خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u
في المسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا يوم 7/6/2019م
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
اليوم أستأنف ذكر الصحابة البدريين مرة أخرى، وأول من أذكره اليوم هو عبد الله بن طارق رضي الله عنه. يقول العلامة الزهري: حضر عبد الله بن طارق الظفري غزوة بدر. وقال عروة أن اسمه عبد الله بن طارق البلوي، وكان من حلفاء الأنصار. وقال البعض كان عبد الله بن طارق البلوي من حلفاء بني ظفر قبيلة من الأنصار. ويرى ابن هشام أنه كان من بني بَلِيّ، وكان من حلفاء بني عبد بن رزاح. وكان معتب بن عبيد أخيافيًا لعبد الله بن طارق، أي كانت أمهما واحدة وأبواهما مختلفين. كانت أم عبد الله بن طارق من بني كاهل من بني عذرة.
شهد عبد الله بن طارق ومعتب بن عبيد بدرًا وأحدا، واستُشهدا يوم الرجيع. كان عبد الله بن طارق من الصحابة الستة، أو العشرة بحسب بعض الروايات، ومنها رواية البخاري، الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في العالم الثالث الهجري إلى رجال من قبيلتي عضل وقارة ليفقهوهم في الدين شيئا ويعلموهم القرآن وتعاليم شرع الإسلام. ولما بلغ هؤلاء الصحابة مكانا يسمى الرجيع، وهي عين ماء في الحجاز وكانت ملكًا لبني هذيل، تمرّد عليهم رجال هذيل وحاصروهم وقاتلوهم. وهؤلاء الصحابة السبعة هم: عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وخبيب بن عدي، وخالد بن بكير، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، ومعتب بن عبيد رضي الله عنهم. لقد استشهد منهم في ذلك المكان مرثد وخالد وعاصم ومعتب بن عبيد، أما خبيب بن عدي وعبد الله بن طارق وزيد فوضعوا السلاح أمام الكفار، فأسروهم وساروا بهم إلى مكة. ولما بلغوا الظهران، وهو واد على مسافة خمسة أميال من مكة، انفلت عبد الله بن طارق من الحبل الذي أسروه به واستل سيفه عليهم، فابتعد عنه المشركون وبدأوا يرشقونه بالحجارة حتى قتلوه، وقبره في الظهران.
وقع حادث الرجيع في الشهر السادس والثلاثين بعد الهجرة في شهر صفر. لقد ذكر حسان بن ثابت هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم في شعره وقال:
وابن الدثنة وابن طارق منهم … وافاه ثَمَّ حمامُه المكتوبُ
ومطلع هذه القصيدة هو:
صلّى الإله على الذين تتابعوا … يوم الرجيع فأُكرموا وأُثيبوا
أي من هؤلاء الصحابة ابن الدثنة وابن طارق وقد وافاه الموت حيث كان مقدرا له
ورحم الله إلهُنا هؤلاء القوم الذين استُشهدوا واحدا تلو الآخر، فأكرمهم الله وأثابهم.
لقد تحدثتُ من قبل أيضا عن واقعة الرجيع عند ذكر بعض الصحابة الآخرين، وأقدم لكم الآن ملخص ما ذكره حضرة مرزا بشير أحمد حيث قال: كان النبي r يتلقى الأخبار المخيفة من كل طرف وصوب بأن الكفار يخططون للهجوم، وكانوا قد تجرأوا وتجاسروا جدا بسبب غزوة أحد، وكان المسلمون مهددين بخطر شديد من قبلهم. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في شهر صفر في العام الرابع الهجري بتشكيل جماعة من عشرة من أصحابه وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، وقال لهم أن يقتربوا من مكة خفية لاستطلاع أخبار قريش، ويروا ما هي خططهم ونواياهم ثم يرجعوا إليه ويخبروه. ولكن قبل خروج هذه الجماعة حضر رجال من قبائل عضل وقارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إن كثيرا منا مائلون إلى الإسلام فابعثْ معنا بعض أصحابك ليعلمونا الإسلام لكي ندخل فيه. فلما علم النبي r برغبتهم هذه أرسل معهم تلك الجماعة بدلاً من إرسالها إلى مكة لاستطلاع الأخبار. ولكن هؤلاء الكفار كانوا كاذبين فيما ادعوا، إذ لم يحضروا المدينة إلا بتحريض من بني لحيان الذين كانوا احتالوا بهذه المكيدة ليأخذوا من المسلمين بثأر زعيمهم سفيان بن خالد، فأردوا استدراج هؤلاء المسلمين ليخرجوا من المدينة فيهاجموهم. وكان بنو لحيان جعلوا لهؤلاء الرجال من بني عضل وقارة كثيرا من الإبل جائزة. فلما وصل هؤلاء الخونة من قبائل عضل وقارة بجماعة المسلمين هذه ما بين عسفان ومكة، أخبروا بني لحيان سرا بأن المسلمين قادمون معنا فتعالوا لأخذ الثأر منهم. فجاء مائتان من فتيان بني لحيان وكان بينهم مائة رامٍ، وعندما بلغوا مكانا يسمى الرجيع تقابل الطرفان. كان المسلمون عشرة فقط، أو سبعة بحسب بعض الروايات، أما الكفار فكانوا مائتين من المقاتلين المتسلحين تماما، فأنى للمسلمين أن يهزموهم؟! ولكنهم كانوا متحمسين بحماس الإيمان بفضل الله تعالى فما كان الاستسلام من سيرتهم. فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى حيلة حكيمة وصعدوا على الفور جبلاً قريبا من هناك استعدادًا للقتال. أما الكفار الذين لم يكن الخداع عيبًا عندهم فنادوهم وقالوا انزلوا من الجبل وإننا نؤتيكم موثقًا مؤكدا بأننا لن نقتلكم. فرد عليهم عاصم لا نثق بوعدكم ولن ننزل على ذمتكم إطلاقا، ثم رفع عاصم وجهه إلى السماء وقال اللهم أنت ترى ما نحن فيه فأخبر رسولك بحالنا. باختصار، حاربهم عاصم وأصحابه حتى استشهد سبعة من المسلمين، وبقي فقط خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق، وكان الكفار يريدون أن يأسروهم أحياء، فنادوهم وقالوا مرة أخرى انزلوا إلينا ونحن نعدكم أننا لن نؤذيكم. وفي هذه المرة وثق هؤلاء بوعد الكفار ووقعوا في شراكهم ونزلوا إليهم، ولكن الكفار أوثقوهم بحبال أقواسهم، فلم يملك خبيب وزيد وعبد الله بن طارق أنفسهم وقالوا هذا إخلاف بوعدكم ولا ندري ما أنتم فاعلون بنا بعد ذلك، فرفض عبد الله بن طارق الذهاب مع الكفار، فجروه بعض الوقت ثم أوسعوه ضربا ولكما ثم قتلوه وألقوه هنالك. ولأن الكفار قد شبعوا من الانتقام منهم فأخذوهم إلى قريش. بحسب هذه الرواية لقد أخذوهم هكذا. وجاء في روايةٍ أن عبد الله بن طارق انتزع يده من القِران وأخذ سيفه للقتال، فرموه بالحجارة حتى قتلوه. باختصار، قتلوه وتركوه هناك، وبما أنهم كانوا قد انتقموا فقدِموا بخبيب وزيد إلى مكة ليُسعدوا قريشًا وليجنوا بعض المال. وبعد الوصول إلى مكة باعوهما لقريش، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل لأن خبيبا كان قتل حارثا في معركة بدر، وابتاع زيدا صفوانُ بن أمية.
وهناك رواية معروفة عن خبيب نفسه أنه حين كان أسيرا في بيتهم فأتاه ابنٌ لهم لاعبا فأجْلسه خبيب على فخذه والموسى بيده ففزعتْ أمُّ الولد فزْعة عرَفها خُبَيْبٌ في وجهها فقال: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ وَاللهِ. على كل، هكذا استُشهد عبد الله بن طارق في واقعة الرجيع لأنه رفض الذهاب مع الكفار.
والصحابي الثاني الذي أتناول ذكره هو عاقل بن البكير t، وهو من بني سعد بن ليث، كان اسمه قبل الإسلام “غافل” ولكنه حين أسلم سمّاه النبي r “عاقل”. واسم أبيه في معظم كتب التاريخ والسيرة “البكير” ولكن ورد في بعض الكتب “أبو البكير”، كان أبوه حليفًا لنفيل بن عبد العُزّى جد عمر بن الخطاب، لذا يُعد عاقل وإخوته حلفاء بني نفيل. كان عاقل وعامر وإياس وخالد أبناء البكير، وأسلموا جميعا في دار الأرقم، وهم أوّل من بايع رسول الله r فيها. خرج عاقل وخالد وعامر وإياس بنو أبي البكير من مكّة إلى المدينة للهجرة فأوعبوا رجالهم ونساءهم فلم يبقَ في دورهم أحدٌ حتى غُلقت أبوابهم فنزلوا على رِفاعة بن عبد المنذر في المدينة. وآخى رسول الله r بين عاقل بن أبي البكير وبين مبشر بن عبد المنذر. واستُشهد كلاهما يوم بدر، وقيل آخى رسول الله r بين عاقل ومجذر بن زياد. استُشهد عاقل يوم بدر وهو ابن 34 عاما وقتله مالك بن زهير الجشمي. قال ابن إسحاق: لا نعلم أربعة إخوة شهدوا بَدْرًا غير إياس وإخوته عاقل، وخالد، وعامر.
عن زيد بن أسلم أن بني أبي البكير جاؤوا إلى رسول الله r فقالوا: زوج أختنا فلانا، فقال لهم: أين أنتم عن بلال؟ (جاء الإخوة الأربعة أو بعضهم إلى النبي r لتزويج أختهم، ولم يرتاحوا لتزويجها من بلال فرجعوا) ثم جاؤوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله أنكح أختنا فلانا، فقال: أين أنتم عن بلال؟ ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح أختنا فلانا، فقال: أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟ قال فأنكحوه.
والصحابي التالي هو زيد بن حارثة t، اسم أبيه شراحيل، وقيل شرحبيل. واسم أمه سُعدى بنت ثعلبة. كان زيد من بني قضاعة، وهي قبيلة محترمة في اليمن.
كان زيد صغير السن حين خرجت به أمه تزور قومها بني معن، فأغارت عليهم خيل بني القين بن جسر، فاخذوا زيدا الذي كان حينها غلاما صغيرا، فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام بأربعمائة دينار وقدَّمه إلى عمته خديجة بنت خويلد، فهي فيما بعد وهبته للنبي r، وقيل حين جيء بزيد إلى مكة أسيرا كان حينها ابنَ ثماني سنين فقط. وكان أبوه شراحيل قد وجد لفقده وجدا شديدا، ثم مر زمن، وحج أناس من قبيلته كلب، فرأوا زيدا وعرفوه، قال لهم زيد: أبلغوا عني أهلي أنني أقيم قرب بيت الله الكعبة في أسرة كريمة لبني معد فلا تحزنوا. ثم عاد الكلبيون وأخبروا والده ووصفوه له، فقال: “ابني ورب الكعبة”، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب إلى مكة والتقوا النبي r وطلبوا فدائه، فدعا النبي r زيدا وسأله رأيه ولكن زيدا أنكر الذهاب مع والده وعمه. لقد ذكر المصلح الموعود t تفصيل هذا الحدث كالتالي: حين تزوجت خديجة رضي الله عنها النبي r شعرت أنها غنية وهو فقير وكلما سيحتاج إلى شيء يُضطر إلى أن يسألها وقد لا يتحمل r ذلك، فكيف ستسير الحياة؟ كانت خديجة ذكية وفهيمة جدا، فخطر ببالها أنها لو وهبته جميع مالها لن يشعر بأن شيئا كذا أعطته زوجته بل سيتمكن من أن ينفق كيفما يشاء، فلم تكن قد مرت على الزواج إلا بضعة أيام إذ قالت خديجة للنبي r: أريد ان أقترح شيئا لو سمحت، فقال النبي r ما هو؟ فقالت: قد قررتُ أن أعرض إليك جميع مالي ومماليكي من العبيد ويكون كله ملْكك. وإذا قبلتَه يكون من غاية سروري وسعادتي. حين سمع ذلك قال: هل قررت ذلك بعد التفكير الرصين؟ وإذا وهبتِ لي كل مالِك صار مالي ولم يعد مالَك. فقالت حضرة خديجة: لقد قلت ذلك بعد التفكر وأدركت أن هذه هي أمثل وسيلة للعيش براحة وسعادة. فقال لها النبي r تفكري مرة أخرى، فقالت له السيدة خديجة قد اتخذتُ هذا القرار بعد التفكير. عندها قال لها النبي r: إذا كنتِ قد قدمتِ لي جميع الأموال والعبيد بعد تفكير رصين، فأنا لا أحب أن يُدعى إنسان مثلي عبدا لي، فقبل كل شيء سأعتق كل هؤلاء العبيد. فقالت له حضرة خديجة رضي الله عنها: الآن هذا ملك لك فافعل به كما تريد. ففرح r بهذا الجواب كثيرا جدا، ثم خرج إلى الكعبة وأعلن هناك أن خديجة قد وهبت لي كل أموالها وعبيدها، فها أنا أعتق كل هؤلاء العبيد.
يقول حضرة المصلح الموعود t: في هذا العصر إذا فاز أحد بمال فسيقول سأشتري سيارة، أو أبني بيتا فخما، أو أخرج للسياحة في أوروبا.
لقد لاحظت في بعض القضايا التي ترفع إلي أن الزوجة إذا وهبت لزوجها المال، فهو لا يشبع به أمنياته فحسب بل يرفض أداء حقوقها أيضا، ويسعى الأزواج من هذا القبيل لتعيش الزوجات معهم كإماء، إذ قد حصلوا على الأموال، ثم يعشن حياة الاضطرار. أما النبي r فكان دوما يفكر في أن ينفق ماله من أجل الدين وابتغاء وجه الله، وأن ينهي عادة استرقاق البشر نهائيا. باختصار، كانت الأمنية التي نشأت في قلبه r أنه لا يرضى بأن يعيش حياةَ العبيد عبادُ الله الذين يملكون العقل مثله. وكان هذا التصرف عجيبا وغريبا ليس في العرب فقط بل في العالم كله، لكن حضرته r قد أعلن ذلك، وبذلك أبدى سخاء غير عادي عند فوزه بمال.
حين أعلن النبي r أنه حرّر جميع العبيد الذين عنده، لحقوا جميعا بأهليهم إلا زيد بن حارثة الذي دُعي فيما بعد بزيد بن محمد، فجاء إلى النبي r وقال: لقد حرّرتني، ولكنني لا أريد هذه الحرية، بل سأبقى معك. فأصرَّ عليه النبي r أن يعود إلى بلده وأهله لأنه حرٌّ الآن، ولكنه قال: لقد أصبحتَ أحبَّ إليَّ مِن كل حبيب بعد ما رأيت منك من حب وإخلاص. كان زيد t من عائلة غنية، ولكن اللصوص خطفوه في صغره وباعوه، فلم يزل يباع من شخص إلى آخر حتى وصل إلى خديجة، رضي الله عنها. قلق عليه أبوه وعمه وخرجا يبحثان عنه، وحين قيل لهما أنه في بلاد الروم ذهبا إلى هناك وعرفا أنه في العرب، فجاءا إلى العرب وعرفا أنه في مكة، فجاءا إلى مكة وعلما أنه عند النبي r فوصلا إليه r وقالا له: لقد سمعنا عن نُبْلك وكرمك، وإن ابننا عبدٌ عندك، فنرجوك أن تطلق سراحه بأي ثمن شئتَ فبذلك ستمنّ علينا منّة عظيمة، فأُمُّه العجوز قد عميت من كثرة البكاء عليه. فقال r: إن ابنكم ليس عبدًا لي، بل قد حررته، ثم دعا زيدًا وقال له: ها قد جاء أبوك وعمك، فارجعْ معهما إلى أهلك، فإن أمك العجوز قد فقدت البصر من كثرة البكاء عليك. لقد حررتك سلفا، فاذهبْ معهما. قال زيد: لقد حررتني، لكني لا أريد أن أتحرر، بل أعتبر نفسي عبدا لك. فقال النبي r: لكن أمك تعاني كثيرا بسبب فراقك، ثم انظرْ كيف جاء أبوك وعمك متكبدَين عناء السفر الطويل، فاذهبْ معهما. ثم نصحه أبوه وعمه كثيرا، لكنه رفض الذهاب معهما قائلاً: لا شك أنكما أبي وعمي، وأنكما تحباني، ولكني لا أستطيع قطع أواصر القرابة التي نشأت بيني وبين محمد r. إني حزين بأن أمي تعاني بسبب فراقي عناء شديدًا، ولكني لن أستطيع العيش بعد فراق محمد r.(صحيح أني أتألم بمعاناة والدتي لكن فراقي لمحمد أشد وقعا علي)
فلما سمع النبي r كلام زيد ذهب إلى الكعبة وأعلن أنه يتبنى زيدا منذ اليوم لما رأى منه مِن حُبٍّ نادر. ففرح أبوه وعمّه ورجعا مسرورَين، إذ وجداه يعيش مع النبي r فرِحًا مرتاحًا. فمِن سموّ أخلاق النبي r أنه لما رأى من زيد هذا الوفاء العظيم أحسن إليه إحسانا غير عادي.
نجد هذا الحادث في كتاب سيرة خاتم النبيين كالتالي: حين جاء أبوه وعمه لأخذه، قال النبي r لزيد إنني أسمح لك بكل سرور أن تذهب معهم، فقال له زيدٌ: أنا لا أستطيع أن أفارقك أبدا، فأنت أحب إليَّ من والدي وعمي. هنا ورد أمر إضافي وهو أن أباه حين سمع ذلك قال له بغضب، أتفضِّل الرقّ على الحرية؟! فنحن أتينا لتحريريك وأخذك معنا، وتقول إنك تحب أن تعيش عبدا. فقال زيد: نعم لأنني وجدت فيه r محاسن تفرض عليَّ أن لا أفضِّل أحدا عليه. فلما سمع النبيُّ r هذا الجواب من زيد، نهض فورا وأخذه إلى الكعبة، وأعلن بصوت عال: أيها الناس، اِشهدوا أني أحرر زيدا اليوم وأتبناه. وصحيح أنه r كان قد حرره سلفا لكن في ذلك اليوم أعلن في الناس أن زيدا سيرثه وأنه r سيرثه. فمن ذلك اليوم بدأ زيد يُدعى بزيد بن محمد بدلا من زيد بن حارثة، لكن بعد الهجرة حين نزل الحكم من الله أن التبني لا يجوز، عاد زيد يدعى زيد بن حارثة من جديد، إلا أن معاملة النبي r تجاه هذا الخادم الوفي بحب ولطف ظلت كما كانت من قبل، بل تطورت كل يوم. وبعد استشهاد زيد أحب النبي r ابنه أسامة الذي كان من بطن أَمة النبي r أمِّ أيمن أيضا بنفس الحب واللطف.
ومن مزايا زيد أنه هو الوحيد من بين الصحابة الذي ذُكر اسمه بصراحة في القرآن الكريم. وفي رواية أخرى عن أخي زيد الأكبر حضرة جبلة أنه جاء إلى النبي r وطلب منه أن يرسل معه أخاه زيدا، (وربما هذا حدث لاحقا مرة أخرى) فقال له النبي r إن أخاك أمامك، إذا أراد الذهاب معك فلن أمنعه. عندها قال زيد t: يا رسول الله لن أؤثر عليك أحدا. يقول حضرة جبلة: ثم وجدت رأي أخي أفضل من رأيي.
وهناك رواية أخرى لأخي زيد الذي كان أكبر منه سنا، أنه سئل مرة مَن منكما أكبر، أنت أم زيد؟ فقال: إن زيدا أكبر مني إلا أنني وُلدت قبله، وكان يقصد من ذلك أن زيدا أفضل منه لكون سباقا في الإسلام.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ r مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ ]ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ[
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t أن النبي r قَالَ لِزَيْدٍ أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا. وفي رواية، قال النبي r لزيد: “وأما أنت يا زيدُ فمولاي ومني وإليَّ وأحبُّ القومِ إليَّ”.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما ما معناه: حدد عمر t لأسامة بن زيد معاشا أكثر مني، فسألتُه: لماذا معاشه أكثر مني؟ فقال: إن أسامة كان أحب إلى النبي r منك، وأبوه أي زيدا كان أحب إليه r من عمر. رُوي عن عليّ t أن زيدا بن حارثة الذي كان عبدا أعتقه النبي r كان أول من آمن من الرجال وصلّى الصلاة.
يقول سيدنا المصلح الموعود t: “لقد منح الله تعالى محمدا رسول الله r أتباعًا من كل شرائح المجتمع وطبقاته. كان عثمان وطلحة والزبير من كبار عائلات مكة، فإذا قيل أنه قد آمن بمحمد صغار الناس دون الكبار، فكان عثمان وطلحة والزبير موجودين للرد عليهم، وإذا قيل أن محمدًا قد جمع حوله كبار القوم والأثرياء ولم يدخل في دينه الفقراء الذين هم الأكثرية في العالم، فكان زيد وبلال وغيرهما موجودين للرد على هذا الطعن، وإذا قيل أن ما يدعو إليه محمد هو مما يلهو به الشباب الأغرار، فكان الناس يردّون: أوَكان أبو بكر من الشباب الأغرار؟! فكيف آمن بمحمد؟! فما كانوا يأتون بدليل إلا وكان أصحاب النبي r مستعدّين لدحضه. وكان هذا فضلاً من الله كبيرًا على النبي r وهذا ما أشار الله إليه بقوله ]وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ[ .. أي يا محمد، ألا يرى هؤلاء القوم أننا قد يسّرنا لك كل الأسباب التي ينجح بها المرء. فإذا كان النجاح منوطًا بوجود الشباب المتحمسين للتضحية، فهم موجودون عندك، وإذا كان المرء ينجح بمساعدة الشيوخ المحنّكين، فهم أيضا في صفوفك، وإذا كان المرء يهزم الآخرين بمساعدة كبار القوم ذوي النفوذ، فهم أيضا معك، وإذا كان النجاح يُكتب لأحد بتضحيةِ وولاءِ عامة الناس، فكل هؤلاء العبيد يجرُون وراءك تابعين مخلصين. فكيف يمكن، والحال هذه، أن تلقى الهزيمة وينتصر عليك أهل مكة؟!
باختصار، إن قوله تعالى ]وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ[ .. يعني أننا قد حملنا عنك بأنفسنا العبءَ الذي كان قد قصم ظهرك. لما رأيتَ المهمة الملقاة عليك قلتَ في حيرة: كيف أنجز هذه المهمة الصعبة؟! فأعطيناك خمسة وزراء منذ أول يوم، فجعلنا أبا بكر وخديجة وعليًا وزيدًا وورقة بن نوفل خمسةَ أعمدةٍ لسقف بناء الإسلام، وهكذا حملوا جميعًا ذلك العبء الذي كان عليك أن تحمله وحدك”.
ثم يقول t ما معناه: هؤلاء الأربعة الذين وجدوا فرصة الاستفادة من صحبة النبي r أكثر من غيرهم آمنوا به، وهم زوجته السيدة خديجة، وابنُ عمّه عليّ، وزيدٌ (عبدُه الذي أعتقه) وصديقه r أبو بكر t، وكان أقوى دليل على إيمانهم اعتقادهم أنه r لا يمكن أن يكذب.
يقول مرزا بشير أحمد t عن إيمان زيد بن حارثة: “عندما بدأ النبي r في تبليغ دعوته كانت السيدة خديجة أول المؤمنين به ولم تتردد ولو للحظة واحدة. غير أن هناك اختلافا بين المؤرخين حول أول المؤمنين من الرجال بعد إيمان خديجة رضي الله عنها. فبعضهم يذكرون بهذا الشأن اسم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، وبعضهم يذكرون اسم عليّ الذي كان حينذاك بالغا من العمر عشرة أعوام فقط. ويذكر بعض آخرون اسم زيد بن حارثة، العبد الذي أعتقه النبي r، ولكن هذا النـزاع عديم الجدوى عندي. كان عليّ وزيدٌ بن حارثة من أهل بيته r وكانا يسكنان معه كأولاده، فما أن قام النبي r بالإعلان إلا وآمنوا به فورا، بل لعلهم ما كانوا بحاجة إلى إقرار باللسان، فلم تكن هناك حاجة إلى ذكرهما أصلا. أما ما عداهما فكان أبو بكر t مقدّما وسابقا بالإيمان بحسب اتفاق الجميع. أي كان من أصحاب الفطنة والرأي السديد. (كان الصبيان أيضا في ذلك الزمن من أصحاب الفطنة) كان أبو بكر t شخصا محنّكا وهو أول من آمن من الرجال”.
على أية حال، كان هؤلاء الأربعة، أي ثلاثة رجال وامرأة قد آمنوا بالنبي r وكلهم يحتلون مكانة مرموقة كما قال سيدنا المصلح الموعود t.
كان زيدٌ مع النبي r في أثناء سفره إلى الطائف. علما أن الطائف تقع على بُعد 36 ميلا تقريبا جنوب شرق مكة وهي منطقة خضراء جدا وتنبت فيها أشجار تحمل أجود أنواع الثمار. في هذه المنطقة كان يسكن أناس من قبيلة ثقيف. حين بدأت قريش بصبّ المظالم على النبي r مجددا بعد وفاة أبي طالب، ذهب r إلى الطائف مع زيد بن حارثة، وذلك حين كانت بعض الأيام من شهر شوال باقية من العام العاشر من البعثة النبوية. مكث النبي r في الطائف إلى عشرة أيام وزار رؤساءها كلهم ولكن لم يقبل أحد دعوته. وحين شعر الرؤساء أن شبابهم قد يقبلون دعوة الإسلام قالوا للنبي r أن يخرج من مدينهم ويمكث حيث قُبلت دعوته. ثم حرّضوا الأوباش من الناس ضده r، فأخذوا يرشقونه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه. كان زيدُ بن حارثة يحاول أن يتلقى بنفسه الحجارة الموجّهة إلى النبي r، وبالنتيجة أصيب رأسه بعدة جروح. لقد بقيت تفاصيل طويلة لسوانح زيد t وسأتناولها في الخطبة القادمة بإذن الله.