خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u

في مسجد بيت الفتوح بلندن يوم 31/5/2019م

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[ (الجمعة 10-12)

اليوم آخر جُمَع رمضان هذا، وكما هو ملاحظ، فإن الناس يسعون لحضور صلاة الجمعة باهتمام أكبر في هذا اليوم، ومن المصادفة أنها عطلة المدارس، ولهذا السبب أيضا ازداد عدد الحضور الذي سلفا يكون أفضل.

الآيات التي تلوتها عليكم أواخر آيات سورة الجمعة، وقد بين الله I فيها أهمية الجُمع، فحضور صلاة الجمعة عند الله هام جدا، حيث وضح I أنكم إذا نوديتم إلى صلاة الجمعة فلا تتقاعسوا مطلقا بل احضروا لصلاة الجمعة فورا مهما كنتم مشغولين. ومعلوم أن في هذا الوقت تكون أنشطة التجارة في أوجها، ومن المحتمل أن يجلب عدم اهتمام التاجر بها خسارة الملايين، لكنكم يجب أن تحضروا صلاة الجمعة غير مبالين بخسارة محتملة لعشرات الملايين، لأن حضور صلاة الجمعة في المسجد الجامع والاستماع لخطبة الإمام، أفضل من تجارتكم وأعمالكم مئات الآلاف من المرات، ولا يحس بذلك إلا الذي عنده فهْم وإدراك صحيح لذلك. يقول الله تعالى أن الذي يملك فهما وإدراكا صحيحا فسوف يضع أعمال التجارة في المركز الثاني من الأهمية. وإلى جانب ذلك قال الله I أيضا أنكم أحرار بعد صلاة الجمعة، فانتشروا وانشِغلوا بأعمالكم المادية والتجارة، وسوف يبارك الله لكم فيها. ووضَّح أيضا أن لا تجعلوا عبادتكم منحصرة في أداء صلاة الجمعة فقط، بل يجب أن تذكروا الله كل حين وآن، فاهتموا بذكر الله فسوف تجنون النجاحات الدينية والروحانية والمادية أيضا أكثر من ذي قبل. فحين يذكر اللهَ الذاكرون يتذكرون أن بعد صلاة الجمعة عليهم أن يصلوا صلاة العصر والمغرب والعشاء أيضا فهي أيضا من الفرائض. فالتجارة والنعم الأخرى كلها تُنال بفضل الله I فقط، والنجاح منوط بذكر الله وعبادته حصرا. فالاهتمام بصلاة الجمعة وذكْرِ الله والسعي لأداء حق عبادته يجب ألا يكون في رمضان فقط، بل كما يتبين من هذه الآية أن هذا الحكم عن صلاة الجمعة بوجه عام.

يقول سيدنا المسيح الموعود u في موضع موضِّحا أهمية صلاة الجمعة: إن يوم الجمعة إنما هو يوم عيد، وهذا العيد أفضل من العيدين الآخرين وذلك لأن له سورة الجمعة، أي في سورة الجمعة ورد لفْت الانتباه إلى أداء الجمعة بوجه خاص. ثم ذكر حضرته محادثة أحد اليهود مع سيدنا عمر t عن آية ]أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[ إذ قال له: “لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدًا” فقال له عمر t: قَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَاللَّيْلَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ”، أي أن يوم الجمعة هو العيد بحد ذاته، لأن هذه الآية نزلت يوم الجمعة. يقول سيدنا المسيح الموعود u إن كثيرا من الناس غافلون عن هذا العيد. أي العيد الذي أمر الله بالاحتفال به كل أسبوع، والذي أخبر الله أن إكمال الدين وإتمام النعمة حصل فيه. لكن الناس لا يهتمون به ويظنون أنهم بحضور آخر جمعة في رمضان باهتمام سينالون ثواب كل الجُمع. إذن يجب المحافظة على صلاة الجمعة باهتمام ملحوظ، فثمة حاجة إلى الاهتمام بكل جمعة في السنة كما تهتمون بآخر جمعة في رمضان. يقول الله I إن على كل مؤمن، إذا كان صادقا، أن يهتم بذلك. لكن ما يحدث على أرض الواقع أن كثيرا من الناس لا يعيرون لها أي اهتمام ويُضيعون الجمعة في التجارات والرغائب المادية، يقول الله I: اعلموا أن ما عند الله أفضل بكثير من هذه الثروات المادية وأعمال اللهو، إنما الله I هو من يرزقكم. فهذا الأمر هام جدا لكل مؤمن وأجدر بالانتباه. أما نحن الذين آمنَّا بإمام هذا الزمان فبحاجة إلى هذا الأمر بوجه خاص.

كان سيدنا الخليفة الأول t يقول: إن المؤمنين في الحقيقة هم الأحمديون فقط، الذين آمنوا بإمام الزمان. فهذا الإيمان يلقي علينا مسؤولية، وهي أن نجعل أعمالنا موافقة لتعليم الله I وننصاع لأوامره I أيضا. حيث يجب ألا تكون الأولوية عندنا للرغائب المادية، بل يجب أن تكون أولويتنا أن ننال رضوان الله ونسعى لذلك، لكن كثيرا منا ينسون لماذا آمنا بالمسيح الموعود u. وكان قد جاء ليقوِّي علاقتنا بالله I ولكي يخبرنا أن أولى أولوياتنا هي الفوز برضوان الله I وحبِّه. فيجب ألا يقتصر توجهنا إلى الله بالصلاة والدعاء حين لا تتحقق أمنياتنا المادية ونبتهل إليه ليحققها؛ بحيث لا نعلم ما هي أهمية رضوان الله والفوز به، ولا نكون مهتمين بأمنياتنا وحاجاتنا المادية فقط.

يقول سيدنا المسيح الموعود u في موضع: “.. أقول لكم حقًّا إن هذه فرصةٌ قد خلقها الله تعالى للسعداء، فإنما المبارك من ينتفع بها.  فيا من أنشأتم العلاقة بي، لا تغترّوا ظانين أنكم قد نلتم كل ما كنتم نائلين. صحيح أنكم أقرب إلى السعادة من الذين أنكروا وأسخطوا الله تعالى بإنكارهم الشديد وإهانتهم. وصحيح أيضا أنكم بإحسان الظن بذلتم قصارى جهدكم لاتقاء غضب الله، ولكن الواقع أنكم اقتربتم من النبع الذي فجَّره الله تعالى الآن لنيل الحياة الأبدية، إلا أنكم لم تشربوا منه بعد. فاسألوا الله تعالى التوفيق لكم، ليسقيكم منه بفضله وكرمه حتى ترتووا، فلا يمكن أن يتحقق شيء بدون الله.”

يقول u: “أعلم يقينا أن الذي يشرب من هذا النبع لن يهلك لأن هذا الماء يهب الحياة وينقذ من الهلاك ويحمي من هجمات الشيطان. ولكن كيف السبيل إلى الارتواء من هذا النبع؟! إنما هو أن تؤدوا بالكامل الحقَّين اللذَين أقامهما الله تعالى. أحدهما هو حق الله والآخر حق الخلق”.

أقول: لقد وضّح سيدنا المسيح الموعود u أن عليكم أن تجعلوا أعمالكم بحسب تعليم الله تعالى، وأن ترفعوا بعد بيعته مستوى عباداتكم ومستوى أداء حقوق العباد، وإلا فلا يمكن أن تنالوا أفضال الله كما هو حقها. لذا عليكم أن تُعدِّلوا ترتيب أولوياتكم ليتسنى لكم شرب الماء من هذا النبع.

لقد قال سيدنا الخليفة الأول t ذات مرة: يقول المسيح الموعود u: بقي أن تشربوا الماء من هذا النبع. فأفكّر، هل أنا المخاطَب بهذا الكلام؟!

أقول: إن مكانة الخليفة الأول t واضحة لنا إذ قد أنزله المسيحُ الموعود منـزلة العزة والاحترام العظيم. فإذا كان الخليفة الأول t، وهو من هو، إذا كان قلقا بهذا الشأن، فما بالنا نحن! وكم علينا أن نقلق ونفكر بشدة لشرب الماء من هذا النبع! وكيف يمكننا أن نؤدي حق البيعة؟! إذًا، لا بد من أداء حق الله I لنيل رضاه. ولا بد من الانتباه جيدا هل أدّينا حق عبادة الله تعالى، وقد جعل العبادة هي الهدف الوحيد من خلقنا، كما يقول: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[. فقد وضّح الله تعالى الهدف من خلقنا هنا، ولم يقل إنكم قد عملتم بأمري بأداء الجمعة الأخيرة من رمضان وبذلك أدّيتم حق عبادتي، بل قال أن هذا العمل يجب أن يأخذ صبغة دائمة ويتحتم عليكم القيام به بدءا من بلوغكم سنّ الإدراك إلى الرحيل من هذا العالم. فلا تحسبوا أن أداء جمعة واحدة على مدار العام فيه الكفاية، بل الحق أن كل جمعة هامة. ولم يقل الله تعالى بعد لفت الانتباه إلى أداء الجمعات أنكم قد أدّيتم حقي بأداء الجمعة أو أداء الصلوات، ولم يقل إنه U يستفيد من ذلك شيئا، أو أنه I بحاجة إلى صلواتنا وأدائنا الجمعات وقيامنا بذكر الله I. بل قال ما معناه: عندما تحضرون لأداء صلاة الجمعة وتسمعون الخطبةَ وتذكرون الله تعالى، ففي يوم الجمعة سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى عَبْدٌ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. أي كلّ ما سأل العبدُ اللهَ تعالى إلا الحرامَ، أعطاه إذا هيأ اللهُ تعالى هذه الساعة. وليكن معلوما أيضا أن هذه الساعة ليست خاصة بجمعة معينة بل تحين كل يوم جمعة.

وقد قال النبي r لافتًا الأنظار إلى أهمية صلاة الجمعة: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِىٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ. وذلك لأن هؤلاء الأربعة يكونون مضطرين أحيانا. وقال r أيضا: فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ.

إن الله تعالى ليس بحاجة إلى أيّ شيء منكم بل هو المعطي، وإن عطاءه يقتضي من المؤمن أن يحمده. وقال r أيضا ما مفاده أن أجر الحسنات يوم الجمعة يزداد أضعافا مضاعفة. وأيُّ حسنة أكبر من العمل بأوامر الله تعالى. فعندما يعمل المؤمن بأوامره I لنيل رضاه، بما فيها حضور الجمعة أيضا والالتزام بالصلاة والعبادات الأخرى، ففِعْله هذا حسنة كبيرة. وفي هذه الحال كم من أجر سيعطيه الله تعالى مؤمنا يكسب الحسنات ويقوم بالعبادة ويحضر الجمعة لنيل رضا الله تعالى فقط، دون أن تكون لدية أية أولوية دنيوية! وقد أنذر النبي r من يترك الجمعة دونما سبب، فقال معناه: من ترك الجمعة بغير عذر كُتب منافقا في سجل أعماله.

كذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ.

فهذا موقف مخيف جدا لأنه لو طُبع على قلب أحد لنقَصه التوفيق لكسب الحسنات. وفي هذه الحال فإن حضوره للصلوات وصلاة الجمعة بفتور القلب يخلق فيه النفاق رويدا رويدا. إذًا، الموقف خطير جدا كما قلتُ، فيجب الانتباه إلى هذا الأمر جيدا.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r احْضُرُوا الْجُمُعَةَ … فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَخَلَّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِهَا.

أي أن المرء يستطيع أن يكسب حسنات كثيرة يمكن أن تُدخله الجنةَ ولكنه يظل يتخلف رويدا رويدا حتى يتخلف عن الجنة. لقد نصح رسول الله r وأكّد في مناسبات كثيرة على حضور صلاة الجمعة، كما أنذر r الذين لا يحضرونها بغير عذر. ولم يقل r ولو مرة واحدة أنكم لو صلّيتم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان لغُفر لكم، غير أننا نجد في حديث النبي r قولَه: مَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ. ولا يقتصر الأمر على صلاة الجمعة فقط بل بيّن r علامة المؤمن أنه ينتبه جيدا إلى الصلوات الأخرى أيضا وينتظرها، وينتظر الجمعة من جمعة إلى أخرى فلا يضيّع الجمعات والصلوات لمشاغل دنيوية وأهوائها.

فعلينا أن ننتبه جيدا إلى عباداتنا ونرتب أولوياتنا بشكل صحيح، ونسعى جاهدين للوصول إلى الله تعالى. وللوصل إليه I لا بد من إدارك مكانته إذ لا يمكن الوصول إليه بالكلام باللسان فقط. وإذا فكّرنا جيدا سنرى أننا لسنا قادرين بسبب أعمالنا فقط على إدراك ومعرفة مكانته U الصحيحة والحقيقية. أي لا يسعنا القول نظرا إلى حالتنا العملية أننا حائزون على معرفة الله، بل الحق أن أدعيتنا أيضا تكون لمصالحنا الشخصية، ولو كانت هادفة إلى الوصول إلى الله تعالى لكانت متسمة بصبغة الدوام ولما كانت قلوبنا معلقة بالمساجد لصلاة الجمعة فقط بل للصلوات الخمس أيضا.

ولكننا لا ندرك ذلك حقًا كما قلت، إذ نولي الحاجاتِ العابرة الآنية أهميةً أكثر ونجعل الحاجة الكبرى والدائمة أمرًا ثانويا، فنترك الصلوات والجمعات من أجل المنافع المادية العابرة، ونقول سوف نسأل الله الغفران وسوف يغفر لنا فلا بأس لو أنجزنا أمورنا الدنيوية على حساب الصلاة والجمعة، فمثلاً يقول  صاحب العمل والتجارة يجب ألا أخسر هذا الزبون إذ لا أدري هل سأجد زبونا مثله بعد ذلك أم لا، أو إذا كان أحدنا حضر إلى مدير العمل لحاجة، فيقول في نفسه إن المدير في مزاج جيد الآن فإن لم أتصرف تصرفًا يفرحه وقلت له إنني ذاهب لأداء الصلاة أو صلاة الجمعة فربما يسخط علي فيحرمني مما أريده. إذا كان أحدنا يفكر هكذا فليعلمْ أن أولوياته خاطئة تماما، وأنه يقدم الدنيا على رضا الله تعالى. وهكذا فهناك كثير من الرغبات الأخرى التي تكتسب الأولوية الأولى عند المرء إزاء رضوان الله تعالى، بدلاً من أن تكون أمرًا ثانويا إزاء الله تعالى، ويقدم المرء رغباته ويؤخّر الله تعالى. وعندها ننسى أننا لو نسينا الله تعالى وآثرنا الرغبات الدنيوية على أحكامه تعالى فإن الله تعالى، كما حذرنا الرسول r، لا يبالي أيضا بمثل هؤلاء الذين لا يكترثون له، فيُحرَمون الجنةَ رغم كونهم أهلاً لها بسبب هذه اللامبالاة.

لذا فعلى المؤمن أن يجعل نصب عينيه دائما أن عمله وتجارته إنما يُبَارَك فيهما بفضل الله وحده، وما دامت البركة تنزل بفضل الله تعالى فلماذا لا يسعى لأداء حق الله تعالى منذ البداية.

إذن هناك حاجة ماسة إلى أن يدرك كل واحد منا هذا المبدأ، ولو أدركناه لصارت مساجدنا عامرة بالمصلين في الصلوات الخمس عموما إضافة إلى عمرانها في رمضان، وسوف تمتلئ مساجدنا يوم الجمعة بل ستضيق علينا. وهذا هو هدف بعثة المسيح الموعود u، أي أنه قد بُعث لكي يقرّب العبادَ من ربهم، وهذه هي الغاية من البيعة، أي أن نتقرب إلى الله تعالى ونرتبط به ونصبح عباده الحقيقيين، وتكون صلواتنا وجمعاتنا وصيامنا وأعيادنا وسيلةً للفوز بالله تعالى وبقربه. والحق أن الله تعالى إنما فرض علينا صيام رمضان كل سنة لكي يسعى المؤمن باهتمام خاص لرفع معايير صلاحه وعبادته، ثم يحافظ عليها ويتثبت فيها، ثم يتقدم أكثر في رمضان القادم ويتبوأ منازل أعلى منها، لا أن نرجع القهقرى إلى ما كنا عليه من قبل. لقد أخبرنا المسيح الموعود u أنه إذا لم يكن يومنا خيرًا من أمسنا فلسنا بمؤمنين حقا.

لذا فإننا لم نجتمع هنا اليوم لنودّع الجمعة، بل قد اجتمعنا هنا لكي نزداد لله حبًا، ولكي نثبت أقدامنا ولكي ندعو لذلك. فيجب أن نعاهد اليوم على أننا سوف نزداد تعلقًا بالله وقربًا منه، إن شاء الله تعالى. ومن المحال أن نقوم بهذا العهد والدعاء إلا إذا كان عندنا الإحساس بأهمية قرب الله تعالى، وإذا كنا ندرك قيمة ذلك، وإذا كنا ندرك حقًا أن الله تعالى هو مالك القوى كلها ومنبع القدرات كلها ووسيلة لإنجاز كل المهام على أحسن وجه، أما إذا كنا نقيم للأعمال والتجارات الدنيوية قدرًا وقيمة أكثرَ من الله تعالى فمثلنا كمثل الصبيان الذين لا يقدرون الدرر الثمينة، ولو وجدوها ملقاة في مكان ظنوها بلورات زجاجية يلعبون بها بضرب بعضها على بعض ومن جمع أكثرَ عُدّ من الفائزين. فالصبيان سيبدأون اللعب بالأحجار الكريمة أيضا كما يلعبون بالبلورات. لقد روى الخليفة الثاني t واقعة وقال: عندما كنت أنتظر السفينة في مومباي عند سفري للحج على ما أتذكر، (إذ كان الناس يسافرون بحرا في تلك الأيام) ذكر لي أحد الإخوة هناك أنه بينما كان أحد الصاغة يمرّ بالسوق قبل بضعة أيام إذ سقط كيس جواهره، وكان فيه قرابة مائة وخمس قطع من الدرر الثمينة، بعضها صغيرة وبعضها كبيرة. فحرر محضرًا بالحادث في محطة الشرطة المركزية، فأخطرت مراكزها الأخرى كلها بالمراقبة وتحري الأمر. وبعد أيام جاء شخص بالدرر إلى محطة الشرطة وقال لقد وجدت بعض الصبيان يلعبون بها، وعندما سألت أحدهم قال وجدت هذه البلورات في الطريق ملفوفة في ورق (لقد وجد هذا الصبي هذه الدرر الثمينة ملقاة في الطريق وظنها بلورات وأخذ يلعب بها مع الصبيان كما هي عادتهم) ولما سألت الصبي أين البلورات الأخرى قال وزعتها على صبيان الحي. كانت قيمة هذه الدرر مئات الآلاف من الروبيات ولكن أنّى لهذا الصبي أن يقدرها حق قدرها، إنما أخذ يلعب بها ظنًا أنها بلورات زجاجية. ويتابع حضرة المصلح الموعود t ويقول: لو أن والد هذا الصبي وجد هذه الدرر فلربما حاول إخفاءها جاهدا، بل ربما هاجر من بلدته إلى بلدة أخرى لكي يبيعها هنالك، ولكن لم يكن لهذه الجواهر أية قيمة عند الصبي، وإنما ظنها بلورات من الزجاج فأخذ يقسمها بين الأولاد. ولو أنه وجد حبات من الحلوى لم يقسمها بين الأولاد كما وزع الدرر بينهم مسرورا، ولكن عندما سأله الصبيان الآخرون هذه الأحجار الكريمة فلربما قال لهم عندي مائة وخمس من هذه البلورات الزجاجية، وماذا عساي أن أفعل بها كلها، فخُذوا مني بعضا منها، وهكذا وزعها عليهم. ولكنه لو وجد حبات من الحلوى هكذا لما وزعها على الصبيان الآخرين ولقال سآكلها كلها وحدي، ولكانت حبات الحلوى عنده أكثر قيمة وأهمية من البلورات الزجاجية.

وكذلك قد ذكر الخليفة الثاني t قصة أخرى وقال: كان شخص يسافر في البرية فنفد طعامه كله، فبلغ به الجوع الشديد مبلغا لم يجد معه أملاً في الحياة، فوجد كيسا في الطريق، فحمله بلهفة وشوق علّه يجد فيه حبات حمص محمصة أو شيئا آخر يؤكل، فانقضّ عليه في لهفة وفتحه بالسكين، فوجده ملئيا بالجواهر، فرماها بمنتهى الاحتقار، إذ كانت في ذلك الوقت حفنةٌ من الحبوب أو قطعةُ خبز أغلى عنده من تلك الجواهر.

فثبت من هنا أن المرء يقدر الشيء بحسب علمه به وحاجته إليه.

فبعض الناس يعطون رأيهم وحاجتهم أهمية ويبحثون عن أشياء صغيرة ويغضون الطرف عن أشياء هامة للغاية. هذا ما نجده فيما يتعلق بالله تعالى أيضا، كثير من الناس في الدنيا يقومون بمثله، ويُرَى أنهم يوثرون في دعائهم أشياء أقل أهمية ويُهملون أشياء أكثر أهمية، وذلك لعدم معرفتهم أو علمهم لأنهم يظنون أن الأشياء، التي هي أقل أهمية، أكثر أهمية لنا. لقد ذكر المصلح الموعود t نكتة جميلة فيما يتعلق بالدعاء، ولكن قبل ذكرها أريد أن أبين أن كثيرا من الناس يسألونني أيضا عن الدعاء ويقولون ندعو بكل اضطراب ولكن دعاءنا لا يُستجاب، أجيبهم بحسب الآية التالية التي قد شرحتها في أول خطبة للجمعة من هذا الرمضان، قال الله تعالى: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[ (البقرة:187) لقد شرح المصلح الموعود t هذه الآية وقال: ليس المراد في القول  “دعوة الداع” كل من يدعو، بل المراد به أولئك الداعون الذين يصومون في النهار لوجه الله تعالى ويؤدون الصلوات المفروضة ويذكرون الله ويحافظون على صلواتهم والجُمَع ويدعون الله تعالى في الليل بكل حرقة واضطراب. يمكن أن يراد بكلمة “الداع” كل من يدعو أيضا، ولكن ورد ذكرها هنا في سياق رمضان، لذا يراد بها هنا الداعون الذين يعبدون الله تعالى مخلصين له الدين ومثل هؤلاء المخلصين لا يقتصرون في العبادة على أيام رمضان فقط بل يستمرون في عباداتهم طول السنة، ولا يدعون لأهوائهم الدنيوية بل إنما يبتغون الله تعالى. قال الله تعالى إنهم ينسون كل شيء وإنما يدعون لنيل قربي فأسمع دعاءهم حتما، هذا هو تعريف الداعي الذي قدمه المصلح الموعود t بقوله أنه من يسعى لنيل قرب الله. قال الله تعالى: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي[ أي يسألون عني لأنهم يريدونني ولا يسألون عن الطعام أو الوظيفة أو الأهواء الدنيوية، وإنما يسألون عني: أين الله؟ نريد لقاءه. فيقول الله تعالى: الذين يحترقون للقائي ألقاهم حتما، ولم يقل إن الذي يطلب الوظيفة أو الطعام أو المال أسمع دعاءه حتما. ورأينا عموما أن الذين يقولون قد دعونا بكل حرقة ولم تُقبل دعواتنا إنهم يعبدون الله تعالى مؤقتا ويتوجهون إلى العبادة والصلوات والأدعية حين يحتاجون إلى شيء، ويكون اضطرابهم مؤقتا عارضا. يكتب بعض الناس إلي أننا دعونا بكل تضرع ولم يقبل الله تعالى دعوتنا، فليعلموا أن الله تعالى لم يقل إنني سأحقق جميع الأهواء الدنيوية وأقبل الدعوات كلها، اللهم إلا إذا أحدثنا التغيير الطيب في أنفسنا ودعونا الله تعالى بحرقة لنيل قربه تعالى فلمثل هذا الداعي يقول الله تعالى: أجيبه حتما وسأقف معه كوني وليا له وسأحقق أمنياته وسأحارب عدوه. قال المصلح الموعود t: “هناك بعض المفاهيم لا تظهر في الكلمات وإنما هي تكون مستورة في العبارة، وهذا هو الحال هنا. ليس المراد من “الداع” هنا كل من يدعو بل الذي يسأل عن الله. يقول الله، عندما يجري عبادي إليَّ باضطراب وعشق ووله، ويتلهفون: أين ربنا؟ فقل لعبادي هؤلاء إنني لا أردّ دعاء هؤلاء الداعين أبدًا، بل أسمعه وأقبله.” (التفسير الكبير) إن الناس يدعون في الأمور الدنيوية ولا يُقبل دعاؤهم فييأسون. مثلا يقدّم كثير من الناس طلباتهم لوظيفةٍ فلا بد أن ينالها من هو الأحق بها من غيره، وإذا قال شخص إنني دعوت لها باضطراب كثير، فيمكن أن يكون الآخر قد دعا باضطراب أكثر لذا هو نال الوظيفة، وهكذا هي أمور الدنيا الأخرى. لأن أشياء الدنيا محدودة، فإذا كانت الوظيفة الشاغرة واحدة، ويكون لها اثنان من الطلاب، فلا بد أن توهب لواحد منهما، ولكن الله تعالى غير محدود أي لا حدَّ له فإذا طلبنا الفوز بالله تعالى فيمكن أن يفوز به الجميع بشرط أن يدعوا باضطراب ويعملوا بأحكامه تعالى. وهذا ما قاله الله تعالى: فليستجيبوا لي، ويقدّروا مقام الله الأعلى والأرفع، ويعرفوا الألماس ولا يحسبوه كرةً بلّورية، في هذه الحال يمكن الفوز بالله تعالى، والذي فاز بالله تعالى جاءت كل نعمةٍ دنيوية تحت أقدامه، على المرء أن يقبل جميع أوامر الله تعالى ولا يكتفي بعبادة لشهر واحد فقط ولا يحسب الجمعة الأخيرة من شهر رمضان وحدها وسيلة القبول، بل علينا أن نتوكل على الله تعالى كل التوكل ولا نخونه أبدا، حينها سنكون من المهتدين حقا الذين قال الله تعالى عنهم: الله وليهم ويحقق جميع حاجاتهم، وهذا وعد من الله تعالى. فما دمنا قد آمنا بالمسيح الموعود u فمن واجبنا أن نرفع مستويات عبادتنا، والمستوى الذي أحرزناه في رمضان هذا أو سعينا لإحرازه ينبغي ألا ندَعه يهبط، وأن نرفع مستوى صلواتنا باستمرار ونحافظَ على حضورنا لصلوات الجمعة، ونعملَ بأحكام الله تعالى ونستمر في سعينا لنكون من الأخيار الذين يسألون الله الفوز به تعالى. أيْ ينبعي أن نسعى وندعو دوما للفوز بالله تعالى، وأن تكون صلواتنا وعباداتنا وسيلة للقاء الله تعالى. وفّقنا الله تعالى لنيل هذه المستويات، (آمين).

 

 

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز