خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u

في مسجد بيت الفتوح بلندن يوم 14/6/2019م

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

في الخطبة الماضية بيّنت بعض الوقائع من سيرة حضرة زيد بن الحارثة t وذكرتُ أنه كان رفيق سفر النبي r إلى الطائف. وأود أن أذكر اليوم بعض تفاصيل هذا السفر التي كتبها حضرة مرزا بشير أحمد المحترم في كتابه سيرة خاتم النبيين.

فبعد الخروج من شِعب أبي طالب خرج النبي r إلى الطائف، فحين رُفع عنه r الحصار ونال الحرية لحد ما في تحركاته، قرر التوجه إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام. فالطائف مكان مشهور يقع على بعد أربعين ميلا جنوب شرق مكة وكان يقيم به بنو ثقيف. إذا استثنينا فضيلة الكعبة نرى أن الطائف كانت تساوي مكة درجة، وكان يقيم بها كبار الأغنياء والأثرياء، وكان أهل مكة أنفسهم يُقرون بأهمية الطائف هذه، فقد سجل الله I قولهم: ]وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[. باختصار توجَّه النبي r إلى الطائف في شوال من العام العاشر من النبوة، وفي بعض الروايات أنه سافر وحده، وفي أخرى أن زيد بن حارثة كان يرافقه في هذا السفر. أقام حضرته في الطائف عشرة أيام والتقى بزعماء المدينة كل واحد على انفراد، إلا أن هذه المدينة أيضا لم يكن من حظها الإسلامُ آنذاك كأهل مكة، فقد أنكره الجميع، وليس ذلك فحسب بل قد سخروا منه. وأخيرا توجه حضرته إلى الزعيم الأكبر في الطائف عبد ياليل ودعاه إلى الإسلام، لكنه هو الآخر رفضه رفضا سافرا، وقال له بلجهة ساخرة: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.. ثم تَحَسُّبًا منه من أن يتأثر شباب المدينة بكلام حضرته r قال له: من الأفضل أن تنصرف من هنا، إذ لن يستمع لكلامك أحد. ثم أطلق ذلك الشقيُّ وراء حضرته بعض رعاع المدينة، فلما خرج النبي من المدينة لاحقوه ورشقوه بالحجارة، حتى دميت قدماه. وفي رواية سابقة أن زيد بن حارثة كان يرافقه فهو الآخر قد أصيب رأسُه بالحجارة أثناء منْعه r منهم. باختصار قد لاحقوه يرشقونه ويسبونه لثلاثة أميال.

على مسافة ثلاثة أميال من الطائف كان بستانٌ لزعيم مكة عتبة بن ربيعة، فلجأ إليه حضرته r وعاد الظالمون متعَبين، وهناك دعا اللهَ I واقفًا تحت ظل: اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك.

وكان عتبة وشيبة آنذاك في البستان، فلما رأياه r في هذا الحال، فنظرًا إلى القرابة البعيدة له أو كونه من قومهم أو بفكرة أخرى، أرسلا بيد غلامهما المسيحي عداس شيئا من العنب في طبق، فأخذه r منه وسأله: مِنْ أَهْلِ أَيّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدّاسُ وَمَا دِينُك؟ قَالَ نَصْرَانِيّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ r مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى، فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ r ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ. ثم دعاه إلى الإسلام، فتأثر به وقبَّل يديه بدافع الإخلاص، وكان عتبة وشيبة أيضا يشاهدان هذا المشهد من بعيد، فلما عاد عداس إليهما، سألاه يا عداس، ما الذي أصابك حتى تقبِّل يديه. فهذا الرجل سوف يُفسد دينك الذي هو خير من دينه. ثم استراح حضرته قليلا في البستان، ثم انطلق من هناك ووصل إلى النخلة التي تقع على مسافة مرحلة واحدة من مكة، وأقام هناك أياما، ثم انطلق من هناك وجاء إلى جبل حراء. فلما كان يخشى نظرا لخيبة السفر إلى الطائف في الظاهر أن يتجاسر أهل مكة أكثر، لذا أرسل رسالة إلى المُطعم بن عدي، إني أريد أن أدخل مكة، هل تساعدني على ذلك؟ وكان المطعم كافرا، ولكنه في الوقت نفسه كان كريما ونبيلا وكان رفض الإجارة في مثل هذا الوضع ينافي طباع الكرام من العرب، وكانت هذه الخصلة فيهم حتى في الجاهلية، لذا أخذ المطعم معه أبناءه وأقاربه مسلحين إلى الكعبة، ومن هناك أرسل إلى النبي r أن يدخل في جوارهم. فجاء النبيُّ r إلى الكعبة وطاف بها، ثم جاء إلى بيته في جوار المطعم وأولاده المسلحين. في الطريق حين رأى أبو جهل المُطعم سأله مستغربا: أأجرتَ فقط محمدا أم قد تبعتَه؟ فقال له مطعم إنما أنا مجير غير تابع. فقال أبو جهل لا بأس إذن. باختصار مات المطعم كافرا، إلا أنه أحرز هذا المعروف.

حين وصل حضرة زيد مهاجرا إلى المدينة، أقام عند حضرة كلثوم بن الهدم، وفي بعض الروايات أنه أقام عند سعد بن خيثمة. ولقد آخى النبي r بين زيد وحضرة أسيد بن حضير، وكتب البعض أن حضرته r جعل زيدا أخا لحضرة حمزة، ولهذا كان حمزة t أوصى بحق زيد عند القتال يوم أُحد، وعن ذلك يتابع حضرة مرزا بشير أحمد المحترم في كتابه سيرة خاتم النبيين فيقول:

بعد مدة قصيرة من الوصول إلى المدينة أرسل النبي r زيدَ بن حارثة إلى مكة مع شيء من المال، فجاء بأهله r إلى المدينة بخير، وجاء برفقته عبدُ الله بن أبي بكر أيضا مع أهل سيدنا أبي بكر t إلى المدينة.

عن البراء أنه اعْتَمَرَ النَّبِيُّ r فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا لَا نُقِرُّ بِهَا فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

فَقَالَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t امْحُ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ عَلِيٌّ لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا (أي لن أشطب لقب “رسول الله” الذي أعطاك الله إياه) فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ السِّلَاحَ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا. فَلَمَّا دَخَلَهَا (أي دخل النبيُّ مكة في العام التالي بحسب هذا الميثاق) وَمَضَى الأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ (أي مضت المدة المتفق عليها ثلاثة أيام)، فَخَرَجَ النَّبِيُّ r فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ (اسمها عُمارة، وقيل أُمامة، وفي رواية أخرى أمة الله) تُنَادِي يَا عَمِّ يَا عَمِّ فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، فحَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، قَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا (أسماء بنت عميس) تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ r لِخَالَتِهَا وَقَالَ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍ أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا، وَقَالَ عَلِيٌّ (أي للنبي r) أَلَا تَتَزَوَّجُ بِنْتَ حَمْزَةَ قَالَ r إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ.

هذه الرواية جاءت في صحيح البخاري والسيرة الحلبية.

لقد تزوج زيد بن الحارثة أمَّ أيمن وكان اسمها “بركة” أيضا، وكُنيت بابنها أيمن. كانت من أهل الحبشة، ومولاة عبد الله والد النبي r، وبعد وفاته بقيت أمُّ أيمن مع السيدة آمنة. عندما كان عمر النبي r ست سنين ذهبت به أمُّه لزيارة أبويها في المدينة. وكانت أمّ أيمن معها خادمةً. وقد تكون صغيرة السن أيضا. فلما كانت بالأبواء (التي تقع على بُعد خمسة أميال من مسجد النبي) توفيت آمنة …فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدموا عليهما مكة. قبل إعلان النبي r النبوة زُوّجت أمّ أيمن بعبيد بن زيد الذي كان عبدا حبشيا. أنجبت أمّ أيمن ولدا وسُمّي أيمن، واستُشهد يوم حنين. بعد وفاة زوج أمّ أيمن زُوّجت من زيد t. وقد ورد في رواية أن أمَّ أيمن كانت تلطُف للنبي، وتقوم عليه فقال رسول الله r: من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أمّ أيمن فتزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد.

هاجرت أمّ أيمن إلى الحبشة مع المسلمين، ثم عادت إلى المدينة. وشهدت يوم أُحد وكانت تسقي الماء وتمرّض الجرحى. وشهدت غزوة خيبر أيضا. عندما استُشهد عمر t عام 23 من الهجرة بكت أمُّ أيمن كثيرا. فقيل لها، فقالت: اليوم وَهِيَ الإسلامُ. توفّيت أمّ أيمن في بداية عهد عثمان t.

وإليكم ملخص ما قاله مرزا بشير أحمد t عن زواج زيد من أمّ أيمن: وصلت أمّ أيمن إلى النبي r وراثة بعد وفاة وأبيه. ولكنه r أعتقها بعد أن كبُر وكان يلطف بها ويحسن إليها كثيرا. تزوجت أمّ أيمن من زيد بن حارثة (الذي كان عبدا أعتقه النبي r) وأنجبت له أسامةَ بن زيد الذي كان يُدعى “الحِبّ ابن الحِبّ”. وقيل: كان رسول الله r يقول لأم أيمن: يا أمَّه وقيل: وكان إذا نظر إليها قال: هذه بقية أهل بيتي. وقيل أنه كان يقول “أمّ أيمن أمي بعد أمي”، وكان يزورها في بيتها.

هناك رواية عن أنس بن مالك جاء فيها ما مفاده: عندما جاء المهاجرون من مكة إلى المدينة ما كانوا يملكون أموالا، بينما كان الأنصار أصحاب الأراضي والعقارات. فعقد الأنصار معهم ميثاقا بأنهم سيعطونهم ثمرات بساتينهم كل عام، ولكن سيعملون فيها بأنفسهم ولن يطلبوا من المهاجرين العمل في البساتين.

كانت أمّ سُليم أُمّ أنسٍ t وعبد الله بن أبي طلحة. وكانت قد أعطت النبيَّ r بعض النخلات فأعطاها النبيُّ r لأمِّ أيمن، أمِّ أسامة بن زيد.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ r لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ فَرَدَّ النَّبِيُّ r إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّه r أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ

وقد جاء في رواية في صحيح البخاري بعض التفاصيل الأخرى كما يلي:

عَنْ أَنَسٍ t قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ r النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ r فَأَسْأَلَهُ الَّذِي كَانُوا أَعْطَوْهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ r قَدْ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتْ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي تَقُولُ كَلَّا لن أعطيكم.

والله الذي لا إله إلا هو لن تُعطَى هذه الأشجار التي آتانيها النبي r أو قالت ما شابه ذلك. فقال النبي r لأم أيمن لا عليك، رُدّي له هذه الأشجار وسأعطيك مثلها في موضع آخر، ولكنها قالت والله لا.

ويقول أنس في نهاية المطاف وعدها النبي r بإعطائها عشرة أضعاف تلك الشجر، وقال مثل ذلك، فردت لنا تلك الأشجار.

وفي رواية أن أم أيمن شعرت بعطش شديد خلال هجرتها إلى المدينة مشيًا على الأقدام، (كانت امرأة صالحة مقربة عند الله تعالى) ولم يكن عندها الماء وكان الحر شديدا، فسمعت من فوق رأسها صوتًا، فرأت أن شيئا كالدلو نزل من السماء ويقطر منه الماء. فشربت منه حتى ارتوت. وكانت تقول: منذ ذلك اليوم لم أشعر ولم أعان من شدة العطش قط، وحتى لو شعرت بالعطش في الصوم لم أكن أعاني أبدًا.

فهؤلاء الصحابيات يتخلل ذِكرهن أثناء ذِكر الصحابة لكي نطلع على مكانتهن العليا. من أجل ذلك أتعمد ذكرهن مع ذكر الصحابة البدريين الذين كانت لهن صلة بهم.

كان في لسان أم أيمن رضي الله عنها شيء من اللُّكنة، وكانت كلما زارت أحدًا لم تستطع أن تسلم عليه بقول “سلام الله عليكم” كما كانت عادة العرب في البداية، فسمح لها النبي r أن تقول: “سلام عليكم” أو السلام عليكم، وهذا ما راج فيما بعد.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي r كان يشرب ذات يوم، وكانت أم أيمن بالقرب منه، فقالت يا رسول الله اسقني الماء. قالت عائشة قلت لها أتقولين لرسول الله r اسقني الماء. فقالت ألم أخدم النبي r كثيرا. فقال النبي r لها: صدقتِ، ثم سقاها الماء.

عن أنس أنه لما توفي النبي r ظلت أم أيمن تبكي. فقيل لها لماذا تبكين. قالت كنت أعلم أن رسول الله r سيتوفى حتما، لكني أبكي لأن الوحي قد انقطع عنا الآن.

أي أنه بالإضافة إلى صدمة وفاة النبي r، هناك صدمة أخرى وهي أن وحي الله الذي كان ينزل قد انقطع، وهذا ما يبكيني.

وعن أنس بن مالك قال: قال أبو بكر لعمر ذات يوم بعد وفاة رسول الله r هلم نذهب لزيارة أم أيمن كما كان رسول الله r يزورها. فلما حضرا عندها بكت، فقالا ما يبكيك، فما عند الله خير لرسوله. قالت لا أبكي لذلك لأني أعلم أن ما عند الله خير لرسوله r (كما قلت كانت تتبوأ مكانة عالية في الصلاح إذ قالت) إن ما يبكيني هو أن نزول الوحي من السماء قد انقطع. فأبكتهما فظلا يبكيان.

كان هناك فرق كبير في لون أسامة وأبيه زيد لأن أمه أم أيمن كان من الحبشة الواقعة في أفريقيا، أما أبوه زيد فكان من مكان آخر، وكان لون أسامة مائلا إلى لون أمه، فكان بعض المنافقين يعترضون على نسب أسامة أي كانوا يقولون إنه ليس ابن زيد. وتروي عائشة رضي الله عنها وتقول: دخل رسول الله r عليّ ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: “يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعض”.

فكان النبي r مسرورا جدا لأن الطعن في نسب أسامة قد زال بهذا القول. إذ كان لشهادة هؤلاء القافة من أهل الدنيا قيمة كبيرة. كان الرجل قائفًا ماهرا، وكان قول مثل هؤلاء القافة قولاً حتميا عند القوم ولم يكن عبثيا، لذا كان قوله شهادةٌ قوية لإفحام هؤلاء المنافقين وأهل الدنيا، ولذلك كان النبي r فرحًا جدا.

كان زيد عتيق رسول الله r ومتبناه، وزوّجه النبي من زينب بن جحش، ولكن هذا الزواج لم يدم حيث طلقها زيد. استمر هذا الزواج سنة أو نيفا. وبعد الطلاق تزوج النبی من زينب بنت جحش.

إن ما كتبه حضرة مرزا بشير أحمد حول هذه القضية في كتابه سيرة خاتم النبيين r بناءً على ما ورد في شتى المصادر هو كالآتي: تزوج النبي r من زينب بنت جحش قبل غزوة بني المصطلق بقليل في شعبان من العام الخامس الهجري. كانت زينب بنتَ أميمة بنت عبد المطلب عمّةِ النبي r، ورغم عظيم تقواها وصلاحها كان عندها الإحساس بالعظمة بسبب نسبها.

أما النبي r فكان منزها تماما من مثل هذه الأفكار، ومع أنه كان يعدّ النسب ذا أهمية في الأمور المدَنية إلا أنه كان يرى أن معيار عظمة المرء إنما هو تقواه وطهارته الذاتية كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، أي أيها الناس إن أتقاكم بينكم هو أكرمكم وأعظمكم. فاقترح النبي r بدون أدنى تردد تزويج قريبته هذه أي زينب بنت جحش من عتيقه ومتبناه زيدِ بن حارثة. في البداية لم يعجب زينبَ هذا الاقتراح بسبب نسبها، ولكنها رضيت به في الأخير لما رأت رغبة النبي r الشديدة في ذلك. على كل حال تم زواج زيد من زينب وفق اقتراح النبي r ورغبته. ومع أن زينب عاشرت زيدًا باحترام وبخلق، ولكن زيدا شعر بأن في قلب زينب نزعة خفية بأنها تنحدر من عائلة عريقة وأنها من أقارب النبي r أما هو (أي زيد) فليس إلا عبدا عتيقا وليس بكفءٍ لها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان زيد يشعر في قلبه بالدونية إزاء زينب، وظل هذا الشعور يزداد بالتدريج حتى كدّر عليهما صفوَ حياتهما الزوجية، فبدآ يعيشان في خصام. ولما تفاقم هذا الوضع وصار غير محتمل حضر زيد بن حارثة إلى النبي r وشكا إليه زينب بناء على ظنونه، واستأذنه في تطليقها.

جاء في رواية أنه شكا قسوتها في الكلام وقال: لهذا أريد أن أطلّقها، وبالطبع صُدم النبي r بمعرفة هذه الأحوال ولكنه منع زيدا من الطلاق، ولعله r شعر أن زيدا قصَّر في إصلاح الأمور فنصح زيدا بتقوى الله والسعي لإصلاح الأمور قدر المستطاع، ورد في القرآن الكريم أيضا أن يا زيد ]أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ[ (الأحزاب:38) وكان سبب نُصح النبي r له أنه r كان لا يحب الطلاق، كما قال في مناسبة: أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ. (سنن أبي داوود، كتاب الطلاق) فقد سمح الإسلام بذلك كعلاج أخير، ثانيا هناك رواية للإمام زين العابدين علي بن الحسين t، وقال الإمام الزهري أنها ثقة، تقول: كان قد جاء النبي r وحي أن زيد بن حارثة سيطلق زينب في نهاية المطاف وستأتي زينب في عقده r، لذا كان النبي r، لصلته الشخصية بالأمر، يريد أن يكون حياديا تماما وسعى كل السعي من طرفه ألّا يكون له أي دخل في انفصال زيد وزينب، وأن تدوم هذه العلاقة ولا تنقطع، لذلك نصح النبي r زيدا بإصرار ألا يطلقها ويتقي الله تعالى ويعاشرها كيفما أمكن. كان النبي r يخشى أنه لو جاءت زينب في عقده بعد الطلاق من زيد فسوف يقول الناس أن النبي تزوج من مطلقة متبنّاه وذلك سيؤدي إلى ابتلاء عبثا، قال الله تعالى في القرآن الكريم: ]وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ[ (الأحزاب:38)

باختصار، منع النبي r زيدا من الطلاق ناصحًا إياه بالتقوى، فسكت زيد مسلِّما بنصحه ورجع، ولكن كان اتصال الطبايع المتباينة صعبا، وكان الانشقاق قد حدث وكان الاتصال صعبا، فلم تنصلح الأمور وطلق زيد زينب بعد فترة. وحين انقضت عدة زينب نزل على النبي r وحي جديد أن ينكحها، وإضافة إلى أمر الله تعالى هذا كانت الحكمة من وراء ذلك جبر خاطر زينب، ولكي لا يرى المسلمون حرجا في الزواج من مطلقات أدعيائهم. هذه كانت الحكمة لأن زيدا كان متبنى النبي r وكان يُسمى ابنَ محمد، لذا كان في زواج النبي r من مطلقته تأثير عملي في المسلمين أن المتبنى لا يكون كابن حقيقي كما لا ينطبق عليه أحكام الابن الحقيقي، وبذلك سيمحو نهائيا تقليدَ عرب الجاهلية من بين المسلمين. فقال عنه القرآن الكريم الذي هو المصدر الأوثق لتاريخ الإسلام: ]فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا[ (الأحزاب:38) باختصار، قرر النبي r الزواج من زينب بعد نزول الوحي الإلهي ولم يكن في هذا القرار أي دخل لأمنية النبي r أو لرأيه الشخصي، وأرسل زيدا إلى زينب طالبا يدها، ولما وافقت زينب صار أخوها أبو أحمد بن جحش وليها فزوّجها من النبي r الذي أَصْدَقَهَا أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، (سيرة ابن هشام) وهكذا بأسوة الرسول r الشخصية قد أُلغِيَ في الإسلام التقليدُ القديم الذي كان قد رسخ في أرض العرب.

وهنا يجدر بالذكر رأي عموم المؤرِّخين والمحدِّثين القائلين بأن زواج زينب من النبي r كان بالوحي الإلهي وبأمر الله الخاص لذا لم يُعقد قرانها بشكل ظاهري، ولكن هذا الرأي ليس صحيحا، لا شك أن هذا الزواج قد تم بأمر من الله تعالى ويمكن القول إنه عُقد قرانها في السماء، ولكن ذلك لا يُغني عن أمر الشريعة بعقد القران الظاهري لأن ذلك أيضا مما أوجبه الله تعالى بنفسه، ورواية سيرة ابن هشام التي ذكرناها آنفا والتي تتحدث عن وقوع الزواج الظاهري واضحة جدا ولا مجال لأي شك أو شبهة في ذلك. وأما الحديث القائل: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ r تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، (صحيح البخاري) فلا يصح الاستنتاج منه أن قرانها لم يُعقَد في الظاهر لأن عقد القران الظاهري لا يناقض هذا الشرف بأن يكون قرانها عُقد في السماء بأمر الله الخاص، ولكن مقابلها كان زواج أمهات المؤمنين الأخريات تحت أسباب عامة بعقد مناسبات ظاهرية.

وفي رواية أخرى ورد أن النبي r دخل على زينب من دون إذنها، ومما يُفهم أنه لم يُعقد قرانها في الظاهر، ولكن لو تأملنا لوجدنا أنه لا علاقة لهذا الشيء بعقد القران في الظاهر أو بعدمه. فلو كان المراد بأن النبي r دخل بيت زينب بلا إذن فهذا قول خاطئ يخالف الواقع لأن رواية صحيح البخاري الواضحة تقول بأن زينب زُفت إلى بيت النبي r بعد الزواج، وليس أن النبي r ذهب إلى بيتها، وإذا كان المراد من هذه الرواية أنه بعد زفافها إلى بيت النبي r دخل عليها بلا إذن فهذا شيء عادي لا يخالف العادة، لأنها حين أصبحت زوجته وجاءت إلى بيته فكان لا بد أن يدخل عليها ولم يكن بحاجة إلى إذن. فلا علاقة للرواية القائلة بعدم الاستئذان مع قضية أنه عُقِد قرانها في الظاهر أم لم يُعقد، وهذا هو الحق كما صرّحت رواية سيرة ابن هشام بأنه عُقد قرانها بشكل رسمي حتى بعد الأمر الإلهي، وهذا ما يقوله المنطق أيضا لأنه أولا: لا مبرر للاستثناء في القاعدة العامة، وثانيا ما دام الهدف من وراء هذا الزواج كان إبطالَ التقليد السائد وإزالة تأثيره فكان من الأجدر أن يُعقَد هذا القران علنا وأمام كثير من الشهود لكي يعلم العالم جيدا أن هذا التلقيد يُمحى اليوم. كان تقليدا راسخا أنه لا يجوز نكاح زوجة المتبنى.

قد ذكرتُ بعض التفاصيل لأحداث من حياة زيد، ولزينب وزواجِها من النبي r، وذلك لأن المعترضين يعترضون اليوم أيضا على زواج النبي r من زينب لذا ينبغي أن نعرف هذه القضية ببعض التفصيل. وهناك تفاصيل أخرى لهذه القضية وأمور أخرى عن حياة زيد t، وسوف أتناول كلا الأمرين بقدر الحاجة في المستقبل. وتذكرة زيد t مستمرة.

*****

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز