خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 23/8/2109م
في مسجد مبارك بإسلام آباد تلفورد ببريطانيا
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
أول الصحابة البدريين الذين سأذكرهم اليوم هو عاصم بن عدي t. كان عاصم من بني عجلان بن حارثة حليف بني زيد بن مالك. وكان سيد بني العجلان وأخو معن بن عدي، ويُكنى أبا بكر، وعند بعض يكنى أبا عبد الله وأبا عمر وأبا عمرو. كان متوسط القامة ويخضب الشعر بالحناء. اسم ابنه أبو البدَّاح وابنته سهلة التي تزوجت من عبد الرحمن بن عوف وكان لهما أربعة أولاد وهم: معن، وعمر، زيد، وابنته أمة الرحمن الصغرى. عندما خرج رسول الله r إلى بدر أمّر عاصمًا على قباء والعالية وهي المنطقة المرتفعة من المدينة. وفي رواية لما بلغ رسول الله r الروحاء أمّر عاصمًا على العالية، وعّده r من البدريين وجعل له سهمًا في الغنائم.
لقد أورد مرزا بشير أحمد t تفصيل هذا الحادث في تأليفه: “سيرة خاتم النبيين” كما يلي:
عندما خرج النبي r من المدينة أمّر عليها عبد الله بن أم مكتوم، ولما بلغ الروحاء التي تقع على بُعد 36 ميلا من المدينة خطر بباله أن عبد الله رجل ضرير، وهناك أخبارٌ عن قدوم جيش من مكة لذا يجب أن يكون النظام في المدينة قويا، فعيّن أبا لبابة أميرًا على المدينة وجعل عبد الله بن المكتوم إمامًا للصلاة، وأما قباء فأمّر عليها عاصم بن عدي.
شهد عاصم غزوة أُحد والخندق ومشاهد أخرى كلها مع النبي r، وتوفّي في المدينة في 45 من الهجرة في عهد معاوية t. كان عمره عند الوفاة 115 عاما، وعند البعض كان بالغا من العمر 120 عاما. عندما حانت وفاته بكى أهله، فقال: لا تبكوا عليّ فقد قضيتُ عمرا طويلا.
عندما أمر النبي r الصحابة بالاستعداد لغزوة التبوك، حثّ الأغنياء ليقدِّموا أموالا ومطايا في سبيل الله، فقدّم الناس تضحيات كل بقدر استطاعته، فجاء أبو بكر t بكل ما في بيته وكانت أربعة آلاف درهم. فسأله النبي r: هل تركتَ شيئا في البيت لأهلك؟ قال: لقد تركتُ اللهَ ورسوله. وجاء عمر t بنصف ما في بيته، وسأله النبي r، هل تركتَ شيئا لأهلك في البيت؟ قال: تركتُ نصف مالي. وقدّم عبد الرحمن بن عوف مئة أوقية- الأوقية الواحدة تساوي أربعين درهما- فقال r: إن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كنـزان من كنوز الله في الأرض، أي ينفقان لوجه الله تعالى بسخاء.
وبهذه المناسبة قدمت السيدات حليهن. وقدّم عاصم بن عدي سبعين وسقا تمرا. الوسق يساوي ستين صاعا، والصاع يساوي كيلوين ونصف تقريبا.
باختصار، جاء عاصم t بكل ما كان يملكه من التمر وكان بقدر كبير. كان عاصم بن عدي t من الصحابة الذين أمرهم النبي r بهدم مسجد الضرار. وذاك أنه لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله r فصلّى فيه حسدهم بنو غنم بن عوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا نبني مسجداً كما بناه بنو عمرو. كان أبو عامر فاسقا ومعاديا وفتانا. فقال لأشياعه: ابنوا مسجدكم واستمدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجيش من الروم فأخرج محمدا وأصحابه…فلما فرغوا من مسجدهم أتى جماعة منهم لرسول الله r فقالوا: يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة لأنهم لا يستطيعون أن يذهبوا بعيدا للصلاة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلّي لنا فيه قال:” إني على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا إن شاء الله صلّينا لكم فيه”. فلما رجع رسول الله r من غزوة تبوك ونزل بذي أوان – مكان بينه وبين المدينة ساعة – أنزل الله I على نبيه r وحيا: ]”وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[ (التوبة)
دعا رسول الله r عاصم بن عدي، ومالك بن الدخشم وأمرهما بهدم مسجد الضرار. وقد جاء في روايات أخرى أنه r أرسل عاصم بن عدي وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة، وسويد بن عباس لهذا الغرض.
لقد جاء في شرح الزرقاني ما مفاده أنه من الممكن أن يكون النبي r أرسل أولا شخصين ثم أرسل أربعة آخرين لإعانتهما.
باختصار، أرسل النبي r هؤلاء لهدم مسجد الضرار وإحراقه. فخرجا سريعين على أقدامهما حتى أتيا مسجد بني سالم، فقال مالك بن الدخشم لعاصم بن عدي: أنظرني حين أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل إلى أهله فأخذ سعفًا من النخل فأشعل فيه النار … انتهيا إليه بين المغرب والعشاء وهم فيه .. فهدمناه حتى وضعناه بالأرض، وتفرقوا.
فلمّا قدم رسول الله r المدينةَ عرض على عاصم بن عدي المسجد ليتخذه دارا، فقال عدي: ما كنت لأتخذ مسجدًا وقد نزل فيه ما نزل دارًا؛ (أي أن هذا المسجد مبني في مكان لم يعجب اللهَ لذا لا أريد هذا المكان) وإن بي عنه لغنى يا رسول الله! ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منـزل له. فأعطاه ثابتًا.
قال ابن إسحاق: كان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع بن جارية وزيد بن جارية، ونفيل بن الحرث، وبحزج بن عثمان ووديعة.
باختصار، كان هؤلاء كلهم متواطئين براهب أبي عامر الذي سماه النبي r فاسقا.
ذات مرة زار المسيح الموعود u مسجدا جامعا في دلهي أثناء أحد أسفاره، وقال: المسجد جميل جدا إن زينة المساجد الحقيقة ليست بالبنايات بل بالمصلين الذين يصلّون بإخلاص، وإلا فهذه المساجد كلها صارت خربة. (كانت مساجد كثيرة خربة من هذه الناحية في ذلك الزمن أيضا[
كان مسجد النبي r صغيرا وكان سقفه من سعف النخيل وكان الماء يقطر منه عند المطر. إن زينة المساجد هي بالمصلين. لقد بنى الناس الماديون مسجدا في زمن النبي r ولكنه هُدم بأمر الله تعالى وكان اسمه “مسجد الضرار” فسُوِّي بالأرض. الأمر بالنسبة إلى المساجد هو أن تُبنى للحصول على التقوى.
أقول: هذه هي حقيقة المساجد. وهناك فئة من المسلمين في هذه الأيام الذين يميلون إلى عمارة المساجد. والغريب في الأمر أن الميل قد نشأ بعد بعثة المسيح الموعود u. فإذا حدث هذا الميل والتوجه إلى العبادة أو بالأحرى إلى العبادة الظاهرية فكان ذلك بعد إعلانه u، فإنهم يبنون مساجد جميلة، وعلى الرغم من بنائهم المساجد بانتباه خاص، فقد انتبه إلى عمارتها الحقيقية بعض الناس فقط. ولكنها في هذه الأيام خالية من التقوى خاصة في باكستان مثلا. لقد أمر الله تعالى بهدم مسجد الضرار وقد وضّح في الآيات التالية أن المسجد الحقيقي هو الذي يؤسَّس على التقوى. ولكن المشايخ غير الأحمديين يظنون أن التقوى تكمن في استخدام لغة بذيئة في المساجد ضد المسيح الموعود u وكيل الشتائم ضده وضد جماعته u. وليس ذلك فحسب بل يحدث بين حين وآخر أن أصحاب الفِرق المختلفة يسبون ويشتمون بعضهم بعضا أيضا بسبب اختلاف الفِرق والأئمة. وفي هذه الأيام تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي بصورة مباشرة أحداث الشجار والتناطح وكيل السباب والشتائم في المساجد لبعضهم بعضا. فكل هذه الأمور توحي بأن هناك نقصا في التقوى. ولا يؤدي الناس حقوق المساجد كما ينبغي. وعلينا نحن الأحمديين أن نعتبر بهم، ونسعى جاهدين لتكون مساجدنا مبنية على التقوى. وكلما نحضر المساجد يجب أن نأتيها لعمارتها واضعين التقوى نصب أعيننا.
إذًا، هذا هو الهدف الحقيقي من المساجد، ولو بقي هذا الأصل قائما سنظل حائزين على أفضال الله تعالى بإذنه I.
يقول سيدنا الخليفة الأول t في شرح الآية: ]لِمَنْ حَارَبَ اللهَ[، هذه إشارة إلى أبي عامر المسيحي، وكان من مكايده أن يصلّي رسول الله r في ذلك المسجد، ثم سيحضره المسلمون أيضا وبذلك أراد أن يشتت شمل جماعة المسلمين. كان أبو عامر قد أذاع مناما له أنه رأى أن النبي r سيموت وحيدا طريدا شريدا. (والعياذ بالله) فقال النبي r: المنام صادق وقد رأى صاحبه حالة نفسه. فهكذا كان. في عدم ذكر الاسم بلاغة أنه إذا فعل أحد ذلك في المستقبل أيضا سيواجه العاقبة نفسها.
ونرى أنه هكذا يحصل إلى الآن مع الأعداء أمثاله.
والصحابي الآخر الذي أذكره اليوم هو عمرو بن عوف، وقيل هو عمير، واسم والده عوف. كان يكنى بأبي عمرو، ولد في مكة، وقال ابن سعد: إنه كان من اليمن.
لقد اختلف المؤرخون وأصحاب السير والمحدثون في اسم هذا الصحابي.
هناك لبس كبير حول شخصيته. فقد قال الإمام البخاري وابن إسحاق وابن سعد والعلامة ابن عبد البر والعلامة ابن الأثير الجزري وغيرهم أن اسمه عمرو، في حين أن ابن هشام وموسى بن عقبة وأبو معشر، والواقدي وغيرهم ذكروا أن اسمه عميرا.
وقال العلامة بدر الدين العيني والعلامة ابن حجر العسقلاني –وهما من شراح صحيح البخاري- أن عمرو بن عوف وعمير بن عوف اسمان لشخصية واحدة.
عند الإمام البخاري كان عمرو بن عوف الأنصاري حليف بني عامر بن لؤي أحد أحياء قريش. وعدّه ابن هشام ابن سعد من بني عامر بن لؤي أحد بطون قريش نفسها.
ولقد تمكن العلامة بدر الدين العيني شارح البخاري من التوفيق بين البيانين وقال بأن عمرو بن عوف كان من أحياء الأنصار الأوس أو الخزرج، وقد أقام في مكة وكان حليفًا لبعض الناس هناك وهكذا كان أنصاريًا ومهاجرًا أيضا.
كان عمرو بن عوف من أوائل من أسلم. ولما هاجر من مكة إلى المدينة نزل على كلثوم بن الهدم.
شهد عمرو بن عوف بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله r.
ومات عمرو بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب وصلى عليه عمر t.
والصحابي الآخر الذي أتناول ذكره هو معن بن عدي. كان حليفًا لبني عمرو بن عوف من الأنصار، وهو أخو عاصم بن عدي، وعند تناولي لذِكره ذُكر معن بن عدي أيضا. بايع بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار، كان يكتب العربية قبل الإسلام حين كان قليل من العرب يعرفونها.
وشهد مع النبي r بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها، ولما هاجر زيد بن الخطاب من مكة إلى المدينة آخى النبي r بينه وبين معن بن عدي.
عن عمر t: لما توفي النبي r قلت لأبي بكر تعال معنا نذهب إلى إخوتنا من الأنصار. فذهبنا والتقينا برجلين صالحين شاركا في بدر. يقول الراوي: فلما ذكرت ذلك لعروة بن الزبير قال: إن عويم بن ساعدة ومعن بن عدي هما الرجلان.
وورد في البخاري تفصيل لرواية عمر هذه، أذكر هنا جزءًا منه.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا (أي يقول ذلك مسبقًا في خلافة عمر بأنه سيبابع فلانًا بعد وفاته. كما قال أيضا:) فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ (وهكذا أعطي له هذا المنصب الكبير للخلافة) فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لَا يَعُوهَا، وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا (دون التوضيح المناسب لها. ثم أشار على عمر t قائلا:) فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ (أي بعد انقضاء أيام الحج) فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا (أي هكذا لن يفسر الناس بحسب هواهم) فَقَالَ عُمَرُ أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عُقْبِ ذِي الْحَجَّةِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ (يبين تفصيل الجلوس) فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلًا قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ، قال t: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا r بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، (ثم ذكر بعض الأحكام الوادرة في الحديث الطويل ولكني أتركها) ثم قال t: أَلَا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: لَا تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ u وَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ قال عمر t: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً (عفوا، هذا الكلام سيأتي فيما بعد، قال قائل منكم:) وَاللهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا، (قال عمر t:) فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ وأصبح خليفة. أَلَا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ اللهَ وَقَى شَرَّهَا (أي صحيح أنها كانت فلتة ولكن الله تعالى وقى شرها) وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، (أي ليس منكم عالما وعاملا ومخلصا وبالغا أعلى مستوى التقوى مثل أبي بكر t، ثم ذكر تفصيل بعض الأمور) ثم قال t: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ (يعني كانت البيعة في الماضي بالمشورة، فيجب ألا يُبايَع) هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ r أَنَّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ t فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ (وبحسب الرواية السابقة التي ذكرتُها كان أحد هذين الصالحين معن بن عدي t) فَذَكَرَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ (أي الأنصار) فَقَالَا أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَقُلْنَا نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَا (الرجلان اللذين كان من بينهما معن بن عدي) لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ اقْضُوا أَمْرَكُمْ، قال عمر t: فَقُلْتُ وَاللهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، (صحيح البخاري، كتاب الحدود) ثم حدث نقاش طويل بين الأنصار وأبي بكر وعمر، وكان النقاش حول انتخاب الخليفة. وقد بين المصلح الموعود t بعض التفصيل لهذا الحادث، وأذكره لكم، فقال حضرته t في ذكر هذا الحادث:
انقسم الصحابة عند وفاة النبي r إلى ثلاث فئات، فكانت إحدى هذه الفئات ترى أنه لا بد من وجود شخص لإقامة نظام الإسلام، وحيث إن أهل الرسول r أدرى بمقاصده، فيجب أن يختار هذا الشخص منهم لا من أي عائلة أخرى. (أي كان قول هذه الفئة بأنه يجب أن يكون شخص من أهل بيت النبي r وليس من عائلة أخرى) لقد فكّرتْ هذه الفئة أنه لو اختيرَ خليفة رسول الله r من عائلة أخرى فلن يطيعه الناس فيؤدي إلى فساد هذا النظام، (ويمكن أن يراد من الأهل هنا أولاده أو أحد الأقرباء مثل زوج البنت) قال المصلح الموعود t: ولكنهم معتادون على طاعة أهل بيته r لذا فسيرضون بخليفة من أهله عن طواعية، شأنه شأن ملك يعتاد الناس طاعة أوامره، فإذا خلفه ابنه بعد وفاته رضوا بطاعته أيضا عن طيب خاطر.
أما الفئة الأخرى فكانت ترى أن شرط اختيار خليفة الرسول r من أهله ليس ضروريا، بل الهدف هو أن يكون للرسول خليفة فيجب أن يُولّى من هو أكفأ الناس بخلافته وأولاهم بهذه المهمة. ثم هذه الفئة صارت فئتين، فمع اتفاقهما على ضرورة خليفة لرسول الله r، إلا أنهما اختلفتا في القوم الذين يُختار منهم. فكانت إحداهما ترى أن الذين قد تربّوا على يد الرسول r أطول فترة هم أحق بالأمر، أي المهاجرين، وبالأخص قريش منهم، إذ ستطيعهم العرب بسهولة. بينما رأت الفئة الأخرى أن الرسول r قد توفي في المدينة والأنصار هم ذوو قوة ونفوذ فيها، فهم أقدر الناس على إدارة الأمور.
فحصل خلاف بين الأنصار والمهاجرين، فكان الأنصار يرون أن الرسول r قد قضى بينهم حياته المتعلقة بالنظام، إذ لم يكن في مكة أي نظام إسلامي، فهم الأدرى بنظام الحكم، والأحق بالخلافة من غيرهم. وكانت حجتهم الأخرى أنّ هذه منطقتهم، ومن الطبيعي أن يطيعهم الناس أكثر من طاعتهم للمهاجرين، فيجب أن يكون خليفة رسول الله r منهم لا من المهاجرين.
أما المهاجرون فقالوا لم يحظَ الأنصار بصحبة رسول الله r بقدر ما حظينا بها، فنحن الأكفأ بدراية الدين من الأنصار. وبينما كان المهاجرون يفكرون كيف يزيلون هذا الخلاف ولَمّا يتوصلوا إلى أي نتيجة، إذ اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وبدؤوا التشاور، ومالت قلوبهم إلى اختيار سعد بن عبادة، زعيم الخزرج وأحد النقباء، خليفةً، وقالوا إن البلد بلدنا، والأرض أرضنا، والعقارات عقاراتنا، فالخير للإسلام أن يكون الخليفة منا، ورأوا أن لا أحد أولى بهذا المنصب من سعد بن عبادة، فقال بعضهم: ماذا إن لم يرض المهاجرون بهذا الرأي؟ فقال أحدهم: نقول لهم: “منا أميرٌ ومنكم أمير”.
وكان سعد بن عبادة رجلا حكيما، فقال: هذا أول ضعفكم، (أي فإن الذي كان الأنصار يريدون أن يجعلوه أميرًا أو خليفةً قال لهم بأن قولكم: “منا أمير ومنكم أمير” أول ضعف صدر منكم. كأن موقفكم هذا يماثِل عدم فهم الخلافة وإحداث الفساد في الإسلام.)
وبعد ذلك لما بلغ المهاجرين خبرُ تشاور الأنصار، سارعوا إلى مكان اجتماعهم، (وهو كما ذكر في بيان عمر t أنه هو وأبوبكر وبعض الناس الآخرين جاؤوا إلى هناك) لإدراكهم أن العرب لن يطيعوا أي خليفة من غير المهاجرين، وهو أمر لا يتعلق بالمدينة فقط، إذ لا شك أن الأنصار كانوا ذوي نفوذ وقوة في المدينة، ولكن سائر العرب كانوا معترفين بعظمة وشرف أهل مكة، فظن المهاجرون أنه لو اختير الخليفة من بين الأنصار فسوف يواجه العرب مشاكل كبيرة، وقد لا يتمكن معظمهم من تجاوز هذا الابتلاء بخير. فحضر المهاجرون إلى سقيفة بني ساعدة، وكان من بينهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم. يقول عمر: كنتُ أعددت في نفسي لهذه المناسبة كلمة قوية جدا، وكنت أنوي أن ألقي بمجرد وصولي إلى المجلس خطابًا مؤثرا وسوف أقنع بقوة أدلتي جميع الأنصار باختيار خليفة من المهاجرين لا من الأنصار، ولكننا لما وصلنا إلى مكان الاجتماع قام أبو بكر خطيبا، فقلتُ في نفسي: ماذا عسى أن يقول هذا الرجل؟ ولكنه والله لم يترك شيئا مما أعددتُ، بل قدَّم من عنده أدلة إضافية قوية، فأدركتُ أني لن أستطيع أن أسبق أبا بكر.
باختصار، قال المهاجرون للأنصار: لا بد من أن يكون الأمير من قريش الآن، واستدلّوا بحديث رسول الله r: “الأئمة من قريش”، وذكروا سبْقَهم في الدين وتضحياتهم في سبيل الإسلام. فعارضهم حباب بن المنذر الخزرجي وقال: لن نرضى بخليفة من المهاجرين، وإذا كنتم مصرين على موقفكم فمنا أميرٌ ومنكم أمير.. أي يكون منكم خليفة ومنا خليفة. فقال له عمر: على رِسْلك، يا رجل! ألا تعلم أن رسول الله r قال: لا يكون أميرانِ في وقت واحد؟
يقول المصلح الموعود t:
يتضح من هنا أنه كانت هناك أحاديث شرح فيها النبي r نظام الخلافة، ولكنها لم تتبادر إلى أذهان الصحابة في حياته r. (وذلك لنفس الحكمة الإلهية التي أشار إليه المصلح الموعود t في بداية هذا البيان.)
فقال عمر t: فبناء عليه إن مطالبتكم بأمير منكم وأمير منا باطلة عقلا وشرعا.
ثم كيف تم انتخاب أبي بكر t؟
بعد نقاش وجدال قام أبو عبيدة t وقال منبّهًا للأنصار: أيها الأنصار أنتم أوّل قوم آمنوا برسول الله r خارج مكة، فلا تكونوا أول قوم بعد وفاته r يبدلون مشيئة الدين. فتأثر القوم جدا من قوله حتى قام بشير بن سعد الخزرجي وقال لقومه: يا قوم، لقد صدق هؤلاء فيما قالوا، فإننا لم نخدم الرسول r ولم ننصره من أجل المكاسب المادية ولا من أجل الوصول إلى سدّة الحكم بعده، وإنما فعلناه لوجه الله، فليس النقاش عن حقّنا في أن يكون الأمير منا أو الخليفة منا، وإنما النقاش عما يتطلب منا الإسلام، فيجب أن يكون الأمير من المهاجرين، فهم أطول صحبة برسول الله r. فعاد القوم إلى مداولة الرأي الذي استمرّ نصف ساعة أو ثلثيها، حتى مالت الآراء إلى اختيار خليفة من المهاجرين. فرشّح أبو بكر عمرَ وأبا عبيدة لهذا المنصب، (وهنا قدّم أبو بكر عمر َوأبا عبيدة)
وقال: يمكنكم أن تبايعوا أحدهما. ولكنهما رفضا ذلك وقالا: سنبايع مَن أمَره النبي r بأن يؤم الناس في الصلاة، والذي هو أفضل المهاجرين.
لقد قدّم أبو بكر اسم عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم، يقول عنه عمر t في بيانه الذي قال فيه أن أبا بكر ألقى خطابًا عظيمًا وذكر فيه أمورًا كثيرة وكلها كانت رائعة وعظيمة ولَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا أي أنه قدّم اسمي واسم أبي عبيدة للخلافة. يقول عمر t: والله لأَنْ أَقْدَمُ فَتُضْرَبُ عُنُقِي لا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ إِلَى إِثْمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ. أي كانت مكانة أبي بكر عظيمة بحيث كرهت أن أكون أميرًا ومثله موجود في القوم، أما بقية الخطاب فكان رائعًا.
على أية حال، يقول المصلح الموعود t:
قال سنبايع من هو أفضل المهاجرين كلهم، وكان قصده أن أبا بكر هو أولى الناس بهذا المنصب. فبدأ الناس يبايعون أبا بكر، وكان أول مَن بايعه هو عمر ثم أبو عبيدة ثم بشير بن سعد الخزرجي، ثم بايعه قوم من الأوس ثم من الخزرج. وتحمس الناس لبيعته حتى داسوا سعدًا الذي كان مريضا ولم يستطع أن يقوم. فبايع الجميع في وقت قليل، إلا سعدًا وعليًّا، وبايع ابن سعد أيضا، ثم بايع عليّ بعد أيام، وفي بعض الروايات أنه بايع بعد ثلاثة أيام، وفي بعضها بعد ستة أشهر. وتذكر روايات الستة أشهر بأنه لم يتمكن من بيعة أبي بكر لانشغاله بتمريض فاطمة رضي الله عنها، وأنه لما جاء أبا بكر للبيعة اعتذر لتأخره، وقال: تأخرّت لمرض فاطمة.
على أية حال، فقد بايعه الجميع في ذلك الوقت.
عن عروة بن الزبير قال: إن الناس بكوا على النبي محمد r، فقالوا: ليتنا متنا قبله، نخشى أن نفتتن بعده، فقال معن (ذلك الصحابي الذي نحن بصدد ذكره): كان الناس يقولون: ليتنا متنا قبله ولكني والله ما أحب أني متّ قبله. لماذا؟ لأني كنت أريد أن أصدقه ميتًا، كما صدقته حيًّا. أي كما آمنت به r نبيًّا وصدّقته كنت أريد ألا أموت حتى أصدّقه بعد وفاته برؤيتي أنه قد أقيم النظام الذي تنبأ عنه r أي نظام الخلافة الراشدة، وأنه مستمر، وأنه ينبغي ألا نقع في شرك المرتدين. هذا هو مستوى الإيمان الذي ينبغي أن يقيمه كل أحمدي في نفسه.
ورد في رواية أن معن بن عدي شارك في حروب الردة بعد النبي r في جيش خالد بن الوليد الذي وجّهه طليعة له على رأس مائتي فارس يوم اليمامة.
آخى النبي r بين معن وزيد بن الخطاب واستشهدا في حرب اليمامة سنة 12 للهجرة.
وفق الله تعالى كل أحمدي لفهم مقام النبوة، ووفقه لإنشاء علاقة الوفاء والإخلاصة مع الخلافة أيضا. آمين.