خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 10/4/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
لا شك أن الظروف السائدة في العالم في هذه الأيام نتيجة وباء الكورونا قد أقلقت الأحباب والأغيار كلهم، فيكتب الناس إليّ مبدين قلقهم بناء على أمراض أقاربهم وأعزتهم أيّا كان هذا المرض. فيبدي الناس قلقا شديدا بسبب الظروف الراهنة لئلا يصاب المريض بالوباء المنتشر بسبب ضعف المريض الجسدي وإن كان مصابا بمرض آخر مبدئيا. وهناك بعض من الأحمديين أيضا أصيبوا بهذا المرض.
باختصار، إن العالم كله محاط بالقلق من كل حدب وصوب. لقد كتب إليّ أحد الدعاة وقال: لا ندري ما الذي حدث وما هو حادث. إن كلامه صحيح تماما لأنه لا يُعرف في الحقيقة ما هو حادث في العالم. يقول القرآن الكريم عن الظروف السائدة حاليا في العالم: ]وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا[ (الزلزلة: 4)
في شباط/فبراير عام 1920م، أي قبل مئة عام من الآن ذكر سيدنا المصلح الموعود t الأوبئة والمجاعات والابتلاءات والطوافين (جمع طوفان) شارحا الآية المذكورة بإيجاز وقال إن الأوبئة والابتلاءات تحل عادةً بطبيعة الحال، ولكن في هذا الزمن قد افتتحت أبوابُ الابتلاءات على مصراعيها.
أنا أيضا أقول منذ عدة سنين ماضية أن الطوافين والزلازل والأوبئة قد كثرت في العالم بكثرة هائلة بعد بعثة سيدنا المسيح الموعود u، ولا سيما منذ أن حذّر العالم من البلايا والآفات السماوية. تحل هذه الأوبئة والآفات لتنبيه الناس بوجه عام ليؤدوا حقوق خالقهم وحقوق خلقه وعباده. ففي هذه الظروف يجب علينا أن نخضع أمام الله تعالى أكثر من ذي قبل وننبه العالم أيضا. هناك بعض الأمراض والأوبئة والطوافين التي عندما تحل بالعالم تؤثر في الجميع بشكل طبيعي.
وقد قال سيدنا المصلح الموعود t ما معناه: صحيح أنه لا علاقة لبعض الابتلاءات بنا ولكن ما دمنا نعيش في هذا العالم فلا بد أن نواجه إلى حد ما عديدا منها مثل الأوبئة والمجاعات، بمعنى أنها ستؤثر فينا أيضا ولا تُحفظ منها الجماعات الربانية كليا لأن ذلك ينافي حِكَم الله تعالى. ولكن المؤمن يمر بها خاضعا لله تعالى وشاكرا له I في مثل أيام المشاكل تلك.
فكما قلت آنفا علينا أن نخضع أمام الله تعالى بوجه خاص في هذه الأيام ونطلب رحمته وفضله U. فيجب على كل أحمدي أن يخضع أمام الله أكثر من ذي قبل.
بعض الناس يُدلون بتعليقات مختلفة مثل قولهم إن هذا الوباء جاء آيةً ولا حاجة للقيام بأي إجراء وقائي أو علاج، أو يقومون بتعليقات أخرى من هذا القبيل التي تجرح مشاعر الآخرين. ولكني أقول: لا نعرف هل هذه آية بوجه خاص أم لا، ولكننا نقول على أية حال، كما قلت آنفا وقلت قبل بضع خطب أيضا في ذكر هذا الوباء أن البلايا والآفات الأرضية والسماوية قد كثرت بشدة بعد بعثة سيدنا المسيح الموعود u. فيمكن قول هذا الكلام بوجه عام ولكن لا يجوز ربط الوباء المنتشر حاليا بالطاعون الذي تفشى في زمن المسيح الموعود u، ولا يحق لأحد أن يقول بأن الأحمديين الذين أصيبوا به أو ماتوا بسببه هم ضعاف الإيمان.
لقد تفشى الطاعون آيةً للمسيح الموعود u. وقد عدَّ النبي r الذين ماتوا به شهداء، ولكن مرض الطاعون المذكور كان قد ظهر كآية، وقد أخبر الله تعالى المسيحَ الموعود u عنه بوجه خاص، وأعلن المسيح الموعود u أنه آيةٌ وأعطى الجماعة تعليمات أيضا بشأنه، لذا كان للطاعون المنتشر في زمنه u شأن آخر تماما. ولكن إلى جانب ذلك قال المسيح الموعود u للجماعة بل أمر السيد مفتي(السيد مفتي محمد صادق t (المترجم)) ذات مرة أن يعلن في الجرائد: إنني أدعو الله تعالى كثيرا لأفراد جماعتي لينقذهم، ولكن يثبت من القرآن الكريم أنه عندما ينزل غضب الله يتضرر به الصالحون أيضا مع الطالحين، ويعامَل كل واحد بحسب أعماله. (أي لا يُنقذ من ضرره الصالحون كليا بل يتضرر الصالحون أيضا، كما سبق الذكر أن المصلح الموعود t قال بأن الصالحين أيضا يتأثرون بحسب قانون الطبيعة)
يتابع المسيح الموعود u: خذوا طوفان نوح مثلا فقد شمل الجميع. والمعلوم أنه لم يعلم كل رجل وكل امرأة وطفل بوجه كامل ما هو ادّعاء نوح وما أدلته؟ (ولكنهم مع ذلك تضرروا به) الفتوحات التي حصلت في الحروب كانت بمنزلة آية على صدق الإسلام. وقد خاض الصحابة مع رسول الله r في الجهاد، ونالوا الفتوحات، ثم اندلعت الحروب في زمن الخلفاء الراشدين، ومُني المسلمون بالهزيمة أيضا أحيانا، غير أنهم نالوا الفتوحات بوجه عام.
يقول المسيح الموعود u: تلك الفتوحات كانت بمنزلة آية على صدق الإسلام ولكن مات المسلمون أيضا في كل حرب مع الكفار. فلم يُقتل الكفار فقط -مع أن الجهاد كان آية- بل إن المسلمين أيضا قُتلوا في تلك الحروب، ولكن من قُتل في الجهاد من المسلمين سمّي شهيدًا. كذلك إن الطاعون آية على صدقنا، ويمكن أن يستشهد به بعض من أفراد جماعتنا أيضا.
ثم يقول حضرته u: أدّوا حقوق الله أولا وطهِّروا نفوسكم من أهوائها، ثم أدّوا حقوق العباد وأتِمّوا الأعمال الصالحة. آمنوا بالله إيمانا صادقا وادعوا الله تعالى متضرعين. يجب ألا يمضي يوم دون أن تدعوا الله فيه باكين على عتباته.
ثم يقول u: ثم ينبغي أن تراعوا الأسباب الظاهرة أيضا أي التزموا بالاحتياطات اللازمة.
ثم قال u: ومن أصيب منكم بالطاعون بقدر الله تعالى واسوه وأهلَه وذويه مواساة تامة وساعدوهم بكل معنى الكلمة ولا تدّخِروا جهدا في علاجه. أي ابذلوا قصارى جهودكم لعلاجه.
ولكن اعلموا أنه ليس المراد من مواساتكم أن تتضرروا بأنفاسه وثيابه الملوَّثة، بل يجب أن تجتنبوها. أي ينبغي أن تقوموا بمواساتهم ولكن لا بد من الاحتياطات اللازمة، ولا بد من الالتزام بالتدابير الوقائية لتجنب الإصابة.
فينبغي على المساعدين أن يتعلموا من هذه النصائح درسًا وهو أن يضعوا نصب أعينهم جميع الاحتياطات اللازمة كما يُنصح اليوم كارتداء أقنعة الوجه والاحتياطات الأخرى. كذلك ينبغي الامتناع عن زيارة الناس في بيوتهم لأن الحكومة منعت من ذلك فلا بد من تجنبها.
رغم منع الحكومة في بريطانيا يظل البعض يرتادون الحدائق العامة ويقابلون الناس هناك، في حين أن ما سمحت به الحكومة يقتصر على المشي قليلا وقضاء وقت يسير في الهواء الطلق، وليس هذا الإذن للجلوس في الحدائق العامة والقيام بالنزهة مع الآخرين. إنه طريق خاطئ، ولا زالت الحكومة تقوم مرة بعد أخرى بتوعية الناس الذين يقصدون الحدائق بسياراتهم. تقول لهم الحكومة: إن كنتم تقولون بأنكم خرجتم للتنفس في الهواء الطلق ولممارسة الرياضة فعليكم أن تأتوا ماشين أو على الدراجات، أما الذهاب إلى الحدائق بالسيارات وبصورة جماعية فهو طريق خاطئ. ولأجل ذلك أعلنت بعض البلديات إغلاق أماكن إيقاف السيارت، فلا يسمح لدخول السيارات وإيقافها هناك.
على أية حال، على الأحمديين تجنب مثل هذه الأعمال. لقد قدّم مجلس خدّام الأحمدية عددًا كبيرًا من المتطوعين في هذه الأزمة، فعلى من عُهدت إليهم أعمال المساعدة وهم يقومون بها أن يلتزموا بالاحتياطات اللازمة ويقوموا بأداء واجب المساعدة داعين الله وأن يجتنبوا مخالفة هذه التدابير الوقائية، وألا يلقوا أنفسهم إلى التهلكة دونما سبب، لأن ذلك يكون جهلاً وليس شجاعة، فعليكم باتخاذ التدابير الوقائية بكل شدة.
ثم قال حضرته u: ومن مات بهذا المرض، لا سمح الله، فهو شهيد ولا حاجة إلى غسله ولا إلى كفنه كفنا جديدا بل ادفنوه في ثيابه العادية. فإنه سيعامل معاملة الشهيد.
كان ذلك في زمن تفشي الطاعون، أما الآن فقد سمحت الحكومة إلى حد ما لغسل الميت وكفنه أيضا. أما ما قاله المسيح الموعود u بأنه لا حاجة لذلك فكان يخص الظروف الصعبة في ذلك العصر.
ثم قال u مؤكدًا على الاهتمام بنظافة البيوت وأوصى بشكل خاص قائلا: حافظوا على نظافة الثياب واهتموا بنظافة مجاري المياه الآسنة.
يتمتع نظام الحياة هنا بالصرف الصحي تحت الأرض، ولكن نصيحة حضرته u تخص الدول غير المتطورة التي تكون مجاري المياه الآسنة فيها مكشوفة، ومن الضروري هناك المحافظة على نظافة تلك المجاري.
ثم قال u بشكل خاص: وفوق كل ذلك طهِّروا قلوبكم وتصالحوا مع الله صلحا كاملا.
فعلينا الاهتمام بكل هذه الأمور بشكل خاص في ظل الظروف الراهنة التي نعيشها جراء هذا الوباء الذي تأثر به الجميع كما كتب البعض. ينبغي أن نتذكر دوما أن طريق الأدعية مفتوحٌ لنا، وعلينا أن نخضع أمام الله تعالى باليقين التام أنه تعالى فتح لنا طريق الدعوات وإنه سميع الدعاء، وهو يقبل الدعوات إن خضعنا أمامه مخلصين له، أما كيف تكون هذه الاستجابة، فهو أعلم بها. علينا بشكل عام أن ندعو لأنفسنا ولأحبائنا وأعزائنا وللجماعة وللبشرية كلها.
هناك كثير من الناس في هذا العالم -ولعل بعضهم أحمديون أيضا- الذين لا يتوفر لديهم أسباب الحيطة والوقاية والذين لا تتوفر لديهم مرافق الصحة وإمكانيات لتلقي العلاج ولا المواد اللازمة للأكل والشرب، رحمهم الله وإيانا جميعا. نسعى جاهدين على مستوى الجماعة في الظروف الراهنة أن نوصل المواد الغذائية والمساعدات الطبية إلى جميع الأحمديين، ولكن مع ذلك يمكن أن يحدث تقصير في هذا العمل، بل نحاول أن تصل المواد الغذائية والمساعدة الطبية وغيرها إلى غير الأحمديين أيضا حيثما كانت الحاجة. نقوم بهذه الخدمة دون أي هدف وغاية لأنفسنا بل نقوم بها مدفوعين بعاطفة المواساة الخالصة. مع ذلك فإن وسائل الإعلام المتعصبة أو العلماء المزعومين يتهموننا قائلين بأن ما يقوم به الأحمديون من إيصال المواد الغذائية أو المساعدة الطبية فهو لتبليغ دعوتهم ولكي تفتح لهم هكذا طرق تبليغهم.
على كل حال نحن لا نبالي بهذه التهم فالله I أعلم بنياتنا وإخلاصنا، وأقول لكم مكررا: ركِّزوا كثيرا على الدعاء والدعاء والدعاء، حفِظ الله I كل فرد من أبناء الجماعة على كل الأصعدة والجماعةَ إجمالا وحماهم وآمنَهم، وفقني الله I وإياكم لأن ندعوه I وأن نتشرف بفيض قبول أدعيتنا.
وأود أن أقول أيضا أن بعض الأحمديين الذين يعملون أعمال التجارة، يجب أن لا يسعوا في هذه الأيام للحصول على ربح غير ضروري، وبدلا من الحصول على أرباح غير ضرورية في أشياء الأكل والشرب والأشياء المهمة الأخرى، يجب أن يبيعوها بأقل ربح ممكن. فهذه هي الأيام المناسبة لخدمة البشرية، الأمر الذي نصحنا به سيدنا المسيح الموعود u أيضا، أن اخلقوا فيكم صفة المواساة، وهذه هي الأيام لأداء حقوق العباد والفوز بقرب الله. وفق الله I جميع التجار أن يسيِّروا أعمال تجارتهم في هذه الأيام بدافع المواساة بدلا من الحصول على أرباح غير ضرورية.
الآن أريد أن أتناول ذكر خادم مخلص جدا جدا للجماعة الذي توفي بقضاء الله I في الآونة الأخيرة في 5 إبريل الفائت إنا لله وإنا إليه راجعون. اسمه ناصر أحمد سعيد المحترم.
كان ناصر أحمد سعيد المحترم من مواليد 1951 في مدينة دَسكه التابعة لمحافظة سيالكوت وكان اسم والده تاج الدين المحترم. كان ناصر أحمد سعيد المحترم أحمديا من الولادة ولم يتلق دراسة عالية، وإنما درس للمرحلة المتوسطة (الصف الثامن). في عام 1973 تم تعيينه عاملا في قسم “الحرس الخاص” في نظارة الأمور العامة، ثم في عام 1983 حين هاجر حضرة الخليفة الرابع رحمه الله إلى بريطانيا لحق به المرحوم أيضا بعد سنتين أي في 1985، وأعتقد أن حضرته كان قد هاجر في إبريل 1984. على كل حال انتقل المرحوم في 1985 من ربوة إلى بريطانيا، وظل يخدم الجماعة حتى أكتوبر عام 2010، حيث أحيل إلى التقاعد بحسب قواعد الجماعة عند بلوغه 60 سنة من العمر لكنه تابع خدمته حتى بعد التقاعد وظل يؤدي واجبه، وبفضل الله I قد وُفق للخدمة من عهد الخليفة الثالث إلى هذه الأيام في عهدي.
كان المرحوم ناصر سعيد يتصف بخصال حميدة عدة، فكان يعمل عمله بمنتهى الإخلاص والنشاط، وكانت تربطه علاقة الحب الصادق مع الخلافة الأحمدية، لقد ترك وراءه زوجته السيدة كلثوم بيغم المحترمة وابنه السيد خالد سعيد وأولاده، وخالد سعيد المحترم أيضا يعمل متطوعا في الحرس الخاص بانتظام، جعله الله I مثيل أبيه المرحوم ناصر سعيد، ووفقه لاقتفاء أثره، وألهم زوجة المرحوم الصبر السلوان.
يقول الأستاذ محمود وهو ابن خال المرحوم وكان موظفا في الجيش، وله عمر المرحوم نفسه، إن والدَيْ ناصر سعيد أيضا قالا له أن يتوظف في الجيش فقال لهما إذا أردت أن أتوظف فسوف أتوظف في الجماعة، وإلا سوف أعمل في مزرعتي الصغيرة، حيث كان لوالده أرض زراعية وقال سأظل أعمل مزارعا. لكنه فيما بعد قد توظف في الجماعة. فكان يحب جميع أقاربه وأعزائه كثيرا ويعتني بهم، وكان يساعد كثيرا من أقاربه المحتاجين بصمت.
يقول الأستاذ شكور من الحرس الخاص في ربوة، لقد تسنى لي العمل مع المرحوم ناصر سعيد في لندن من عام 1990 إلى 1998 فوجدته دوما وفيا للخلافة ومطيعا ومخلصا في عمله، فكان يحضر قبل بدء الدوام، وإذا كانت عنده رسالة سرية فكان يحافظ عليها وكان ينصح زملاءه أيضا أن السر عندهم يجب أن يبقى سرا، ولم يكن يفشي سره لأحد من زملائه.
يقول العميد محمود أحمد مديرُ الحرس الخاص، كان المرحوم ناصر سعيد موظفا وفيا جدا، فكانت روحه تطوف حول الخلافة الأحمدية فقط، وكان زاهدا في الأمور المادية تماما، إذ كانت غايته المتوخاة خدمة الدين فحسب، إذ لم يكن يشغل بالَه غيرُ خدمة الدين، فكان يتمنى من صميم فؤاده أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على أعتاب الخلافة فحقق الله له ذلك. كان مضيافا ومنقطع النظير في الضيافة، وكان يكرم كل صغير وكبير، وكان يكرم كثيرا من يكبُره. لم ينطق بكلمة الشكوى قط، ودوما كان يعُدّ الاستجابة لكل أمر واجبا، فكان نموذجا عديم المثال لوقف الحياة. وأقول إن من الصواب تماما أنه خدم الجماعة في حياته بعفاف وصدق.
كتب السيد هارون، طالب في الجامعة الأحمدية بألمانيا، قائلاً: لاحظتُ عدة مرات أن المرحوم كان يُصلح بين الناس إذا تنازع بعضُ معارفه. قال أيضا: مرة سألتُ المرحومَ هل تذهب للعطلة؟ فقال: إن خدمة الخليفة وأداء الواجبات لهي الرخصة لواقف الحياة ويجب ألا يكون له هدف آخر.
ثم كتب كثير من الناس عن أخلاقه وإكرامه للضيوف وطلاقة وجهه وحُبه. صحيح أن المرحوم لم يكن ذا منصب كبير في الجماعة ولكنه كان محبوبا لدى الجميع لكونه خادما غير عادي، وكل من لقيه أُعجب به. كتب السيد نصير باجوة من ألمانيا، يقول: كان المرحوم صاحب أخلاق وعادات جميلة. وكان يتمنى الخير للجميع ويبقى جاهزا لخدمة الجميع ويفرح بمساعدة الآخرين ويشعر بطمأنينة القلب في ذلك.
أتلقى الرسائل من بلاد كثيرة في ذكر مآثر المرحوم لا أستطيع أن أقرأها كلها. كتب السيد أويس من أمريكا، يقول: كلما زار المرحوم أمريكا لقيني بوجه طليق، ولم أر في وجهه أمارات التعب قط، وكان يلقى الخدام بحب ويُفهمهم بلطف عن أمر الحراسة ويحاول تشجيعهم، وهذه كانت ميزته.
كتب السيد فيروز عالم عن ميزات المرحوم وتواضعه، وقال: كان يستضيفني حين كنتُ وحيدا، ثم ذكر عن عبادته وقال: رأيتُ المرحوم يدعو بتضرع وحرقة في صلاة التهجد في المسجد حين كان الخليفة الرابع رحمه الله تعالى مريضا. ثم كتب السيد حسنات من ألمانيا وهو رئيس خدام الأحمدية السابق بألمانيا وواقف الحياة، قائلاً: كنتُ أغبطه حين كنتُ أرى إخلاصه وشوقه لأداء واجبه ووفاءه للخلافة. كان بسيطا للغاية ومع ذلك كان يملك معرفة عجيبة. ثم كتب: عندما كنتُ رئيسَ خدام الأحمدية تعلّمتُ منه كثيرا من أمور الحراسة. لم يكن يُظهر أنه مُسنّ وضعيف بل كان يبدو شابا مثل الآخرين أثناء الحراسة. لم يكن يتحمل أن يُعامَل معاملة خاصة بسبب كِبر سِنّه بل كان يحبّ أن يؤدي واجبات الحراسة مثل الخدام الآخرين. وكان يحترم الصغار ويعاملهم بلطف بحيث كنا نشعر بالخجل. كان يشجع الخدام أثناء أداء واجبات الحراسة. ثم كتب شيئا جميلا وهو أن الناس يعطون دروسَ الحراسة بالكلام أو بعقد الدورات التعليمية ولكن المرحوم كان يُعلّمنا بنموذجه العملي وبِتَنَبُّهِه وإخلاصِه وأدعيتِه. وكلّما لاقيناه قال لنا ادعوا لي أن تكون عاقبتي حسنة.
ثم كتب السيد خالد أحمد من المكتب الروسي إضافة إلى ما كتبه الآخرون: كان المرحوم يساعد كثيرا من المحتاجين كما كان يحث الآخرين من الأثرياء ويُرغّبهم دوما في مساعدة إخوتهم المحتاجين. ومن ميزاته إكرام الضيف وكان يستضيف ضيوف الجلسة السنوية بوجه خاص وكان يحترم ضيوف الجلسة ويدعو في بيته الضيوف الآتين من المركز أو من البلاد الأخرى صباحا ومساءً ويعقد جلسات خالية من التكلف ويقدّم لهم طعاما شهيا ثم كان يُعطي الضيوف سجادات كان قد صلى عليها الخليفة في المسجد تبركاً بها.
كتب السيد أطهر زبير من ألمانيا أيضا أن من ميزاته الوفاء بالخلافة والإخلاص، وكان أسلوب كلامه لطيفا ولينا. وأثناء الحراسة بالتناوب لو تأخر عامل آخر عن نوبته لم يشكو المرحوم ذلك بل كان يشكر الله تعالى أنه وفّقه لحراسة الخليفة لمزيد من الوقت. كان يظل مستعدا لأداء واجبه الحراسي، وإذا مرض لم يرجُ ترْك عملِه بل سمعتُ أنه في مرضه الأخير أيضا سأل ابنه عن الوقت ولما أُخبر بالوقت قال متأسفا: هذا يعني أن اليوم قد فاتتني فرصة الحراسة، أيْ لن أتمكن اليوم من أداء واجبي. كان يهتم بواجبه حتى في المرض الشديد.
ثم كتب من بريطانيا السيد حمزة رشيد: كان محبا وعطوفا ومشجِّعا الآخرين وصالحا ونموذجا للخدام ويؤدي واجبه بكل جهد وشوق، ويحب الخلافة حبا شديدا ويوجّه الخدام دوما أن يؤدوا واجبات الحراسة بدافع من الحب للخلافة وأن يقدموا هذا الحب على جميع الأشياء الأخرى.
وكتب السيد “سيد طه نور” الداعية في إندونيسيا وهو يتحدث عن المرحوم عندما جاء إلى أندونيسيا مع حضرة الخليفة الرابع رحمه الله عام 2000: كان المرحوم مقيما في المسجد هنا ولم يكن في المسجد غسّالة، فقلنا له أعطنا ملابسك لنذهب بها ونغلسها في الخارج. فقال هو وزميله الذي كان يرافقه: إننا نغسل ثيابنا بأنفسنا. إننا خدمٌ ولا يليق بنا أن نطلب من الآخرين غسل ملابسنا. ولم يعطنا المرحوم ثيابه رغم إلحاحنا الشديد.
هذه أمور بسيطة في ظاهر الأمر، ولكنها تدل على حقيقة وقف الواقف للحياة، وكيف يجب أن يكون كل مَن نذر حياته لوجه الله تعالى. وإن في ذلك درسًا للشباب.
وكتب السيد عدنان ظفر، “المهتم المحلي” الأسبق بمجلس خدام الأحمدية في المملكة المتحدة: كان المرحوم يحثنا على أداء خدمة الحراسة بانتباه. وقد علّمنا أمورا كثيرة تتعلق بآداب الأكل والشرب والحراسة، ولكن الأهمّ أنه علّمني آداب الخلافة، وكيف يمكن تقوية العلاقة مع الخليفة. كان يتمتع ببصيرة نافذة وبُعدِ نظر، وكلما استشرته في أمر نفعني رأيه دائما.
وكتب السيد أطهر أحمد الذي يعمل في قسم الحراسة الخاصة: قمت بخدمة الحراسة 9 سنوات بدءًا من عام 2011 إلى 2020. في البداية كنت أقوم بالخدمة تحت القسم “العمومي” ثم لما انضممت إلى قسم الحراسة الخاصة، قلت للمرحوم: لقد قمتَ بخدمة الحراسة الخاصة مع ثلاثة خلفاء لـ 48 عاما، فأرجو أن تسدي لي نصيحة معينة لأتمكن من الخدمة مثلك، فقال المرحوم: عليك أن تفتح هنا عينيك وأذنيك، وتمسك لسانك، وتواظب على الدعاء.
الحق أن هذه النصيحة لا بد لكل واقف للحياة من العمل بها، بل هي ضرورية لكل عامل وخادم ومسؤول في الجماعة. إنها وصية حكيمة جدا.
ثم كتب هذا: علمتُ من خلال العمل مع السيد لاله جي – كان المرحوم معروفًا بلقب “لاله جي”- أنه إذا جاءك الأمر من المسؤول فعليك تنفيذه كما هو تماما. كان المرحوم بنفسه ينفذ هذه الأوامر بهذه الطريقة كما كان يجعل الآخرين يعملون بها على هذا الشكل، كان لا يؤولها بأنه يمكننا العمل بها هكذا أو هكذا، بل كان يقول: عليك أن تنفذ الأمر بقدر ما يقال لك وكما يقال لك تماما. فكان يعمل كما أُمر مئة بالمئة، كما كان يجعلنا نعمل به كما هو تماما. ولو قيل له: بأن المسؤول الفلاني عن نوبة الحراسة قبلك كان يعمل على غير ما تقول، فكان المرحوم يقول: أما أنا فسأعمل بما أمرتُ به تماما.
ثم إن المرحوم كان يطلب مني الدعاء له بوجه خاص قائلا ادع الله تعالى أن أظل أعمل وأمشي ما دمت حيا، وإذا جاءني الأجل يأخذني وأنا أعمل وأمشي، بدون أن أحتاج لمساعدة أحد في العيش.
لقد حقق الله له أمنيته هذه. غفر الله المرحوم ورفع درجاته، ووهب لأرملته الصحة والعافية وألهمَها الصبر والسلوان، ووفق ابنَه – كما قلت من قبل- للتمسّك بالخلافة والجماعة بصدق ووفاء، بل وفق نسله لذلك أيضا.
إنني أعرف المرحوم عندما جاء إلى ربوة لخدمة الجماعة. لا جرم أن ما كتبه الإخوة عنه هو حق وصدق مئة بالمئة. كان المرحوم خادمًا مخلصا للغاية، ومطيعا طاعة كاملة. لقد توفي في ظروف لا يمكن أن يشترك في جنازته أناس كثر. كان مصابا بمرض القلب منذ فترة، وقد خضع لعملية استُخدمت فيها الدعامات المعدنية. كان قد مرض قبل بضعة أيام وذهب إلى المشفى، فأُدخل فيها، وقال الأطباء إنه تعرض لنوبة قلبية شديدة، وبعد ذلك قالوا قد أصابه هذا الفيروس المتفشي أيضا. والله أعلم هل أصيب به قبل دخوله المشفى أم بعده نتيجة العدوى المنتشرة حاليا. على كل حال، لقد خضع للعلاج لبضعة أيام، ولقي ربه وهو هنالك. لا يمكن إحضار جثمانه هنا بسبب القيود القانونية المفروضة هنا، ولا يمكن أن يحضر جنازته إلا بضعة من أقاربه الأقربين، مع الشرط أن تقام صلاة الجنازة فيما سموه دار الجنازة، أو في المقابر. وبسبب هذه الظروف سوف أصلي عليه الجنازة في وقت لاحق إن شاء الله تعالى.
وكما قلت إن الكثيرين قد كتبوا يذكرون محاسنه، وما كتبوه حق وصدق تماما. كان المرحوم متحليا بهذه الشمائل بالفعل. وكما قلت من قبل، لقد غادر المرحوم هذه الدنيا مؤديا خدمته على خير وجه وموفيًا عهد الوفاء. لقد وفى كل عهد قطعه مع الله تعالى. هذا ما شاهدناه في حياته. فهو من أولئك الكثيرين الذين قال عنهم المسيح الموعود عليه السلام إنهم شهداء. ندعو الله تعالى أن يعدّ المرحوم من بينهم، ورحِم كلَّ الأحمديين الذين توفوا بهذا المرض وغفر لهم. اللهُ أعلم بمرضهم الحقيقي، أما نحن فندعو الله تعالى أن يكون كل واحد منهم ممن شملته رحمة الله ومغفرته.