خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u
في مسجد بيت الفتوح بلندن
يوم 3/5/2019م
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
أصحاب بدر الذين سأتناول ذكرهم اليوم أولهم هو عبيد t واسمه الكامل عبيد بن أبي عبيد الأنصاري الأوسي، وبحسب ابن هشام هو من الأوس من بني عمرو. شهد عبيد مع رسول الله r بدرا وأحدا والخندق. لم يُعثر على مزيد حوله.
والصحابي الثاني هو عبد الله بن النعمان بن بلدمة. يقال بلدمة وبلذمة، وهو الأنصاري الخزرجي من بني خناس. كان عبد الله بن النعمان ابن عم أبي قتادة t، شهد بدرا وأحدا.
والصحابي التالي هو عبد الله بن عمير t، كان من بني خُدارة، شهدا بدرا، وقيل اسمه أبيه عبيد وليس عميرًا. وقال البعض اسم جده عدي وقال البعض الآخر هو حارثة. قال ابن هشام هو من بني خدارة وقال ابن إسحاق هو من بني حارثة. وابن هشام وابن إسحاق كلاهما مؤرخان.
ثم الصحابي عمرو بن الحارث t، كان من بني الحارث. قال البعض اسمه عمرو وقيل هو عامر. وكنيته أبو نافع، أسلم في مكة في البداية. شهد الهجرة الثانية إلى الحبشة، وحظي بشرف الاشتراك في معركة بدر.
ثم الصحابي عبد الله بن كعب t، كان من بني مازن، واسم أبيه كعب بن عمرو واسم أمه رباب بنت عبد الله، كان أخا أبي ليلى المازني. اسم أحد أبنائه الحارث الذي كان من بطن زُغَيبة بنت أوس. شهد عبد الله بن كعب بدرا، وولّاه النبي r حفظ الأنفال يوم بدر، وكذلك ولّاه على الخمس في مناسبات أخرى. شهد مع رسول الله r أحدا والخندق والمشاهد كلها. توفي بالمدينة في 23 للهجرة في عهد عثمان بن عفان t. وصلى عليه عثمان t، ويكنى أبا الحرث وأبا يحيى.
والصحابي التالي هو عبد الله بن قيس t، وهو من بني النجار، ورد في معظم كتب التاريخ والسيرة اسم جده خالد، ولكن الطبقات الكبرى أورد اسم جده خلدة. اسم ابن عبد الله بن قيس هو عبد الرحمن واسم بنته عميرة، وهما من بطن سُعاد بنت قيس. وله بنت أخرى واسمها أم عون. شهد عبد الله بن قيس بدرا وأحدا. قال عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري: استُشهد يوم أحد وقال البعض الآخر: لم يُستشهد يوم أحد وشهد المشاهد كلها مع رسول الله r، وتوفي في خلافة عثمان t. يوجد اختلاف في كتب التاريخ لذلك أذكره.
ثم الصحابي سلمة بن أسلم t، كان من بني حارثة بن الحارث. واسم أبيه أسلم، واسم جده حريش وقال البعض هو حريس. يكنى سلمة بن أسلم أبا سعد، واسم أمه سُعاد بنت رافع. شهد بدرا وأحدا والخندق والغزوات كلها مع رسول الله r. أسر السائب بن عبيد والنعمان بن عمرو يوم بدر. واستُشهد في خلافة عمر t يوم الجسر. ومعركة الجسر كانت على نهر الفرات، وقد ذكرتُ تفصيل هذه المعركة في الخطب الماضية. كانت معركة كبيرة بين المسلمين والفرس. وسميت بالجسر لأنه بُني جسر على نهر الفرات لكي يعبره المسلمون للذهاب إلى الطرف الآخر. واستخدم الفرس أفيالا في هذه المعركة التي لقي فيها كلا الفريقين وخاصة المسلمون خسائر كبيرة. تعددت الروايات القائلة بأن عمره عند الوفاة كان قرابة 38 عاما.
كتب العلامة نور الدين الحلبي في كتابه الشهير “السيرة الحلبية” في بيان معجزات النبي r يوم بدر: انكسر سيف سلمة بن أسلم t فأعطاه رسول الله r قضيبا كان فى يده، أي عرجونا من عراجين النخل، فقال له: اضرب به. وأخذه سلمة بن أسلم بيده فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده. وورد في شرح الزرقاني ودلائل النبوة: انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله r قضيبا، فقال: اضرب به، فإذا سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم الجسر.
كتب ابن سعد في ذكر معركة الخندق: وكان يحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، وكان يحمل لواء الأنصار سعد بن عبادة، وكان رسول الله r يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل (أي جعل أحزابا تحت هذين اللوائَين، فبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل) وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، وذلك أنه كان يخاف على الذراري من بني قريظة.
حِيكت مؤامرة لاغتيال النبي r، كتب حضرة مرزا بشير أحمد t في ذلك: كانت قريش تتحرَّق لفشلها المهين في غزوة الأحزاب وكان أكثرهم احتراقا أبو سفيان الذي كان رئيس مكة وكانت الذلة قد ضُربت عليه بوجه خاص في مهمة الأحزاب، ظل أبو سفيان يحترق من الداخل لفترة ثم نفد صبره أخيرا فظهرت شعلات النار المكتومة التي كان يحترق فيها، والمعلوم أن الكفار في الحقيقة كانوا يعادون النبي r أكثر بل الحق أن عداوتهم الأصلية كانت لذات النبي r لذا بدأ أبو سفيان يفكر أن التدابير والحيل الظاهرية والحروب لم تُثمر فلِمَ لا نقتل محمدا المصطفى r بتدبير خفي وبحيلة سرية؟! كان يعلم أن النبي r ليس محروسا جدا، بل كان r في بعض الأحيان يذهب هنا وهناك ويمشي في طرق المدينة دونما حراسة ويأتي المسجد النبوي على الأقل خمس مرات للصلاة، وكان يخرج في الأسفار أيضا ببساطة وحرية. وهل من فرصة أنسب من ذلك لقاتل مأجور؟! ولما خطر ذلك ببال أبي سفيان بدأ يرسم خطة لقتل النبي r، وحين عقد عزمه قال لنفر من قريش: ألا أحد يغتال محمدا في المدينة؟! فإنه يمشي في الأسواق كما تعلمون؟ سمع النفرُ هذه الفكرة وطاروا بها.
وعقدوا العزم على ذلك، ولم تمض مدة طويلة على هذا حتى أتاه رجل من الأعراب فقال: (قد أطلعني أحد على اقتراحك فها أنا حاضر لهذه المهمة) وأنا أجمع الرجال قلبًا وأشدهم بطشًا وأسرعهم شدًا، فإن عهدتَ إلي هذه المهمة وقوَّيتني خرجتُ إليه حتى أغتاله، ومعي خنجر مثل خافية النسر (أي سأخفيه جيدا) فسوف أهاجم محمدا (r) ثم آخذ في عير وأسبق القوم عدواً (فلن يلحقني المسلمون) فإني هاد بالطريق خِرِّيت! ففرح أبو سفيان كثيرا وقال له: أنت صاحبُنا. فأعطاه بعيرًا ونفقة وودَّعه قائلا: اِطوِ أمرك. فخرج ليلاً فسار على راحلته خمساً وصبح ظهر الحرة صبح سادسة ثم أقبل يسأل عن رسول الله، r، حتى دُل عليه؛ فأقبل إلى رسول الله، r، وهو في مسجد بني عبد الأشهل، (فلما كان الناس الجدد يأتون إلى المدينة دوما لذا لم يشكّ فيه أي مسلم أنه بأي نية جاء) لكن رسول الله، r حين رآه متوجها إليه، قال: إن هذا ليريد غدراً! (فلما كان حضرته r تكلم بصوت مرتفع سمعه هو أيضا توجه إلى حضرته r بسرعة أكبر) ليجني عليه، فجذبه أسيد بن حضير بداخلة إزاره فإذا الخنجر فسقط في يديه وقال مضطربا: دمي! دمي! (أي قد جرحتَني) فلما أُمسك به وغُلب، قال له رسول الله r اصدقْني ما أنت؟ وبأي قصد أتيت؟ قال: وأنا آمِن؟ قال: نعم (إذا أخبرتَني بأمرك بصدق)! فأخبره بأمره بحذافيره وأخبره أيضا أن أبا سفيان كان قد وعده بمبلغ كذا. بعد ذلك أقام بضعة أيام في المدينة، ثم أسلم عن طيب خاطره بعد الاستماع لكلام النبي r والتعايش مع الصحابة.
لقد جعلت مؤامرة أبي سفيان لقتل النبي r الاطلاعَ على نوايا أهل مكة وخُططهم ذات أهمية أكبر، ليكون المسلمون على علم بما يحيك الكفار من المكايد السرية، فبعث النبي r لهذا السبب اثنين من صحابته هما عمرو بن أمية وسلمة بن أسلم (الذي أذكره الآن) إلى مكة وسمح لهما، نظرا إلى مكايد أبي سفيان وتصرفاته الإجرامية، بالقضاء على هذا العدو المحارب للإسلام إذا وجدا فرصة لذلك. لكنهما حين دخلا مكة تنبَّه إليهما أهل مكة فعادا إلى المدينة سالمين، فوجدا في الطريق جاسوسين من قريش قد أرسلوهما للتجسس على المسلمين والاطلاع على أحوال النبي r. وليس من المستبعد أن يكون إرسالهما مكيدة من قريش ومقدمة لمؤامرة قتل النبي r والعياذ بالله. لكنه من فضل الله I أن هذين الصحابيين قد اطَّلعا على أنهما جاسوسان، فأرادا أن يأسراهما بالهجوم عليهما، لكنهما قاوما فقُتل أحدهما وجيء بالآخر إلى المدينة أسيرا.
عن تاريخ هذه السرية هناك اختلاف بين المؤرخين فقد قال ابن هشام والطبري أنها كانت في العام الرابع من الهجرة، بينما كتب ابن سعد أنها كانت في العام السادس، والعلامة القسطلاني والزرقاني فضَّلا رواية ابن سعد. يقول حضرة مرزا بشير أحمد t تعليقا على ذلك: قد ذكرتُها في أحداث العام السادس، والله أعلم. والبيهقي أيضا أيد مضمون رواية ابن سعد، لكن لا يتبين من كلامه زمنُ هذه السرية.
تقول حضرة أم عمارة رضي الله عنها: إني لأنظر إلى رسول الله r يوم الحديبية جالسًا يومئذٍ متربعًا، وإن عباد بن بشر وسلمة بن أسلم مقنعان بالحديد، قائمان على رأس النبي r حارسَين، إذ رفع ممثل قريش سهيل بن عمرو صوته فقالا: اخفض من صوتك عند رسول الله r وتكلم معه بصوت خافت. فقد ذُكر هذا الجانب من خصال حضرة سلمة بن أسلم t.
ثم الصحابي الذي أود أن أذكره اسمه عقبة بن عثمان، واسم والدته أم جميل بنت قطبة. وكان عقبة بن عثمان من قبيلة بني زريق الأنصارية، وقد شهد بدرا وأُحدا مع أخيه سعد بن عثمان. فقد ورد في شتى كتب التاريخ أن الذين فروا يوم أُحد مؤقتا لشدة الهجوم اثنان منهم حضرة عقبة بن عثمان وأخوه حضرة سعد بن عثمان رضي الله عنهما. حتى بلغا الجلعب؛ جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص، (والأعوص على بُعد عدد من الأميال من المدينة) فأقاما به ثلاثًا ثم رجعا إلى رسول الله r، فذكروا أن رسول الله r قال: “لقد ذهبتم فيها عريضة”. باختصار قد غض النبي r الطرف عن تصرفهما وعفا عنهما، ولم يعاتبهما.
ثم الصحابي الذي أذكره اليوم اسمه حضرة عبد الله بن سهل، وكان من بني زَعُوراءَ، التي كانت حليفة لبني الأشهل، ويقال أنه كان غسانيا. بعض المؤرخين كتبوا اسمه زيدا وبعضهم كتبوا رافع أيضا، وكان اسم والدته الصعبة بنت التيهان، أخت أبي الهيثم بن التيِّهان، وكان أخا لحضرة رافع بن سهل، وشهد بدرا، كما شهد أحدا والخندق برفقة أخيه حضرة رافع، واستُشهد في غزوة الخندق، حيث قتلَه رجل من بني عويف بسهم. يقول المغيرة بن حكيم أنه سأل حضرة عبد الله هل كان مشتركا في بدر، فقال نعم بل كنت مشتركا في بيعة العقبة الثانية أيضا. نجد ذكر اشتراك حضرة عبد الله في غزوة حمراء الأسد، وهي تقع على ثمانية أميال من المدينة، في كتاب سيرة النبي “سبل الهدى” حيث ورد:
كلا الأخوين عبد الله بن سهل ورافع بن سهل من بني عبد الأشهل حين رجعا من أحد، كانت بهما جراح كثيرة، وعبد الله أثقلهما من الجراح، فلما سمعا بخروج رسول الله r، وأمره به، قال أحدهما لصاحبه، والله إنَّ تركنا غزوة مع رسول الله r لغبن، (فرغم كونهما جريحين كانا متحمسين وقويَّي الإيمان) والله ما عندنا دابة نركبها، وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بنا، قال رافع: لا، والله ما بي مشي، قال أخوه: انطلق بنا نتجارّ ونقصِدْ رسول الله r، فخرجا يتزاحفان، فضعُف رافعٌ، فكان عبد الله يحمله على ظهره عُقْبةً، ويمشي الآخر عُقْبَةً، ولا حركة به، حتى أتوا رسول الله r، عند العشاء، وهم يوقدون النيران، فأتي بهما إلى رسول الله r، وعلى حرسه تلك الليلة عبادُ بن بِشر، فقال: “ما حبسكما؟ “فأخبراه بعِلَّتِهما، فدعا لهما بخير وقال: “إن طالت لكم مدة كانت لكم مراكب من خيلٍ وبِغالٍ وإبِلٍ، وليس ذلك بخير لكم”. (أي الآن أتيتما إلى هنا مشيا ومتزاحفين ولكن لو طال بكما العمر لِنلتم المراكب المذكورة كلها، وقال أيضا إلى جانب ذلك أن سفركما حينذاك لن يكون خير من سفركما هذا الذي قطعتماه مشيا، بمعنى أن الثواب والأجر والبركات التي نلتماها نتيجة هذا السفر كثيرة جدا)
لقد ذكر مرزا بشير أحمد t بعض التفاصيل عن غزوة حمراء الأسد وذهاب هؤلاء للالتحاق بالنبي r والاشتراك في الغزوة، فقال في بيان عودة النبي r وأصحابه من غزوة أُحد وغزوة حمراء الأسد أن الليلة في المدينة بعد غزوة أُحد كانت ليلة مِلؤها الخوف لأنه مع أن جيش قريش كان قد رحل إلى مكة ظاهريا ولكن كان هناك تخوُّف من أن فعلهم هذا قد يكون بهدف أن يجعلوا المسلمين غافلين. كانوا قد انتصروا ظاهريا في غزوة أُحد وكانوا راجعين إلى مكة، ولكن المسلمين كانوا قلقين من أن فعلهم هذا قد يكون في حقيقته خطة خادعة وقد يعيدون الكرة على المدينة مجددا. لذا فُرضت الحراسة على المدينة ليلا على سبيل الحذر والحيطة، وحرس الصحابة بيت النبي r بوجه خاص.
وتبين في الصباح أن هذا الخطر لم يكن افتراضيا فقط لأن النبي r أُخبر قبل صلاة الفجر بأن جيش قريش متّجه إلى المدينة وقد عسكر على بُعد بضعة أميال منها، وهناك نقاش حاد يجري بين زعماء قريش أن يهاجموا المدنية مستغلين هذا الانتصار. وكان بعض من قريش يعيِّرون بعضهم بعضا ويقولون ما مفاده: لم تقتلوا محمدا (r) ولم تأسروا نساء المسلمين، ولم تقبضوا على أموالهم وأمتعتهم. وعندما انتصرتم على المسلمين كانت الفرصة متاحة لكم أن تقضوا عليهم قضاء نهائيا ولكنكم تركتموهم هكذا وعدتم لكي يحرزوا القوة مرة أخرى. ولا تزال الفرصة متاحة أيضا لتتجهوا إلى المدينة وتشنوا عليها الهجوم وتستأصلوا شأفة المسلمين نهائيا. ومقابل ذلك قال آخرون: إنكم نلتم فتحا فاغتنموه وارجعوا إلى مكة حتى لا تخسروا هذا الصيت أيضا الذي أحرزتموه، ولئلا ينقلب هذا الفتح عليكم هزيمة لأنكم إذا أعدتم الكرة على المدينة سوف يقاتل المسلمون بكل ما أُعطوا من القوة، وسيخرج إلى الميدان مَن لم يشتركوا في غزوة أُحد أيضا. ولكن ساد رأي المتحمسين منهم واستعدت قريش لمهاجمة المدينة. عندما علم النبي r بهذه الأمور أعلن على الفور بين المسلمين أن يكونوا على أُهبة الاستعداد. وأعلن أيضا ألا يخرج معنا إلا من كان في غزوة أُحد. من المعلوم أن معظم المجاهدين الذين قاتلوا في أُحد كانوا مصابين بالجروح (وقد ذكرتُ قبل قليل شخصينِ مجروحَين منهم) فضمدوا جروحهم وخرجوا مع سيّدهم. ورُوي أن المسلمين خرجوا في هذه المناسبة بسعادة وحماس كما يخرج الجيش في ملاحقة العدو بعد الانتصار عليه. فوصل النبي r مع الصحابة إلى حمراء الأسد بعد قطع مسافة ثمانية أميال ووجدوا في الميدان جثتين لمسلمَين. وتبين بعد التحقيق أنهما كانا جاسوسينِ أرسلهما النبي r وراء قريش للاستطلاع ولكنهم قتلوهما عند سنوح الفرصة. فأمر النبي r بحفر قبر ودفنهما فيه معا. ولما كان المساء قد أسدل ستاره فأمر النبي r بالنـزول في هذا المقام وأمر بإشعال النيران في أماكن مختلفة في الميدان، فأُشعلت النيران على نطاق واسع. فأُشعلت خمس مائة نار في ميدان حمراء الأسد في لمح البصر وأرعبتْ كلَّ من رآها. فساد الرعب الناس ظانين أن هناك عمرانا وخيما كثيرة. لعل بهذه المناسبة جاء زعيم مشركٌ من قبيلة خزاعة اسمه “معبد” إلى النبي r وعزاه في من قُتلوا في أُحد وانصرف. وفي اليوم التالي عندما وصل إلى الروحاء (التي تبعد عن المدينة أربعين ميلا) رأى أن جيش قريش معسكر هناك فذهب معبد إلى أبي سفيان فورا وقال ما مفاده: ماذا أنت فاعل؟ والله قد تركتُ جيش محمد (r) في حمراء الأسد، لم أر مثله قط. هم نادمون ومتحسمون جدا بسبب الهزيمة في أُحد إلى درجة أنهم عازمون على القضاء عليكم قضاء نهائيا. وقد رُعِب أبو سفيان ومن معه بكلام معبد فتخلّوا عن إرادتهم التوجه إلى المدينة وعادوا إلى مكة فورا. عندما وصل إلى النبي r خبر هروب جيش قريش شكر الله تعالى وقال ما مفاده: هذا رُعب قذفه الله تعالى في قلوب الكفار. وأقام في حمراء الأسد إلى يومين أو ثلاثة أيام، ثم عاد إلى المدينة بعد غيابه عنها إلى خمسة أيام.
الصحابي الآخر الذي سأذكره هو عتبة بن ربيعة. وقد اختلف المؤرخون في قبيلة عتبة t، إذ يقول ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعة كان حليف بني لوذان. وقيل أنه كان حليف قبيلة الأوس. شهد عتبة بدرا وأُحدا. يقول العلامة ابن حجر العسقلاني ما مفاده أن عتبة كان اسم أحد أمراء معركة اليرموك، ويرى أن المراد منه هو هذا الصحابي.
بيان معركة اليرموك هو كما يلي: جهّز أبو بكر t الجيوش للإرسال إلى الشام بعد منصرفه إلى المدينة من حجه عام 12 من الهجرة، فبعث عمرو بن العاص قِبَلَ فلسطين، وبعث أبا عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام. وأمّر خالدَ بن سعيد، ثم عزله قبل أن يسير، وولى يزيدَ بن أبي سفيان، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام، وخرجوا في سبعة آلاف. وصل أمراء جيش المسلمين إلى الشام فجاء هرقل بنفسه إلى حمص وأعدّ جيشا كبيرا وعيّن أكثر من أمير لمواجهة الأمراء المسلمين. وبالنظر إلى عِدّة العدو وعتادهم ساد الرعبُ المسلمين لأن عدد الروم كان 27 ألفا، وكان بعضهم ضعاف الإيمان أيضا.
فأمَر عمرو بن العاص المسلمين أن يجتمعوا في مكان واحد، فلن يُغلَبوا حينها بسهولة لقلة عددهم، أي قال لهم إنكم أقل عددًا من جيش العدو فلو اجتمعتم في مكان واحد لن يستطيع العدو التغلب عليكم بسهولة، أما إذا حاربتموه في فئات متفرقة فيعلم كل قائد منكم أنه لن يبقى منكم أحد لينفع مَن بعده، لأنه قد سُلّطت علينا جيوش كبيرة. فتقرر أن تجتمع الجيوش الإسلامية في مكان يدعى اليرموك. وهذا هو الرأي الذي أرسل به سيدنا أبو بكر إلى قادة جيوش المسلمين، فقال اجتمعوا وكُونوا جيشا واحدا، والتحموا بجيوش المشركين، والله معكم، وهو ناصر من ينصره ومخزي الكافرين، وأمثالكم لن يُغلَبوا بسبب قلة عددهم. أي أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه بعث إلى جيش المسلمين برسالة مفادها أنه مما لا شك فيه أنكم أقل عددا من العدو، إلا أنكم لن تُغلَبوا لقلة عددكم إن كنتم كنتم متحدين مؤمنين، لأن الله تعالى سيحارب معكم. وقال أبو بكر لهم: أما إذا خرج عشرة آلاف أو أكثر وكانوا أهلَ معصية وإثم فسوف يُغلَبون من عشرة آلاف حتما. فلا تقلقوا لقلة العدد، بل تطهروا واجتنبوا الإثم واتّحِدوا، واجتمعوا للعمل معًا في اليرموك، وكل أمير منكم يجب أن يصلي بجيشه.
حاصرَ المسلمون جيش الروم من شهر صفر إلى شهر ربيع الأول من السنة 13 الهجرية، ولكن ما حالفهم النصر في هذه الفترة. وفي هذه الأثناء أمر سيدنا أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد أن ينتقل بجيشه من العراق إلى اليرموك، وكان خالد واليا على العراق. فلما وصل إلى اليرموك نصح أمراء المسلمين الذين كانوا يحاربون العدو متفرقين بفئاتهم أن يؤمِّروا عليهم أميرا واحدًا، فاتّخَذوا خالدًا أميرًا عليهم.
يُذكَر أن عدد الجيوش الرومية بلغ ما بين مائتي ألف إلى مائتي ألف وأربعين ألف محارب، وكان عدد المسلمين ما بين 38 ألفا إلى 40 ألفا، أي كانوا خُمْس جيش الروم تقريبا. وقد بلغت الجيوش الرومية من القوة أن 80 ألفا منهم قد وضعوا السلاسل في أرجلهم، و40 ألفا منهم ربطوا أنفسهم معًا بالسلاسل لكيلا يهربوا من مكان المعركة، أي أن مئة ألف وعشرين ألفًا منهم مربوطين بالسلاسل معًا لكي لا يفكّروا إلا في القتال حتى الموت، بينما كان 40 ألفًا منهم ربَط بعضهم بعضًا معًا بالعمائم. وكان بينهم 80 ألفًا من المشاة و80 ألفًا من الفرسان. وكان عدد لا يحصى من القسسين يحرّضونهم على القتال.
مرِض سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في شهر جمادى الأولى ومعركة اليرموك جارية، وتوفي في شهر جمادى الآخرة. إنا لله وإنا إليه راجعون.
قسَّم خالد بن الوليد رضي الله عنه جيش المسلمين إلى كتائب كثيرة، ما بين 36 إلى 40 كتيبة، ولكنهم كلهم كانوا يقاتلون تحت أمير واحد. وكان عتبة بن ربيعة قائدًا لإحدى هذه الكتائب.
وقال خالد للمسلمين إن عدد العدو أكثر منا بكثير، ولكن الجيش المسلم الموزع على هذا النحو سوف يتراءى للعدو أكثرَ عددًا.
ويمكن إدارك أهمية هذا الجيش الإسلامي من أنه كان فيه ألف من الصحابة الذين رأوا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بينهم مائة من الصحابة الذين حضروا معركة بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وبينما كان القتال الدامي جاريًا بين الطرفين إذ جاء رسول من المدينة المنورة بخبر. فأوقفه الفرسان، فقال لهم كل شيء على ما يرام. ولكن الواقع أنه كان جاء بنعي سيدنا أبي بكر رضي الله عنه. ذهب الفرسان بالرسول إلى خالد بن الوليد، فأخبره سرًّا بوفاة أبي بكر رضي الله عنه، وأخبره أيضا بما قاله للفرسان. فأخذ خالد من الرسول الرسالة التي أتى بها ووضعها في كنانته مخافة أن تفتر همة الجيش المسلم بسماع هذا الخبر، فلا يقاتلوا حق القتال. على كل حال، ظل المسلمون ثابين وقاتلوا قتالا مريرا حتى المساء، فلاذ الجيش الرومي بالفرار. وقُتل منهم في المعركة أكثر من مائة ألف جندي، واستُشهد من المسلمين ثلاثة آلاف فقط من بينهم حضرة عكرمة بن أبي جهل.
كان قيصر الروم مقيمًا في حمص، فلما بلغه خبر هزيمة الرومان هرب من هناك. وبعد فتح اليرموك انتشر الجنود المسلمون في بلاد الشام كلها، وفتحوا بدون صعوبة كلاً من قِنِّسرِين، أنطاكية، الجومة، سرمين، تيزين، قورس، تل موزان، دلوك ورعبان وغيرها.
هذا كل ما أردتُ ذكره اليوم من الصحابة، وربما أستأنف ذكرهم بعد شهر رمضان، إذ يبدأ رمضان من الأسبوع التالي إن شاء الله.
والآن أودّ أن أخبركم أنني سوف أصلّي بعد صلاة الجمعة صلاةَ الجنازة على السيدة الصاحبزادي صبيحة بيغم، وهي حفيدة حضرة مرزا بشير أحمد ابن المسيح الموعود عليه السلام. كانت بنتًا لحضرة مرزا رشيد أحمد وللسيدة أمة السلام البنتِ الكبرى لحضرة مرزا بشير أحمد. وكانت المرحومة زوجةَ الصاحبزاده مرزا أنور أحمد ابن حضرة المصلح الموعود وحضرة أم ناصر رضي الله عنهما. تُوفيت إلى رحمة الله في مستشفى القلب “طاهر هارت” في 30 إبريل الجاري وكان عمرها 90 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون.
المرحومة هي زوجة خالي.
وحضرة مرزا رشيد أحمد هو ابن حضرة مرزا سلطان أحمد. وكما قلت كانت المرحومة بنتًا للسيدة أمة السلام بيغم البنت الكبرى لحضرة مرزا بشير أحمد. كان حفلُ زواجها هو آخر عرس اشتركت فيه حضرة أم المؤمنين رضي الله عنها في ربوة في عائلة المسيح الموعود عليه السلام.
كانت المرحومة الأخت الكبرى لحضرة السيدة آصفة بيغم حرمِ حضرة الخليفة الرابع رحمه الله. وعلاوة على ذلك، كان للمرحومة أخت وثلاثة إخوة.
قالت أخت المرحومة السيدة أنيسة فوزية المحترمة: كانت المرحومة أكبرَ أولاد والِديْنا، فكانا يقدّران رأيها جدا. كانت ذكية جدا فكانا يثقان بها كل الثقة، وكانت دائما عند حسن ظنهما بها. لقد تكفلت بإخوتها الصغار وسعت لتربيتهم على أحسن وجه.
وكتبت السيدة أنيسة أيضا: ذات مرة جرى الحديث عن طلب يدي لأحد أبناء حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه، فقال حضرته: إنها أسرة طيبة، وقد زوّجتُ اثنين من أولادي من بنتين من هذه الأسرة (إحداهما هذه المتوفاة التي أتحدث عنها والأخرى هي زوجة حضرة الخليفة الرابع رحمه الله) وكلتاهما طيبتان مُحِبّتان حريصتان على تقوية أواصر القرابة مع عائلة المسيح الموعود عليه السلام.
وكتب ابن المرحومة: كانت والدتي بسيطة جدا، معينة للفقراء، ومساعدة للجميع عند الحاجة. كانت تشعر بمعاناة ذوي الحاجات وتعينهم دائما. كانت مشفقة جدا ومحبة للمساكين، وكانت عيناها تغرورق بالدموع عند سماع حديثهم، وكانت تبذل قصارى جهدها لمساعدتهم. (وأقول أنا: هذا كلام حق وصدق دون أية مبالغة إذ كانت متحلية بهذه الشمائل) كانت تحسن معاملة الخادمات في البيت، حتى كتبتْ إحدى بنات المرحومة وهي تتحدث عن معاملتها مع الخادمات: قالت إحدى الخادمات لأمي وقت زواجها: أريد أن تجهّزيني بمثل الجهاز الذي جهزت به بنتك. فجهّزتْها أمي بمثل جهاز بنتها.
خلفت المرحومة وراءها ثلاث بنات وابنًا. كانت المرحومة منخرطة في نظام الوصية. لقد صلّوا عليها الجنازة أمس، ودُفنت في بهشتي مقبرة. وفّق الله أولادها لاّتباع خطواتها في الخيرات والحسنات، وللعيش بحب ووئام، وللاستمساك بقوة بالجماعة وبالخلافة دائما، آمين.