خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 1/5/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
اليوم أود أن أذكر لكم بعض المرحومين الذين تُوُفُّوا في الآونة الأخيرة، وكان لكل واحد منهم مهنة مختلفة وكان لهم مجال عمل مختلف ومعايير مختلفة للثقافة، لكنهم جميعاً كانوا يشتركون في أمر واحد وهو أنهم كانوا مُوفين بعهد البيعة بإيثار الدين على الدنيا بحسب كفاءاتهم ومؤدين حق بيعة المسيح الموعود u وكانوا يكنّون لخلفائه كاملَ الوفاء والإخلاص وكانوا يؤدون حقوق العباد وأثبتوا أن التعليم الجميل للإسلام الذي بعث الله I المحبَّ المخلص للنبي r لإحيائه هو التعليم الأمثل للبشرية، وكانوا يقدمون نموذجا عمليا للعمل به في الحقيقة.
قلت إنهم كانوا يشتركون في هذه الأمور، وليس ذلك فحسب بل كانوا يشتركون في مزايا أخرى كثيرة، وبعد الاستماع إلى سوانحهم ينشأ اليقين بأن سيدنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام هو الوحيد في هذا العصر الذي _ بالارتباط به _ يمكن أن نتعلم الأسلوب لإنشاء العلاقة الحقة بين العبد وربه، وتعلمناه على أرض الواقع، وينشأ لدينا اليقين الكامل بالإله الحي والتسليم برضاه I.
وأحد هؤلاء المرحومين الذين أود أن أذكرهم، داعيتُنا الأحمدي السيد ذو الفقار أحمد دمانك المحترم الداعية الإقليمي في إندونيسيا، وقد تُوفي في 21/4/2020 عن عمر يناهز 42 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان من مواليد 24/5/1978 في سومطرة الشمالية. اسم والده شهرول دمانك واسم جده شهنور دمانك. أول أحمدي في عائلة المرحوم كان جدّه، الذي بايع بدعوة مولانا زيني دهلان المحترم في 1944. كان الداعية المرحوم ذو الفقار المحترم تلقَّى الدراسة في الجامعة الأحمدية من 1997 إلى 2002 بإندونيسيا، وكان المقرر فيها يومذاك أقصر مقارنات بالجامعة الأحمدية المركزية. وبعد التخرج وُفق لخدمة الجماعة بصفته داعيةً أحمديا في مناطق مختلفة لمدة ثماني عشرة سنة، ترك زوجته السيدة مريم صديقة المحترمة وأربعة أولاد هم جاذب وعائشة خولة وخيرة فاطمة وخيثيره نصيرة، حيث عمر أكبر ولد 15 سنة وأصغر بنت 8 أشهر، وكل هؤلاء الأولاد موقوفون في مشروع وقف نو.
يقول داعيتنا هناك السيد معراج دين المحترم: كان السيد ذو الفقار داعيةً ناجحا جدا ومجتهدا، حيثما عُين أنجز أعمال التربية والتواصل والتبليغ على خير ما يرام. كان المرحوم يتكلم مع الجميع بقول ليِّن، وكانت له علاقات صادقة مع الجميع، وكان دوما يلقى الناس بوجه طلق، لم يكن يطلب أي شيء قط، بل كان دوما ينصح بالدعاء.
وهذه الخصلة هي روح وقف الحياة ويجب أن يتحلى بها كلُّ واقف للحياة، أي إذا احتاج إلى شيء فليسأل الله وحده ولا يطلب أي شيء من غيره. وهذه الميزة غاية في الأهمية، ويجب أن يسعى كل واقف للتحلي بها. كان المرحوم بفضل الله I من الدعاة الذين بايع الكثيرون بدعوته. وفي عام 2018 جاء إلى هنا أيضا على حساب الجماعة لحضور الجلسة السنوية. كان المرحوم يعمل دوما في ميدان العمل بحسب خطة عملٍ رائعة، وبسبب ذلك كان ينال النجاح في كل مكان.
مثل ذلك يقول الداعية الأحمدي السيد آصف معين المحترم ذاكرًا خصالَ المرحوم الحميدة: كان المرحوم يتحلى بمزايا عدة، كان رجلا تقيا ورعا ومخلصا ومطيعا، وكان مريضا منذ مدة ومع ذلك كان حريصا على إنجاز أعمال الجماعة. عندما كان يعمل في ولاية رياؤ كداعية إقليمي عملتُ تابعا له، فكان قائدا جيدا. كانت له علاقات جيدة مع الحكومة والمنظمات المختلفة في الولاية، وبسبب ذلك تسنى له إلقاء المحاضرات العدة في شتى الجامعات. إضافة إلى ذلك قد تواصل مع كثير من الجيل الضائع، وعرَّفهم بالجماعة، وقاد حملة واسعة من أجل ذلك في الولاية كلها، وتمكَّن من إقامة فرع محلي للجماعة في سنغيكي من جديد بعد انقطاعه عشرين سنة. وللتواصل مع هذا الجيل الضائع كان المرحوم يضطر للسفر إلى جزر صغيرة عبر السفن وكان الانتقال من جزيرة إلى أخرى يتطلب وقتا من ساعة ونصف إلى ساعتين، وكان رغم مرضه يستنهض الهمة ويقول سأظل أخدم الجماعة إلى آخر لحظة من حياتي ما دمتُ أقدر على ذلك، ونتيجة لأسفاره هذه بايعت أربع عائلات بفضل الله I.
كان المرحوم يتلقى العلاج في المستشفى بسبب الغسيل الكلوي، وفي هذا الوضع أيضا شارك في اجتماع محلي، ولما سأله أحد الخدام لماذا تحملت هذه المعاناة؟ قال له سوف أظل أسعى للمشاركة في كل برامج الجماعة ما دمت حيا، صحيح أني مريض، لكنني أتمنى أن أبقى دوما مشغولا في خدمة الجماعة.
هذه هي عاطفة واقف الحياة وينبغي أن يتمتع بها كل واقف للحياة، لا أن يُبدي الاضطراب لأبسط الأمور، كما يفعل البعض منهم.
كذلك قد كتب الداعية الأحمدي هناك السيد مظفر أحمد المحترم: كنت زميل المرحوم في الجامعة الأحمدية، وآخر مرة لاقيتُه في قاديان، حيث إنه قد زار قاديان السنة الماضية، وكان قبل السفر إلى قاديان شديدَ المرض، وكان يدعو الله I أن يطيل عمره حتى يتمكن من زيارة قاديان. وكان يقول: لقد وفَّقني الله I للاعتمار ببيت الله وتسنَّى لي اللقاء مع خليفة الوقت، وبقيتْ عندي أمنية عارمة في زيارة قاديان. فحقق الله I بفضله هذه الأمنية أيضا، وتشرف بزيارة قاديان. صحيح أن الجلسة في العام المنصرم لم تُعقد لكنهم كانوا قد وصلوا إلى هناك قبل اتخاذ القرار بإلغاء الجلسة، وبذلك سنحت له الفرصة للعبادة بكل حرية. في قاديان تفاقم مرض المرحوم لشدة الطقس والبرد القارس، مما اضطره للعودة إلى إندونيسيا عاجلا، لكن الله I في هذا الوضع الصحي الحساس قد حقق أمنيته الطيبة، فقد سعد بالصلاة في بيت الدعاء وفي المسجد المبارك. أخذتُه إلى بهشتي مقبرة أيضا على كرسي المعاقين، فدعا الله I هناك. كان المرحوم داعية مجتهدا جدا، فلم يستسلم لمرض قط رغم شدته، وكلما عَهدت إليه الجماعةُ مهمةً ما أنجزها على خير ما يرام.
مثل ذلك كتب داعية آخر هناك السيد ساجد المحترم: لم يكن المرحوم يستحيي من استشارة الصغار في شئون التبليغ، فكان كثير التواضع، وكان يملك إرادة قوية، ففي السنة الماضية كان مريضا وحين تحسَّن جاء لحضور اجتماع خدام الأحمدية بقطع مسافة طويلة.
يقول السيد باسوكي المحترم: كان المرحوم داعية مسؤولاً، وحين عُينت قبل ثلاث سنوات في المكتب المركزي، وتواصلت مع الدعاة في ميدان العمل بخصوص البرامج التبليغية، لاحظت أن المرحوم كان يُعدّ خطة العمل للتبليغ بروعة، ولإنجاح هذه البرامج التبليغية كان يساعد الدعاة المحليين والإخوة النشيطين في التبليغ على تنظيم أعمالهم على أحسن وجه، وكان دوما يقول لي، يجب تحديث قائمة المبايعين، لكي يتم تشجيع الإخوة الداعين على العمل. وهذا هو الأسلوب الصحيح أن يُرى عدد البيعات، ويُسأل الإخوة الداعون ويُطلعوا عليها، فبذلك يبقَون نشطين، ويمكن تنشيط الجدد أيضا في نظام الجماعة.
يقول الداعية سرمد المحترم: كان المرحوم يملك كفاءة خاصة لإنجاز أعمال التبليغ. فعندما كنا نُعد خطة عمل لفتح الطرق الجديدة للتبليغ من “بُنتو” إلى منطقة “سوسا” الحدودية في إقليم سومطرة الشمالية، أعدَّ شتى البرامج والخطط بكل عزم وهمة. وهذه الحملة استمرت طويلا، ثم توقفتْ لقلة النفقات، إلا أن نتائجها ظهرت حيث كانت غالبية المبايعين الجدد من المنطقة نفسها. كان دوما يقول: لا تيأسوا أبدا، إذ إن مهمتنا هي التبليغ ونشر البذور، ومن المحتمل أن يكون الحصاد وجني الثمار من نصيب غيرنا. باختصار كان يملك إرادة قوية وأوفى بعهد الوقف بكل وفاء.
رفع الله درجاته، لقد وفى عهد بيعته وعهد وقْفه بوجه حسن، رفع الله درجاته وحفظ زوجته وأولاده وتكفّلهم جميعا.
والمرحوم الثاني الذي سأتناول ذكره هو الدكتور بير محمد نقي الدين من إسلام آباد باكستان، والذي توفي في 18 نيسان/أبريل. إنا لله وإنا إليه راجعون. قبل وفاته بعشرة أيام تقريبًا أُصيب بفيروس الكورونا المتفشي، وظهرت علاماته فدخل المستشفى، وبدأ يتحسن في البداية ولكن بعد ذلك ساءت حالته في 18 نيسان فنُقل إلى العناية المشددة حيث انتقل إلى رحمة الله تعالى في المساء تقريبا. وترك زوجته وابنا واحدا وأربع بنات. وجميعهم متزوجون ويعيشون في بيوتهم. كان أبوه وأمه كلاهما من أولاد أصحاب المسيح الموعود u. وتصل شجرة نسبه إلى الصوفي أحمد جان t. كان جده من أبيه بير مظهر الحق t وجده من أمه ماستر نذير حسين t من أصحاب المسيح الموعود u الكبار. كان بير مظهر الحق t يحظى بشرف كونه زميل الصف للمصلح الموعود t في المدرسة الأحمدية بقاديان. هاجر من لدهيانه إلى قاديان وتشرف بالمكوث في بيت المسيح الموعود u لمدة ستة أشهر تقريبا. وكانت أم الدكتور المرحوم حفيدة حكيم محمد حسين صاحب الوصفة “مرهم عيسى”.
كان بير محمد نقي الدين عند انقسام الهند في عام 1947 يبلغ عاما واحدا من عمره، أي وُلد في عام 1946 فكان عمره 74 عاما تقريبا عند وفاته. هاجر مع عائلته من قاديان إلى لاهور أولا ثم سكن في “ميلسي” بمحافظة “وهاري”. وفي عام 1970 نال شهادة الطب من كلية نشتر الطبية. ثم في عام 1975 أو عام 1976 انتقل إلى إسلام آباد حيث توظف في المستشفى الحكومي “بولي كلينك” واشتغل هناك لمدة ثم ترك الوظيفة وذهب إلى إيران حيث اشتغل لمدة ثلاث سنوات ثم عاد إلى باكستان وفتح عيادته الخاصة في إسلام آباد ومنذ أكثر من خمسة وعشرين عاما كان يشتغل في عيادته بنجاح بفضل الله تعالى، وكان يخدم الفقراء كثيرا.
كتب أمير الجماعة في إسلام آباد الدكتور عبد الباري أن الدكتور بير محمد نقي الدين كان يخدم بصفته قاضيا في جماعة إسلام آباد منذ اثنيْ عشر عاماً، وكان يحكم في القضايا وفق القرآن والسنة وهذا الذي كان يطمئنُّ به الفريقان. كان المرحوم خلوقا للغاية واجتماعيا ومحبا وعطوفا ومواسيا للفقراء ومحبوبا لدى الجميع. وكان يلاقي الجميع بوجه طليق، ولكونه طبيبا كان متميزا في خدمة خلق الله ليل نهار. كان يستقبل المرضى الفقراء من الجماعة في عيادته كل حين، وفي أكثر الأحيان كان يعالج بالمجان. كان لا يستقبل الأحمديين فقط كل حين بل الآخرين أيضا برحابة الصدر. وكان إنسانا نافعًا للناس. كانت دائرة أحبابه واسعة جدا وكان فيها عدد كبير من غير الأحمديين. وكان الله تعالى قد رزقه قوة البيان، فلم يكن يفوّت أي فرصة لتبليغ رسالة الجماعة لأصدقائه غير الأحمديين. وكان يبشر في هذه الظروف أيضا بفضل الله تعالى.
كان المرحوم يقول: حين تلقيتُ شهادة الطب في عام 1970 ذهبتُ إلى جدي حضرة بير مظهر الحق t في ربوة وبلّغتُه هذا الخبر السار أنني أول من حصل على شهادة الطب في أسرتي ففرح جدا وأسدى لي بعض الوصايا وقال ضمنها: عليك أن تدعو للمرضى إضافة إلى مداواتهم، لأن المسيح الموعود u كان يقول إن الطبيب الذي لا يدعو للمرضى ويعتمد على علاجه فقط يقوم بالشرك حقيقة. قال الدكتور نقي الدين: أشتغل في مهنة الطب منذ خمسين عاماً ومنذ ذلك أعمل بوصية جدي هذا وأصف للمرضى الذين يتعالجون على يدي علاجا رخيصا وإضافة إلى ذلك أعاملهم بأخلاق حسنة بل أصلي ركعتَين نفلا يوميا بلا انقطاع وأدعو لهم. هذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه كل طبيب أحمدي، وينبغي ألا يعتمدوا على مهارتهم في المهنة فقط ولا يثقوا بالأدوية فحسب بل عليهم أن يعاملوا المرضى بحسن الخلق ويدعوا لهم أيضا، وإذا صلوا نفلا فهذا جيد جدا.
كتبت زوجة المرحوم السيدة عظمى نقي: كان زوجي أحمديا مخلصا للغاية وكان عنده جنون لتبليغ الأحمدية وبايع عن طريقه عدد جيد من الناس وأقنع الكثيرين بصدق الجماعة. هناك كثير من الناس الذين لا يقبلون الأحمدية بسبب الخوف أو بسبب آخر ولكنهم يقتنعون بصدق الجماعة. فأقنع المرحوم الكثيرين وأفحم البعض بالحجج والبراهين وأصبحت علاقاته أيضا جيدة معهم بعد ذلك. ثم قالت: كان يصلي ركعتين نفلا للمرضى. هي أيضا كتبت هذا ثم قالت: وبسبب حبه للمرضى كان يذهب إلى العيادة في أيام الوباء أيضا لكي لا يقلقوا، واستمر في الذهاب حتى أُصيب بالحمى. ثم كتبت: إضافة إلى ميزاته هذه كاهتمامه بالمرضى وعلاجهم والدعاء لهم كان ابنا بارا بوالديه وزوجا مثاليا وأبا عطوفا ومحبا ومهتما بالإخوة والأخوات والأصدقاء وشخصا نافعا للناس. كانت علاقته مع الله تعالى قوية وكان يدعو كثيرا وكان الله الحي القيوم يستجيب دعواته أيضا. قالت: لم تُنجب إحدى بناتنا ومضى على زواجها عدة سنوات، فكان المرحوم يدعو لها كثيرا، فذات ليلة كنا في بيت هذه البنت، وكان المرحوم قد خرج من دورة المياه بعد الوضوء لصلاة التهجد أو لصلاة الفجر فانحنى انحناءة سريعة فجائية، وحين سألته عن ذلك قال: رأيتُ ابنا على السرير وشعرتُ أنه يكاد يسقط فانحنيتُ فجأة لأمسك به. وهناك رواية أخرى تقول أنه رأى ابنا في الكشف. وبعد هذا الحادث رزق الله تعالى هذه البنت ابنا بفضله تعالى، مع أن الأطباء كانوا لا يأملون ذلك، جعل الله تعالى هذا الابن أيضا صالحا وخادما للدين.
قال ابن أخته السيد أرشد إعجاز وهو زوج ابنته أيضا: كان المرحوم خالي الكبير، لذا أنا من صغري أسمع عنه كثيرا وأراه. كان كثير الدعاء، ومواسيا للفقراء وناكرا ذاته ومراعيا أحكام الله ورسولِه حتى في أصعب الأوقات. كلما أردنا أن نستشير أحدًا في أمور البيت أو في الأمور الدنيوية كان يخطر ببالنا أولا أن نذهب إلى خالنا ونستشيره. إنه رأى كشفا عن فضائية الجماعة ايم تي ايه، لا أدري إذا كان غيري يعلمه أم لا. قال: غالبا في عام 2010 حين لم تكن الجوالات الذكية الحالية ذات شاشة لمس عامّةً في باكستان على الأقل، وكنتُ جالسا عند خالي أسمع لحديثه فقال خالي: قبل فترة رأيتُ إعلانا وكأنه يُؤذن وبعض الناس أخرجوا شيئا من جيوبهم ووضعوه على آذانهم، فاستعلمتُ وعلمتُ أنه سوف يأتي وقتٌ لخطبة أمير المؤمنين وجميع الناس سوف يستمعون إلى الخطبة مباشرة. نرى اليوم تحقق ذلك كل أسبوع. ثم كتب: كان المرحوم يعتبر كونه من نسل الصوفي أحمد جان t شرفا له وكان ينصح أفراد العائلة بأنه ليس من الكمال أن يكون المرء من عائلة وليٍّ صالح بل يجب أن يكون له علاقة شخصية مع الله تعالى. كان يحب جدا تبليغَ دعوة الأحمدية بل كان به جنون للتبليغ. قد كتب كثير من الناس الآخرين أيضا عن شوقه الشديد للتبليغ ولا أستطيع أن أذكر الجميع. باختصار كان يحب التبليغ جدا وكان يقدم الأدلة من القرآن الكريم بأسلوب جيد أثناء التبليغ. وكان يدعو غير الأحمديين إلى بيته أثناء الجلسة السنوية ويقدم لهم طعاما جيدا ويُسمعهم برامج الجلسة وبذلك كانت تبدأ سلسلة التبليغ. ثم قال: حين تفشى وباء الكورونا لم يتوقف خالي عن الذهاب إلى عيادته، فاتصلتُ به عدة مرات وقلتُ له وحاولتُ إقناعه بألا يذهب فكان كل مرة يقول: إذا جلس الأطباء في البيت فماذا يمكن أن يفعله المرضى. وكان يقدم أدلة أخرى حتى كنتُ أُفْحَم. كان يذهب إلى العيادة في حالة المرض أيضا وكان يقول: إننا نأتي هنا للخدمة وهي واجب نؤديه، وليس الهدف من العيادة مجرد كسب المال.
تقول إحدى بناته السيدة نورين عائشة نور الدين: كان والدي أبًا شفيقا وطيب القلب وكثير الدعاء. كان ينصحنا بالدعاء في كل أمر دائما وبإنشاء صلة مع الله تعالى. كلما طلبنا منه الدعاء في أمر من الأمور قال: ادعوا الله تعالى بأنفسكم، وسوف أدعو أيضا، ثم كان يخبرنا بعد استعلام من الله تعالى ويقول لقد رأيت كذا في الرؤيا أو هكذا أخبرني الله تعالى. وفي مجال مهنته كان يعالج آلاف المرضى مجانا، بل يكفلهم. كان يأخذ منهم أجرة قليلة جدا، ولذلك كان معظم مرضاه من الفقراء.
ثم تقول: كان والدي قرآنا يمشي. كلما أردنا أن ينصحنا في أي أمر فكان يقرأ أولاً آية من القرآن عن ظهر الغيب، ثم يترجمها ويشرحها لنا. وكان شديد الحب للخلافة، لما بدأت الخطبة تبثّ على قناتنا ايم تي خلال البث المباشر الذي كان لساعة فقط، لم يلبث أن ركّب الصحن في البيت، لكي يحضر الإخوة إلى بيتنا من أجل الاستماع للخطبة. وبسبب حبه للخلافة كان يدعو العديد من غير الأحمديين ويُسمعهم الخطاب الافتتاحي في الجلسة السنوية ويُريهم مشهد البيعة، وإلى جانب تقديم فعاليات الجلسة السنوية لهم عبر الشاشة كان يهتم بتقديم الطعام لهم بشكل جيد، وكان يقول إن هؤلاء ضيوف سيدنا المسيح الموعود عليه السلام.
وتقول ابنته السيدة وردة: لقد عوّدَنا أبونا منذ الصغر على الصلاة وتلاوة القرآن والصيام وأداء التبرعات في موعدها وإخراج الصدقات. عند زواجنا نحن الإخوة والأخوات لم يهتم إلا بالدين، ولم يكترث للأمور المادية قط. وكان يعلّمنا منذ الطفولة أنه ليس شرطاً أن تتحقق الأمنياتُ فورًا، لذا لا بد من الصبر والدعاء على الدوام.
وقال زوج ابنته السيد عبد القدوس: كانت علاقتي مع صهري كعلاقة الابن مع الأب. كنت أحنّ شوقًا للقائه لكي أتعلم منه أمرًا جديدا، أو تفسير آية، أو دليلا جديدا حول قضية من القضايا الاختلافية.
ويتابع ويقول: لم أكن متباسطًا مع أهل زوجتي في أوائل زواجي، بل كنت أخجل كثيرا، ولكن المرحوم قد عاملني بحب ولطف أزالا كل خجلي.
ثم يقول: لم يكن عنده أي رغبة في الأمور المادية من سياسة أو موضة أو توجهات وميول معاصرة. كانت العبادات والقرآن والعلوم الدينية والأخلاقيات هي وحدها الأمور المحببة إليه. كان ضد البدع كصخرة لا يقدر أحد على زعزعتها. لقد منع بشدة من التقاليد السيئة في مناسبات الزواج، وإذا ما غنّت البنات في مثل هذه المناسبات شعرًا فيه شائبة الشرك نهاهن عنه فورًا وبشدة وصرامة.
وقالت ابنته السيدة قرة العين هادية: لقد أوصاني والدي وقال: لا تحملي حقدًا ضد أحد، واعتبري أهلَ زوجك أهلاً لك، ولا تؤذي أحدا لا باللسان ولا بالعمل. وقال أيضا: يا ابنتي، أن تحسني معاملة من أحسن معاملتك ليس ميزة، إنما الميزة أن تحسني إلى من أساء إليك.
وهذا ما يعلّمنا الإسلامُ، وهذا ما نبهنا إليه حضرة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في هذا العصر وقال إن هذا الأمر وهذه الأخلاق السامية هي التي سوف تلفت أنظار الآخرين إليكم وتجتذبهم إليكم.
وتقول أيضا: وقال لي أبي: الفتنة والفساد أكبر من القتل، فمنعًا للفساد تذللوا تذلُّلَ الكاذب مع كونكم صادقين.
هذه أيضا نصيحة غالية قد أوصانا بها حضرة المسيح الموعود عليه السلام، وهذه هي النصيحة التي لو نصح بها الآباء والأمهات أولادهم لتَمَكَنّا من إقامة مجتمع جميل.
ويقول ابن المرحوم السيد بير محيي الدين: رأيت في الرؤيا أن حضرة الخليفة الرابع يلقي الدرس في صالة بيتنا، وأنا جالس هنالك، فخاطبني وقال: إنه ليس مجرد بيت بل هي عتبة تنال منها الفيوض، فلا تترك هذه العتبة أبدًا. ثم خاطبني وقال: إن أباك ولي لله تعالى. ثم قال: تيقَّنْ أن أباك ولي لله تعالى.
كان أبي يواسي الفقراء جدا، وكان يتكفل عائلات كثيرة حيث كان يقدم لهم منحة شهرية لسد نفقات طعامهم وتعليمِ أولادهم ودوائهم وعلاجهم. وكان يعالج أكثر من نصف مرضاه مجانًا.
وكتب زوج بنته السيد عبد الصمد: كان المرحوم يحب القرآن الكريم حبًّا جمًّا، وكلما أراد تقديم دليل قرأ آية من القرآن الكريم ثم قدم ترجمتها. وكلما قال له أحد من غير الأحمديين: أَرِني آية أو معجزة لمرزا غلام أحمد، كان يرد عليه: أنا معجزة من معجزاته. كان أحمديا كاملا حقًا. كان مثالاً صادقًا للآمال التي عقدها حضرة المسيح الموعود عليه السلام على أبناء جماعته. كان ذا شخصية طيبة، فكل من قابله مال طبعه إلى الخير.
هذه هي ميزة الإنسان الصالح، فجلساؤه أيضا يصبحون صالحين.
ولم يكن يقول إنني أنا الآية بتقديم بعض الأدلة العلمية، بل عندما كان بعض غير الأحمديين يظن أنه يمزح في قوله هذا، كان يقول له إني لا أمزح بل هذا هو الحق. وكان يُقنع الآخرين بهذا الدليل، أي أنه كأحمدي وكثير من الأحمديين الآخرين الذين يعملون بالتعاليم حقًا هم آيةٌ حيّةٌ ومعجزة على صدق حضرة المسيح الموعود عليه السلام.
فهذا هو المعيار الذي يجب على كل أحمدي أن يبلغه، أعني أن يصبح بنفسه آية بدلاً من أن يبحث عن الآيات القديمة.
كذلك كتب السيد عبد الرؤوف، نائب أمير جماعتنا بإسلام أباد (باكستان): لقد قال لي كثير من الناس أنهم لا يعرفون أيَّ طبيب غير المرحوم، فماذا نعمل الآن. هناك كثير من أبناء جماعتنا الفقراء الذين لم يجدوا مشكلة في العلاج قط، إذ كانوا يصلون بدون أي تفكير إلى عيادة الدكتور نقي الدين المرحوم ويتعالجون على يده. وقد قال كثير من غير الأحمديين أيضا أن المرحوم كان كبيرَ عائلتنا، فكنا لا نعمل شيئًا إلا بعد استشارته. فليس الأحمديون فقط بل غير الأحمديين أيضا كانوا يطلبون منه المشورة في أمورهم الخاصة. كان الطبيب المرحوم يحل الخصومات والقضايا العائلية لبعض العائلات غير الأحمدية أيضا، إذ كان يعمل في عيادته هذه منذ حوالي 40 عاما، وكان الأب يأتيه أولا، ثم يبدأ أولاده يزورونه من أجل العلاج. كان الطبيب المرحوم قد حكى قصصا عديدة للناس، حيث كان بعض غير الأحمديين ينصحون أولادهم قبيل الوفاة أن يستشيروا دائما الطبيب نقي الدين عند أي خلاف أو خصومة.
ويتابع ويقول: في آخر جمعة في شهر مايو في العام المنصرم 2019 حضر الطبيب المرحوم إلى مكتبي بعد صلاة الجمعة وأغلق وراءه الباب وقال: أريد أن أخبرك بأمر لا يعلمه إلا زوجتي. ثم قال: قبل أربعة أيام رأيت في الرؤيا ساحة قتال قد تبعثرت فيها الجثث، وأنا واقف هنالك وأقول في نفسي: لماذا لم أُعَدَّ مِن بين هؤلاء الشهداء؟ فتناهى إلى سمعي صوت سيدنا المسيح الموعود عليه السلام وهو يقول: مَن أصابته خمسة جروح فهو شهيد. فالتفتُّ إلى الوراء وإذ سيدنا المسيح الموعود عليه السلام واقف على مكان مرتفع كقائد جيش. فبدأت أعدّ جراحاتي، فكانت ثلاثة منها غائرة جدا، بينما كانت هناك خدشات بسيطة جدا على إحدى رجلي. فبدأت أستغفر الله تعالى، ثم استيقظت. وبينما كنت أفكر في معنى هذه الرؤيا، ألقي في قلبي بكل قوة فكرةُ التبرعات، وقلت يجب علي حساب تبرعاتي، يبدو أنني قد قصرت فيها.
يقول: في اليوم التالي لما استيقظت لصلاة الفجر ألقي في قلبي بكل قوة أنني لم أقم بحساب تبرعاتي حتى الآن.
ثم قال: وفي الصباح ذهبت وفحصت الحسابات، فوجدت أني لم أحسب التبرعات على بعض أموالي. وقد أعطيت اليوم سكرتير المال صكاً بعشرة آلاف روبية، وأنا أُكثِر من الاستغفار منذ ذلك اليوم.
وقال ابن أخته السيد عزيز الرحمن ابن السيد مجيب الرحمن المحامي: لقد سمعت من المرحوم قصص حياته من الطفولة وما بعدها مرارا. لقد أصبح طبيبًا في ظروف صعبة وغير ملائمة جدا بمحض فضل الله تعالى ثم ببركة دعاء والديه. كان المرحوم يقول: لقد مرّت عليّ أيام كنت لا أملك المبلغ لشراء الورق لأقوم بعمل المدرسة عليها، فكنت أجمع الظروف البريدية المستعملة وأفتحها وأسجل وراء ظهرها ملاحظاتي الدراسية وغيرها. كذلك كان المرحوم عندما يدرس في مدرسة القرية لم يكن فيها معلم لمادة الرياضيات، فكان يذهب إلى قرية أخرى ليتعلم من معلم الرياضيات هنالك، ثم يرجع إلى قريته ويعلّم زملاءه في الصف ما تعلم منه.
لقد قص علي المرحوم قصة شيقة تبيّن كيف اعتاد المداومة على الصلاة فقال: ذات مرة عندما كنا صغارا ظللت أنا وإحدى أخواتي نلعب ثم نمنا بدون أداء صلاة العشاء، ولما سألتنا أمنا هل صليتما؟ قلنا ونحن نيام: نعم لقد صلينا. ثم عند منتصف الليل جاءتنا أمّنا وأيقظتنا وهي تبكي وقالت: لقد كذبتما في قولكما إنكما قد صليتما. حيث كان الله تعالى قد أخبرها بحقيقة الأمر من خلال الكشف، ولم نترك الصلاة بعدها أبدًا.
فهكذا كانت ويجب أن تكون الأمهات الأحمديات قلقات وحريصات على تربية أولادهن وعلى صلواتهم ومن أجل الدعاء لهم، فإن والدة المرحوم لما قامت بالدعاء بلوعة وحرقة، أراها الله بالكشف حقيقة الأمر بأن الأولاد لم يصلّوا، فأيقظيهم ليصلّوا، فأيقظتْهم وهي تبكي، وكان لفعلها هذا تأثير كبير لدرجة أننا لم نترك الصلاة في حياتنا قط.
كان المرحوم يدعم معظم كلامه بالقرآن الكريم، ويقول: إن لم تنشأ العلاقة الحية مع الله تعالى فلا يمكن أداء حق بيعة المسيح الموعود u لأن الهدف الوحيد من بعثته كان خلق علاقة حية بالله I.
يقول ابن أخته الدكتور عطاء الرحمن: كان يتدبر القرآن الكريم دائما، وكان علمه للقرآن الكريم عميقا. وكان قد حفظ كثيرا من الآيات القرآنية الطويلة. كان يدعو إلى بيته في باكستان معارضي الجماعة الأشداء على الرغم من ظروف قاسية سائدة هنالك ويُسمعهم خطب الجمعة ومجريات الجلسة، كان الناس يتأثرون بتبليغه الدعوة، وقد انضم العديد منهم إلى الجماعة بفضل الله تعالى.
والآن سأذكر المرحوم السيد غلام مصطفى الذي كان يسكن في لندن ثم انتقل إلى تلفورد لاحقا، وكان يعمل متطوعا في مكتب السكرتير الخاص منذ كان المكتب في لندن، وقد توفّي في 25 أبريل/نيسان عن عمر يناهز 69 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد بايع المرحوم في عهد الخليفة الثالث رحمه الله في عام 1983م. وحين انتقل إلى لندن في عام 1986م، مكث في المسجد وقدم الطلب لوقف الحياة فورا. ولكن لما كان مستوى تعليمه بسيطا، ربما لهذا السبب لم يُقبل طلبه. ولكنه ظل يعمل كواقف الحياة في المطبخ ثم في المكتب. كان صفر اليدين في البداية ولكن الله تعالى بارك في عمله كثيرا حتى ازدهرت تجارته ووفقه الله تعالى لشراء بعض العقارات ثم لشراء عقارات أخرى. وبسبب البركة في التجارة وفقه الله للإنفاق على الفقراء والجماعة أيضا. وعاش وعمل كواقف الحياة، كما قلت آنفا، من البداية أي في عهد الخليفة الرابع رحمه الله وفي عهد خلافتي أيضا، لدرجة أنه كلما أراد السفر إلى خارج البلد لأمر من أمور التجارة أو لأي شغل آخر أو أراد عطلة طويلة من المكتب كان يطلب العطلة رسميا، وكان يقدم الطلب خطيا أنه بحاجة إلى عطلة لأنه يريد السفر إلى مكان كذا وكذا. لقد عمل كواقف الحياة دوما. كان المرحوم يقول: لستُ واقف الحياة رسميا ولكني أحسب نفسي كواقف الحياة.
باختصار، لقد حقق بكل إخلاص ووفاء عهده الذي قطعه بنفسه وبالله تعالى لوقف الحياة وإن لم يكن واقف الحياة رسميا.
عندما كان يسكن في المسجد في البداية أرسله أحدهم للعمل في فندق، حيث أُعطي العمل كنادل، ولكن لم تعجبه هذه الوظيفة، فتركها في اليوم التالي وقال: المال الذي أحصل عليه من هذه الوظيفة أفضّل عليه أن أغسل الأواني دون مقابل في دار الضيافة للمسيح الموعود u. ثم بدأ العمل مع السيد ولي شاه في مطبخ مسجد “فضل”. وقد عمل لبعض الوقت في قسم الحراسة أيضا. وفي عام 1993م، عيّنه الخليفة الرابع رحمه الله في مكتب السكرتير الخاص، ومنذ ذلك الوقت أدى هذه الوظيفة على أحسن وجه كما قلت سابقا.
كان المرحوم منخرطا في نظام الوصية، وترك وراءه أرملة وابنتين وابنا.
تقول أرملته السيدة محمودة مصطفى: كانت رفقتنا ممتدة على مدى 34 عاما تقريبا، وأستطيع أن أشهد عن هذه السنين كلها أن كل خطوة خطاها المرحوم كانت لوجه الله تعالى. وكان متحليا بصفات حميدة كثيرة، فكان زوجا مخلصا وأبا حنونا وأخا وصديقا مخلصا. كان يهتم بعلاقات القرابة على أحسن وجه. كان بعيد النظر، يساعد الجميع ويقوم بخدمات عفيفة، وكان شجاعا وغير هياب. كان شخصا فانيا في الخلافة. كان يقول: عندما بايعت في باكستان قطعتُ على نفسي عهدا أنني سأعيش قرب الخليفة دوما. عندئذ لم تكن لديه وسائل كافية، ولكنه وفّى بفضل الله تعالى بما عاهد إذ قد هيأ الله له الأسباب أيضا. كانت لديه رغبة عارمة لتقديم التضحيات المالية. عندما وُلد لنا ابنٌ قلتُ: سأقدم نصف الحُليّ التي عندي للجماعة، فقال فورا: لِمـاذا النصفُ، قدّميها كلها.
عندما طُرح على البساط مشروع بناء المساجد في أفريقيا في البداية، لم يكن عندنا بيت حينذاك، ولكن كلما جمع المرحوم نقودا كان يتبرع بها في هذا المشروع. كان ينفق على نفسه قليلا جدا لدرجة البخل بينما كان ينفق على الآخرين بسخاء وبغير اكتراث. لقد آثر الدين في كل الأحوال وكذلك كسب الدين والدنيا كليهما كمؤمن صادق. وصاحبني في كل أمر لأكون على علم بكل شيء، ووثق بي ثقة كاملة.
تتابع زوجته قائلة: كان المرحوم أحمديا وحيدا في عائلته. عندما بايع قطع مع نفسه عهدا أنه لن يأخذ شيئا من ورثة أبيه، ودعا الله تعالى قائلا: يا ربي إن كان مسيحك هذا صادقا- وقد بايعته حاسبا إياه صادقا- فارزقني من عندك ولا تجعلني محتاجا لأحد. وقد حقق الله تعالى أمنيته هذه وأثبت أن الخطوة التي اتخذتَها أي خطوة البيعة إنما هي صحيحة حقا. ثم أعانه الله تعالى ونصره بشتى الطرق. لقد بنى المرحوم مسجدا كبيرا في قريته في باكستان، واضعا في الحسبان أن أهلها سينضمون إلى الأحمدية يوما من الأيام على أية حال. إضافة إلى ذلك كان يساعد أقاربه بمن فيهم إخوته وأخواته بشتى الطرق. كان واثقا بشدة في استجابة أدعيته. وقد كتبت زوجته أحداثا كثيرة بهذا الشأن.
ثم تقول ابنة المرحوم: كان محور حياة والدي هو حب الله تعالى وحب الخلافة التي أقامها الله تعالى. كان كامل التوكل على الله تعالى، كان كثيرا ما يخبرنا أنه دعا بكذا وكذا بمناسبة كذا وقد استُجيب له فيما دعا.
كان حريصا دائما للحصول على تبرّك من الخليفة، وإن حصل عليه كان يحتفظ بنصيبه منه حتما ثم يوزعه على الآخرين قليلا قليلا لسيتفيدوا منه. كان يحتفظ بالتبرك في البيت ليعطي شيئا منه ضيوفا قادمين للجلسة. لقد اتصل بي كثير من معارف والدي وقالوا: نشعر كأننا أصبحنا يتامى مرة أخرى. كان يساعد الفقراء كثيرا. عندما كنا نسكن في لندن، انتقلنا من منطقة “تونتغ” إلى شارع “غريسن هال” كان يسعى جاهدا للحصول على بيت واسع حتى يتمكن من خدمة ضيوف المسيح الموعود u على أحسن وجه. كان يقول دائما أنه يجب أن نحصل على بيت قرب مقر الخلافة ولا نريد العيش بعيدا عنه أبدا. كان والدي يساعد الجميع بكل إخلاص. إذا واجه أحدٌ كربةً أو صعوبة بذل كل ما في وسعه لتفريج كربته وعنائه. وقال في النصيحة الأخيرة التي أسداها لي قبل مرضه الأخير: كوني مرتبطة بالجماعة، والتزمي بالصلاة وتلاوة القرآن الكريم وسيكون الله معك دوما. هذا ما قالته ابنة المرحوم الصغرى، وتقول السيدة مديحة مصطفى، ابنته الكبرى: صحيح أن والدي كان قد جاء من قرية ولم يكن مثقفا كثيرا، ولكن أفكاره وبُعد نظره ومبادئ حياته جعلته سباقا على كثير من المثقفين. ففي العصر الراهن هناك قلة قليلة من الناس الذين يعطون المرأة مكانة متساوية للرجال بالمعنى الحقيقي. أما والدي فلم يحسب البنات عبئا قط، بل كان كثيرا ما يقول: مَن رُزق بنتا فقد أفلح، وانتهت أيام مشقته وبدأت أيام راحته. لقد أدى واجب تعليم ابنه وبنتيه على حد سواء وعلى أحسن وجه ولم يقصّر في ذلك قط. ولكن إلى جانب حب الأولاد لم يغفل عن حقوق الله وحقوق العباد قط. ولم يترك الصلاة تفوت مهما كان مستوى مشاغله، مثل أيام العيد أو زواج ابنة وما شابهها. كان متوكلا على الله تعالى، وكان واثقا أنه لن يتأخر له عمل. وكان دائم القلق والانتباه ألا يحدث النقص في العبادة فيكون مدعاة لسخط الله تعالى.
يقول ابنه السيد سَرْفراز محمود: عندما كنا نسكن في منطقة “توتنغ” كنا حينها أيضا نذهب للصلاة في مسجد الفضل بالتزام. وإذا لم نتمكن من أداء الصلاة جماعة في المسجد كنا نصلّي في البيت جماعة حتما. كان والدي يقول لي: إذا أردت أن تنال شيئا فاعلمْ أن الله تعالى وحده قادر على تحقيق بُغيتك. كلما حانت الصلاة كان والدي يترك المشاغل كلها ويؤدي الصلاة فورا. كان يصحبني لصلاة الفجر بالتزام منذ أن بلغتُ من العمر 15 عاما. إنها لبركات أدعيته التي تصلنا. وكلما عاد من المسجد بعد صلاة الفجر تفقّد هل ذهبتُ أنا للصلاة أم لا. وإذا صدر مني التكاسل في ذلك أحيانا كان يقول لي: إن عدم الإخلاص لله تعالى مضرّ لك فقط، وليس الله بحاجة إلى صلاتك، فصلاة كل إنسان تفيده وحده.
يتابع ابنه قائلا: طلبنا الإسعاف عند تدهور حالته حيث كان يجد صعوبة بالغة في التنفس، ولكنه في هذه الحالة أيضا كان يصلي قائمًا بدلا من أن يؤدي صلاته جالسًا أو مستلقيا. وعند وصولنا إلى المشفى ولما كنا ننزل من الدرج أكد عليّ مرة بعد أخرى ناصحًا: داوم على الصلاة بالجماعة وأدّها على وقتها.
أما بالنسبة إلى خدمة ضيوف المسيح الموعود u، فكان يُقيم في بيتنا قرابة أربعين ضيفًا من ضيوف الجلسة السنوية لأن بيتنا كان كبيرًا سابقًا، فلما انتقلنا إلى مكان أقرب إلى المسجد وكان بيتنا صغيرًا مع ذلك كان يحوي خمسةً وعشرين ضيفًا؛ مع أنه كان صعبًا جدًّا تدبيرُ إقامة خمسة وعشرين ضيفاً في بيت صغير إلا أنه كان يفعل ذلك بكل سرور. (لقد سألته أنا أيضا عدة مرات عن ذلك فقال بأننا نسلم البيت للضيوف أما نحن فندبر حالنا كيفما استطعنا)
كان يقول دائمًا: ينبغي أن نتقدم بالدين والدنيا معًا، ولكن تذكروا أنه ليس سهلا، وبالتالي كلما واجهكم أمر دنيوي مقابل أمر ديني فآثروا الدين على الدنيا دومًا. هذا ما وصّى به أولاده دومًا.
يقول ابنه بأنه كان ينصحني دائما أن كل ما نملكه هو أمانة بأيدينا لجماعة الله تعالى، لذلك يجب علينا حفاظته وتنميته بنية استخدامه لصالح الجماعة.
كان ينصح دائمًا ألا نتأخر في أداء التبرعات، وكان هو بنفسه يؤدي تبرعاته في اليوم الأول من كل شهر. وكان يقول لي: لا تظننّ أبدًا أن الجماعة بحاجة إلى تبرعاتنا بل نحن نستطيع بالتبرعات أن نجذب نعم الله تعالى.
يقول ابنه: في الأيام الأخيرة من مرضه -قبل أن يدخل في الغيبوبة- آخر ما تكلم به قبل وضعه على جهاز التنفس الصناعي هو أنه قال لي: يا سرفراز! أعرف أن اليوم الأول من الشهر قد مضى، ولكن اذهب إلى خزانتي ففيها جميع ملفاتي وفيها جميع حسابات تبرعاتي، فأدِّ جميع تبرعاتي وفقها، وتذكّرْ نصيحتي دومًا أن تؤدّي كل تبرعاتك في اليوم الأول من كل شهر ولا تتأخر أبدًا.يقول حموه كرامت الله: لقد أدّى عزيزي مصطفى حق القرابة بكل إخلاص مع أرحام زوجته وكان يعتبرني في درجة والده الحقيقي. لقد قضى حياته كلها في عبادة الله تعالى خادمًا عند عتبات الخلافة.كذلك يقول نسيبه (زوج بنته) السيد بلال: كان يعطيني بعض الأدعية القرآنية ومقتبسات من كلام المسيح الموعود u مصورة، كما كان يرسلها إلى أولاده وأصدقائه وأقاربه أيضا ناصحًا إياهم أن يحفظوا الأدعية ويقرؤوا المقتبسات. ولقد رأيت أنه كان يحصل على نسخة لدرس كان يلقى في مسجد الفضل، وكان يقرأه مرة أخرى عند وصوله إلى البيت، ثم كان يعطيه للجميع للقراءة، كما كان يأخذ بجواله صورة ويرسلها إلى إخوته غير الأحمديين وأولادهم، وبعد ذلك كان يسألهم على الهاتف إذا كانوا قد قرؤوها أم لا، وهكذا كان يقوم بالتبليغ.كان مضيافًا، فكان دائمًا يأتي يوميًّا ببعض الضيوف إلى البيت، هذا كان دأبه في الأيام العادية، أما في أيام الجلسة فكان الضيوف يأتون ويذهبون أربعاً وعشرين ساعة، وكان يقول للضيوف: اعتبروا هذا البيت بيتَكم ويمكنكم أن تدخلوا وتخرجوا في أي وقت تشاؤون، ولا داعي للاستئذان. كان يكرم ضيوف المسيح الموعود u بشكل خاص وكان يقول لهم إن أبوابي مفتوحة لكم في كل الأوقات. إن أتى أحد إلى بيته بمناسبة الجلسة وأقام عنده مرة، ثم في السنة المقبلة أقام في مكان آخر فكان ذلك يثير قلقًا شديدًا عنده لأنه كان يفكر أن ما منعه من مجيئه إلى بيته هو التقصير في خدمته وأداء واجب الضيافة تجاهه. ثم كان يحاول قدر المستطاع أن يأتي بهذا الضيف إلى بيته رغمًا عنه.كان قد رتب أموره الدنيوية وتجارته بشكل لا تحول دون أدائه الصلاة على وقتها. وبالتالي فكان يترك كل أعماله ويأتي إلى المسجد في أوقات الصلاة.ويقول أخو زوجته السيد سهيل أحمد شودري: كان المرحوم من أولئك الذين يحبون ثلاثة أمور إلى حد الجنون؛ الأول: العبادة، الثاني: الخلافة، الثالث: الضيافة. كان بيت الأخ مصطفى يقدّم مشهد دار الضيافة لامتلائه بضيوف المسيح الموعود u.يقول السيد أسلم خالد وهو يعمل في مكتب السكرتير الخاص: كنا نلتقي به يوميًا في مكتبنا، كان المرحوم يتحلى بأوصاف عالية، كان شجاعًا، سباقًا في كسب الحسنات، مهتمًّا بالفقراء ومضيافا وفياضا في أداء التبرعات. كان دائم البحث عن الأعمال الحسنة والعمل بها. كان لديه حرص شديد للعمل في المكتب لدرجة أنه كان يتطلع إلى أخذ أعمال الآخرين لينجزها هو. وكان يقول دائمًا: هذا هو ربحي ومكسبي الحقيقي. وكان يفرح قائلا: هذا هو العمل الصحيح الذي أقوم به الآن.يقول السيد فهيم أحمد بهتي وهو أيضا يعمل متطوعًا في مكتب السكرتير الخاص: لعل المرحوم بدأ العمل في المكتب منذ 1992، وفي تلك الأيام كان عدد العاملين قليلا جدًّا، إلا أنه كان يأتي بانتظام ويقوم بأعماله، وكان عاملا وفيا ومضحيًّا. كان يملك صفات حميدة كثيرة وأبرزها وأحبها التي هي جديرة بأن يغبط عليها، حبه القلبي للخلافة وطاعته لها واسترشاد الخليفة حتى في بعض الأمور الصغيرة. لقد وسّع الله تعالى عليه رزقه، وكلما ذكر ذلك قال: لقد رزقني الله تعالى كل هذا ببركة العمل في هذا المكتب وحضوري على هذه العتبة.
يقول الدكتور طارق باجوه كانت أواصر الصداقة تربطني بالمرحوم منذ عام 1980 -1981، ولقد رأيته عن كثب منذ قبوله الأحمدية وحتى وفاته. كان يتميز بأوصاف حميدة كثيرة ولا سيما أنه كان متوكلا على الله تعالى وعاشقا للخلافة. كانت قد رفعتْ عليه بعض القضايا المتعلقة بالأراضي في محاكم البنجاب فانتقل هربا من الشرطة إلى “سندهـ” وأخذ يقيم عند أحد أقاربه، وهنا تعرف على الأحمدية واستمرت سلسلة الدعوة والتبليغ إلى ثلاث سنين متواصلة، ظل خلالها يرفع الأذان في مسجد الأحمديين، الأمر الذي كان يحبه منذ البداية. وفي النهاية رأى رؤيا أدت به إلى اتخاذ قرار البيعة فورًا. وكانت الرؤيا كما يلي: رأى أن الخليفة الثالث للمسيح الموعود u قد جاء إلى بيته وقال مبتسمًا: إنني بحاجة إلى اثنين من الشباب الخدّام، ثم أشار إلى السيد سليم وقال له: تعال أنت، ثم أشار إليه أي إلى السيد مصطفى وقال له أيضا: تعال أنت. وبعد هذه الرؤيا بايع. كان يشترك في اجتماعات الجماعة وغيرها من النشاطات قبل البيعة أيضا، ولكنه قطع شوطًا كبيرًا في الرقي في الإخلاص بعد البيعة، وبكثرة استماعه إلى الخطب ومجالس الأسئلة والأجوبة كسب ثقة في نفسه لدرجة أنه كان يقول بأنني كاف للمشايخ غير الأحمديين فلا أحد منهم يمكن أن يصمد أمامي.
لقد وفق لأداء العمرة مرات عديدة ثم وفقه الله تعالى لأداء فريضة الحج في عام 2010. كان يكن حبًّا كبيرًا لقاديان ولأجل ذلك كان كثيرا ما يزورها. كانت لديه رغبة في أن يكون له بيت في مركز الجماعة، فعمّر بيتًا في قاديان ثم قدّمه للجماعة.
يقول الدكتور إبراهيم ناصر بهـتي الذي كان يعالج المرحوم: ليست معرفتي بالسيد غلام مصطفى قديمة. غير أنه قد أتيحت لي فرصة الاهتمام به كطبيب مستشار خلال مرضه الأخير. (كان هو الطبيب المشرف في المشفى الذي أدخل فيه السيد مصطفى فصار مريضًا عنده، يقول:) لقد رأيته في مرضه الأخير وعاينت في هذه الفترة القليلة بعض الأمور الهامة الجديرة بأن تذكر. مع تفاقم مرض فيروس كورونا الذي تعرض له كان متمسكًا بشدة مبدأ الرضا برضى الله تعالى. أتذكر أنني جئته وقلت له لعلك لن تستعيد صحتك نظرًا إلى شدة المرض، فسمع ذلك وصمت قليلا ثم قال: أرضى بمشيئة الله تعالى. لم يكن على وجهه أي أثر لحزنٍ أو قلق بل كان مطمئنًّا.
يقول الدكتور: والأمر الآخر الذي أثّر في نفسي كثيرا هو حبه للخلافة. بسبب شدة المرض كنا بحاجة إلى أن نستخدم ماكينة CPAP للضغط الهوائي الإيجابي المستمر ولإيصال الأوكسيجين، وإنها ماكينة شديدة بحيث إن استخدامها يسبب ضيقا لدى المريض ويؤدي أحيانًا إلى حدوث حالة خطيرة لديه. فلما كان يبدي تضايقًا شديدًا حيال هذه الماكينة يأتيه أفراد عائلته ويقولون بأن خليفة الوقت أرسل لك رسالة (وكانوا يوصلون له رسالتي) أن تتصرف وفقما يملي عليك الأطباء. كنت أرى أنه كلما تلقى رسالة من الخليفة كان يهدأ ويطمئن ويصبر على الماكينة، وكأن همته قد ازدادت وكأنه كسب قوة في جسمه.
يقول: ورأيت كذلك أنه لم يكن يتناول أدوية العلاج بالمثل ليستعيد الصحة بل كان يستخدمها لأن هذه الوصفة وصفها الخليفة له. كانت له علاقة المحبة والوفاء عديمة النظير مع الخلافة، وهذا الأمر تأثرت به جدًّا.
رفع الله تعالى درجات جميع المرحومين، وعاملهم الله تعالى بلطف أكثر من وفائهم مع دين الله تعالى ومن سعيهم لتحقيق عهود بيعتهم. إنهم من الشهداء كما قال المسيح الموعود u. حفظ الله تعالى أولادهم ورعاهم، ووفقهم للعمل بحسناتهم والاستمرار فيها. ندعو الله تعالى أن يكون هؤلاء ممن ينشئون علاقة وطيدة مع الله تعالى ويرتبطون بالجماعة والخلافة بعلاقة الوفاء دومًا، وأن يستجيب الله تعالى في حقهم دومًا تلك الأدعية التي كان آباؤهم يدعون بها لهم. آمين.