خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u

في مسجد بيت الفتوح بلندن

يوم 19/4/2019م

*****

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

الصحابي البدري الذي سأتحدث عنه اليوم اسمه عثمان بن مظعون، ويُكنى أبا السائب، أمُّه سخيلة بنت العنبس. كان عثمان يشبه أخاه قدامة كثيرا في الملامح والشكل. كان من بني جُمَح من قريش. هناك رواية عن ابن عباس جاء فيها: بينما رسول الله، r، بفناء بيته بمكة جالسًا إذ مرّ به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله r (أي تبسَّم له)، فقال له رسول الله، r: ألا تجلس؟ قال: بلى؟ فجلس رسول الله r مستقبله. فبينما هو يحدثه إذ شخَصَ رسول الله r، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله r عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته وأستفقه ما يقال له، وشخص بصر رسول الله r إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى في السماء، فأقبل على عثمان بجلسته الأولى، فقال عثمان: يا محمد فيما كنتُ أجالسك وآتيك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة. قال وما رأيتَني فعلتُ؟ قال: رأيتُك تشخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفتَ إليه وتركتَني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئًا يقال لك، قال: أو فطنتَ لذاك؟ قال عثمان: نعم، قال: فقال رسول الله r: أتاني رسولُ الله آنفاً وأنت جالس، قلت: رسول الله؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: ]إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون[ قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدًا”.

يقول سيدنا المصلح الموعود t في بيان أحداث ما وقع في أوائل أيام إعلان النبي r نبوَّته:

“بعد فترة وجيزة وجد النبي r أتباعا آخرين من أمثال طلحة والزبير وعمر وحمزة وعثمان بن مظعون y. كان كلٌّ منهم فدائيا مخلصًا مستعدًا لإهراق دمه بدلاً من عَرَق الرسول r. لا شك أن النبي r قد تعرضَ لأنواع المحن والأذى ثلاثة عشر عاما، بيد أنه كان مطمئنا لأنه قد آمن به من أهل مكة أهلُ عقل ورأي ومكانة وتقوى وطهارة، وأن المسلمين أصبحوا الآن قوة يحُسَب حسابها. وعندما كان أحد من أهل مكة يتهم النبي r بالجنون كان أقرانه يقولون له: كيف تتهمه بالجنون وقد آمن به وصدّقه فلان وفلان من أهل الرأي والذكاء؟! وهذا جوابٌ ما كان لأحد أن ينقضه. إن الكتّاب الغربيين لا يألون جهدًا في معارضة النبي r ولا يتورّعون عن الإساءة إليه r ولكن عندما يأتي ذكر أبي بكر يقولون إنه كان إنسانا نزيهًا لم يكن لديه طمع شخصي، فيرد عليهم كتّاب غربيون آخرون: كيف يكون كذابًا مَن صدّقه شخص كأبي بكر؟! إذا كان أبو بكر شخصا نزيهًا حقًا، فكيف اتّبع طمّاعًا؟! إذا لم يكن طمّاعًا فلا بد لكم من الإقرار بأن سيده أيضًا لم يكن طمّاعًا. وهذا دليل قوي لا يمكن نقضه بسهولة. ونحن نرى أن الناس قد اتهموا المسيح الموعود u بالجهل، فردّ الله على طعنهم بأن جعَل شخصًا بمكانة المولوي نور الدين t يصدّقه منذ بداية بعثته. والمولوي محمد حسين البطالوي أيضًا كان يثني عليه خيرًا قبل دعواه. ثم أقام الله تعالى جماعة من المثقفين بجنبه u فور دعواه، كان بعضهم علماء وبعضهم أثرياء، وبعضهم من ذوي الثقافة الإنكليزية الحديثة.

يتابع المصلح الموعود t ويقول محللا الأوضاع السائدة حينذاك: الواقع أن الرعب يُبَثّ بثلاثة أشياء: الإيمان أو العلم أو المال، وقد أعطى الله المسيح الموعود u هذه الثلاثة (فقد وهبه في البداية أصحابا كان الناس يثنون عليهم، بل إن براعة الخليفة الأول t في الطب التقليدي لا تزال معترفا بها إلى يومنا هذا، إذ لا يزال الأطباء في هذا المجال من غير الأحمديين يستخدمون وصفاته إلى اليوم. باختصار، إن المؤمنين برسول الله r كانوا من كبار القوم ومن عوائل عريقة أيضا)

وفي مكان آخر يقول سيدنا المصلح الموعود t في بيان حسرات كفار مكة وحسدهم:

“باختصار، قد هيأ الله من الأسباب ما جعل قلوب الكافرين تحترق دائمًا وتصبح رمادا، وكانوا لا يدرون كيف يطفئون هذه النار. لم تكن هناك أسرة عريقة إلا ودخل أفراد منها في الإسلام. فكان الزبير وطلحة وعمر وعثمان وعثمان بن مظعون y من الأسر العريقة من مكة، كما كان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد من كبار أسرها. كان العاص عدوًا للإسلام، ولكن ابنه أسلم. كان الوليد شديد المعارضة للإسلام ولكن ابنه خالدًا أسلم. فهناك آلاف عادَوا الإسلام عداء شديدًا ولكن أولادهم ألقوا بأنفسهم عند قدم الرسول r، وحاربوا آباءهم وأقاربهم الكافرين بالسيوف في المعارك”.

لقد رُوي أن عثمان بن مظعون هاجر إلى الحبشة وعاد منها إلى مكة كما ذُكر قبل قليل. وكان ممن أسلموا في البداية. قال ابن إسحاق: أسلم عثمان بن مظعون بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر إلى الحبشة هو وابنه السائب الهجرة الأولى مع جماعة من المسلمين، فبلغهم وهم بالحبشة أن قريشًا قد أسلمت فعادوا.

ويقول ابن إسحاق: “فلما بلغ مَن بالحبشة سجود أهل مكة مع رسول الله r أقبلوا ومَن شاء الله منهم. وهم يرونهم قد تابعوا النبي r. ” (وقد ذكرتُ تفصيل هذا الحادث والسبب وراء السجود في خطبي السابقة)  لما وصلوا قريبا من مكة علموا حقيقة الأمر، ووجدوا العودة إلى الحبشة أمرا صعبًا. وفي رواية أن بعضهم رجعوا من هناك إلى الحبشة، وفي رواية أخرى أن الذين خافوا أن يعيشوا في مكة حتى في ذمة أحد من أهلها رجعوا إلى الحبشة. على كل حال، بقي هؤلاء في الطريق خارج مكة إلى أن نال كل واحد منهم الأمان من بعض أهلها. ودخل عثمان بن مظعون t في أمان الوليد بن المغيرة. وروى ابن إسحاق أن عثمان بن مظعون لما رأى النبي r وأصحابه عرضة للأذى والضرب والاضطهاد، وأنه ينعم بالراحة والحماية ليل نهار في ذمة زعيم من أهل مكة الكفار، قال في نفسه أعيش مستمتعًا بالراحة ليل نهار في ذمة مشرك والرسولُ r وأصحابُه هدفٌ للأذى والاضطهاد؟! والله ليس هذا إلا بسببِ عيبٍ فيّ. ثم ذهب عثمان إلى الوليد بن المغيرة وقال له يا أبا عبد شمس (هذا لقب الوليد) لقد وفيتَ ذمتك لي، ولكني أريد الآن أن أخرج من ذمتك وألحَقَ برسول الله r، لأن لي أسوةً في رسول الله r وأصحابه. وكان الوليد صديقا حميما لوالد عثمان فقال له: يا ابن أخي، لعلك تعرضتَ للأذى أو الإساءة من أحد وأنت في جواري. قال عثمان كلا، ولكني أرضى بذمة الله ولا أريد ذمة أحد سواه، وها إني أخرج من ذمتك. فقال الوليد تعال معي إلى الكعبة وأعلنْ ذلك هناك، كما أعلنتُ جواري لك عند الكعبة. قال عثمان: هلمّ. فوصلا إلى الكعبة، فأعلن الوليد أمام القوم: إن عثمان هذا يريد أن يرد إليَّ جواري. قال عثمان لقد صدق الوليد في قوله، لقد وجدته صادقا في ذمته ووفيا لوعده، ولكني لا أريد الآن ذمة أحد سوى ذمة الله، لذلك قد رددت إلى الوليد ذمته. ثم رجع عثمان لسبيله.

لقد تحدثتُ عن هجرة الحبشة من قبل أيضا عند ذكر الصحابة الآخرين أيضا، غير أني أوجز ذكرها هنا أيضا. لقد كتب حضرة مرزا بشير أحمد t عن هذه الهجرة على ضوء ما ورد في شتى كتب التاريخ وقال: لما بلغ أذى قريش للمسلمين منتهاه واشتدوا فيه قال النبي r للمسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فإن فيها ملكًا عادلا، لا يُظلَم عند أحد. وبلاد الحبشة تسمى إثيوبيا وأبيسينيا أيضا، وتقع في شمال شرق القارة الأفريقية محاذية لجنوب الجزيرة العربية، وليس بينهما إلا البحر الأحمر. في ذلك الزمن كانت في الحبشة دولة مسيحية قوية، وكان لقبُ ملكها النجاشي، ولا يزال يلقَّب ملكهم بهذا حتى اليوم (أي عندما كتب حضرته هذا في كتابه). وكانت الأواصر التجارية تربط الجزيرة العربية بالحبشة.  وكان اسم النجاشي في ذلك الوقت هو أَصْحَمَة. كان ملكًا عادلا جدا وواعيا وقويا. على كل حال، لما بلغ أذى الكفار للمسلمين الذروةَ أمرهم الرسول r بأن يهاجر من يقدر على الهجرة منهم إلى الحبشة. فهاجر 11 رجلا و4 نساء في شهر رجب في العام الخامس من النبوة، أبرزهم: سيدنا عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت الرسول r، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة، وعثمان بن مظعون، ومعصب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة y أجمعين.

ويتابع حضرة مرزا بشير أحمد t فيقول: الغريب أن معظم هؤلاء المهاجرين الأوائل كانوا من أُسَرٍ قوية من قريش، وقليل منهم كانوا من المسلمين المستضعفين، وهذا يدل على أمرين: أحدهما أن المسلمين المنحدرين من الأسر القوية أيضا لم يكونوا في منجاة من اضطهاد قريش، والأمر الثاني أن المسلمين المستضعفين كالعبيد وغيرهم كانوا من الضعف وقلة الحيلة بحيث لم يقدروا على الهجرة أيضا.

لقد تناول حضرة المصلح الموعود t بأسلوبه الخاص قصة أمان أو جوار عثمان بن مظعون ثم قصته مع لبيد بن ربيعة. لقد ذكر حضرته أولاً أن عثمان بن مظعون رد للوليد جواره ثم قال: لما بلغ اضطهاد أهل مكة للمسلمين منتهاه دعا النبي r أصحابه يوما وقال هناك في ناحية الغرب وراء البحر أرض لا يظلم فيها أحد بسبب عبادته لله تعالى، ولا يُقتَل بسبب تغييره دينه، فيها ملكٌ عادل، فهاجروا إلى تلك الأرض لعل الله يفتح لكم سبيل الأمن والراحة. فهاجرت طائفة من المسلمين والمسلمات والأطفال إلى أرض الحبشة. لم يكن خروجهم من مكة أمرا هينا. كان أمرا مؤثِّرا جدا. إن ترك الوطن ليس سهلا. كان أهل مكة يعدّون أنفسهم سدنة الكعبة، وكان خروجهم منها تجربة قاسية لا تطاق. ما كان لأحد منهم أن يخرج من مكة إلا إذا لم يبق له مأوى في الدنيا. فهجرتهم من مكة كانت حادثا مؤلما جدا، خاصة أنهم اضطروا إلى الخروج منها سرا، لأنهم كانوا يعلمون أن الكفار لو علموا بهجرتهم لن يسمحوا لهم بالخروج منها، وبالتالي فإنهم قد هاجروا خفيةً دون أن يلتقوا بأقاربهم وأعزتهم. فعن حزنهم وألمهم حدِّثْ ولا حرج! حتى إن الذين رأوا مشهد هجرتهم هم أنفسهم لم يتمالكوا مشاعر حزنهم. فعندما كانت قافلتهم تستعد للخروج من مكة، اتَّفق أن لقي بعضًا منهم سيدُنا عمرُ t، الذي كان عندها ما زال كافرا وعدوا لدودا للإسلام وأشدَّ الكفار إيذاءً للمسلمين، وكان من بين هؤلاء المهاجرين صحابية اسمها أم عبد الله. فلما رأى عمر الرواحل الجاهزة والأمتعة المعدة للرحيل أدرك أنهم يخرجون من مكة، فقال يا أم عبد الله، هذه عُدّةٌ للهجرة؟ قالت له أمُّ عبد الله: نعم، والله إننا ذاهبون إلى بلد آخر، لأنكم آذيتمونا كثيرا وظلمتمونا جدا، ولن نرجع إلى وطننا إلا حين يهيئ الله لنا باب الراحة والأمن. فأجاب عمر: حسنا، كان الله معك. وتقول أم عبد الله: وشعرتُ في صوت عمر رقةً. كان معارضا للمسلمين حينها، ولكن غلبت عليه الرقة برؤية مشهد هجرتنا، فقال لي كان الله معك، وكان في صوته رقة لم أراها من قبل، ثم ذهب مولّيًا عنا بسرعة، أي أن عمر ذهب من هناك وشعرتُ أنه حزين جدا برؤية هذا المشهد.

على كل حال، لما علم أهل مكة بهجرة هؤلاء المسلمين تعقبوهم حتى البحر، ولكن هذه القافلة المهاجرة كانت قد أبحرت إلى الحبشة قبل وصولهم إلى البحر. ولما علم المكيون ذلك قرروا أن يبعثوا وفدا إلى ملك الحبشة ليحرضه على المسلمين المهاجرين لكي يسلمهم إليهم. ووصل الوفد إلى الحبشة، والتقى بالملك وحاشيته أيضا، وألّب الحاشيةَ على المسلمين كثيرا، ولكن الله تعالى قوّى قلب الملك، فرغم أن المكيين والحاشية الذين تأثروا بقول المكيين ألحوا عليه لكي يرد المسلمين إلى الكفار إلا أنه رفض تسليمهم إلى الكفار.

حين عاد هذا الوفد خائبا كاد أهل مكة مكيدة أخرى لإعادة المسلمين، وهي أنهم أشاعوا بين القوافل المتوجة إلى الحبشة أن أهل مكة جميعهم أسلموا، وحين وصل هذا الخبر إلى الحبشة عاد معظم المسلمين إلى مكة فرحين، ولكنهم بعد وصولهم مكة علموا بأنها شائعة أُشيعت بغرض الفتنة، ولا حقيقة لها. فعاد بعضُهم إلى الحبشة، كما ذكرتُ، وبقي البعض في مكة. قال المصلح الموعود t: كان من بين الباقين في مكة عثمانُ بن مظعون الذي كان ابن أحد السادة الكبار في مكة. وأجاره هذه المرة صديق أبيه الوليدُ بن المغيرة، فأخذ يمشي بين الناس بحرية تامّة. ولكنه لما رأى إخوانه المسلمين الآخرين عرضةً للتعذيب بيد أهل مكة، ولأنه كان شابا غيورا فذهب إلى ذلك الوليد وقال له: خُذْ ذمتك عني فإني لا أرضى بأن أكون في راحة وإخواني لا يزالون هدفًا لتعذيب القوم. فأعلن الوليدُ أن عثمان لم يعُدْ في ذمته منذ اليوم. وبعد أيام كان لبيد بن أبي ربيعة، وهو من كبار شعراء العرب، يجلس بين سادات مكة، يُلقي عليهم شعره، فأنشد شطرا من البيت: “وكل نعيم لا محالة زائل” يعني أن كل أنواع النعيم لا بد أن تكون لها نهاية، فقال عثمان بن مظعون t: هذا خطأ، إن نعيم الجنة لا يزول. كان لبيد من الكُبراء، فلما سمع ذلك استشاط غضبا وقال: ما كان ضيفكم يُضام هكذا من قبلُ، فمتى حدثت هذه البدعة فيكم يا معشر قريش؟! فنهض أحد الحضور وقال: لا تبال بهذا الرجل فإنه أحمق. وأصرّ عثمان t على أنه لم يقل شيئًا يوصف بالحمق بل ما قاله هو الحق، فوثب الرجل مغضبًا على عثمان وسدّد إليه لكمة فقأت عينه أو تورمت عينه. كان الوليد الذي أجاره حاضرًا، وكان صديقًا مقرّبًا لوالد عثمان، ولم يتحمّل أن ابن صديقه الراحل يُعامَل هكذا. غير أن عثمان t لم يكن تحت حمايته المعلنة، والعادة العربية يومها تمنعه من التدخل، ولذا لم يستطع أن يفعل شيئًا. وقال وهو يعاني من الغضب والألم في الوقت نفسه: “يا ابن أخي، قد كنت في ذمة مانعة ممنوعة فخرجت منها وكنت عن الذي لقيت غنيا. فقال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، ولي فيمن هو أحب إلي منكم أسوة، وما دام النبي r يتحمل الأذى فلمَ لا أتحمل أنا؟! إن حماية الله تعالى تكفيني.

ورد ما جرى بين عثمان بن مظعون ولبيد بن ربيعة في كتب التاريخ أيضا وأسرده عليكم. كان لبيد، الشاعر العربي الكبير، في مجلس كان فيه عثمان t أيضا، كما سبق ذكره، فأنشد لبيد الشطر التالي: “أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلٌ”، فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ إِنَّ لَبِيدَ أَنْشَدَهُمْ تَمَامَ الْبَيْتِ “وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ”، فقال عثمان: كذبت، فالتفت القوم إليه فقالوا للبيد: أعد علينا. فأعاد لبيد، وأعاد له عثمان بتكذيبه مرة وبتصديقه مرة، وإنما يعني عثمان إذا قال: كذبت، يعني نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: والله يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا! فقام سفيه منهم إلى عثمان بن مظعون فلطم عينه، فاخضرت، فقال له من حوله: والله يا عثمان لقد كنت في ذمة منيعة وكانت عينك غنية عما لقيت! فقال عثمان: جوار الله آمن وأعز وعيني الصحيحة فقيرة إلى ما لقيت أختها، ولي برسول الله r وبمن آمن معه أسوة. فقال الوليد: هل لك في جواري؟ فقال عثمان: لا أرب لي في جوار أحد إلا في جوار الله. (أسد الغابة)

هذه كانت حال إيمان الصحابة وهذا كان شعورهم بألم إخوانهم، فما دام الصحابة الآخرون يؤذَون فكيف يمكن أن يكونوا في راحة، وعلاقتهم بالنبي r إنما كانت علاقة الحب والوداد، فكان t لا يريد أن يكون في راحة والنبي r يواجه الأذى، وكذلك كان t يتألم حين يرى معاناة الصحابة الآخرين. يقول المصلح الموعود t: هذا كان جواب عثمان بن مظعون t لأنه كان قد سمع القرآن الكريم وتعاليمَ الإسلام وكان قد قرأ القرآن الكريم والآن لم يكن لديه أي قيمة للشعر. بل إن لبيدًا نفسَه أسلم فيما بعد وسلك الطريق نفسه بعد إسلامه. ذات مرة أرسل عمر t إلى أحد الولاة ليُرسل إليه t آخرَ ما نظم بعض الشعراء، وكان لبيدُ قد أسلم حينها ولما طُلب منه ذلك كتب بعض آيات القرآن الكريم.

كيف كان حب النبي r لعثمان t؟ يتبين ذلك من الحدث التالي، ورد في رواية أنه حين توفي عثمان t قبَّله النبي r وكانت عيناه تدمعان، ولَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ r قَالَ عند نعشه: اِلْحَقْ بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ.

ورد عن هجرة عثمان بن مظعون: نَزَلَ عثمانُ وقُدامةُ وعبدُ الله بنو مظعون والسائبُ بن عثمان بن مظعون حين هاجروا من مكّة إلى المدينة على عبد الله بن سلمة العَجْلاني. وفي رواية: نزلوا على حزام بن وديعة. قال محمد بن عمر الواقدي: وآلُ مظعون ممّن أوْعَبَ في الخروج إلى الهجرة رجالهم ونساؤهم ولم يبقَ منهم بمكّة أحد. وعن أمّ العلاءِ قالت: نزل رسول الله r والمهاجرون معه المدينة في الهجرة فتشاحّت الأنصار فيهم أنْ يُنْزِلوهم في منازلهم حتى اقْتَرَعوا عليهم، فطار لنا عثمان بن مظعون على القُرْعة. وآخى رسول الله r، بين عثمان بن مظعون وأبي الهيثم بن التّيهان.

هاجر عثمان إلى المدينة وشهد بدرا، كان أكثر الناس حماسا للعبادة، يصوم النهار ويقوم الليل ويتجنب الهوى ويجتنب النساء، سأل النبي r ليخصي نفسه فمنعه النبي r من ذلك، ورد هذا في كتاب السِّيَر “أسد الغابة”.

ثم ورد في رواية أن امرأة عثمان بن مظعون دخلت على نساء النبي r فرأينها سيئة الهيئة فقلن لها: ما لك؟! فما في قريش أغنى من بعلك، (أي يجب أن تتزيّني وتصلحي من حالك لأنك تطيقين ذلك فإن بعلك رجل ثري) قالت: ما لنا منه شيء، أما ليله فقائم وأما نهاره فصائم. (لا فائدة لماله لأنه لا يعير لي اهتماما لأنه يقوم الليل ويصوم النهار) فدخل النبي r فذكرن ذلك له، فلقيه النبي r وقال: يا عثمان بن مظعون، أما لك بي أسوة؟ فقال: يا بأبي وأمي، وما ذاك؟ إنني أسعى أن أخطو خطاك تماما، فقال له أتصوم نهارا وتعبد ليلا كله، فقال نعم. فقال له r لا تفعل ذلك، فإن لعينك عليك حقا، ولجسمك عليك حقا، ولأهلك أيضا عليك حقا، ولزوجك وأولادك عليك حقا، فصلِّ ونَم، فالنوم أيضا ضروري، يمكن أن تصلي ليلا تطوعا وفي الوقت نفسه يجب أن تنام أيضا، وصُم وأَفطر. أي إذا كنت تريد أن تصوم تطوعا فلا بأس لكن يجب أن تفطر أيضا بعض الأيام. حين قال ذلك النبيُّ r لعثمان جاءت امرأتُه بعد أيام إلى أزواج النبي r، وكانت تعطَّرت وكأنها عروس. فسألنَها ما بكِ قد تجمَّلت اليوم؟! فقالت قد حظيتُ بما تحظى به الأخريات أي يهتم بي زوجي الآن.

وعن عائشة رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ r بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ.   (أبو داود)

لقد ذكر حضرة مرزا بشير أحمد t نقلا عن البخاري أن سعدا بن أبي وقاص روى أن حضرة عثمان بن مظعون استأذن النبيَّ r في الانقطاع عن النساء نهائيا ولم يأذن له النبيُّ r بذلك، ولو أذِن له لكنا أيضا جاهزين لنختصي، ولسعَينا للقضاء على هذه الثوائر. وأقرأ لكم ما ورد في كتاب النكاح في صحيح البخاري، قال سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ r عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا.

يتابع حضرة مرزا بشير أحمد t ويقول إن حضرة عثمان بن مظعون الجمحي t كان صوفي المزاج، وكان لا يشرب الخمر حتى قبل إسلامه، وبعد اعتناق الإسلام أيضا كان يريد التبتل، لكن النبي r لم يسمح له بذلك، وقال: لا رهبانية في الإسلام. فالإسلام يقول عِيشوا في هذه الدنيا وتمتَّعوا بنِعَمها التي خلقها ولا تنسوا الله، بل يجب أن يكون في بالكم كل حين وآن.

وعن قدامة بن مظعون أن عمر بن الخطاب أدرك عثمان بن مظعون وهو على راحلته، وعثمان على راحلته، على ثنية الأثاية (وهي على بُعد سبعين ميلا من المدينة على طريق الجحفة)، فضَعضَعتْ راحلتُه راحلةَ عثمان، وقد مضت راحلةُ رسول الله r أمام الركب، فقال عثمان بن مظعون: أوجعتَني يا غلقَ الفتنة. فلما أسهلت الرواحل دنا منه عمرُ بن الخطاب فقال: يغفر الله لك أبا السائب، ما هذا الاسم الذي سـمَّيتَنيه؟ فقال: لا والله ما أنا الذي سميتُكه، لكن سمّاكه رسول الله r: (ثم قال له يمكن أن تسأل رسولَ الله r الذي أمام الركب ثم بيَّن بنفسه تفصيل ذلك وقال): بينا هو r أمام الركب يقْدم القومَ مررتَ بنا يومًا ونحن جلوس مع رسول الله r فقال: “هذا غلق الفتنة، وأشار بيده لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين ظهرانيكم” أي لن تحدث فتنة ما دام عمر t حيًّا. ويفيد التاريخ أيضا أن الفتن بدأت بعده t. وأقدم لكم تفصيل نداء عثمان بن مظعون t سيدَنا عمر t بغلق الفتنة.

قَالَ حُذَيْفَةُ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي الْفِتْنَةِ قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ قَالَ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِ (أي عندك ثقة كبيرة وشجاعة) قُلْتُ فَتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ والصيام وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ (أي أن الأولاد والثروة من الفتنة ويمكن التكفير عنها بالصلاة الصيام والصدقة وإحراز الحسنات) قَالَ لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ (أي ستحدث في الأمة فتن شديدة جدا) قُلْتُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ  يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (أي لا خطر عليك من تلك الفتنة فلن تحدث في حياتك) إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ أَيُكْسَرُ أَوْ يُفْتَحُ (فقال له ما ذكره النبي r أن بينه وبينها بابا مغلقا) قُلْتُ بَلْ يُكْسَرُ قَالَ إِذًا لَا يُغْلَقُ أَبَدًا. (ومعلوم أن الباب إذا فُتح كان هناك احتمال إغلاقه، أما إذا كُسر فإغلاقه صعبٌ جدا، فقال عمر t إذًا لن يغلق أبدا، أي إذا بدأت الفتن فسوف تستمر. ونلاحظ أن هذه الفتن استمرت منذ ظهرت الفتنة تلو الأخرى دوما في عهد عثمان t وعهد علي t وبعده أيضا تستمر في المسلمين إلى اليوم؛ حيث يتعطشون لدماء بعضهم، ولا يريدون التواري خلف الجدار الذي أقامه الله I في هذا العصر لإغلاق هذا الباب بواسطة المسيح الموعود u. لذا تمتد هذه الفتن، حمانا الله منها، ونبقى نحن الأحمديون دوما وراء هذه الـجُنة التي وهبها لنا الله I في هذا العصر بواسطة المسيح الموعود u، ونبقى خلف هذا الجدار) باختصار كان هذا الحديث جاريا إذ قال عمر t: إِذًا لَن يُغْلَق هذا الباب أَبَدًا. فقُلْنَا ( أي نحن الذين كنا جلوسا): أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنْ الْبَابُ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً. أي كان الأمر موثقا عنده، وكان حضرته t يعلم أن بعده ستظهر الفتن.

كان حضرة عثمان بن مظعون t أول مهاجر توفي في المدينة في العام الثاني للهجرة، وعند البعض توفي بعد 22 شهرا من معركة بدر وكان أول من دُفن في جنة البقيع. باختصار هناك تفاصيل أخرى له سأتناولها في المستقبل، بإذن الله.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز