خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 8/5/2020
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
سأذكر اليوم أحد الصحابة البدريين وهو خباب بن الأرت t. كان ينتمي إلى بني سعد بن زيد. والده الأرت بن جندلة، وكان يكنى بأبي عبد الله وقيل أبو محمد، وقيل أبو يحيى. لقد سُبي في الجاهلية وبيع في مكة. كان مولى عتبة بن غزوان، وقيل كان مولى لأم أنمار الخزاعية التي كانت حليفة لبني زُهرة. كان سادس ستة أسلموا. كان من الأوائل الذين أظهروا إسلامهم فتحملوا مصائب شديدة. أسلم خباب قديمًا، قبل دخول النبي r دار الأرقم ليدعو فيها.
روى مجاهد أن أول من أظهر إسلامه ملبيًّا دعوة رسول الله r هم: أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وسمية أم عمار. فأما رسول الله r، فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، (هذا ما كتبه أحد الكتاب في سياق معين، ولكن يبدو أنه غاب عن باله عندما كتب: منعه عمه أبو طالب أو منعه الله بعمه، أن النبي r لم يُعصم من ظلم مشركي مكة، كما أن أبا بكر أيضا لم يُعصم منه، بل تعرض للظلم والتعذيب والتاريخ خير شاهد على ذلك، بل وتعرض أبو طالب نفسه أيضا للظلم. يقول هذا الكاتب بأن هؤلاء حُفظوا من الاضطهاد، ولكن كما قلت بأن هذا رأيه الخاص لأن التاريخ يقول بأنه لم يُعصم من الاضطهاد النبي r ولا أبو بكر رضي الله عنه. على أية حال بعد ذكره ذلك يقول الكاتب:) وأما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس.
وقال الشعبي: إن خبابًا صبر، ولم يعط الكفار ما سألوه (أي الكفر بالإسلام)، فجعلوا يلزقون ظهره بالرضف، حتى ذهب لحم متنه. هذه الرواية من “أسد الغابة”.
وهناك واقعة تتعلق بخباب وحدثت عند قبول عمر الإسلام. لقد سردها مفصلة مرزا بشير أحمد في كتابه “سيرة خاتم النبيين” كما يلي: لم يمر على إسلام حمزة إلا بضعة أيام وقد أرى الله تعالى المسلمين مناسبة أخرى للفرحة وهي إسلام عمر الذي كان إلى الآن من أشد المخالفين. (وقصة إسلامه أيضا ممتعة جدًّا. لقد سمعها أو قرأها كثير من الناس ولكنني أذكر هذا التفصيل الذي سجله مرزا بشير أحمد وهو ضروري في سياق ذكر خباب.)
كان طبع عمر قبل الإسلام يتسم بالشدة والقسوة الزائدة، ولكن عداوة الإسلام قد زادتها أكثر. فكان عمر قبل إسلامه يعذب الفقراء والمستضعفين من المسلمين بسبب إسلامهم. ولكن عندما تعب من إيذائه لهم وإيلامهم دون أن يرى رجوع أحد منهم عن الإسلام، خطر بباله أن يقضي على مؤسس هذه “الفتنة” أي النبي r. فخرج قاصدًا النبي r والسيف بيده، فرآه صديق له في الطريق حاملاً سيفه بغير جراب فسأله: إلى أين تذهب؟ فقال عمر: أريد أن أقتل محمدًا (r). فقال له: أتظن بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض إن قتلت محمدًا؟ تفقدْ أولا بيتك! فإن أختك وزوجها قد أسلما. فرجع عمر لتوّه قاصدًا بيت أخته فاطمة. وعندما بلغ بيت أخته سمع صوت تلاوة القرآن الكريم في الداخل، وكان “خبّاب بن الأَرَتّ” يُسمعهما القرآن الكريم بصوت جميل. سمع عمر هذا الصوت فازداد غضبًا وغيظًا، فدلف إلى البيت مسرعًا. اختبأ خبّاب فور سماعه صوت الخطوات المتسارعة. وقامت فاطمة بإخفاء الأوراق القرآنية جانبًا. (وفاطمة هي أخت عمر) دخل عمر وقال بصوت جهوري: لقد سمعت أنكما تخليتما عن دينكما. قال هذا وأراد ضرب زوج أخته سعيد بن زيد، تقدمت فاطمة لإنقاذ زوجها فأصيبت بجرح إلا أنها ردّت بشجاعة: نعم، لقد أسلمنا، فافعل ما بدا لك ولا نستطيع أن نتخلى عن الإسلام الآن. كان عمر قاسيا وخشنًا إلا أنه أحيانا تتجلى تحت ستار تلك القسوة المحبةُ والرفق أيضا. فلما سمع قول أخته النابع عن الشجاعة رفع بصره ونظر إليها فإذا وجهها مصبوغ بالدم. لقد أثر هذا المشهد في قلب عمر تأثيرًا عجيبًا، فصمت قليلا ثم قال لأخته: أريني ذلك الكلام الذي كنتما تقرءانه. قالت فاطمة: لن أعطيك إياه لأنك تضيع تلك الأوراق، فوعد عمر أنه لن يفعل وسوف يردها إليها بعد الاطلاع. قالت فاطمة: ولكنك نجس وغير طاهر، ولا يمكن مس القرآن إلا بعد الطهارة، فعليك أن تغتسل أولا ثم أريك إياها فيمكنك الاطلاع عليها.
يقول مرزا بشير أحمد: لعلها كانت تريد من اغتسال عمر أولا لكي يزول به غضبه وبالتالي يمكنه أن يفكر في الأمر بهدوء البال.
فلما انتهى عمر من الغسل أخرجت فاطمة أوراق القرآن وقدمتها أمامه، فتناولها فإذا هي الآيات الأولى من سورة طه، فراح يقرأ فيها بقلب مرعوب، وكانت كل كلمة منها تدخل إلى قلبه فتوقظ فطرته السعيدة وتُظهر فيها أثرها، فأخذ عمر يواصل القراءة إلى أن وصل إلى قوله تعالى: ]إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى[ (طه 15-16)
فلما قرأ سيدنا عمر t هذه الآية تفتحت عيناه واستيقظت فطرتُه الراقدة فجأة، فقال من تلقاء نفسه، ما أعجب هذا الكلام الطيب، فلما سمع خباب هذه الكلمات خرج من مكمنه فورا، وشكر الله I على أن هدايته ثمرة دعاء النبي r وقال: لقد سمعتُ رسول الله بالأمس فقط يدعو الله بإلحاح وضراعة أن يهدي للإسلام عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام أي أبا جهل. الآن كان يشق على عمر t في كل لحظة الانتظارُ والوقوف هناك بعد أن قرأ كلام الله وأدرك مقام النبي r. يقول خباب t إنه سألني أن أدله فورا على الطريق إلى النبي r وكان متلهفا ومتحمسا لدرجة أنه قد نسي أن السيف لا يزال مسلولا في يده ولم يخطر بباله أن يجعله في غمده، وكان رسول الله r يومذاك في دار الأرقم فدلَّه خباب على الطريق إليه، فاتخذ عمر t طريقه إليه وطرق الباب وحين رأى الصحابةُ من شقوق الباب أن الطارق هو عمر وفي يده سيف مسلول، خشوا أن يكون ثمة نية سوء لديه، ولكن الرسول أمرهم أن يفتحوا الباب، وكان حمزة t أيضا هناك وقال هو الآخر: افتحوا الباب، فإذا كان قد جاء بصالح النية فجيّد، وإلا سوف أقطع رأسه بسيفه هو، ففتح الباب ودخل عمر t مع السيف المكشوف فتقدم إليه النبي r وأمسكه بقوة وهزَّه وسأله بأي نية جئت؟ والله أرى أنك لم تُخلَق لعذاب الله، فقال عمر: “يا رسول الله، لقد جئت لأسلم”. فلما سمع النبي r هذه الكلمات كبَّر بحماس وفرحة وكبَّر معه الصحابة: “الله أكبر .. الله أكبر”، وردّدت قمم الجبال صدى الصوت.
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ (وهذه المسافة 216 ميلا) لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.
أي سيتم هذا الأمر كله بالصبر. وهذه الرواية من البخاري، وقد وردت هذه الرواية في كتب أخرى كالتالي: عن خباب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردونا عن ديننا، فصرف عني وجهه ثلاث مرات، كل ذلك أقول له فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة فقال: « أيها الناس ، اتقوا الله واصبروا ، فوالله إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشق باثنتين وما يرتد عن دينه ، اتقوا الله ، فإن الله فاتح لكم وصانع. (المستدرك)
عَنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لِي لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ (أي تعلن أنك خرجت من بيعة محمد) قَالَ قُلْتُ لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ (أي من المستحيل أن أكفر به) قَالَ وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ (أي قد أصر على أنه لن يسدد دينه) قَالَ فَنَزَلَتْ ]أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا[ (البخاري)
كان خباب t قَينًا يطبع السيوف، وكان رسول الله r يألفه ويأتيه، فأُخبرَت مولاته بذلك، فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول الله r فقال: “اللهم انصر خبابًا”، فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فأشاروا عليها أن تكوي رأسها، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها. (أسد الغابة)
عن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب إلى عمر t فقال: اُدْنُ مني، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار بن ياسر t، قال: فجعل خباب يريه آثارًا في ظهره مما عذبه المشركون. هذه الرواية من الطبقات الكبرى.
وهناك رواية أخرى عن آثار التعذيب التي كانت في ظهره والتي تخبر عن بعض التفاصيل. وهي عن الشعبي، قال: دخل خباب بن الأرت على عمر، فأجلسه على متكئه وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا، إلا رجل واحد، قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: بلال، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، ما هو بأحق به مني، إن بلالا كان له من المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوما أخذوني وأوقدوا لي نارا، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض إلا بظهري، قال: ثم كشف عن ظهره، فإذا هو قد برص. أي لم يكن ما يُطفئ النار أو الجمر إلا جلده وشحمه الذي كان يذوب وتنطفئ منه النار.
وهناك رواية أخرى في ذلك، قال الشعبي: سأل عمر بن الخطاب خباباً رضي الله عنهما عما لقي من المشركين فقال: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر، فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل، قال خباب: لقد أُوقدتْ نارٌ وسُحبتُ عليها فما أطفأها إلا ودكُ ظهري.
قال المصلح الموعود t عن هذه القصة المتعلقة بخباب t: الجدير بالتذكر أن الذين تحملوا الأذى أكثر لإيمانهم بالنبي r هم العبيد، وكان خباب بن الأرت أيضًا عبدًا يعمل حدّادًا. وقد آمن بالنبي r في بداية الإسلام المبكّرة. كان الكافرون يؤذونه أذى كبيرًا فكانوا يخرجون الجمر من موقده، ويلقونه عليه، ثم يلقون على صدره حجرا كبيرًا حتى لا يستطيع الحراك. ثم إن الذين كان في ذمتهم مالُ أجرتِه رفضوا أن يؤتوه إياه. ورغم كل هذه الخسارة المالية والجسدية لم يتزعزع خباب عن إيمانه لحظة واحدة، بل ظل ثابتًا عليه بكل قوة. وظلت آثار الحرق على ظهره حتى آخر عمره، ففي خلافة عمر t ذكر المصائب التي تحملها في سبيل الإسلام ذات مرة، فطلب منه عمر أن يُريه ظهره، فكشف ظهره فإذا به آثار بيضاء تشبه البرص.
ثم قال المصلح الموعود t في موضع آخر: كان أحد المؤمنين الأوائل خبّاب بن الأرَتّ، وذات مرة كُشف عن جزء من جسده فرأى أصدقاؤه أن جلده ليس مثل البشر بل هو متصلّب كجلد الأنعام، فاندهشوا وسألوه: هل أنت مصاب بمرض؟ فضحك وقال: “إنه ليس مرضا بل هو ذكرى لتلك الأيام الأولى عندما كان العبيد المؤمنون يُسحلون في طرقات مكة على الرمال والحجارة الحارّة. وبسبب ذلك صار جلد ظهري هكذا.” (حياة محمد r)
وهؤلاء المسلمون الأوائل، الذين كانوا فقراء ومعظمهم كانوا عبيدا، قد تحملوا أذى كثيرا بعد إسلامهم، وقد سمعنا ذكر هذا الأذى في قصة خباب t الذي كان يُلقى تارة على النار وأخرى كان يُـجَرّ على الأحجار. وحين تحملوا كل هذا الأذى وازدهر الإسلام فكيف أكرمهم الله تعالى وأعطاهم مكانة عظيمة.
قال المصلح الموعود r عن ذلك: مرة جاء عمر t إلى مكة في زمن خلافته، فحضر للقائه كبار رؤسائها الذين كانوا من عائلات عريقة شهيرة، ظانين أن عمر t وقد صار ملِكًا سيُعزّهم لأنه يعرف عائلاتهم وسيستعيدون مجدهم الغابر. وبينما هم يتحدثون معه t حضر بلال t ثم بعد قليل جاء خباب t، ثم جاء بعدهما غيرهما من أوائل المؤمنين. وكان هؤلاء القادمون في الماضي عبيدًا لهؤلاء الرؤساء الشباب الجالسين أو لآبائهم، وكان هؤلاء الرؤساء قد صبوا على هؤلاء العبيد أشد الاضطهاد زمنَ قوتهم. فكلما أتى أحد من هؤلاء، أعني خباب أو بلال وغيرهما ممن كانوا أول المؤمنين وعبيدا في الماضي، استقبله عمر بحفاوة وقال لرؤساء مكة هؤلاء أن يتأخروا ويفسحوا له المكان في صدر المجلس. فلم يزل هؤلاء الرؤساء الشباب الذين جاءوا للقاء عمر رضي الله عنه يتأخرون حتى وصلوا إلى الباب.
لم تكن في تلك الأيام صالات كبيرة، وإنما كان المجلس غرفة صغيرة، وحيث إن الغرفة الصغيرة لم تتسع لهم جميعا، فقد اضطر هؤلاء الزعماء إلى التأخر في كل مرة حتى وصلوا مكان الأحذية. فلما رأوا أنه كلما أتى عبدٌ من هؤلاء أمرهم عمر بأن يتأخروا ويفسحوا له المكان حتى وصلوا إلى الأحذية، أصابتهم صدمة شديدة.
يقول حضرة المصلح الموعود: لقد هيّأ الله تعالى في تلك المناسبة أسبابا عجيبة، حيث جاء العديد من هؤلاء المسلمين العبيد في الماضي واحدًا تلو الآخر على فترات، لا دفعة واحدة، ولو حضروا دفعة واحدة لم يشعر هؤلاء الزعماء بإهانة شديدة، ولكنهم لما اضطُرّوا مرارًا للتأخر في المجلس من أجل العبيد لم يحتملوا هذا الوضع، وخرجوا من المجلس، وأخذوا يقولون فيما بينهم: انظروا إلى الذلة والهوان الذي لقيناه اليوم! لقد جاء هؤلاء العبيد واحدًا تلو الآخر، وفي كل مرة أُمرنا بإفساح المجال لهم، حتى وصلنا إلى مكان الأحذية. فقال أحد هؤلاء الشباب: مَن المذنب، عمر أم آباؤنا؟
لو فكرتم لوجدتم أن الذنب ليس لعمر وإنما الذنب، الذي نلنا عقابه اليوم، لآبائنا. فإن الله تعالى لما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم عارضه آباؤنا، ولكن هؤلاء العبيد آمنوا به، وتحملوا كل أذى في هذا السبيل بصبر وببشاشة. فنحن المسؤولون عن الإهانة التي أصابتنا اليوم في المجلس، لا عمر. فقال له أصحابه: صحيح أن الذنب ذنب آبائنا، ولكن هل من سبيل لإزالة وصمة العار هذه؟ ثم تشاوروا فيما بينهم، وقالوا: لا نعرف لذلك سبيلا، فتعالوا نسأل سيدنا عمر عن علاج ذلك. فحضروا عند عمر رضي الله عنه ثانية وقالوا: تعلم أنت ونعلم جيدا ما تعرضنا له اليوم في مجلسك.
فقال عمر رضي الله عنه: أرجو المعذرة على ما حصل، ولكني كنت مضطرا لذلك. إن هؤلاء القوم ربما كانوا عبيدًا لكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعزّهم في مجلسه، فكان من واجبي أن أُعزّهم في مجلسي. فقالوا: نحن نعلم أن الذنب ذنبنا، ولكن هل من سبيل إلى غسل هذا العار؟
يقول حضرة المصلح الموعود: ليس بوسعنا اليوم أن ندرك مدى النفوذ الذي كان يتمتع به هؤلاء الزعماء في مكة، أما سيدنا عمر فقد وُلد في مكة وترعرع فيها، وكان يعلم كم كان آباؤهم ذوي عزة ومنعة في مكة! وكان يعلم أنه لم يكن بوسع أحد أن يرفع بصره أمامهم. فلما سمع عمر رضي الله عنه كلام هؤلاء الرؤساء الشباب تراءت أمامه الأحداث والأحوال الماضية كلها واحدا تلو الآخر، فغلبته الرقة ولم يستطع الكلام، وإنما رفع يده وأشار بإصبعه إلى الشمال، وكان يعني أن الحروب الإسلامية دائرة ناحية الشام، فلو اشتركوا فيها فربما كفّر هذا عما صدر منهم في الماضي. فخرج أبناء الرؤساء هؤلاء كلهم من عند عمر رضي الله عنه، ثم خرجوا عاجلا ليخوضوا غمار تلك الحروب. يقول حضرة المصلح الموعود: ويخبرنا التاريخ أنه لم يرجع أحد منهم حيًّا، بل استُشهدوا جميعًا هنالك. وهكذا محوا وصمة عار عن عائلاتهم.
النتيجة أنه لا بد من التضحيات. إن الذين قدموا التضحيات في البداية نالوا العز، أما الذين يأتون فيما بعد فلا بد لهم من بذل التضحيات إن أرادوا محو العار والذلة.
عندما هاجر خباب والمقداد بن عمرو رضي الله عنهما إلى المدينة نزلا عند كلثوم بن الهدم، وأقاما في بيته حتى وفاته، وكان كلثوم توفي قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر بفترة قصيرة. ثم انتقلا إلى سعد بن عبادة إلى أن فُتحت بنو قريظة في السنة الخامسة الهجرية.
آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خباب وتميمٍ عتيقِ خراش بن الصمة. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين خباب وجبر بن عتيق. ويرى العلامة ابن عبد البر أن الرواية الأولى هي الأصح. شهد خباب رضي الله عنه بدرًا وأحدًا وسائر الغزوات مع النبي r.
عن أبي خالد … قال: بينما نحن في المسجد إذ جاء خباب ابن الأرت، فجلس فسكت فقال له القوم: إن أصحابك قد اجتمعوا إليك لتحدثهم أو لتأمرهم، قال: بم آمرهم؟ ولعلي آمرهم بما لست فاعلاً.
أقول: هذا ما كان يتحلى به هؤلاء الناس من خشية الله وتقواه U.
عن عبد الله بن خباب بن الأرت، عن أبيه، قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها، فقالوا: يا رسول الله، صليتَ صلاة لم تكن تصليها؟ قال: “أجل، إنها صلاة رغبة ورهبة، إني سألتُ الله عز وجل فيها ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً. سألتُه ألا يهلك أمتي بسَنَةٍ، فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم، فأعطانيها (الأمة لا تزال قائمة بصفتها أمّة، وكلما يُسلَّط علينا أحد فالحكومات هي التي تُسلطهم علينا، وإلا فالأمة لا تزال قائمة كأمة بفضل الله تعالى) … “وسألته ألا يدق بعضهم رأس بعض، فمنعنيها”. (والنتيجة التي نراها اليوم هي الافتراق في الفِرق وصدور فتاوى التكفير ضد بعضهم بعضا)
عن طارق، قال: عاد خباباً نفرٌ من أصحاب رسول الله r، فقالوا: أبشر أبا عبد الله ترد على إخوانك الحوض، فقال: إنكم ذكرتم لي إخواناً مضوا، ولم ينالوا من أجورهم شيئاً، وإنا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما نخاف أن يكون ثواباً لتلك الأعمال. ومرض خباب مرضاً شديداً طويلاً.
عن حارثة بن مضرب قال: دخلتُ على خباب بن الأرت أعوده وقد اكتوى سبع كيات، قال: فسمعته يقول: لولا أني سمعت رسول الله r، يقول: لا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت لألفاني قد تمنيته. وقد أتي بكفنه قباطي (قماش ركيك كان يُنسج في مصر) فبكى ثم قال: لكن حمزة عمّ النبي r، كفن في بردة فإذا مدت على قدميه قلصت عن رأسه وإذا مدت على رأسه قلصت عن قدميه حتى جعل عليه إذخر، ولقد رأيتني مع رسول الله r ما أملك دينارا ولا درهما (أي لم يكن لديه شيء، أما الآن) وإن في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألفاً بل يزيد، ولقد خشيت أن تكون قد عُجلت لنا طيباتُنا في حياتنا الدنيا.
عن خباب قال: هاجرنا مع رسول الله r نبتغي وجه الله عز وجل، فوقع أجرنا على الله. فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. وإن مصعب بن عمير مات ولم يترك إلا ثوباً، كان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا به رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر.
قال زيد بن وهب: سِرنا مع علي حين رجع من صفين، حتى إذا عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا، فقال: ما هذه القبور؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك إلى صفين، فأوصى أن يُدفن في ظاهر الكوفة. وكان الناس إنما يدفنون موتاهم في أفنيتهم، وعلى أبواب دورهم، فلما رأوا خباباً أوصى أن يدفن بالظهر دفن الناس. فقال علي رضي الله عنه: رحم الله خباباً، أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتُلي في جسمه، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً. ثم دنا من قبورهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف فارط ونحن لكم تبع عما قليل لاحق. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، وأرضى الله عز وجل.
مات خباب سنة سبع وثلاثين من الهجرة، وكان عمره إذ مات ثلاثا وسبعين سنة.