خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 9/10/2020
في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
لقد ذكرت في الخطبة الماضية سيدَنا أبا عبيدة t واليوم أيضا سأتابع ذكره. في العام الخامس عشر الهجري وقعت أكبر معركة في الشام وهي معركة اليرموك وهو اسم واد في ضواحي الشام على ضفة نهر اليرموك، حيث جاء الرومان بقيادة باهان بربع مليون مقاتل في الميدان. بينما كان عدد أفراد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف نفر تقريبا، منهم ألف من صحابة النبي r وقرابة مائة من البدريين. استعاد المسلمون بعد التشاور الجيشَ الإسلامي مؤقتا من حمص، وقالوا للمسيحيين هناك بما أننا نتخلى عن حمايتكم مؤقتا لذا نعيد إليكم جزيتكم- أي الضرائب التي كانت تؤخد منهم- لأننا لا نستطيع الآن أن ننجز أعمالكم، التي من أجلها تؤخذ الجزية. وكانت تبلغ مئات الألوف. فحين لاحظ المسيحيون حب المسلمين للحق والعدل، بدأوا يدْعون على أسطُح بيوتهم قائلين: أيها الحكام المسلمون الرحماء، نسأل الله I أن يعيدكم إلينا من جديد. ونتيجة لزحف المسلمين من حمص زادت همة الرومان أكثر، فجاؤوا إلى اليرموك في جيش عظيم لمواجهة المسلمين لكن قلوبهم كانت ترتجف من حماس المسلمين الناجم من إيمانهم، ومن ثَم كانوا يتمنون الصلح أيضا في الوقت نفسه، وكانوا يسعَون لذلك. أرسل قائد الجيش الرومي باهانُ رسوله جورج إلى الجيش الإسلامي، فلما وصل إليهم كانوا يصلُّون صلاة المغرب فتأثر كثيرا بخشوعهم وخضوعهم لله في السجدة. ثم طرح على سيدنا أبي عبيدة عددا من الأسئلة، منها ما هو اعتقادكم في عيسى u فقرأ سيدنا أبو عبيدة آية: ]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ[ (النساء172- 173)
فحين سمع جورج هذا التعليم القرآني صرح بأن هذه هي صفات المسيح بلا شك، وأن رسولكم صادق، فأسلم. الآن ما كان يريد أن يعود إلى جيشه، لكن سيدنا أبا عبيدة قال له: إن الرومان سوف يظنون في نقض العهد، لذا يجب أن تعود إليهم وعندما سيذهب السفير من هنا إلى هناك غدًا يمكن أن تأتي إلينا معه.
ثم دعا سيدنا أبو عبيدة الجيش المسيحي إلى الإسلام، وأخبرهم عن المساواة والأخوة والأخلاق الإسلامية، وفي اليوم التالي توجَّه إليهم سيدُنا خالد، لكنه لم يسفر عن أي نتيجة وبدأ الاستعداد للحرب. وخلف الجيش كانت النساء المسلمات، وكن يسقين الجنود ويعتنين بمداواة الجرحى، ويحمِّسن المقاتلين، وكانت فيهن السيدة أسماء بنت أبي بكر وزوجة أبي سفيان السيدة هند بنت عتبة، التي آمنتْ عند فتح مكة، والسيدة أم أبان وغيرهن. قبيل الحرب خاطب سيدنا أبو عبيدة أولئك المسلمات وقال لهن: أيها المجاهدات تناولن أوطاد الخيم بعد نزعها، واملأن جيوبكن بالأحجار وشجِّعن المسلمين على القتال، وقلن لهم: اليوم مواجهتكم مع العدو، فلا تولنّ أدباركم، إذا رأيتُنَّهم ينتصرون فلا تبرحن مكانكن، أما إذا رأيتُنَّهم يتقهقرون فاضربْن وجوههم بهذه الأوتاد وأمطرن عليهم هذه الأحجار، وبذلك أعِدْنَهم إلى الميدان، وارفعن أولادكن وقلن لهم عودوا وضحُّوا بحياتكم من أجل أهلكم وعيالكم والإسلام.
ثم وجَّه الخطاب إلى الرجال، وقال لهم: يا عباد الله تقدَّموا لنصر الله، ينصركْم ويثبِّتْ أقدامكم. يا عباد الله اصبروا فالصبر حصرا وسيلة الخلاص من الكفر، وسبب لنيل رضوان الله I وغسْل العار. لا تقطعوا صفوفكم ولا تبدأوا القتال، واحملوا الرماح وأمسكوا المجنّات واذكروا الله فسوف يُتم مشيئته. أي يجب أن لا تبدأوا القتال أبدا، أما إذا شُن الهجوم عليكم فلا تُولُّوا دُبركم. كان في مقدمة الجيش العدو صليبٌ من ذهب، وكان لمعانُ السلاح يبهر العيون، وكانوا مدججين بالسلاح من قمة رأسهم إلى القدمين أي كانوا يلبسون الدروع. وكانوا ربطوا في أقدامهم القيود، لكيلا يستطعيوا الهروب من المعركة فإما يَقتلوا أو يُقتَلوا. وكان القساوسة يحمسونهم بقراءة نصوص الإنجيل عليهم، فتقدم جيش العدو كموج البحر، وكان قوامه ربع مليون مقاتل، وكان المسلمون ثلاثين ألفاً فقط، فبدأ القتال، وفي البداية كانت كفة الرومان راجحة، حيث دفعوا المسلمين إلى الوراء، وكانوا قد حصلوا المعلومات سرًّا مَن من المسلمين أصحاب النبي r ومن ثم أجلسوا الرماة على تلة وقالوا لهم أن يصوِّبوا سهامهم إلى الصحابة بوجه خاص، إذ كانوا يعرفون أنه إذا قُتل كبار المسلمين فسوف تنكسر أفئدتهم ويهربون من الميدان. فقُتل كثير من الصحابة وضاعت عيون عدد منهم. فحين لاحظ ذلك عكرمةُ ابن أبي جهل الذي كان قد أسلم يوم فتح مكة وكان قد طلب من رسول الله r أن يدعو له أن يوفِّقه لتدارك ما فات، جاء مع بعض رفاقه إلى سيدنا أبي عبيدة وقال له: لقد سبق أن الصحابة قدموا خدمات كثيرة وجليلة، الآن نرجو أن تتاح لنا المتأخرين الفرصة لنيل الثواب، فسوف نشن الهجوم على قلب الجيش ونقتل القادة المسيحيين. فقال سيدنا أبو عبيدة هذا خطير جدا، إذ سوف يُقتل جميع الشباب الذين يتوجهون إلى هناك. فقال له عكرمة هذا صحيح، لكنه ليس هناك طريق سوى هذا. فهل تريد أن نَسلم نحن الشباب ويُقتل الصحابة؟ فكان متحمسا بعد الإسلام للجود بروحه في سبيل الله. فطلب عكرمة الإذن مرارا وتكرارا بشن الهجوم مع أربعمئة جندي على قلب جيش العدو، فأذن له سيدنا أبو عبيدة أخيرا، نظرا لإصراره. فأغار على مركز الجيش فهزمهم، لكنه في هذه المعركة استُشهد كثير من الشباب، وساق المسلمون الرومانَ إلى الخنادق التي كانوا قد حفروها خلفهم، ولما كانوا قد ربطوهم بالسلاسل لكي لا يهرب أحدٌ منهم، فقد وقعوا في الخنادق واحدا بعد آخر، حيث كلما وقع فيها أحدهم أخذ معه عشرة آخرين، كما غرق ثمانون ألفاً من الكفار في نهر اليرموك إثر تخلفهم، وقَتل المسلمون مائة ألف من الرومان في الميدان، واستُشهد قرابة ثلاث آلاف من المسلمين. فهذه هي معركة اليرموك.
يقول سيدنا المصلح الموعود t عنها: حين انتهت المعركة بحث المسلمون بوجه خاص عن عكرمة وأصحابه، فوجدوا اثني عشر منهم قد أصيبوا بحروح خطيرة وكان عكرمة منهم. فوصل إليه جندي مسلم فوجده في وضْع يرثى له، فقال له: عندي قليل من الماء فاشربه، فنظر عكرمة إلى جانبه فوجد حضرة الفضل بن حضرة العباس جريحا، فقال عكرمة لذلك المسلم لا تقبل حميتي أن يموت عطشا أولئك الذين آزروا النبيَّ r هم وأولادُهم يوم كنت ألدَّ أعدائه، وأعيش بعد شرب هذا الماء. فهذا الحماس للتضحية من أجل الآخرين كان قد نشأ فيه بعد الإيمان. فقال له اسقِه أولا أي حضرة الفضل بن عباس، وإذا بقي بعده شيء فأتني به، فجاء ذلك المسلم إلى حضرة فضل لكنه بدوره أشار له إلى الجريح التالي أنه أحق به، فذهب إليه لكنه وجَّهه إلى جريح آخر أن يسقيه فهو أحق به منه، وهكذا كلما وصل إلى جريح وجَّهه إلى غيره دون أن يشرب، فلما وصل إلى آخِرهم كان قد توفي، فعاد إلى من قبله وكان هو الآخر قد مات حتى وصل إلى عكرمة لكنهم كانوا قد ماتوا كلّهم.
إن أهل الشام كانوا أتباع أديان مختلفة، وكان هناك اختلافٌ في الألسنة والشعوب. فأقام أبو عبيدة بن الجراح بينهم العدل والمساواة وأعاد الأمن والسلام الداخلي وأعطى الجميع حرية دينية ونفخ فيهم روح الإسلام وقال جميعكم بني آدم والجميع إخوة ولا فرق بينكم كبشر. فهذه التهمة التي تُلصق بالإسلام أحيانا أن الناس أُجبِروا على قبول الإسلام إنما هي تهمة باطلة، لأنه أعطى هؤلاء الروميين حرية دينية وعرّف القبائل وأقام الأمن والسلام، وبسبب جهود أبي عبيدة t دخل الإسلامَ العربُ المقيمون في الشام الذين كانوا أتباع المسيحية، أسلموا بالدعوة وليس بالقوة، وبرؤية النماذج الحسنة للمسلمين كما ذكرتُ من قبل، وبالإضافة إلى ذلك آمن الروميون والمسيحيون أيضا متأثرين بأخلاقه.
وقبل فتح اليرموك بأيام تُوفي أبو بكر t وانتُخب عمر t خليفة، فولّى أبا عبيدة t إمارة الشام وقيادة الجيوش، وحين وصلت أبا عبيدة رسالة عمر بهذا التعيين كانت الحرب على ذروتها لذا لم يُظهرها أبو عبيدة، ولما علم بها خالد بن الوليد –الذي كان قائد الجيش حينها- سأله لماذا أخفيتَ ذلك، فقال أبو عبيدة: ذلك لأننا كنا مقابل العدو ولم أُرِدْ كسْر قلبك. وحين انتصر المسلمون وأراد معكسر خالد بن الوليد العودة حبس أبو عبيدة خالدا عنده لبعض الوقت، وحين انطلق خالد خاطب الناس قائلا: لتسعدوا لأن أمين الأمة أميركم، يعني أبا عبيدة، فقال أبو عبيدة: سمعتُ رسول الله r يقول إن خالدا سيف من سيوف الله. باختصار انفصل هذان القائدان بعضهما عن بعض في جوّ الحب والاحترام، هذه هي تقوى المؤمن الخالية من إبراز الاسم والرياء وحبّ المنصب والإمارة، وإذا كان ثمة هدف فهو نيل رضى الله وإقامة ملكوت الله في العالم، فهؤلاء الناس هم الأسوة الحسنة لنا، ويجب على كل مسؤول في الجماعة بل على كل أحمدي أن يضعها أمام عينيه.
وهناك حادث فتح بيت المقدس وله أيضا صلة بأبي عبيدة t، تقدم جيش المسلمين تحت قيادة عمرو بن العاص إلى فلسطين وحين حاصر بيت المقدس بعد فتوح مدن فلسطين التحق بهم جيش أبي عبيدة أيضا. سئم النصارى من التحصن وطلبوا الصلح واشترطوا أن يتولى عمر بن الخطاب t بنفسه عقد الصلح، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب برغبة النصارى هذه، فأمّر عمر t عليّا على المدينة خلفه وخرج في ربيع الأول 16 للهجرة فوصل الجابية وهي قرية في ريف دمشق حيث استقبله القادة الذين كانوا موجودين هناك، فقال عمر t: أين أخي؟ قالوا: مَن يا أمير المؤمنين؟ قال: أبو عبيدة. قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقته، فسلم عليه وسأله، ثم قال عمر للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر بن الخطاب: لو اتخذت متاعا أو قال شيئا من ذلك، قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن هذا سيبلغنا المقيل. أي أستطيع أن أهيء لي متاعا ولكنني أخشى أن أنشغل بهذه الأشياء والتسهيلات لذا لا أريدها.
وفي تلك المناسبة حدث حادث يزيد الإيمان، وقد ذكرته من قبل أيضا وهو حادث أذان بلال t. ترك بلال الأذان بعد وفاة النبي r، وفي هذه المناسبة حان وقت الصلاة فأصر الناس على عمر t أن يطلب من بلال الأذان. فحين أذّن بلال بأمر من عمر t ذرفت عيون الجميع دموعا وكان عمر t أكثر الناس بكاء لأنه تذكر زمن رسول الله r.
وردَ عن السعي الأخير لاسترداد الروميين الشامَ أن الروميين قاموا بمحاولة أخيرة ليستردوا الشام من المسلمين في 17 للهجرة، واستنجد ضد المسلمين الأكرادُ والبدو والنصارى والفرسُ من شمال الشام والجزيرة وشمال العراق والأرمينية هرقلَ الذي قدّم لهم جيشا من ثلاثين ألف جنديّ. كان سعد بن أبي وقاص قد فتح معظم مناطق الجزيرة ولكنه لم يكن قد انتصر على البدو بعد، وكانت القوة البحرية لقيصر الروم أيضا لا تزال ثابتة، فانتهز القيصر فرصة وشن هجوما شديدا مع جيش بحري كبير بينما حاصر حمصَ جيشٌ كبير من قبائل البدو وبغت بعض المدن في شمال الشام أيضا، فكتب أبو عبيدة t إلى عمر t للمدد فأمر عمرُ سعدَ بن ابي وقاص بإرسال جيش من الكوفة لإمداده، فأرسل سعد كتيبة في إمارة القعقاع بن عمرو من الكوفة، ولكن مع ذلك كان جيش الروم كبير جدا مقابل جيش المسلمين، فألقى أبو عبيدة خطابا حماسيا لجنوده وقال: يا أيها المسلمون الذي ثبت اليوم وبقي ينال الملك والمال والذي استُشهد ينال الشهادة وأشهد أن رسول الله r قال من مات وهو ليس مشركا دخل الجنة حتما. وبدأت الحرب بين الفريقين وما لبثت أن تزلزلت أقدام الروميين وهربوا حتى مرج الديباج وهو وادٍ جبلي يبعد عن مدينة مسيسة بحدود الشام بعشرة أميال، ولم يتجرأ القيصر على مهاجمة الشام بعد ذلك.
طاعون عمواس: هذا أيضا اسم وادٍ يقع على الطريق من رملة إلى بيت المقدس على بُعد ستة أميال. ورد في كتب التاريخ أنه يُسمى طاعون عمواس لأن مرض الطاعون بدأ من هنا، وأدى إلى موت الكثيرين في الشام، قال البعض أن من ماتوا نتيجته كانوا حوالي 25 ألف نسمة. وقد ورد تفصيله في رواية لصحيح البخاري عن ابن عباس قال: إن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغ لقيه أمراءُ الأجناد؛ ( وهي قرية في وادي تبوك بالحدود بين الشام والحجاز وهي -كما ورد في كتب التاريخ القديمة- تبعد عن المدينة ثلاثة عشر ليلا، وكان ذلك على بُعد ألف ميل تقريبا. حين وصل عمر t هناك لقيه امراء الأجناد) أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال عمر: «ادعُ لي المهاجرين الأوَّلين»، فدعاهم فاستشارهم، فاختلفوا فقال بعضهم: «قد خرجتَ لأمر ولا نرى أن ترجع عنه»، وقال بعضهم: «معك بقية الناس وأصحاب رسول الله r، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء»، فقال: «ارتفعوا عني»، ثم قال: «ادعوا لي الأنصار»، فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، وأخرج سيدنا عمر رضي الله عنه الأنصار، وقال ادعوا لي شيوخ قريش الذين أسلَموا يوم الفتح وهاجروا إلى المدينة. فدُعوا، ولما جاءوا سيدنا عمر أشاروا عليه بصوت رجل واحد: عليك أن ترجع بالقوم من هنا ولا تدخل بهم إلى المنطقة الموبوءة. فأعلن سيدنا عمر بين القوم بالرحيل. فسأله أبو عبيده رضي الله عنهما: هل الفرار من قدر الله ممكن؟ فقال له عمر: ليت غيرك قال هذا! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيتَ لو نزلت بإبلك في واد أحد طرفيه ذو عشب وخضرة والآخر جدبٌ، فرعيتَ جمالك في الطرف المخضر، أفلا يكون هذا بقدر الله، ولو رعيتها في الطرف الجدب، أفلا يكون هذا بقدر الله؟ قال الرواي: وبينا هم في ذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائبا لبعض شأنه، فقال: عندي حلٌّ لهذه المسألة. لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم تفشي وباء في مكان فلا تذهبوا إليه، وإذا تفشى في مكان إقامتكم فلا تفروا منه إلى مكان آخر. فشكر سيدنا عمر ربَّه ورجع.
وكتب حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه عن طاعون عمواس، قال: لما ذهب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى الشام كان الطاعون قد تفشى هناك وكان يُدعى طاعون عمواس. فأشار عليه الصحابة وقالوا: عليك أن ترجع لأن الطاعون متفش في هذه المنطقة. فقبِل مشورتهم وقرر العودة. وكان أبو عبيدة من الذين يتمسكون بظاهر الكلام، فلما علم بقرار عمر رضي الله عنهما قال له: أتفر من القضاء؟ فقال عمر رضي الله عنه: أفر من قضاء الله إلى قدر الله. بمعنى أن الله تعالى قد جعل قانونًا عامًّا وقانونًا خاصًّا، وكلاهما من الله تعالى وليس من غيره، لذا فإني لا أخالف أيًّا من قوانين الله تعالى، وإنما أفرّ من أحد أقداره إلى قدره الآخر.
ورد في التاريخ أنه لما بلغ سيدنا عمر رضي الله عنه خبر الطاعون جمع الناس للاستشارة، وقال لهم: كان الطاعون يتفشى في الشام من قبل أيضًا، فماذا كان يفعل أهلها؟ قالوا: إذا تفشى الطاعون يفرون من مكان الطاعون إلى أن تخفّ وطأته، أي يخرجون إلى المناطق الأخرى ذات الهواء النقي، بدلا من البقاء داخل المدن.
ومشيرًا إلى هذه المشورة قال عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى قد جعل قانونًا عامًّا أيضا وهو أن الذي يفر من مكان الطاعون إلى مكان نقي الهواء ينجو من هذا الوباء. فما دام هذا من قوانين الله تعالى فإني لا أخالف أيًّا من قوانينه سبحانه وتعالى، وإنما أفرّ من قضائه إلى قدره.. أي من قانونه الخاص إلى قانونه العام. فلا يمكنك أن تقول إني أفر من قضاء الله تعالى، كل ما في الأمر أني أتوجه من قانون إلى قانون آخر.
عندما عاد عمر t إلى المدينة كان قلقا جدا بسبب تفشي الطاعون، وبعث إلى أبي عبيدة رسالة أن لي بك حاجة مهمة فتعال إلى المدينة فور تلقيك الرسالة، وإذا وصلتك الرسالة ليلا فلا تنتظر الصباح وإذا وصلتك صباحا فلا تنتظر الليل. قرأ أبو عبيدة الرسالة وقال: أنا أعرف حاجة أمير المؤمنين، رحم الله عمر، فهو يريد إبقاء ما ليس باقيا. وردّ على الرسالة قائلا: يا أمير المؤمنين! لقد أدركتُ قصدك، فلا تدعُني إليك بل دعْني أبقى هنا، أنا أحد جنود المسلمين وسيحدث حتما ما هو مقدّر عند الله. وأنّى لي أن أعرض عنهم. فلما قرأ عمر t رسالته بكى وكان جالسا بين المهاجرين فسألوه: هل مات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن قد يموت. كتب عمر t إلى أبي عبيدة أن أخرِج المسلمين من هذه المنطقة واذهب بهم إلى منطقة صحية. كلما استُشهد جندي مسلم بالطاعون بكى أبو عبيدة وطلب من الله الشهادة لنفسه.
في رواية ما مفاده أنه كان يدعو عندئذ: اللهم أليس لآل أبي عبيدة نصيب في هذه الشهادة. ذات يوم ظهرت على إصبعه بثرة صغيرة فنظر إليها وقال: آمل أن يبارك الله في هذا القليل، وإذا بُورك في القليل أصبح كثيرا.
يقول العرباض بن سارية أنه عندما مرض أبو عبيدة بالطاعون ذهبتُ إليه فقال لي: سمعتُ رسول الله r يقول ما مفاده: من مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات بمرض البطن فهو شهيد، ومن مات غرقا فهو شهيد ومن مات ساقطا من السقف فهو شهيد. عندما احتضر أبو عبيدة قال للناس ما معناه: أوصيكم بوصية لو عملتم بها لنفعتكم وهي: أن أقيموا الصلاة وأدُّوا الزكاة وصوموا رمضان وتصدّقوا وحجّوا واعتمروا وأمروا فيما بينكم بالمعروف واستوصوا بأمرائكم خيرا ولا تخدعوهم. ألا لا تجعلنّكم النساء غافلين عن واجباتكم. لو عاش الإنسان ألف عام فهو راحلٌ من الدنيا يوما من الأيام على أية حال كما أنني راحل. لقد قدّر الله الموت لبني آدم فكل إنسان ميتٌ، والعاقل مَن يستعد للموت. بلّغوا سلامي إلى أمير المؤمنين وقولوا له أنني دفعتُ الأمانات كلها. ثم قال: ادفنوني هنا بحسب قراري. وهذا المكان موجود في وادي بيسان في أرض الأردن.
جاء في بعض الروايات أن أبا عبيدة بن الجراح t كان ذاهبا من الجابية إلى بيت المقدس للصلاة فوافته المنية في الطريق. وفي رواية أخرى أنه توفي في منطقة الفحل بالشام وقبره في بيسان.
لقد عيّن أبو عبيدة في مرضه الذي توفّي فيه معاذَ بن جبل في مكانه. وعندما توفي أبو عبيدة قال الناسُ: لقد فارقنا اليوم رجل لم نر أطهر منه قلبا وأنزه من الضغينة وأكثر منه حبا للناس ومواساة لهم، فادعوا الله تعالى أن يرحمه.
لقد مات أبو عبيدة بن الجراح t في الثامن عشر من الهجرة عن عمر يناهز 58 عاما. ذات مرة بعث عمر t إلى أبي عبيدة أربع آلاف درهم وأربعمئة دينار وقال لرسوله: اُنظر ما الذي يفعله بها أبو عبيدة. فعندما أوصل الرسولُ المال إلى أبي عبيدة وزّعه كله على الناس.
فلما عاد الرسولُ وقص القصة كلها على سيدنا عمر t شكر الله تعالى على أنه خلق في الإسلام أمثال أبي عبيدة. ذات مرة قال عمر t لأصحابه: تمنوا شيئا، فمنهم من قال: أتمنى أن يمتلئ هذا البيت ذهبا وأتصدق به في سبيل الله، وقال غيره أتمنى أن يمتلئ هذا البيت باللآلي والأحجار الكريمة فأتصدق بها في سبيل الله. قال عمر t تمنّوا أيضا. فقالوا: يا أمير المؤمنين لا ندري ماذا نتمنى. فقال عمر t: أتمنى أن يمتلئ هذا البيت برجال مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة بن اليمان.
ما أسعد هؤلاء الذين حظوا برضى الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة أيضا. لقد انتهى هنا ذكر أبي عبيدة بن الجراح t.
بعد الصلاة سأصلي صلاة الغائب على بعض المرحومين، أولهم الشهيد الأستاذ الدكتور نعيم الدين خَتَكْ بن فضل الدين خَتَكْ من سكان محافظة بشاور بباكستان الذي قتله الأعداء بإطلاق الرصاص عليه في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر بتاريخ 5/10/2020م. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان الشهيد عائدا إلى بيته من الكلية (كلية العلوم العليا) التي كان يدرّس فيها حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر إذ لاحقه شخصان على الدراجة النارية وأطلقا عليه الرصاص وأرداه شهيدا.
كان الشهيد بالغا من العمر 56 عاما عند الشهادة ومرتبطا بقسم التعليم منذ 25 عاما. حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من “جامعة القائد الأعظم” وحاز على المنحة وسافر إلى الصين وحصل هنالك على شهادة الدكتوراه في البيولوجيا البيئية الدقيقة. وبعدها خدم أستاذا في كلية الجامعة الإسلامية في بشاور. وكان ضمن اللجنة التي تجري مقابلات الطلاب في امتحان الدكتوراه. كانت الدوائر العلمية المختلفة في باكستان تدعوه لإلقاء المحاضرات. فظل يعمل في سلك قسم التعليم معظم حياته.
لقد دخلت الأحمدية إلى عائلة الشهيد بواسطة جده من الأب السيد رُكن الدين ختك الذي كان من سكان محافظة “كَرَك”، وانضمت جدة المرحوم السيدة بي بي نور نامة أيضا إلى الأحمدية. كان اسم والد جدته “شير زمان” وكان من أصحاب المسيح الموعود u، وعند عودته من قاديان أهداه المسيح الموعود u قميصه المبارك ولا يزال هذا القميص موجودا عند أسرة الشهيد. كان والد الشهيد السيد فضل الدين طبيبا بيطريا وتقاعد من منصب نائب المدير في نقابته، وكان شاعرا معروفا أيضا. كانت أمّ الشهيد السيدة محبوبة الرحمن أيضا تعمل نائب المديرة في نقابة التعليم وتقاعدت من هذا المنصب. لقد واجهت عائلة الشهيد معارضة مريرة إلى عدة سنين. كان والد زوجة الشهيد السيد بشير أحمد المحامي رئيس الجماعة في “اشيني بايان” محافظة بشاور وقد اختُطف في عام 2019م، ولم يُعرف شيء عنه إلى الآن. كان الشهيد يتحلى بصفات بارزة منها خدمات الجماعة على مختلف الأصعدة. كان مثقفا جدا وكان يحضر لأداء واجب الحراسة أيضا. كان من صفاته البارزة الضيافة ومواساة الخلق، ومساعدة أفراد العائلة الفقراء ماليا، ومواساة كل فرد في العائلة. كان مهتما بالتعليم كثيرا فكان يحث الشباب الأحمديين دائما على التعلّم. وقد علّم أولاده أيضا إلى مستوى عال جدا.
تقول أرملته السيدة سعدية بشرى أن الشهيد ذهب إلى “بهشتي مقبرة” (مقبرة الجنة) في ربوة قبل أسبوع من استشهاده وقال: ليتني أُدفَن هنا. ثم قال: أنّى يكون ذلك في نصيبي!! ولكن الله تعالى قد حقق أمنيته هذه بحيث قد دُفن في ربوة.
يقول أخو زوجته الدكتور منير أحمد خان الذي يعمل في “معهد طاهر لأمراض القلب” في ربوة: أن الشهيد أخبره أن هناك أستاذا من زملائه الذي يعارضه كثيرا ويُري صورته وصور أولاده للأعداء ويحرضهم على قتلهم. وقد أُلصقت خارج بيته أيضا لافتات معادية. يضيف الراوي قائلا: عندما جاء للقائي قبل أسبوع من استشهاده دعوتُه للطعام ولكنه قال: سوف آكل في دار الضيافة للجماعة لأن اللذة التي توجد في الطعام في ضيافة المسيح الموعود (أي في دار الضيافة) والبركة التي تُوجد في الطعام فيها لا توجد في أي طعام آخر، فسآكل عندك في وقت آخر.
ترك الشهيد وراءه أرملة، السيدة سعدية وثلاث بنات وابنين. إحدى بناته متزوجة وبنتان تدرسان. أحد ابنيه السيد كليم الدين ختك مهندس والابن الثاني السيد نور الدين ختك يدرس في السنة الأولى في الكلية. أحد أقارب الشهيد الذي يخدم الجماعة اسمه السيد نويد أحمد وهو أمير الجماعة في بشاور وهو أيضا أخو زوجته. ندعو الله تعالى أن يغفر للشهيد المرحوم ويرحمه ويلهم ذويه الصبر والسلوان.
الجنازة الثانية هي للعزيز أسامة صادق الذي كان طالبا في الجامعة الأحمدية بألمانيا وقد مات غرقا في نهر “رائن” في ألمانيا قبل بضعة أيام. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم بالغا من العمر عشرين عاما عند الوفاة. كان من سكان “جَك اسكندر” محافظة غوجرات بباكستان، وكان أصغر أشقائه وترك وراءه أبويه وخمس أخوات وأخا واحدا. دخلت الأحمدية إلى عائلة المرحوم بواسطة جدِّه من الأب، في عهد سيدنا المصلح الموعود t حين دخل جدّه الأحمدية مع شقيقَيه، لكن شقيقيه ارتدا من الأحمدية فيما بعد ولكنه ظل ثابتا. أما عائلة المرحوم من ناحية الأم فقد دخلت فيها الأحمدية بواسطة والد جدّه السيد شاه محمد ووالده السيد لنغر محمد اللذين كانا من أصحاب المسيح الموعود u وقد بايعا على يده في عام 1903م في مدينة جِهْلُم. في عام 1989م ساءت ظروف الأحمديين في قرية “جك اسكندر” وخرج الناس في تظاهرات ضدهم، حيث واجه أبوا المرحوم أيضا معارضة شديدة، وضرب المعارضون أُمّ المرحوم أيضا ورفعوا ضد والده السيد صادق قضية زائفة استمرت إلى سبع سنين. ثم جاءت العائلة إلى ألمانيا بعد أن حاز المرحوم تعليما ابتدائيا في باكستان. وبعد مجيء العائلة إلى ألمانيا التحق المرحوم بالجامعة الأحمدية هنالك، وكان قد أكمل السنة الثالثة فيها قبل أن توّفاه الله تعالى بقدره وقضائه.
يقول والده المحترم: مهما مدحتُ المرحوم لن أفي بحقه، فقد قام بأعمال كثيرة في عمره القليل. كان شابا نشيطا جدا بصفته طالبا يقضي معظم وقته في الدراسة، وقد قضى ستة أشهر الأخيرة في البيت بسبب الفيروس كورونا. كان ملتزما بالصلاة جماعة وصام شهر رمضان الفائت كله. كان يؤم صلاة التراويح في البيت. كان في هذه الأيام يجهز نفسه للذهاب إلى الجامعة الأحمدية بعد قضاء العطلات، ولكنه لحق بربه قبل ذلك. تقول والدته أن المرحوم كان يتحلى بمزايا كثيرة جدا، كان ينجز كل عمل بسرعة وجدية وبشعور بالمسؤولية. كان بسيط الطبع وقليل الكلام لا يتكلم إلا عند الضرورة. كان مطيعا جدا للوالدين، وذا عزيمة قوية وطبع جاد وذا بصيرة نافذة، وكان يسعى جاهدا لإتقان لغات مختلفة مع التركيز على العربية والفارسية والإنجليزية والألمانية بوجه خاص.
يقول سكرتير التربية الوطني في ألمانيا إن العزيز أسامة كان يتحلى بمزايا كثيرة، بما فيها حبّه للاشتراك في نشاطات تبشيرية. قبل وفاته بيومين ذهب إلى ألمانيا الشرقية لتوزيع المناشير. كلما طُلب منه الاشتراك في حملة توزيع المناشير لم يرفض قط بل اشترك فيها بكل شوق دائما.
يقول الداعية صهيب ناصر الذي تخرج من الجامعة الأحمدية في ألمانيا بأن المرحوم كان أصغر مني بأربعة سنوات في الجامعة إلا أنه كان نموذجًا لي. لقد رأيته دائما في الصف الأول من المسجد، حيث كان يأتي قبل الصلاة بوقت ويؤدي النوافل. ثم كان ينشغل بالذكر الإلهي بعد أداء الصلاة، وكان من بين أولئك الطلاب الذين كانوا يسبقون الناس إلى المسجد وهم آخر مَن يخرجون منه. كذلك كان يجلس في الصف الأول في صلاة الجمعة أيضا، وإضافة إلى ذلك كان جادًّا في دراسته في الجامعة. غفر الله له ورحمه ورفع درجاته وألهم الصبر والسلوان لوالديه وإخوته.
والجنازة التالية للسيد سليم أحمد ملك الذي ظل يعمل في سلك التدريس هنا في الدوائر الحكومية أو في المؤسسات التعليمية الأخرى، وبعد تقاعده لما بدأت الجامعة الأحمدية هنا فقد عمل أستاذا فيها. لقد وافته المنية في 24 سبتمبر الفائت عن عمر يناهز 87 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان جده ملك نور الدين ووالده ملك عزيز أحمد من صحابة المسيح الموعود u. وهناك واقعة تتعلق بوالده وقد روتها والدته وهي أنه قد مات عدد كبير من أفراد عائلة جده جراء مرض ما فذكرت جدّتُه حالة ولدِها السيئة للحكيم مولانا نور الدين فجاء فورًا إلى بيتها لفحص ابنها، وقال لها بعد الفحص بأن هناك إمكانية ضئيلة جدًّا لنجاة الطفل من الموت، ولا ينقذه إلا الدعاء. ثم حضر مولانا نور الدين عند المسيح الموعود u ليلتمس منه الدعاء، فوجده عند سلم المسجد الأقصى فالتمس منه الدعاء فقال له حضرته u: نذهب الآن ونتفقد حالة الولد. فذهب المسيح الموعود u إلى بيته ووضع يده على جبين الطفل ثم قال: سوف يبرأ هذا الطفل بإذن الله تعالى. فكانت معجزة استجابة دعاء حضرته u إذ شفي الطفل -وهو والد المرحوم- وعاش بعد ذلك سبعين عاما.
لقد تلقى السيد “سليم ملك” التعليم الابتدائي في قاديان، وبعد انفصال باكستان استوطن في مدينة سيالكوت حيث درس في الكلية ثم سافر إلى كراتشي وتلقى فيها الدراسة في العلوم. انتقل إلى بريطانيا في 1960، وظلّ يعمل سنوات عديدة محاضرًا لمادة الكيمياء الجيولوجية في جامعة “ريدنغ”.
لقد وفق المرحوم من البداية لخدمة الجماعة في بريطانيا في شعب كثيرة، فقد تم تعيينه سكرتيرًا للتعليم والتربية، كما ظل يخدم بوصفه سكرتيرًا لأمور الخارجة فترة طويلة. ثم عمل كثيرا في شعبة العلاقات الدولية. لقد رافق لجنة حقوق الإنسان مرتين إلى باكستان من أجل استعراض أوضاع الأحمديين ووُفّق لإعداد تقرير مفصل. هناك معرض دولي كبير يقام سنويا في مختلف بلاد العالم، ووفق المرحوم ملك سليم في عام 1992 لإقامة جناح الجماعة وتنسيقه في هذا المعرض في بريطانيا وكذلك في إسبانيا.
لقد أقام الخليفة الرابع رحمه الله تعالى في عام 1997 لجنة لإنشاء الجامعة الأحمدية في بريطانيا وجعل السيد سليم ملك عضوًا فيها. كذلك كان يشارك في اللجان التي أقيمت قبل بدء الدراسة في الجامعة الأحمدية. وعند بدء الجامعة الأحمدية في بريطانيا تم تعيينه كمدير أعلى لها وظل يؤدي هذه المسؤولية حتى 13 نوفمبر 2005. ثم وفّق لتعليم طلاب الجامعة الأحمدية في بريطانيا مادة اللغة الإنكليزية والتاريخ واستمر ذلك إلى وفاته. ولمّا تم شراء أرض إسلام آباد وفق المرحوم لإنشاء المكتبة العامة هناك بإرشاد من الخليفة الرابع رحمه الله تعالى.
كان المرحوم صالحًا متديّنًا ومواظبًا على الصلوات والصيام، ومتودّدًا إلى الناس ومحبًّا لهم، وكان داعيًا إلى الله بالقول الحسن، وكان مضيافًا ومحبًّا للخلافة ومحافظًا على العلاقة معها بكل إخلاص ووفاء.
لقد ترك خلفه زوجته وثلاث بنات وكثيراً من الأحفاد والحفيدات.
يقول ابن اخته ميان عبد الوهاب: أخبرني المرحوم أنه لما جاء إلى لندن في عام 1960 نصحه والده السيد ملك عزيز أحمد الذي كان مريضا في ذلك الوقت، وكان من بين نصائحه له:
- لا تقطعنّ العلاقة مع الجماعة. إنك تسافر إلى الولايات المتحدة فلا تغرقن في إغراءاتها.
- أدّ التبرعات دومًا بكامل النسبة. وهذا ضروري أيضا لإصلاح النفس.
- إن سألك أحد المساعدة فلا تتأخر من تقديمها مهما سبب ذلك ضيقًا عليك.
فكان يقول المرحوم: لقد عملت بنصائح والدي دومًا.
يقول ابن اخته بأنني علمت لاحقًا دون أن يخبرني المرحوم أن أحد أقاربه كان بحاجة إلى مبلغ كبير من المال فباع المرحوم بيته وهكذا سدد حاجة قريبه. ثم بعد ذلك أنعم الله تعالى على المرحوم ببيت أكبر.
كان شخصية علمية كبيرة. لما التقيتُ به في البداية فلم أكن أعرفه وكان ظنّي فيه أنه أحمدي عادي يستطيع تدريس اللغة الإنكليزية فربما لغته الإنكليزية جيدة، ولكنني عرفت لاحقا أنه كان سباقًا في مجال الإخلاص والوفاء، وكان مستعدًّا دائما لخدمة الجماعة. كان على علاقة بارزة مع الخلافة وكان يكن لها تقديرًا عظيمًا. وكان من الناحية العلمية موسوعة حيّة لجميع المواضيع ولاسيما مادة التاريخ التي كان محيطًا بها، وعلاوة على ذلك كان شغوفًا بالأدب الإنكليزي والأردي أيضا. غير أنه لم يكن يتظاهر بعلميته وكان يرغّب الآخرين بازدياد علمهم الديني والدنيوي. كانت له علاقات واسعة في الجالية الباكستانية السياسية والعلمية أيضا وكان يستخدم علاقاته هذه دومًا لفائدة الجماعة.
ولما كان يخدم بوصفه سيكرتيرًا لأمور الخارجة أقام علاقة حميمة ووثيقة مع اللورد أيبري، ومن خلاله أنشئت صلة الجماعة مع اللورد أيبري. كما كان لملك سليم دور كبير في تنسيق زيارتي الأولى للبرلمان البريطاني.
يقول السيد “مروان سرور غل” داعية الجماعة في الأرجنتين: كان المرحوم يتمتع باحترام خاص لكونه شخصية علمية. لقد كان على علاقة شخصية مع طلاب الجامعة كلها وأقام معي أيضا علاقة شخصية رائعة ولا سيما بعد تخرجي من الجامعة لما تمّ تعييني كداعية في الأرجنتين سُرّ جدًّا وكان يقول لي: أنت الآن المبشر المؤسس هناك لذلك ستكون هناك حاجة العمل الكثيف، فعليك نشر صيتٍ حسنٍ للجماعة والقيام بالتبليغ على أسلوب صحيح، وعليك الاهتمام الخاص بتعلم لغة ذلك البلد وينبغي أن يبلغ مستوى لغتك درجة بحيث تكتب مقالات للجرائد وهي تنشرها لك. كان المرحوم يتوق إلى مثل هذه الأمور من الناحية العلمية.
إضافة إلى ذلك، كان يقيم في بيته مأدبة للطلاب ثم كان يأخذهم إلى مكتبته الخاصة، وذكر لي بعض الطلاب والدعاة أيضا أنه كان يقول لهم بأنكم أتيتم إلى بيتي وهديّتكم بهذه المناسبة أن تختاروا أي كتاب تحبونه من هذه المكتبة لتأخذوه معكم.
وكان يقول دومًا إنّ الجامعة الأحمدية مؤسسة غير عادية ويعقد بها خليفة المسيح آمالا كثيرة لذلك على الواقفين الذين يدرسون فيها أن يحرزوا مستويات علمية غير عادية.
ثم يكتب السيد مروان: قبل مغادرتي إلى الأرجنتين نصحني المرحوم -كما ذكرت ذلك- قائلا: ينبغي أن تحرز شوطًا كبيرًا في اللغة الإسبانية بحيث تنشر لك المقالات في الجرائد. ثم أوصاني أن أتراسل معه. فإذا تكاسلت أحيانًا فإنه كان يتواصل معي وينصحني بالتراسل.
غفر الله له ورحمه ووفق ذويه وأولاده وذريتهم أيضا للارتباط بالخلافة والجماعة بالإخلاص والوفاء.
سأصلي صلاة الغائب عليهم جميعًا بعد صلاتي الجمعة والعصر.