خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 24/7/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
كان الحديث في الخطبة الماضية جاريا عن سعد بن أبي وقاص. فقد شهد سعد t مع النبي r معركة بدر وأُجد والخندق وصلح الحديبية ومعركة خيبر وفتح مكة وغيرها من الغزوات كلها. كان من أفضل رماة النبي r من أصحابه. وقد جاء في رواية أن الحروب التي خاضها مع النبي r لم يبق في إحداها معه r إلا طلحة وسعد رضي الله عنهما.
يروي سعد مبيّنا حالة الخروج مع النبي r في الغزوات: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ r وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوْ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ. وفي رواية أخرى: …مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ أَوْ الْحَبَلَةِ.
كان سعد بن وقاص أول من أهرق الدم وأول من رمى في سبيل الله، وذلك في سرية عبيدة بن الحارث. هذه السرية وقعت في ربيع الأول في السنة الثانية من الهجرة الشريفة وتسمى سرية عبيدة بن الحارث.
يقول مرزا بشير أحمد t في ذكرها في كتابه “سيرة خاتم النبيين” – وقد ذكرتُ جزءا منها أو كلها ومع ذلك سأذكرها هنا أيضا- يقول مرزا بشير أحمد t:
في أوائل أيام ربيع الأول أرسل رسول الله r كتيبة قوامها ستون راكبا من المهاجرين تحت إمرة أحد أقاربه اسمه عبيدة بن الحارث بن المطلب. وكان الهدف من هذه البعثة وضع حدٍّ لهجمات قريش على المدينة. فبعد أن قطع عبيدة بن الحارث وأصحابه مسافة معينة وصلوا إلى ثنية المرة – التي تقع بين مكة والمدينة وقد مرّ بها النبي r أثناء الهجرة- وإذ بشابين مدجَّجَين بالسلاح مخيمَينِ تحت زعامة عكرمة بن أبي جهل. فتمت المواجهة والرماية بين الفريقين حتى زُعر حزب المشركين وتقهقروا ظنا منهم أن وراء المسلمين مدداً، فلم يلاحقهم المسلمون غير أن اثنين من جيش المشركين، وهما المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان انشقا من كتيبة عكرمة بن أبي جهل والتحقا بالمسلمين. وقد قيل أنهما كانا قد خرجا مع قريش وقد نويا الالتحاق بالمسلمين كلما سنحت لهما الفرصة لأنهما كانا قد أسلما سرًّا ولكن لم يقدرا على الهجرة خوفا من قريش.
في جمادى الأولى في العام الثاني من الهجرة أمّر رسول الله r سعد بن أبي وقاص على كتيبة قوامها ثمانون مهاجرا وبعثهم إلى الخرار التي تقع قرب الجحفة في الحجاز ولكن لم يواجهوا العدو.
ثم هناك سرية عبد الله بن جحش التي حدثت في جمادى الأخرى، وشهدها سعد أيضا، وقد ذكرتها أيضا من قبل، ولكن أذكرها هنا أيضا باختصار نقلا عن سيرة خاتم النبيين، وبيانه أن النبي r أراد استطلاع تحركات قريش عن كثب ليطلع على نواياهم في وقت مناسب بُغية حماية المدينة من خطر الغارة المباغتة عليها. فشكّل جماعة من ثمانية من المهاجرين ضم إليها بحكمته رجالا من قبائل مختلفة من قريش ليسهل استكشاف نوايا قريش الخفية. وأمّر عليها عبد الله بن جحش، ولم يخبر r عند إرساله هذه الجماعة حتى أميرها عن الجهة التي سيُرسَل إليها ولا عن الهدف وراء إرساله، بل أعطاه رسالة مختومة وقال إن فيها تعليمات لك، وعليك أن تسافر من المدينة إلى جهة كذا وبعد أن تقطع مسافة يومين يمكن أن تفتح الرسالة وتعمل بما ورد فيها. خرج عبد الله وأصحابه وعندما قطعوا مسافة يومين فتح رسالة النبيِّ ووجد فيها تعليما أن اذهب إلى وادي النخلة بين مكة والطائف واستطلعْ أحوال قريش وأخبِرنا بها، وإذا كان أحد من أعضاء الجماعة مترددا في البقاء فيها بعد علمِه بطبيعة المهمة وأراد العودة فله ذلك. قرأ عبد الله هذا الأمر على مسامع أصحابه، وقدّم الجميع أنفسهم بالإجماع وبكل سرور لهذه المهمة.
رحلت هذه الجماعة إلى النخلة، وفي الطريق فقدوا جمل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فانفصلا عن أصحابهما في البحث عن بعيرَيهما، ولم يتم العثور على سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان على الرغم من البحث الكثير، وهكذا بقي في الجماعة ستة أشخاص فانطلقوا في مهمتهم.
وبهذا الشأن ذكر مرزا بشير أحمد t مستشرقا اسمه “مارغوليس” أنه يقول عن سعد بن أبي وقاص وأصحابه لخلق الشبهات أن سعد بن أبي وقاص وعتبة تركا بعيرَيهما عمدا ليتخلّفا عن الجماعة. ولكن الحق أن كل حادث في حياتهما شاهد على شجاعة هذين المخلصَين وإخلاصهما، وقد قُتل أحدهما في غزوة بئر معونة على يد الكفار. أما الثاني فقد اشترك في معارك كثيرة وخطيرة جدا حتى فتح العراق في نهاية المطاف، لذا فإن إثارة الشبهة المذكورة بحقهما بناء على أفكار مخترعة ليس إلا نصيب مارغوليس وحده. والأغرب من ذلك أن مارغوليس يدّعي في كتابه أنه ألّفه مترفعا عن كل نوع التعصب والعناد!!
فباختصار، وصلت جماعة المسلمين الصغيرة هذه إلى النخلة وانشغلوا في استطلاع نوايا كفار مكة ومعرفة تخطيطهم، وحلّق بعضهم رؤوسهم ناوين إخفاء مهمتهم حتى يظن الناس أنهم جاؤوا معتمرين فلا يشكُّوا في أمرهم. ولم تمض فترة طويلة على وصولهم هناك وإذا بقافلة صغيرة تَـمُرُّ بهم في طريقها من الطائف إلى مكة، وواجهت الجماعتان بعضهما. وبحكم الظروف السائدة آنذاك اضطر المسلمون إلى أخذ القرار أن يهاجموا القافلة وإما أن يأسروا أهلها أو يقتلوهم، مع أنهم ما كانوا راغبين في هذا القرار، ولم يأمرهم النبي r بذلك. فهاجموهم باسم الله فقُتل أحد من الكفار وأُسر اثنان وفرّ الرابع ولم يتمكّن المسلمون من إلقاء القبض عليه، وهكذا لم تنجح خطتهم.
على أية حال، أخذ المسلمون أمتعة القافلة وعادوا إلى المدينة مسرعين مع الأسرى والغنائم. وعندما بلغ النبيَّ r أنهم هاجموا القافلة سخط كثيرا وقال: ما أمرتُكم بالقتال في الشهر الحرام، ورفض أن يأخذ مال الغنيمة. ومن ناحية ثانية أثارت قريش ضجة كبيرة أن المسلمين هتكوا حرمة الشهر الحرام. وكان السبب أيضا من وراء ضجتهم أن الذي قُتل في الغارة كان زعيما كبيرا لهم اسمه عمرو بن الحضرمي.
ثم جاء شخصان من قريش إلى المدينة طالبينِ إطلاق سراح أسيرَيهم، ولما كان سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان لم يعودا بعد، وكان النبي r خائفا عليهما كثيرا أنه إذا وجدتْـهما قريش فلن تتركهما حيَّين. لذا رفض تسليم الأسيرين إليهما ما لم يعودا وقال: عندما يعود أصحابي إلى المدينة بخير سأطلق سراح رجالكم. فلما عادا، أطلق r سراح الأسيرين. وقد تركت على أحدهما إقامته في المدينة تأثيرا عميقا حتى أسلما واستُشهد لاحقا في حادثة بئر معونة.
سجّل مرزا بشیر أحمد t في كتابه سيرة خاتم النبيين الظروف السائدة قبل بدایة الحرب في موقعة بدر فكتب ما يلي:
بدأ النبي r التقدم السريع نحو بدر، وعندما اقترب من بدر طلب من أبي بكر الركوب وراءه لحاجة لم تُذكر في الروايات، وتقدما بعيدًا عن جيش المسلمين، وعندها صادفوا شيخًا من البدو وعلما منه خلال الحديث معه أن جيش قريش قد وصل إلى قرب بدر، حينئذ، عادا.
وأرسل النبي r عليا، والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص لتقصي الأخبار، وعندما دخل هؤلاء وادي بدر، رأوا بعض المكيين يجمعون المياه من أحد الينابيع، فأخذوهم على حين غرة وقبضوا على عبدٍ أسود منهم وأخذوه معهم إلى النبي r، فاستفسر منه بلهجة رقيقة عن مكان جيش قريش، فأجابه أن الجيش يخيم وراء الكثبان الرملية التي كانت أمامهم، وعندما سأله عن عددهم أجاب إنه جيش كبير لكنه لا يعرف بالضبط عددهم، فسأله r: كم ينحرون كل يوم من الإبل، فقال عشرة، فاستدار النبي r نحو أصحابه وقال: “إن عددهم حوالي الألف”، وكانوا بالفعل بهذا العدد.
لعلّي ذكرت هذا الجزء أيضا بشيء من التفصيل سابقا.
هناك رواية عن شجاعة سعد في غزوة بدر ورد فيها أنه كان يحارب بشجاعة متناهية كالفرسان مع أنه لم يكن على الفرس، لأجل ذلك سمي بفارس الإسلام.
كان سعد ابن أبي وقاص من بين بعض الصحابة الذين ثبتوا مع النبي r يوم أحد عند حدوث الفوضى.
وفي غزوة أحد اشترك عتبة بن أبي وقاص أخو سعد من قبل المشركين وهو الذي رمى النبي r في هذه الغزوة. لقد ذكر الخليفة الرابع رحمه الله هذه الواقعة في أحد خطاباته كالتالي: إن عتبة هو ذلك الشقي الذي رمى النبي r فكسر رباعيته ودمّى وجه الرسول r. وكان أخوه سعد بن أبي وقاص يحارب من طرف المسلمين. فلما علم عن شقاوة عتبة امتلأ صدره بثورة الانتقام فقال سعد: والله ما حرصت على قتل رجل قط كحرصي على قتل أخي. لقد اخترقتُ صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله وأمزقه إربًا إربًا لأطفئ ثورة صدري لكنه راغ مني روغان الثعلب، فلما كانت الثالثة قال لي رسول الله r: يا عبد الله! أتريد أن تقتل نفسك؟ فكففت لما كفاني منه النبي r.
لم يثبت مع النبي r يوم أحد إلا قليل من الصحابة وكان سعد ابن أبي وقاص منهم، كتب مرزا بشير أحمد t عنه في هذا الموقف كما يلي:
كان رسول الله r بنفسه يناول سعداً السهام وهو كان يرمي بها الأعداء بشدة. وقال r مرة: يا سعد! ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمّي، وظل سعد يفتخر بهذه الكلمة طوال حياته.
وفي رواية قال سعد بن أبي وقاص: نَثَلَ لي النبيُّ r كِنَانَتَهُ يَومَ أُحُدٍ، فَقالَ: ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي.
قَالَ عَلِيٌّ t: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ r أَبَاهُ وَأُمَّهُ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَقَالَ لَهُ: ارْمِ أَيُّهَا الْغُلَامُ الْحَزَوَّرُ. (سنن الترمذي، كتاب الأدب عن رسول الله)
وهنا ملاحظة أرسِلَتْ لي حول هذا الأمر أنه قد ورد في التاريخ علاوة على سعد بن أبي وقاص اسم الزبير بن العوام أيضا الذي قال له النبي r: فداك أبي وأمي. وهذا ما ورد في رواية في البخاري.
عن سعد وهو يروي ما حدث يوم أحد: أَنَّ النَّبِيَّ r جَمَعَ لَهُ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r (أي لسعد): ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ r. (صحيح مسلم, كتاب فضائل الصحابة)
لقد وردت في رواية أخرى واقعة هذا المشرك الذي سجلت كتب التاريخ أنه كان يدعى حبان. ورمى حبان بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وكانت تسقي الجرحى، فأخذ حبان يضحك، فناول النبي r سعدًا سهمًا فرمى به فوقع السهم في ثغرة نحر حبان، فوقع مستلقيا وبدت عورته، فضحك رسول الله r.
لقد ترجمت “مؤسسة نور” صحيح مسلم وكتبوا ملاحظة على الحديث السابق، وهي ملاحظة جيدة ورد فيها: إن فرحة النبي r كانت على منة الله تعالى أنه أزاح من الطريق عدوًّا خطيرًا جدًّا ولكن بسهم لم يكن له نصل.
وفي رواية: رمى سعد يوم أُحد أَلف سهم.
كان سعد ابن أبي وقاص من الشهود الذين وقعوا على الاتفاقية عند صلح الحديبية. ويوم فتح مكة كان يحمل لواء من ألوية المهاجرين الثلاث.
لقد مرض سعد عام حجة الوداع، ويقول هو عنه: مرضت بمكة وأوشكت على الموت، فجاءني رسول الله r يعودني، فَقُلْتُ: يا رسول الله r أَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لا»، قُلْتُ: فالنصف يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لا»، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ؛ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». ثم قال: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيّ امْرَأَتِكَ»، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ». وفي رواية دعا النبي r: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ».
وفي رواية: دخل عليّ رسول الله r وأنا مريض قال: هل أوصيت؟ قلت نعم. قال: بِكَم؟ قلت: أوصيت بمالي كله في سبيل الله. قال: فما تركتَ لولدك؟ قلت: هم أغنياء بخير. قال: أوصِ بالعُشر، فما زال يقول وأقول، (كان سعد يريد أن يتصدق بمال أكثر وكان النبي r ينصحه بالإقلال منه) حتى قال: أوص بالثلث والثلث كثير.
إن أهل العلم والفقه يستنتجون من هذه الرواية على عدم جواز الوصية لأكثر من الثلث.
يقول المصلح الموعود t بأن الأحاديث تؤيد أن إنفاق الإنسان في سبيل الله ما زاد عن حاجته ليس حكمًا إسلاميًا. فقد قال رسول الله r: يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى.
كذلك قال r: “أن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ.” (صحيح البخاري، كتاب الجنائز)
كذلك قد ورد في الحديث أن سيدنا سعدا t أراد أن يوصي بثلثَي ماله في سبيل الله، ولكن الرسول r نهاه عن ذلك. فقال أوصي بنصفه؟ فمنعه النبي عن ذلك. فقال: بثلث المال؟ فسمح له النبي بذلك وقال الثلث، والثلث كثير.
فالفكرة بأن الإسلام يأمر بأن ينفق الإنسان في سبيل الله ما زاد عن حاجته ظنّ يتنافى مع تعاليم الإسلام ويخالف عمل الصحابة؛ لأن بعضهم ترك لورثته إرثا يبلغ مئات الآلاف من الدراهم.
وفي رواية عَنْ سَعْدٍ قَالَ مَرِضْتُ مَرَضًا أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ r يَعُودُنِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي فَقَالَ إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ ائْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنَّ بِنَوَاهُنَّ ثُمَّ لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ.
في رواية أن النبي r أمر شخصا للاعتناء بسعد في مكة وأكد له أنه إذا مات في مكة فلا يدفنوه فيها بل يجب أن يُحضروا جثمانه إلى المدينة فيدفنوه هناك.
يقول سيدنا المصلح الموعود t عن سعد t أن النبي r لم يكن يصطاد بنفسه لكنه ثابت من الأحاديث أنه كان يأمر بالصيد، ففي إحدى الغزوات طلب النبي r سعدَ بن أبي وقاص وقال له انظر إلى ذلك الغزال فارمِه، فلما أراد أن يطلق السهم وضع حضرته ذقنه على كتفه ودعا الله أن يجعل سهمه لا يخطئ. كان الله I قد شرَّف سعدا بتوفيقه لفتح العراق.
أثناء حفر الخندق حول المدينة عند غزوة الأحزاب وجد الصحابة صخرة لم يستطيعوا كسرها. فشكوا إلى رسول الله r فأتى وأخذ المعول وضرب الصخرة ثلاث مرات وفي كل مرة انكسر جزء من الصخرة فكبّر النبي r بصوت عال، فكبّر الصحابة وراءه. وبعد إحدى الضربات قال r أُريتُ قصور المدائن البيضاء تنهدم. وهذا ما رآه النبي r قد تحقق على يد سيدنا سعد t.
حول العرب كانت قوتان كبيرتان، هما لكسرى وقيصر. وكان جزء كبير من العراق تحت سلطة كسرى، وكانت في مدين قصور ملكية. وكانت معارك المدائن والقادسية ونهاوند وجلولة المشهورة بقيادة سيدنا سعد بن أبي وقاص. المدائن تقع على مسافة قصيرة من بغداد تجاه الجنوب على ضفة نهر دجلة، فلما عُمِّرت هنا مدائن كثيرة واحدة بعد أخرى، سماها العرب المدائن. القادسية أيضا مدينة في العراق، حيث حصلت معركة مشهورة بين المسلمين والفرس، ومدينة القادسية المعاصرة تقع على بُعد 15 ميلا من الكوفة. نهاوند مدينة إيرانية حاليا وتقع على بعد 70 كلو متر من همدان العاصمة في ولاية همدان، أما جلولة فهي مدينة عراقية وتقع على الضفة اليمنى لدجلة. وكانت هناك معركة بين المسلمين والفرس وسميت جلولة لأنها كانت قد امتلأت بجثث الفرس.
كان المثنى بن حارثة قد استأذن أبا بكر أن يغزو بالعراق (لأنهم كانوا يزعجون كثيرا على الحدود) فأذن له، وأرسل لنجدته خالد بن الوليد بجمع كبير، ثم حين طلب أبو عبيدة المدد في الشام من الخليفة أرسل له سيدنا أبو بكر t سيدَنا خالد بن الوليد. فخلف سيدنا خالدُ بن الوليد سيدنا المثنى لكنه بخروج سيدنا خالد من العراق توقفت هذه المهمة.
فلما صار سيدنا عمر t خليفة اهتم من جديد بمهمة العراق، كان سيدنا المثنى قد أصاب العدو بهزائم متتالية في دوية ومعارك أخرى، واحتل جزءا كبيرا من العراق، وكان العراق يومذاك تحت سلطة كسرى. فلما علم الفرس بقوة عسكرية للمسلمين وفتحت عيونهم انتصاراتُهم المتتالية، جعلوا حاكمهم الوارث الأصلي لكسرى أي يزدجرد بدلا من الملكة كوران دخت. فجمع فور توليه الحكم قوى الإيرانيين، وأشعل نيران الانتقام من المسلمين في البلد كله، وفي هذه الأوضاع اضطر سيدنا المثنى أن يتخلف عن الحدود، فلما علم بذلك سيدنا عمر t نشر في الجزيرة العربية الخطباء المثيرين، وقد حثوا المسلمين للنهوض ضد كسرى، فنشأ حماس في العرب وتدفق المسلمون المخلصون إلى العاصمة. استشار سيدنا عمر من يجب أن يقود هذه المعركة، وإثر التشاور استعد حضرته أن يقودها بنفسه، لكن سيدنا عليا وكبار الصحابة الآخرين عارضوا ذلك، فاقتُرح اسم سعيد بن زيد، وقام سيدنا عبد الرحمن بن عوف وقال يا أمير المؤمنين قد عرفت رجلا مناسبا لقيادة هذه المعركة، فلما سأله سيدنا عمر من هو قال: سعد بن أبي وقاص. فأجمع الناس على سيدنا سعد بن أبي وقاص، وقال سيدنا عمر t عن سعد إنه رجل شجاع رام. كان سيدنا المثنى ينتظر سيدنا سعدا برفقة ثمانية آلاف مخلص شجاع، في ذي قار وهو مكان بين الكوفة وواسط، إذ جاءه نداء ربه فتوفي، فخلَّف أخاه سيدنا المعنَّى أميرَ الجيش، فقابل سيدنا المعنى بحسب الأوامر سيدَنا سعدا وبلَّغه رسالة سيدنا المثنى. ثم رأى سيدنا سعد جيشه وكان يحتوي على ثلاثين ألف إنسان تقريبا، فنظم الجيش وقسمه على الأيمن والأيسر وعيَّن عليهم أمراء وتقدم وحاصر القادسية. وكان ذلك في أواخر سنة 16 هجرية، وكان قوام جيش الكفار 280 ألف وفي جيشهم ثلاثون فيلا، وكان يقود الجيش الإيراني رستم. دعا سيدنا سعد الكفار إلى الإسلام ومن أجل ذلك أرسل المغيرةَ بن شعبة، فقال له رستم إنكم فقراء وتقومون بكل هذا للتخلص من الفقر، فسوف نعطيكم حتى تشبعوا. فردَّ عليه سيدنا المغيرة إنا قد لبَّينا دعوة رسول الله r وندعوكم للإيمان بإله واحد ونبيه r، إذا قبلتموها فهو خير لكم، وإلا فالسيف والحرب سوف تحسم أمرنا، فاحمرَّ وجه رستم غضبا من هذا الجواب. فلما كانوا هم قد بدأوا وكانوا يريدون الحرب، لذا قال له المغيرة نحن لا نريد القتال، وإنما ندعوكم إلى الإسلام لكنكم إذا أبيتم إلا الحرب فسوف يحسم أمرنا السيفُ. على كل حال احمر وجهه ولما كان مشركا قال أقسم بالشمس والقمر سوف نبدأ القتال قبل طلوع الصبح، وسوف نقتلكم جميعا. فقال سيدنا المغيرة لا حول ولا قوة إلا بالله، أي أن القوة كلها لله وحده، ثم ركب حصانه.
تلقَّى سيدنا سعد من سيدنا عمر t أن يدعوهم أولا إلى الحق، فأرسل إليهم سيدُنا سعد الشاعرَ المشهور والفارس سيدَنا عمرو بن معديكرب وسيدنا أشعث بن قيس الكندي في وفد، فلما قابلا رستم سألهما أين تذهبان قالا لمقابلة واليكم، فجرت بينهم مكالمة مفصلة، فقال أعضاء الوفد لقد وعدَنا نبيُنا r أننا سنملك أرضكم، فطلب رستم كيسا من التراب وقال هذه هي أرضنا فاحملوها على رؤسكم، فقام سيدنا عمرو بن معديكرب سريعا وحمل الكيس، وانطلق قائلا: أتفاءل بهذا خيرا أننا سننتصر، وسوف نملك أرضهم. ثم بلغوا بلاط ملك إيران، ودعَوه إلى الإسلام فغضب غضبا شديدا قائلا انصرفوا من بلاطي ولو لم تكونوا رُسلا لأمرت بقتلكم. ثم أمر رستمَ أن يلقَّنهم درسا لا يُنسى. ظُهرَ الخميس دُق ناقوس الحرب، وكبَّر سيدنا سعد ثلاثا وبدأت المعركة عند التكبيرة الرابعة، وكان سعد مريضا، ويقود الجيش جالسا في غرفة قصر عذيب.
قد ذكر المصلح الموعود t أيضا هذا الحادث فقال: في عهد سيدنا عمر t لما تولى العرشَ “يزدجردُ” حفيدُ “خسرو” وأخذ في التجهيزات الحربية على نطاق واسع في العراق ضد المسلمين، وجّه إليه عمر t جيشًا تحت قيادة سعد بن أبي وقاص t. فاختار سعد منطقة القادسية للمعركة، وبعث بخريطتها إلى عمر t. فأُعجب عمر بهذا الاختيار، ولكنه كتب إلى سعد أن عليه قبل الخوض في الحرب ضد الملك الإيراني أن يبعث إليه وفدًا يدعوه إلى الإسلام. فبعث وفدًا لمقابلة الملك. ولما وصل إليه الوفد قال لترجمانه قل لهؤلاء: لماذا جاؤوا هنا؟ فقام رئيس الوفد نعمان بن مقرن وقال في جوابه: إن الله تعالى قد بعث فينا نبيًّا أمَرنا بنشر الإسلام ودعوة الناس كلهم إلى الانخراط في هذا الدين، وما جئناك إلا لندعوك إلى الإسلام. فغضب الملك “يزدجرد” من جوابه وقال له: إنكم أمة همجية تأكل الميتة. فإذا كان الجوع قد دفعكم إلى الهجوم علينا فإني معطيكم من الأموال ما يضمن لكم الأكل والشرب والملبس مطمئنّين. (مع أنهم أنفسهم كانوا بدؤوا بالحرب بالرغم من ذلك يتهم المسلمين، ثم قال:) فخذوا مني هذه الأموال وارجعوا إلى بلادكم، (أيْ تخلوا عن الحفاظ على حدود بلادكم ودَعُوني أفعل ما أشاء وأحتلّ هذه المنطقة) ولا تهلكوا أنفسكم بالحرب ضدنا.
فلما انتهى الملك من كلامه قام المغيرة بن زرارة من قِبل الوفد المسلم وقال: إن ما قلتَ فينا حق وصدق. لا شك أننا كنا أمة وحشية تأكل الميتة والثعابين والعقارب والجراد والسحالي. ولكن الله تعالى قد تفضل علينا برحمته وبعث فينا رسولًا لهدايتنا، فآمنّا به وعملنا بأوامره، فحدث في أنفسنا انقلاب عظيم، ولم تعد فينا تلك المساوئ والنقائص التي أشرتَ إليها. واعلم أننا لن نتأثر من أي إغراء. لقد بدأت الحرب بينك وبيننا، وسيُحسم الأمر الآن في ساحة القتال، ولن تستطيع أن تثنينا عن عزائمنا بإغرائنا بالمال ومتاع الدنيا. فاستشاط الملكُ غضبًا وقال لمن حوله: اذهبوا وأحضِروا كيسًا من التـراب. فلما أتوا بالتراب دعا الملك رئيسَ الوفد المسلم وقال له: لأنك رفضتَ ما عرضتُ عليك فلن أعطيك الآن إلا هذا الكيس من التـراب. فتقدم الرئيس المسلم بكل جدية وانحنى وحمل الكيس على ظهره. ثم خرج بسرعة من بلاط الملك وهو يهتف لزملائه بصوت عال: قد آتانا ملك الفرس اليوم أرض بلاده بيده. ثم ركبوا جيادهم مسرعين بشدة. فلما سمع الملك هتافهم ارتعدت فرائصه وقال لحاشيته اذهبوا بسرعة واستردوا منهم كيس التراب، فإنه من الشؤم الكبير أن أعطيهم تراب أرضي بيدي. ولكن المسلمين كانوا قد خرجوا بعيدًا على متون جيادهم. ثم في نهاية المطاف حصل ما قاله المسلمون حيث وقعت إيران كلها في قبضتهم في بضع سنين، (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية الجزء الأول ص 203 – 209، ومقدمة ابن خلدون الجزء الثاني: أخبار القادسية ص 91 – 94).
كيف حصل هذا الانقلاب العظيم في المسلمين؟ إنما سببه أن تعليم القرآن الكريم قد أحدث تغيرًا عظيمًا في أخلاقهم وعاداتهم، قاضيًا على حياتهم السفلية، صاعدًا بهم إلى مقام عال من السلوك القويم والخُلق العظيم. وبالنتيجة تمكنوا من نشر الإسلام في العالم وجعلوا أنفسهم مسلمين حقيقين عاملين بتعليم الإسلام ولم يُرعبهم خوف ولم يرهبهم خطرٌ لأية قوة، سأتناول ما تبقى من ذكره لاحقا إن شاء الله، وقد بقي بعض ذكره.
والآن سأصلي صلاة الغائب على بعض المرحومين، أولهم السيدة بشرى أكرم زوجة السيد محمد أكرم باجوة المحترم ناظر تعليم القرآن والوقف المؤقت في باكستان، هي توفيت في 25 آذار/مارس 2020 عن عمر يناهز 66 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. لم تُصلَّ عليها الجنازة حينها بسبب الظروف. كانت المرحومة منخرطة في نظام الوصية بفضل الله تعالى، وتركت في ذويها ابنين وبنتا، عاشت في لائبيريا مع زوجها خمسة عشر عاما وخدمت الجماعة بصفتها رئيسة الإماء في لائبيريا أثناء تلك الفترة، وحين بدأت الحرب الداخلية في لائبيريا حُبست مع زوجها وأولادها لخمسة عشر يوما في ثكنات عسكرية. كتب السيد محمد أكرم باجوة المحترم: عاشت مع واقف الحياة (يعني معه) 37 عاما بإخلاص وصبر ووفاء، وخاصة حين عُيّنتُ داعيةً في لائبيريا (كان هو أميرَ الجماعة أيضا هناك) فأعانتني كثيرا في أمور التبشير والتربية أثناء مكوثي هناك لمدة 23 عاما. كانت تعينني في إكرام الضيوف وفي أمور الجماعة وخدمت كرئيسة لجنة إماء الله أيضا. وأصيبت بالمالاريا والتيفود عدة مرات أثناء مكوثها هناك ولكن بالرغم من ذلك وقفت معي بغاية من الصبر. وقد ربّت أولادها تربية دينية بأحسن وجه وهم ملتزمون بالجماعة بكل إخلاص بفضل الله تعالى. وهناك واقف الحياة السيد منصور ناصر وهو عميد لمدرسة الشهداء في لائبيريا، كتب: حين كنتُ أقيم في لائبيريا وحدي (من دون العائلة) لمدة ثلاث سنوات استضافتني في بيتها كل هذه الفترة وعاملتني معاملة الأولاد أو الأخ الصغير. أنال الله تعالى أولادها فيض أدعيتها ووفقهم لمواصلة حسناتها كما غفر لها ورحمها.
والجنازة الثانية هي للسيد إقبال أحمد ناصر البِيْرْكُوْتِي من كروندي بمحافظة خيربور الذي تُوفي في 14 تموز/يوليو 2020 عن عمر يناهز 82 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. وابنه السيد أكبر أحمد طاهر داعية في بوركينافاسو، قال: كان أبي ابنَ ميان نور محمد t الصحابي للمسيح الموعود u وحفيدَ الصحابي ميان إمام الدين t وكان عمّه ميان بير محمد t وعمه الحافظ محمد إسحاق t أيضا من صحابة المسيح الموعود u. كان المرحوم سباقاً في خدمة الجماعة وعمل بصفته سكرتير المال لمدة طويلة وخدم كزعيم أنصار الله وإمام الصلاة ومربي الأطفال. قال: رأيتُه في صغري كان يضع بعض النقود في علبة وحين سألته عن ذلك قال: هذا تبرع أضعه إلى جانب لكي أتمكن من دفع التبرع في الوقت. كان يبشر بحماس وشوق وقد بايع عدد من الناس عن طريقه. كان كثير الدعاء وملتزما بالصلوات والصيام وصلاة التهجد. قال ابنه: جاء أبي إلى بوركينافاسو في 2016 بعد إلحاح شديد مني ومنذ ذلك شهد جميع الجلسات السنوية والاحتفالات الأخرى في الجماعة وكان يهتف بحماس شديد، ونفخ الحماس في الحضور بهتافاته وأسعد قلبَه لأنه كان يشعر بظمأ في قلبه بسبب عدم انعقاد الجلسات للجماعة في باكستان. ترك في ذويه زوجته السيدة بشيرة بيغم وثلاثة أبناء وثلاث بنات. كتب أمير الجماعة والداعية المسؤول في بروكينافاسو: لم يكن المرحوم يعلم اللغة المحلية في بوركينافاسو ولكن الجميع كان يفهم لغة حبه، في بوركينافاسو يتكلم الشعب باللغة الفرنسية، كان يلاقي الجميع بحب لدرجة كان يجذب قلوبهم، وقد أبدى الناس هنا حبهم له بعد وفاته، كتب سكرتير النشر الوطني هنا بعد أن نشر صورة المرحوم: حين لاقيته أثناء مكوثه في بوركينافاسو وجدته أحمديا حقيقيا عظيما. غفر له الله تعالى ورحمه وأورث أولاده فيض أدعيته ولم يستطع ابنه الداعية حضورَ جنازته.
والجنازة الثالثة هي للسيدة غلام فاطمة فهميدة زوجة السيد محمد إبراهيم من موليان جتان بمحافظة كوتلي في آزاد كشمير. توفيت في 18 تموز/يوليو 2020 عن عمر يناهز 72 عاما بعد مرض طويل، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان أبوها نيك محمد المعروف بـ “كالي خان” بايع في 1944، ورأى رؤيا قبل بيعته أنه ذاهب إلى لقاء رجل صالح، حين رأى ذلك الصالح هرول إليه وعانقه. قال ذلك الرجل الصالح لكالي خان: متى تأتي إلينا؟ فقال له كالي خان المحترم: كأني قد أتيت. ثم عندما رأى صورةَ سيدنا الخليفة الثاني عند أحدهم عرفه فورا وقال هذا هو الرجل الصالح الذي رأيته في الرؤيا، فبايع عبر رسالة بريدية، ثم قالت له زوجته أنا أيضا أريد أن أبايع فبايعتْ هي الأخرى. فكان الزوجان كلاهما مخلصا. وكان تأثير تربيتهما واضحا على ابنتهما هذه المرحومة فهميدة فاطمة المحترمة، فكانت تداوم على الصلوات الخمسة والتهجد وتلاوة القرآن الكريم، ولقد كتب أولادها أنهم رأوها كثيرا تتضرع إلى الله ليلا. يوم كان الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة مسموحا كانت تصل إلى المسجد قبل ساعة من الخطبة، وتقضي وقتها في أداء النوافل والدعاء. كانت شجاعة وصبورة. لقد أُسر زوجها في حربَي 1965 و1971 بين الهند وباكستان. وفي المرة الأولى منهما لم تتلق أي خبر لمدة طويلة هل زوجها حي أم لا، بل كان قد اعتُبر شهيدا وصلوا عليه جنازة الغائب، لكنها مع ذلك كانت تؤمن بأن زوجها ما زال حيا وأنه سيعود إلى البيت حتما، فأكرمه الله I أخيرا وأُطلق سراحه وعاد إلى البيت. تركت المرحومة زوجها السيد محمد إبراهيم المحترم وأربعة أبناء وابنتين، وثلاثة من أبنائها واقفو الحياة، ومنهم محمد جاويد المحترم يخدم الجماعة في زيمبيا بصفته داعية، ولم يستطع السفر إلى باكستان لحضور مراسم دفن والدته. تغمدها الله بواسع رحمته وغفر لها، ووفق أولادها لمواصلة حسناتها.
الجنازة التالية هي للمرحوم محمد أحمد أنور الحيدر آبادي الذي توفّي في 24/5/2020م عن عمر يناهز 94 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد دخلتِ الأحمدية عائلتَه بواسطة جده شيخ داود أحمد. كان والد المرحوم قد أرسل ابنيه السيد محمد أحمد أنور والسيد مجيد أحمد في صغرهما إلى قاديان للدراسة.
لقد كان للمرحوم شرف رفع الأذان على منارة المسيح في قاديان. بقي محمد أحمد مع سيدنا الخليفة الثاني t منذ البداية وجاء إلى ربوة معه بعد تقسيم الهند إلى دولتين. ثم خدم سيدنا الخليفة الثالث رحمه الله أيضا سائقا لسيارته. أكمل دراسته ونال الدبلوم في التعليم الجسدي، ثم نال شهادة الماجستير في اللغة الأردية والعلوم الدينية، ومن ثَـمّ خدم إلى مدة طويلة في كلية تعليم الإسلام بربوة. ثم نذر الحياة مؤقتا من عام 1973 إلى 1976م وخدم في غامبيا. ومن عام 1978إلى 1986م درّس العلوم الدينية في كلية النساء في نائجيريا. وفي عام 1988م هاجر من باكستان إلى ألمانيا، ثم في عام 2009م انتقل من ألمانيا إلى بريطانيا ومكث هنا بعدها. ترك المرحوم وراءه أربع أبناء وابنتين، وكلهم متزوجون. كان المرحوم نائب رئيس لجنة القضاء في ألمانيا، وخدم كنائب المحاسب أيضا هنالك. تقول ابنته السيدة أمة المجيد: كان أبي كنـزا للأدعية وكان شغله الشاغل في حياته الصلاةُ والقرآن والصوم وخدمة الخلافة وكان ينصح جميع أولاده بذلك. ندعو الله تعالى أن يرحمه ويغفر له.
الجنازة الأخيرة اليوم هي للسيد سليم حسن الجابي من سوريا الذي توفي في 30 يونيو الفائت عن عمر يناهز 92 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون.
تقول بنته لبنى الجابي وحفيدته هبة الجابي التي هي زوجة الدكتور بلال طاهر وتعيش هنا في بريطانيا، تقول: ولد السيد سليم الجابي في دسمبر 1928 في إحدى ضواحي دمشق.
وتعرف على الأحمدية و هو بعمر 18 عام على يد فلاح أحمدي بسيط السيد محمد ابو الذهب فاستخار ورأى المسيح الموعود u في الرؤيا وبايعه في الرؤيا. بعد ذلك أهدى إليه السيد محمد أبو الذهب كتاب فلسفة تعاليم الاسلام للمسيح الموعود u وبعد رؤيته لصورة المسيح الموعود u في هذا الكتاب ذهب إلى أمير الجماعة الأحمدية في الشام السيد منير الحصني وبايع.
وحاربه والده وعائلته وعارضوه شديدًا ولكنه صمد.
ثم وفق للذهاب إلى باكستان في عهد المصلح الموعود الخليفة الثاني t، وقضى ست سنوات في ربوة في ظل المصلح الموعود t وتلقى العلوم الدينية هناك كما تعلّم اللغة الأردية أيضا.
تزوج في باكستان بأمر من المصلح الموعود t الذي عقد قرانه، وكانت زوجته باكستانية.
كتبت حفيدته السيدة هبة الجابي المحترمة كان جدنا يوصينا دوما ويعطينا وقتا للتعليم والتربية ويركز على أمور مثل رفع المستوى الروحاني والتمسك بالخلافة. كانت زوجته توفيت قبل بضعة أعوام وترك من ذويه ستة أولاد وأحد أبنائه الدكتور نعيم الجابي اختُطف قبل بضع سنوات ولا خبر له إلى الآن، والابن الثاني وسيم الجابي يقيم في بولندا وهو والد السيدة هبة الجابي، وكذلك يقيم ابنان وابنتان للمرحوم في سوريا. السيدة هبة الجابي تخدم الجماعة هنا في المملكة المتحدة وخاصة تعطي آراء جيدة في أعمال الترجمة وزوجها السيد بلال طاهر يقوم بأعمال الترجمة وهي تساعده، بارك الله في إخلاصهما وزادهما عرفانا.
كتبت بنت المرحوم السيدة لبنى الجابي: كان والدنا ينصحنا باجتناب التقاليد الفارغة والبدع، ويوصينا بالتعلق بالله ونشر الدعوة. كان ينفق على الفقراء بسخاء. لقد بايع كثير من الناس في سوريا ولبنان نتيجة دعوته وكان منهم بعض المسيحيين أيضا.
ثم تقول أيضا: كانت آخر وصيته لنا أن نظل مستمسكين بالخلافة ونعمل بنصائح الخليفة دائما، وألا نقصر في الدعوة، وأن ندعو الله تعالى في كل أمر، وألا نخاف أي نوع من الظلم في سبيل الحق.
وكتب السيد عمر علام، رئيس الجماعة بلبنان: قبل التعرف على الأحمديين كنا نقرأ كتب المرحوم سليم الجابي، وكان يشير فيها إلى ظهور إمام الزمان وجماعته. وبعدما قرأنا كتبه أخبرَنا عن سيدنا المسيح الموعود عليه السلام وجماعته ونصحنا بالبيعة.
(هذا كان أسلوب المرحوم، وليس ضروريا أن يصح في كل مكان. على كل حال، قد قام بالدعوة على هذا النحو، وتسبب في انضمام العديد إلى الأحمدية) وقال لنا أيضا: الآن عليكم قراءة كتب المسيح الموعود عليه السلام وخلفائه وجماعته بدلاً من كتبي.
ثم يقول: نحن الأحمديين القدامي في لبنان قد بايعنا بواسطة المرحوم، وها إننا نعترف بجميله هذا ونشكره وندعو له.
وكتب السيد معتز قزق (وهو سوري ويعيش في كندا حاليا): كنت رئيس جماعة محلية في سوريا، وقابلتُ عندها المرحوم الجابي مرارا. لقد لاحظت أنه كلما ذُكرت الخلافة عنده كان كثيرا ما يقول: أمنيتي أن أموت عند قدمي الخليفة.
وكتب الداعية مير أنجم برويز الذي يعمل في المكتب العربي المركزي هنا: كلما أُمر المرحوم بشيء باسم الخليفة كان يطيع دائما، وكان يقول على الملأ: إذا أمرني نظام الجماعة بأمر فسوف أطيعه. حضر المرحوم من سوريا الجلسةَ السنوية بالمملكة المتحدة عام 2011 وكان يقول: أمنيتي أن تخرج روحي عند قدمي الخليفة، وهذا شرف لي لا شرف بعده.
وأقول: لقد دخل كثيرون في الأحمدية بواسطة المرحوم الجابي، وأكثرهم أحمديون مخلصون وأوفياء للجماعة والخلافة. وقد أرسل إلي العديد منهم رسائل قالوا فيها إنهم قد تعلموا الكثير من المرحوم، وانضموا إلى الأحمدية بواستطه.
ثم كتب السيد مير أنجم: أخبرني المرحوم الجابي وقال: كان حضرة مولانا غلام رسول الراجيكي أمرني قال: عليك بترجمة كتابي “حياة قُدْسيٍّ” لكي يعرف العرب كيف كان صحابة المسيح الموعود عليه السلام. فنقل المرحوم “حياة قدسي” إلى العربية. كانت العربية لغته الأم، وكان يتقن لغات أخرى، حيث كان يتقن الأردية ويتحدث بها جيدا، وكان مُلِمًّا بالفارسية، وكان ملمًّا بالإنجليزية أيضا إلى حد ما.
عندما ذهبت أنا إلى قاديان للجلسة السنوية عام 2005، التقاني المرحوم هنالك، وكان لقاءً قصيرا، ولكنه قابلني بتواضع جم.
ثم حضر الجلسة السنوية بالمملكة المتحدة والتقاني أيضا بمنتهى التواضع وقال إني مؤمن بيقين كامل بالخلافة الأحمدية وأكنّ لهما حبا وطاعة كاملين، فادعُ لي أن أظل مستمسكا بنظام الخلافة دائما.
وفق الله أولاد المرحوم ونسله أيضا لكي يظلوا مستمسكين بالجماعة والخلافة بكل الوفاء، وشمل المرحومَ بمغفرته ورحمته.
وكما قلت، وربما لم أقل، سوف أصلي جنازة الغائب على كل هؤلاء بعد صلاة الجمعة إن شاء الله.