خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u
في مسجد بيت الفتوح بلندن
يوم 29/3/2019م
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
أول الصحابة البدريين الذين سأذكرهم اليوم هو طُليب بن عمير ويُكنى أبا عدي، أُمّه أروى بنت عبد المطلب عمة النبي r. كان من السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله r بدار الأرقم.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال أسلم طليب بن عمير في دار الأرقم ثم خرج فدخل على أمِّه. ..فقال تبعتُ محمداً وأسلمتُ لله رب العالمين. فقالت أمّه إن أحق من وازرتَ ومن عاضدتَ ابن خالك (أي محمد رسول الله r) فوالله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لاتبعناه ولذببنا عنه. قال فقلتُ: يا أماه ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه؟! فقد أسلم أخوك حمزة. فقالت أنتظر ما يصنع أخواتي ثم أكون إحداهن. قال فقلتُ: فإني أسألك بالله إلا أتيتِه وسلّمتِ عليه وصدّقتِه وشهدتِ أن لا إله إلا الله. قالت فأني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم كانت تعضد النبي r بلسانها وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره.
وقيل أن طليب بن عمير هو أول من دمَّى مشركًا في الإسلام بسبب النبي r، وبيان ذلك أنه سمع عوفَ بن صبرة السهمي يشتم النبي r فأخذ له لَحْيَ جمل فضربه فشجّه، فقيل لأروى ألا ترين ما فعل ابنك؟ فقالت:
إن طليباً نصر ابن خاله … واساه في ذي دمه وماله.
وفي رواية أخرى أن طليبا دمَّى أبا لهب أو أبا جهل.
وفي رواية ما مفاده: ذُكر ذلك لأروى؟ فقالت: خير أيامه يوم يذبّ عن ابن خاله.
كان طليب ممن هاجروا إلى الحبشة، وعندما شاع في الحبشة خبر إسلام قريش عاد بعض المسلمين المهاجرين إلى مكة وكان طليب أحدهم. ويرى بعض المؤرخين وكذلك مرزا بشير أحمد t أيضا أنه لم تمض على هجرة المسلمين إلى الحبشة إلا مدة وجيزة حتى وصلهم خبر أن قريشا أسلمت جميعا وصارت مكة مكانا آمنًا، فعاد إليها بعض المسلمين قبل أن يفحصوا صحة الخبر. ثم علموا بعد عودتهم أن الخبر غير صحيح. وقد ذكرتُ هذا الأمر مفصلا في إحدى الخطب السابقة. وعندما علموا حقيقة الأمر استجار بعضهم برؤساء مكة، ورجع بعضهم الآخرون إلى الحبشة، لأن الخبر كان كاذبا. وقد ذكرتُ أيضا في إحدى الخطب السابقة السبب وراء ذيوع هذه الشائعة الكاذبة، ولا أرى حاجة إلى بيانه الآن.
على أية حال، رجع هؤلاء الصحابة إلى الحبشة بأمر رسول الله r تحاشيا لظلم قريش وإيذائهم المتزايد كل يوم، وظلوا يهاجرون من مكة خفية. وقيل إن عدد المهاجرين إلى الحبشة وصل إلى 101 مهاجرا، بينهم 18 امرأة، وهكذا لم يبق عند النبي r إلا عدد قليل من المسلمين بعد هذه الهجرة بعد عودتهم من الحبشة من قبل. ويسمّي المؤرخون هذه الهجرة، هجرة الحبشة الثانية. ولما هاجر طليب بن عمير من مكة إلى المدينة نزل على عبد الله بن سلمة العجلاني، وآخى النبي r بين طليب والمنذر بن عمرو. شهد طليب بدرا وكان من كبار الصحابة. شهد معركة أجنادين التي وقعت في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة وقُتل فيها وهو ابن خمس وثلاثين سنة.
“أجنادين” منطقة في الشام ووقعت فيها معركة بين المسلمين وجيش الروم عام 13 من الهجرة. وقال البعض أن طليبا قُتل في معركة اليرموك.
والصحابي الآخر الذي سأذكره هو سالم مولى أبي حذيفة، ويُكني أبا عبد الله، أبوه معقل. وكان من أهل فارس من إصْطَخْر، وكان من فضلاء الصحابة والموالي وكبارهم، وهو معدود في المهاجرين، وقد هاجر إلى المدينة قبل النبي r، وآخى النبي r بينه وبين معاذ بن ماعص. كان عبدا لثبيتة بنت يعار، زوج أبي حذيفة فأعتقته سائبةً.
كانت في ذلك الزمن عادة سارية مع العبيد، كان إذا أعتق أحد عبدًا وترك شيئا من المال عند موته مَلَكه معتِقه. المراد من السائبة عبدٌ يعتقه مولاه ويتركه في سبيل الله. كان المراد من ذلك أنه لا حق لمعتِق في مال العبد المعتَق عند موته.
وقد تبنى سالما أبو حذيفة فتبناه واشتهر بعد ذلك باسم سالم بن أبي حذيفة، وزوّجه أبو حذيفة بنتَ أخيه فاطمة بنت الوليد.
وقيل: عندها نزلت الآية] اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[
وبعد نزول الآية سُمّي مرة أخرى باسم “سالم مولى أبي حذيفة” بعد أن كان قد اشتهر بسالم بن أبي حذيفة بعد أن أعتقه. وبعد العِتق صار عبدا معتَقا أو صديقا (مولى) لأبي حذيفة.
عن محمد بن جعفر قال: لما هاجر أبو حذيفة وسالم مولى أبي حذيفة من مكة إلى المدينة نزلا على عَبَّاد بن بشر.
عن ابن عمر قال: قدم المهاجرون الأوائل من مكة إلى المدينة ونزلوا العَصْبَة (وهي موضع بقباء) .. كان يؤمّهم سالم، لأنّه كان أكثرهم قرآناً.
عن مسعود بن هنيدة قال: لما نزلنا مع رسول الله، r، قباء وجدنا مسجدا كان أصحاب النبي، r، يصلّون فيه إلى بيت المقدس، يصلّي بهم سالم مولى أبي حذيفة. كان سالم من القراء الأربعة الذين قال النبي r عنهم: “خذوا القرآن من أربعة”.
يقول مرزا بشير أحمد t: لقد أحرز بعض العبيد المعتقين مكانة كبيرة في العلم والفضل، فكان سالم بن معقل مولى أبي حذيفة يعدّ من العلماء الخواص من الصحابة، وكان سالم أحد الأربعة الذين عيّنهم النبي r لتعليم القرآن الكريم.
ثم يقول عنه أيضا: ورد في التاريخ أن سالم بن معقل كان عبدًا لأبي حذيفة بن عتبة فأعتقه، فقطع شوطًا كبيرًا في العلم والفضل حتى صار أحد هؤلاء الصحابة الأربعة الذين عيّنهم النبي r لتعليم المسلمين القرآن الكريم، أي اعتبرهم جديرين بأن ينوبوا عنه r.
وورد في إحدى الروايات أن النبي r قال: اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. (البخاري، كتاب المناقب)
وورد في إحدى الروايات أن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها احتبست على النبيّ r فقال: “ما حبسك؟”، قالت: سمعت قارئًا يقرأ، فذَكَرَتْ من حسن قراءته، فأخذ رداءه، وخرج، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال: “الحمد للَّه الذي جعل في أمتي مثلك”.
وعندما أصيب النبي r بجروح في غزوة أحد حظي سالم بشرف غسل جروحه.
عن قتادة قال: جرح نبي الله r في وجهه وأصيب بعض رباعيته، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم: كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيهم بالدم. فأنزل الله تعالى: ]ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم[.
عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله r: “ليُجاءنّ بقوم يوم القيامة (ينبغي الإصغاء لهذا الحديث الهام. أي ليؤتين بقوم يوم القيامة) معهم حسنات مثل جبال تهامة (وهي الغور الضيق الذي يساير بحر القلزم (البحر الأحمر) ضاربا من الجانب الغربي لشبه جزيرة طور سيناء إلى أقصى الجنوب من بلاد العرب. أما سلسلة جبال تهامة فتبدأ من خليج القلزم. قال r: معهم حسنات مثل جبال تهامة) حتى إذا جيء بهم، جعل الله أعمالهم هباء، ثم قذفهم في النار”، قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله، جَلِّ لنا هؤلاء القوم حتى نعرفهم، فوالذي بعثك بالحق إني لأتخوف أن أكون منهم، قال r (ينبغي الإصغاء له): ” كانوا يصومون، ويصلون، ويأخذون هنة من الليل، ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا إليه، فأدحض الله أعمالهم.”
فرغم كل حسناتهم ربما يقعون في الأطماع الدنيوية فلا يفرقون بين الحرام والحلال، لأجل ذلك يضيع الله تعالى أعمالهم.
وعَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. (وهنا أيضا سأل أحد الصحابة وهو ثوبان فقال) يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَم،ُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. (سنن ابن ماجه، كتاب الزهد) أي يحللون ما حرّم الله تعالى ومنع منه. إنهم يفقدون التمييز بين ما هو الحلال وما هو الحرام، ثم تغلب عليهم الدنيا. هذا الأمر يدعو إلى التفكير والتحلي بالخشية، وفق الله تعالى الجميع لمحاسبة أنفسهم دومًا.
كان عبد الله بن عمر قد سمى أولاده سالمًا وواقدًا وعبد الله بأسماء بعض كبار الصحابة. وسمّي سالم باسم سالم مولى أبي حذيفة.
عن سعيد بن المسيب قال: قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري لم سميتُ ابني سالما؟ا قال: قلت: لا، قال: على اسم سالم مولى أبي حذيفة. قال: فهل تدري لم سميت ابني واقدا؟ قال: قلت: لا، قال: على اسم واقد بن عبد الله اليربوعي. قال: هل تدري لم سميت ابني عبد الله؟ قال: قلت: لا، قال: على اسم عبد الله بن رواحة. فكان يبجّل الصحابة الكبار للنبي r فسمى أولاده على أسماء هؤلاء الأجلاء بهدف نبيل.
وعن عبد الله بن عمر قال: كنا مع رسول الله r في إحدى الغزوات حتى فزع الناس، فخرجت في سلاحي حتى جلست إلى سالم مولى أبي حذيفة وعليه سلاحه وعلى وجهه السكينة والوقار دون أن يكون هناك فزع أو قلق، فقلت: لأقتدين بهذا الرجل الصالح من أهل بدر. فجلست إلى جنبه قريبًا من قبة رسول الله r، فخرج رسول الله r علينا مغضبًا فقال: أيها الناس، ما هذا الفزع وما هذه الخفة؟ ألا صنعتم ما صنع هذان الرجلان المؤمنان؟ أي ينبغي ألا تشعروا بالفزع بل عليكم بالثبات والمواجهة بكل سكينة وطمأنينة في هذا الوقت العصيب كما فعل سالم وعبد الله بن عمر. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بعد فتح مكة فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ دَاعِيًا إلى الإسلام، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ.
فَلَمّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السّلَاحَ، فَقَالَ خَالِدٌ ضَعُوا السّلَاحَ فَإِنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا. قَالَ رَجُلٌ مِنّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ وَيْلَكُمْ يَا بَنِي جَذِيمَةَ إنّهُ خَالِدٌ وَاَللّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارُ وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إلّا ضَرْبُ الأَعْنَاقِ وَاَللّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي أَبَدًا. قَالَ فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا: يَا جَحْدَمُ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا؟ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوَضَعُوا السّلَاحَ وَوُضِعَتْ الْحَرْبُ. فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ وَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ. قَالَ: فَلَمّا وَضَعُوا السّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وأسر الآخرين.
ثم دَفَعَ خالد إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، قال سالم مولى أبي حذيفة قلت: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ. قال ابن هشام: فخرج رجل منهم إلى رسول الله r وذكر له هذا الأمر. فقال r:
هل كره أحد منهم عمل خالد؟ قال: نعم كرهه رجل أبيض اللون متوسط القامة، فلما نهره خالد سكت. وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر بن الخطاب t: أعرفهما، الأول ابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة.
قال ابن إسحاق: ثم دعا رسول الله r علي بن أبي طالب t فقال: “يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك”، (يعني ما قد حدث هو أمر الجاهلية ولا بد من القضاء عليه نهائيا) فخرج عليّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله r (أي بعث النبي r عليا بالمال الكثير لكي يدفع إليهم الدية لما لاقوه من الخسارة المالية والروحية بغير حق) فدفع إليهم دية الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي t حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يودّ إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله r مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل ثم رجع إلى رسول الله r فأخبره الخبر. فقال رسول الله r: “أصبت وأحسنت”، ثم قام الرسول r فاستقبل القبلة قائمًا شاهرًا يديه يقول: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد”.
أي هذا عمل خاطئ للغاية. إن النبي r لو أخطأ أحد أصحابه أو ظلم فلم يبرأ منه ولم يمنعه من ذلك فحسب بل أجزأ ذلك الخطأ وأدّى إلى المظلومين الديةَ وسعى كل السعي لمداراتهم مع أنهم كانوا أعداءه لأن بعضهم حملوا السلاح ضده ولكنه r لم يحبّ أن يحدث معهم ما حدث. هذا كان مستوى عدالته.
عن إبراهيم بن حنظلة عن أبيه أن سالـمًا مولى أبي حذيفة قيل له يوم اليمامة في اللواء أن يحفظه، وقال غيره: نخشى من نفسك شيئا فنولي اللواء غيرك، فقال سالم: بئس حامل القرآن أنا إذًا. (أي إنني عالم بالقرآن ومع هذا العلم الكثير للقرآن الكريم إن كنتُ لا أعمل به فهذا شيء سيئ للغاية. إن كنتُ لا أؤدّي واجبي خشية الموت فما فائدة علمي بالقرآن؟) فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره فاعتنق اللواء، وهو يقول: “وما محمد إلا رسول” (آل عمران 144)، “وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير” (آل عمران 146)، فلما صُرِعَ قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ قيل: قُتل. قال: فما فعل فلان؟ لرجل سماه، قيل: قُتل. قال: فأضجعوني بينهما. ولما قُتل أرسل عمر t بـميراثه إلى معتقته ثبيتة بنت يعار، فلم تقبله، وقالت: إنما أَعْتَقْتُهُ سائبة (أي في سبيل الله)، فجعل عمر ميراثه في بيت المال.
قال محمد بن ثابت: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة، قال سالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله r، (أيْ ما كنا نـهرب) فحفر لنفسه حفرة وقام فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، فقاتل بشجاعة حتى قتل يوم اليمامة شهيدًا سنة اثنتي عشرة. وذلك في خلافة أبي بكر t. هذه الرواية من الطبقات الكبرى.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما قتل سالم مولى أبي حذيفة، قالوا: ذهب ربع القرآن. أيْ مات أحد الأربعة الذين قال عنهم النبي r: استقرئوا القرآن من أربعة.
الصحابي التالي هو عِتبان بن مالك t، وهو من بني غنم بن عوف من الخزرج، آخى النبي r بينه وبين عمر بن الخطاب t، وشهد غزوات بدر وأحد والخندق، ثم ذهب بصره في حياة النبي r. توفي في عهد معاوية t. حين نزل النبي r بالمدينة أتاه عتبان بن مالك في رجال من بنى سالم فقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا، قال r: خلوا سبيل ناقتي فإنها مأمورة. أيْ ستبرك حيث يشاء الله تعالى.
قال عمر بن الخطاب t: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ r فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ… قَالَ عُمَرُ: نَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْنَا فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قال عمر t بعد سماع كلامه: ذهبتُ إلى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ لها: هل طَلَّقَك النَّبِيُّ r؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، فَخَرَجْتُ فَأتيْتُ رَسُول اللهِ r وقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ. ورد في بعض الروايات تفصيل طويل لهذا الحادث أن النبي r اعتزل نساءه شهرا، بل اعتزل أصحابه أيضا بحيث ظن الناس أنه سخط على نساءه وطلقهن لسبب ما، باختصار كانت لذلك أسباب أخرى.
كتب حضرة زين العابدين ولي الله شاه t في شرحه للبخاري تحت هذا الحديث مستنتجا من قول عمر t “فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا”: إذا لم يجد أحد فراغا كاملا لطلب العلم فيمكنه أن يتناوب مع الآخر كما تناوب عمر t مع عتبان بن مالك الأنصاري، ويتبين من ذلك شوق الصحابة للعلم إذ كانوا يتركون أعمالهم ويقطعون مسافة تقارب أربعة أميال ويقضون النهار كله في طلب العلم. قال العلامة العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: قيل جار عمر هو عتبان بن مالك ولكن الصحيح أن جاره هو أوس بن خولي t. ولكن هذه الرواية تذكر عتبان.
ورد في رواية أنه حين ذهب بصر عِتْبان بن مالك t أتى رسول اللهِ r وسَأَلَه أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ لأنه لا يستطيع حضور المسجد فَقَالَ r: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فلم يرخّص له النبي r. (صحيح مسلم) هذه الحدث معروف ويُذكر كثيرا ولكن له تفصيل. يتبين من رواية صحيح البخاري أن النبي r رخّص له فيما بعد ليصلي في البيت بعد أن كان قد منعه في البداية. فورد في صحيح البخاري أن عتبان بن مالك كان يصلي بالناس وكان ضريرا، قال لرسول اللهِ r: إني أَنْكَرْتُ بصري، وأنا أُصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطاُر سال الوادي الذي بيني وبينَهم، لم أَسْتَطَعْ أن آتي مسجدَهم لأُصَلِّيَ لهم، فودَدْتُ يا رسولَ اللهِ، أنك تأتي فتُصَلِّي في بيتي؛ فأَتَّخِذُه مُصَلًّى.
فأتيت النبيَّ r فقلت: يا رسول الله، إني يشقّ علي أن أجتازه، فإن رأيت أن تأتيني وتصلي في بيتي فأتخذه مصلى؟ قال: أفعل. فجاءني الغد فاحتبسته على خزيرة فلما دخل لم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي في بيتك؟ فأشرتُ إلى الموضع الذي أصلي فيه. فصلى فيه ركعتين.
فالجدير بالملاحظة هنا أن النبي r أذن له في أوضاع خاصة بأن يصلي في البيت، فالثابت من الروايات أنه كان يؤمّ الناس هناك، حيث كان الناس يجتمعون عنده لعدم قدرتهم على الوصول إلى المسجد لعوائق الطريق بسبب سوء الطقس. فلا عذر لأداء الصلاة في البيت. إذ حين أذن r له بذلك فإنما لتقام الصلاة جماعةً في بيته.
ففي شرح ذلك يقول ولي الله شاه المحترم في “باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في الأهل” من كتاب الأذان من صحيح البخاري: يقدم حضرة الإمام، أي البخاري، الأوضاع التي كان ينبغي فيها الاستثناء من حضور المسجد لعذر، لكن النبي r لم يسمح حتى لهذا الصحابي أن يصلي في البيت وحده، مع أنه r كان دوما يراعي اليسر في تنفيذ الأحكام قدر المستطاع، وكان حريصا على التسهيل في أمور الدين قدر الإمكان، مع ذلك لم يسمح حضرته r له بالصلاة في البيت وحده، وإنما أذن له بالصلاة جماعةً في البيت.
يتابع ويقول: كان حضرة عتبان أعمى وكان في طريقه قناة ماء، وفي بعض الروايات أنه حين استأذن النبيَّ r أذن له حضرتُه بأداء الصلاة في البيت بشرط أن يؤمّ في البيت.. فلو كان يجوز لأحد أداءُ الصلاة وحده لاعتبر r حضرةَ عتبان معذورا وسمح له بأن يصلي في البيت.
إذن يجب أن تضعوا هذا الأمر في البال دوما، أنه هنا إذا كانت البيوت بعيدة من المسجد وحضور المسجد يستغرق وقتا طويلا فعلى الأحمديين، كما قلت لكم ذلك في السابق مرارا، أن يتخذوا مراكز الصلاة في البيوت ويحضر فيها الجيران للصلاة جماعة، وفق الله الجميع للعمل بهذه الأحكام.
الآن سأذكر المرحومَين اللذَين سأصلي عليهما جنازة الغائب، أحدهما السيد غلام مصطفى أعوان المحترم الذي توفي في 16/3/2019 عن عمر يناهز 78 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم بفضل الله أحمديا من الولادة، وكان جدُّه السيد ديوان بخش المحترم مَن بايع أولا في عائلته. كان المرحوم ملتزما بالصلوات الخمس وقيامِ الليل، وكان تقيا ومواسيا للخلق وناصحا لهم ودمثا وإنسانا بسيطا، وكان كثير الدعاء، ومضيافا، ويهتم بعون الفقراء وصلة الرحم. وكان رجلا صالحا مخلصا يؤثر الدين على الدنيا، وكان يكنّ لنظام الجماعة والخلافة الاحترامَ والحب والإخلاص الكبير. بموجب العمل أقام في السعودية أيضا وفي أثناء الإقامة هناك تشرف بحج البيت تسع مرات واعتمر عددا لا حصر له. ولقد تشرَّف بالمشاركة في أعمال بناء المسجد الحرام والمسجد النبوي. كان منخرطا في نظام الوصية بفضل الله، وذات يوم حين توعكت صحته فأولُ همٍّ أصابه هو أن عليه دفعَ التبرعات المستحقة على عقاره، ثم حين أعاد الله I إليه صحته باع شيئا من عقاره ودفَع التبرعات. ترك وراءه أرملة وابنًا اسمه أحمد مرتضى وهو يقيم في ألمانيا، وأربعَ بنات إحداهن زوجة السيد محمد جاويد الداعية الأحمدي في زامبيا، والثانية زوجة السيد جميل أحمد تبسم الذي يخدم الجماعة في روسيا بصفته واقف الحياة. بنتا المرحوم اللتان تعيشان مع زوجيهما في الخارج لم تستطيعا الذهاب إلى باكستان، وتحملتا هذه الصدمة بعيدا عن الوطن. ألهمهما الله الصبر السلوان ورفع درجات المرحوم.
الجنازة الثانية للسيدة أمة الحي المحترمة زوجة السيد محمد نواز كاتغرهي، وقد توفيت في 15 مارس إنا لله وإنا إليه راجعون. وكانت من قرية بغول المجاورة لقاديان. توفي والدها يوم كان عمرها سنتان فقط، وكفلها عمُّها السيد محمد إبراهيم المحترم. كانت المرحومة وُلدت أحمديةً، وجاءت الأحمدية في عائلته في 1903، وعند استقلال باكستان هاجرتْ مع عائلة عمها إلى باكستان وسكنت في “جران والا”، ومن هناك انتقلت في 1981 إلى ربوة من أجل دراسة الأولاد وغيرها من الأمور واستقرت هناك حتى الوفاة. كانت بفضل الله منخرطة في نظام الوصية. لقد رزقها الله 6 أبناء و5 بنات، وإحدى بناتها توفيت في الصغر. لقد نذرتْ بعض أبنائها وهذا العمل يستمر في أحفادها أيضا. ابنها الأكبر رانا فاروق أحمد المحترم يعمل داعية في نظارة الدعوة إلى الله، والثاني الحافظ محمود أحمد طاهر المحترم يعمل مدرسا في الجامعة الأحمدية بتنـزانيا، ولم يستطع السفر إلى باكستان لحضور جنازة الوالدة. وكذلك أحد أبناء أبنائها داعيةٌ أحمدي وأحد أبناء إحدى بناتها أيضا داعية ويعمل في غانا، وأحد أحفادها وإحدى حفيداتها حفِظا القرآن الكريم، وزوَّجتْ كثيرا من حفيداتها من واقفي الحياة.
يقول ابنها الحافظ محمود: لقد ظل والدانا يحبان خدمة الدين طول الحياة، وكانا دوما جاهزَين لتقديم كل تضحية من أجل أن يجعلانا متمسكين بنظام الجماعة والخلافة والملتزمين بالصلاة جماعة. كانت والدتي مولعة بنشر الأحمدية حيث كان جميع إخوتها وأخواتها غير أحمديين فكانت تدعوهم للأحمدية قدر المستطاع، وبفضل جهودها تشرف أحد إخوتها عبدُ الحميد المحترم بقبول الأحمدية، وأولادُه أيضا يخدمون الجماعة بفضل الله.
يوم كانت تقيم في شوركوت كانت الجماعة تعيش أوضاعا صعبة جدًّا في عام 1974 لكنها قاومت بكل شجاعة وبسالة. في 1974 ذات يوم جاءت إلى بيتنا زوجة مختار القرية لتنقل رسالته لنا أن المسيرة تتقدم إلى بيتكم، لذا على الرجال أن يختفوا في الحقول خارج البيت والنساء ينبغي أن يأتين إلى بيتي. فقالت لها والدتي بل سنبقى في البيت مِتنا أم حيينا. ثم في الأيام نفسها وصلت مسيرة إلى بيتنا ولم يكن أي رجل في البيت بل كانت أخواتي وأمي في البيت، فبدأتْ أمي تتمشى في فناء البيت حاملة الفأس بيدها، وحين قال أحد المتظاهرين في الخارج: اِبدأوا الهجوم على البيت، ردَّتْ عليه من الداخل: إذا اقتحم أحد البيت فسوف أقطع رأسه وأرميه إلى الخارج كما كانت السيدة صفية قد فعلت. فحين لاحظ المعارضون هذه الشجاعة انصرفوا.
في عام 1971 أحد أبنائها صار ضمن أسرى الحرب، ربما كان في الجيش أو كان موظفا حكوميا، وبقي أسيرًا ثلاث سنوات، فقضت هذه المدة بصبر، وحين جاء إلى البيت بعد إطلاق سراحه، قدمتْه أولا إلى حضرة الخليفة الثالث رحمه الله.
كانت والدتنا تعشق النبي r وكانت دوما تطلب في البيت ذكر الأحداث من سيرة النبي r، وفي آخر وقت في حياتها أيضا كانت تتكلم عن سيدنا النبي r والمسيح الموعود u وتقول إنهما قادمان. تغمدها الله بواسع رحمته ورفع درجاتها، ووفَّق ذريتها أيضا للاستمرار في حسناتها.