُدد منتصف ذي القعدة للقاء حضرته عند منتصف الليل في العقبة التي لاقوه فيها في السنة الماضية، لكي يتكلم معهم باطمئنان وتركيز على انفراد. وأكد حضرته r على الأنصار أن لا يأتوا مجتمعين بل يجب أن يأتوا فرادى لئلا ينتبه إليهم العدو، وليصِلوا في الموعد المحدد وينبغي ألا يوقظوا النائم منهم ولا ينتظروا الغائب منهم. فلما جاء اليوم المحدد خرج النبي r من بيته وحده بعد مضيّ ثُلث الليل واصطحب في الطريق عمَّه العباس، وكان لم يُسْلِم بعد، بل كان مشركا لكنه يحب النبي r وكان سيد بني هاشم، فوصل r برفقته إلى العقبة، وبعد قليل تتابع وصول الأنصار مثنى وفرادى، وكانوا سبعين شخصا من الأوس والخزرج. بدأ العباس الحديث وقال موجها الخطاب إلى الأنصار يا معشر الخزرج إن محمدا r منا حيث قد علمتم في عزّ ومنعة وإن قبيلته قد حفظته إلى اليوم وتصدت لكل خطر من أجله، لكنه الآن قد قرر الانتقال إليكم تاركا وطنه، فإذا كنتم ترغبون في الذهاب به فلا بد لكم من حفظه ومنعه من كل خطر، ولا بد لكم من التصدي لكل عدو. فإذا كنتم مستعدين لذلك فجيد وإلا قولوا الآن بجلاء لأن القول السديد هو أحسن.

كان من بينهم من الأنصار البراء بن معرور وكان رجلا مسنًّا وذا تأثير ونفوذ، قال البراء: لقد سمعنا قولك يا عباس ولكننا نريد أن يقول لنا رسول الله r شيئا بلسانه المبارك، ويحمّلنا ما يريد تحميلنا إياه. فقرأ النبي r بعض آيات القرآن الكريم ثم ألقى خطبة مختصرة ذكر فيها تعليم الإسلام، وسلط الضوء على حقوق الله وحقوق العباد ثم قال: “تمنعونني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم”.

فلما أنهى النبي كلمته أخذ البراء بن معرور بيد النبي r،كعادة العرب، وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه ذرارينا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، ونشأنا تحت ظلال السيوف. فبينما كان البراء يتكلم إذ اعترض الكلام أبو الهيثم بن التَّيْهَان، الذي  كان جالسًا بينهم وكان قد أسلم في ذلك الوقت، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود في المدينة حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيتَ إن أظهرك الله U أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فنبقى دون مؤيد ومساعد. فتبسم رسول الله ﷺ وقال: “بل الدم الدم، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم”، قال العباس بن عبادة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، أي لا بد أن تستعدوا لمواجهة من يعادي النبي r ولتقديم أية تضحية في هذا السبيل.

قالوا: عرفنا ذلك. ثم قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن وفَّينا؟

قال r: جنة الله التي هي أكبر إنعام من إنعامات الله تعالى.

قالوا: قبلنا، ابسُط يدك؛ فبسط يده فبايع هؤلاء السبعون على هذا العهد وكأنهم باعوا أنفسهم للنبي r. هذه البيعة كانت تسمى ببيعة العقبة الثانية.

بعد البيعة قال لهم النبي r إن موسى اختار من قومه اثني عشر نقيبًا كانوا محافظين ومشرفين منه على قومه، وأنا أيضا أريد أن أختار منكم اثني عشر نقيبًا يكونون حوارييّ ومسؤولين أمامي عن قومهم، فأخرجوا لي من ترونه مناسبًا لهذه المهام. فاقترحوا عليه اثني عشر اسما، فعيّن النبي r نقيبًا لكل قبيلة ولبعض القبائل عيّن اثنين، ثم أفهمهم أعمالهم وواجباتهم. وأسماء النقباء الاثني عشر كما يلي:

أسعد بْن زرارة، أُسيد بْن حُضير، أَبُو الهيثم مالك بْن التيّهان، سعد بْن عبادة، البراء بْن معرور، عَبْد اللَّه بْن رَواحة، عبادة بْن الصامت، سعد بْن الربيع، رافع بْن مالك، عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، سعد بْن خيثمة الذي نحن بصدد ذكره الآن وهو أيضا كان من هؤلاء النقباء، والمنذر بْن عَمْرو.

وبعد الهجرة نزل النبي r دار كلثوم بن الهدم، وفي رواية: اتخذ من دار سعد بن خيثمة مقرًا له، وقيل أيضا أنه r أقام في دار كلثوم بن الهدم إلا أنه كان يخرج منها ويجلس في دار سعد بن خيثمة ويعلم فيها الناس دينهم.

بعد بيعة العقبة الأولى بعث النبي r مصعب بن عمير لتربية المسلمين في المدينة، وبعد فترة وجيزة استأذنوا النبي r لأداء صلاة الجمعة، فأذن لهم النبي r وأعطاهم تعليمات خاصة بصلاة الجمعة. وأول جمعة صلّوها وفق هذه التعليمات كانت في دار سعد بن خيثمة. هذا ما ورد في الطبقات الكبرى.

كانت لسعد بن خيثمة بئر في قباء تسمى “غرس” وكان النبي r يشرب منها، وقال r عن هذه البئر: “هي من عيون الجنة وماؤها أطيب المياه”.

وبعد وفاة النبي r غُسل بماء هذه البئر. وعن علي قال رسول الله r: “إذَا أَنَا مُتُّ فَاغْسِلُونِي بِسَبْعِ قِرَبٍ مِنْ بِئْرِي بِئْرِ غَرْسٍ”.

عن أبي جعفر محمد بن علي أن رسول الله r غسل ثلاثا، وغسل في قميصه بماء وسدر. أي لم يُخلع قميص النبي r، وقد شارك في تغسيله r علي والعباس، والفضل، وفي رواية شارك معهم أسامة بن زيد وشُـقْران، وأوس بن خولي رضي الله عنهم.

كانت دار سعد بن خيثمة هي أول مقرّ للمهاجرين إلى المدينة جراء ظلم قريش، فكل من كان يصل مهاجرًا إلى المدينة يقيم في دار سعد بن خيثمة، وكان حمزة، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة مولى رسول الله r، وعبد الله بن مسعود وغيرهم ممن أقاموا في دار سعد بن خيثمة عند هجرتهم إلى المدينة.

عن سليمان بن أبان لما ندب النبي r المسلمين للخروج إلى غزوة بدر، أراد سعد بن خيثمة وأبوه الخروج مع النبي r، فلما ذُكر ذلك عند النبي r قال: إنما يكفي أن يخرج واحد منهما، فليقترعا. قال خيثمة بن الحارث لابنه سعد: آثِرني بالخروج، وأقم مع نسائك. فأبى، وقال: لو كان غير الجنة، آثرتك به. فاقترعا، فخرج سهم سعد فخرج، وقُتل يومها، وكان الذي قتل سعدًا عمرو بن عبد ودّ وقيل طعيمة بن عدي.

لقد قُتل طعيمة بيد حمزة يوم بدر، أما عمرو بن عبد ودّ فقد قتله عليّ يوم الخندق.

عن عليّ يقول: إنّي يوم بدر بعد ما طلع النهار ونحن والمشركون قد إختلطت صفوفنا وصفوفهم، خرجت في أثر رجل منهم فاذا رجل من المشركين على كثيب رمل وسعد بن خيثمة وهما يقتتلان حتّى قتل المشرك سعدًا والمشرك مقنّع في الحديد وكان فارسًا، فاقتحم عن فرسه فعرفني ولم أعرفه، فناداني إلى البراز فعطفت عليه فانحطّ إليّ مقبلاً، فانحططت راجعا لكي ينزل إليّ، كرهت أن يعلوني، فقال: يا ابن أبي طالب فررت؟ فقلت: “قريب مفر ابن الشتراء” (وهذه الجملة صارت مضرب المثل بسبب قاطع طريق في العرب كان يأتي لنهب أموال الناس فإن واجهه أحد فرّ، غير أن فراره كان مؤقتًا لأنه كان يغتنم الفرصة ويأتي فيشن غارته مرة أخرى، فصار مضرب المثل لمن يتقهقر ثم يغير لما تسنح له الفرصة) يقول علي: فلمّا استقرّت قدماي وثبتّ أقبل فلمّا دنا منّي ضربني فاتقيتُ بالدرقة، فضربته على عاتقه وهو دارع فارتعش ولقد قطّ سيفي درعه فظننت أنّ سيفي سيقتله، فاذا بريقُ سيف من ورائي فطأطأت رأسي ووقع السيف فأطنّ قحف رأسه بالبيضة، فالتفتّ فاذا هو حمزة عمّي وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطّلب. يتضح من هذه الرواية أن طعيمة بن عدي قتل سعدًا ثم قُتل هو أيضا هنالك.

وورد في إحدى الروايات أنه كان مع النبي r في بدر فَرَسَان، على إحداهما مصعب بن عمير، وعلى الأخرى كان سعد بن خيثمة؛ وكان الزبير بن العوام ومقداد بن الأسود أيضا يتعاقبان عليها.

لقد تعددت الروايات التاريخية حول عدد الأفراس لدى المسلمين في بدر، ويرى مرزا بشير أحمد t أنه كان معهم فرسان وسبعون جملا، وورد في بعض الروايات ثلاثة أفراس وفي بعضها خمسة، على أية حال، لم يكن هناك وجه للمقارنة بين عدة الحرب والأفراس والجمال التي كانت مع المسلمين وبين ما كان الكفار يملكونه من عدة وعتاد وأفراس وغيرها، إلا أنهم عندما جاؤوا لمهاجمة المسلمين وفرضوا الحرب عليهم، وكانوا قد جاؤوا للقضاء على الإسلام، فلم ينظر المؤمنون إلى ضآلة  العتاد الحربي، ولا إلى عدد الفُرُوس، بل كانوا يتمتعون بروح التضحية العظيمة في سبيل الله، كما يتضح ذلك من ردودهم، بحيث لا نجد لديهم أية رغبة في شيء دنيوي، وما كان لديهم إلا شوق التضحية في سبيل الله، ولأجل ذلك قال الابن لأبيه إنني لا أستطيع أن أؤثرك على نفسي في هذا المقام، فكانوا يتحلون بلوعة وشوق عجيب قبله الله تعالى وبلَّغهم الفتح والغلبة.

ندعو الله تعالى أن يرفع درجات الصحابة كل حين وآن. آمين.

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز