خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 16/10/2020م
في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
بسم الله الرحمن الرحیم
الصحابي البدري الذي أتناول ذكره اليوم هو معوّذ بن الحارث. كان معوذ من أنصار الخزرج. والده حارث بن رفاعة ووالدته عفراء بنت عبيد. كان له أخَوان، معاذ وعوف ، وكان هؤلاء الإخوة الثلاثة يُعرَفون باسم أمهم إضافة إلى أبيهم، فكانوا يُعرَفون ببني عفراء. لقد ذكر ابن اسحاق أن معوذًا شهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار. تزوج معوذ من أمّ يزيد بنت قيس فوُلد له منها بنتان وهما الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ وعميرة بنت معوّذ.
شهد معوذ بدرًا مع أخويه معاذ وعوف. وفي بدر كان لمعاذ وعوف ومعوذ -الذين سُمّوا ببني عفراء – ولمولى لهم أبي الحمراء جملٌ واحد فحسب وكانوا يتناوبون الركوب عليه.
ولقد ذُكرتْ روايةٌ سردتها عند ذكر معاذ سابقا ولا بد أن تُذكر هنا في ذكر معوذ أيضا.
عن أَنَسٍ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ قَالَ أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ (صحيح البخاري، كتاب المغازي).
وقال سيد زين العابدين ولي الله شاه في شرح هذه الرواية للبخاري: ورد في بعض الروايات أن معوذا ومعاذا ابني عفراء قد ضربا أبا جهل حتى أوشك على الموت، ثم قام عبد الله بن مسعود بقطع رأسه عن جسده. وقال العلامة ابن حجر العسقلاني: من المحتمل أن يكون معوذ بن عفراء أيضا قد ضرب أبا جهل بسيفه، بعد أن ضربه معاذ بن عمرو ومعاذ بن عفراء.
قال الخليفة الثاني t وهو يذكر واقعة قتل أبي جهل: يفرح الإنسان كثيرا في بعض الأحيان ويعتبر شيئا ما مفيدا له، غير أن الشيء نفسه يسبب له الدمار ويقضي عليه في نهاية المطاف. فلما جاء كفار مكة بمناسبة وقعة بدر ظنوا أنهم قد قضوا على المسلمين، وقال أبو جهل: سنحتفل بفشل المسلمين ونشرب الخمور، وظنّوا أنهم لن يرجعوا اليوم إلا بعد القضاء على المسلمين، ولكن قتله طفلان صغيران من المدينة. كان كفار مكة يحتقرون أهل المدينة، غير أنه ـ أي أبو جهل ـ قتل بيدهم واضطر للتحسر بحيث لم تتحقق أمنيته الأخيرة أيضا. كان معروفا عند العرب أنه لو قتل في الحرب أحد الأسياد قطعوا رأسه مع طول رقبته ليُعرف أنه كان رئيسًا أو سيّدًا فيهم. لقد رآه عبد الله بن مسعود وهو جريح وليس به حراك، فسأله: كيف تجدك الآن؟ قال: إني لا أحزن على شيء غير أنه قتلني ولدان من الأكارين اللذين هم أولاد زارعي الخضار والفلاحين. وكان أهل مكة يزدرون أهلَ المدينة ومهنتهم وكانوا يقولون: ما لهؤلاء الأكّارين وللحرب. ولكن انظروا إلى آيات الله، فقد قُتل أبو جهل وقضي على غطرسته بيد هؤلاء، بل بيد أولاد هؤلاء الذين لم تكن لديهم خبرة في فن الحرب.
سأله عبد الله بن مسعود ماذا تريد؟ فقال: أمنيتي أن تقطع رقبتي طويلا، فقال له: لن أحقق لك أمنيتك هذه أيضا، وقطع رقبته قريبًا من الذقن، وهكذا فقد تحولت الفرحة التي كان ينوي أبو جهل الاحتفال بها إلى مأتم له، وما قدّر له أن يهضم الخمور التي شربها بهذه المناسبة.
استشهد معوذ في غزوة بدر وهو يقاتل، وقتله أبو مسافع.
الصحابي الآخر الذي أتناول ذكره هو أبي بن كعب t. كان من الأنصار من بني معاوية أحد بطون الخزرج. والده كعب بن قيس وأمه صهيلة بنت الأسود. له كنيتان أحدهما أبو المنذر وسماه بها النبي r والثانية أبو الطفيل وسماه بها عمر t بسبب ابنه الطفيل.
كان أبيّ رجلاً دحداحًا أي متوسط القامة، وكان أبيض الرأس واللحية ولم يكن يغير شيبه بالتخضيب، فلم يكن يخضب رأسه ولا لحيته. وقد شهد أبي بن كعب العقبة الثانية مع سبعين شخصًا.
كان أبيّ يعرف القراءة والكتابة قبل الإسلام وبعد إسلامه تشرف بكتابة الوحي النازل على النبي r.
آخى النبي r بين أبي وطلحة بن عبيد الله، وفي وراية أنه r آخى بينه وبين سعيد بن زيد.
لقد ورد عنه أن الله تعالى أمر رسول الله r أن يسمع أبيًّا القرآن. وقال النبي r: أقرأ أمتي أبيّ.
ولهذا السبب ورد عنه أنه كان عالـما بالقرآن الكريم، وستأتي روايات أخرى حول هذا الموضوع.
يقول المصلح الموعود t:
كان أبيّ بن كعب t أحد الأربعة الذين قال النبي r عنهم أنهم قراء الأمة أي مَن أراد أن يتعلم القرآن فليتعلمْ مِن هؤلاء.
ثم يقول المصلح الموعود t:
إن كتبة الوحي الذين كان الرسول r يستخدمهم في كتابة القرآن الكريم قد ثبت من التاريخ خمسة عشر اسمًا لهؤلاء، وهم: زيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن سعد بن أبي السّرح، والزبير بن العوّام، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، ومُعيقيب بن أبي فاطمة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وشُرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ رضوان الله عليهم أجمعين.
وكلما تلقى الرسول rآيات من الوحي القرآني، كان يستدعي أحد هؤلاء، ويمليه بنفسه نص الوحي الذي تلقاه.
قال المصلح الموعود t: كان النبي r قد اختار جماعة من المعلمين، فكانوا يقومون بحفظ القرآن المجيد تحت إشرافه r شخصيًّا، ثم بعد ذلك كانوا يقومون بتعليم الناس الآخرين. وقد درّب الأربعة الذين كان عملهم أن يتعلموا القرآن على يد النبي r ثم يعلموه الآخرين بدورهم. ثم كانت هناك جماعة من الصحابة تحت إشرافهم تعلم الناسَ القرآن الكريم.
وأسماء هؤلاء الأساتذة الأربعة الكبار كالتالي:
عبد الله بن مسعود، سالم مولى أبي حُذيفة، مُعاذ بن جبل، أُبيّ بن كعب.
كان الأول والثاني من هؤلاء من المهاجرين، وكان الثالث والرابع من الأنصار. وكان عبد الله بن مسعود عاملاً يشتغل، وكان سالم عبدًا مُحرّرًا. أما معاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب فكانا من زعماء أهل المدينة، وهذا يدل على أن الرسول r قد عيّن معلمي القرآن من مختلف القطاعات، وقد ورد في الحديث أن الرسول r كان يقول: “خذوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ”
لقد تعلم هؤلاء الأربعة القرآن المجيد من الرسول r مباشرة أو صححوا قراءتهم تحت إشرافه، ولكن كان هناك عدد من الصحابة غيرهم أيضًا الذين كانوا يتعلمون من النبي r مباشرة أجزاء كثيرة من القرآن الكريم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ النَّبِيُّ r لِأُبَيٍّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ). قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ r: نَعَمْ، فَبَكَى أبيّ.
هذه رواية البخاري وهناك رواية أخرى ورد فيها: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: أَاللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ. (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن)
لقد ذكر المصلح الموعود t تفصيل هذه الواقعة بكلماته فقال:
وعن أَبي حَبَّةَ الْبَدْريّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا..) إِلَى آخِرِهَا قَالَ جِبْرِيلُ أي أنه أوصلني أمر الله تعالى وهي: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًّا. فَقَالَ النَّبِيُّ r لِأُبَيٍّ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أي أبلغني أمر الله تعالى أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ. قَالَ أُبَيٌّ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عنده يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَبَكَى أُبَيٌّ فرحًا.
لقد أحيا عمر الفاروق بعد رسول الله r ذكرى هذه الجملة مرات عديدة، ففي إحدى المرات قال على منبر المسجد النبوي: أقرأ القراء أبي بن كعب.
ثم أثناء سفره الشهير إلى الشام خطب عمر t بالجابية -وهي قرية في منطقة دمشق- فقال: من أراد القرآن فليأت أبيًّا، أي من يريد أن يتعلم القرآن فليأت أبيًّا.
عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ r أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ. رواه البخاري.
قال المصلح الموعود t: “ومن بين الأنصار كان أيضًا أولئك الذين عُرفوا بأنهم من حُفّاظ القرآن المجيد وهم: عبادة بن الصامت، مُعاذ بن جبل، مجمع بن حارثة، فضالة بن عُبيْد، مَسلَمة بن مُخلّد، أبو الدرداء، أبو زيد، زيد بن ثابت، أبي بن كعب، سعد بن عبادة، أم ورقة. (التفسير الوسيط)
قال النبي r: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، (أي هو متمسك بالمبادئ بشدة) وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.” (سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة) وقد تناولتُ ذكر أبي عبيدة من قبل.
أول من كتب الوحي لرسول الله r بعد قدومه إلى المدينة أبيُّ بن كعب. ما كان يُكتب في آخر الكتاب أو القرآن اسم الكاتب في ذلك الزمن، وأول من كتب في آخر الكتاب “وكتب فلان” هو أبي بن كعب، وبعده بدأ الآخرون أيضا يقلدونه، لم يكن هذا الطريق في البداية ولكن حين بدأ أبي بن كعب كتابة اسمه في آخر الوحي ليدل على الكاتب راج هذا الطريق.
حفظ أبيّ كل حرف للقرآن الكريم من فم الرسول r وكان النبي r يهتم بتعليمه بوجه خاص نظرا إلى شوقه. كان رعب النبوة يمنع كبار الصحابة من السؤال ولكن أبيا t كان يسأله ما شاء بلا خجل، وذلك رغبةً في العلم ولم يكن يسأل عبثا بل كان يسأل كما ينبغي السؤال في دائرة الأدب مراعيا مقام النبوة إلا أنه لم يكن يخجل من السؤال. ونظراً إلى شوقه كان النبي r في بعض الأحيان يشرح له من عند نفسه أيضا بغير سؤاله.
ذات مرة صلى النبي r الفجر فترك آية، لم يحضر أبي بن كعب في بداية الصلاة بل في وسطها، فلما أنهى النبي صلاته سأل الناسَ: أيكم أخذ علي شيئا من قراءتي؟ ثم قال: أفي القوم أُبيّ بن كعب؟ لعل أُبي حضر الصلاة في الركعة الثانية التي نسي فيها النبي r قراءة آية، وكان أبي t قد سمعها، وحين أنهى أبي صلاته قال: يا رسول الله، إنك لم تقرأ آية كذا فهل نُسخت أو نسيتها؟ فقال النبي r: نسيتُها. ثم قال: قد علمت إن كان أحد أخذها عليّ فإنك أنت هو. (مسند أحمد، كتاب مسند الأنصار y)
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ r، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ r فَقَرَأَا فَحَسَّنَ النَّبِيُّ r شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنْ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. (كان أبيّ خطّأهما وحين أقرّ النبي r بصحة قراءتهما شعر أبيّ بخجل لدرجة لم يشعر بها في حياته) فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ r مَا قَدْ غَشِيَنِي (أي ظهر الخجل في وجهي) ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا، فَقَالَ لِي: يَا أُبَيُّ، أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنْ اقْرَأْ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، (أي قال جبريل للنبي r: يمكنك أن تسأل وتطلب شيئا مقابل كل مرة رددت إليّ) فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ r. (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها)
يتبين كمال أبيّ بن كعب في قراءة القرآن الكريم من هذا الأمر أن النبي r نفسه كان يقرأ القرآن على أبيّ، ففي العام الذي تُوفّيَ فيه رسول الله r قرأ القرآن على أُبي وقال: أمرني جبريل أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ النبي r القرآن على أُبي t.
كان أُبي بن كعب في عهد النبي r يُقرئ رجلا فارسيا فكان إذا قرأ عليه: إن شجرة الزقوم طعام الأثيم. قال: طعام اليتيم. (لأنه كان لا يستطيع لفظ الأثيم بشكل صحيح فكان يقول اليتيم بدل الأثيم مما كان أبيّ قلقا كيف يعلّمه) فمرّ به النبي r وحين رأه قلقا وقف عنده وقال: قل له: طعام الظالم. فقالها ففصحت بها لسانه، فقال: يا أبي قوِّم لسانه وعلّمه فإنك مأجور. (جامع الأحاديث)
مرة قرأ رسولُ اللهِ r يَوْمَ الْجُمُعَةِ سورة براءة، كان أَبُو الدَّرْدَاءِ أَوْ أَبُو ذَرٍّ لا يعلم بهذه السورة، ففي أثناء الخطبة غمز أبيّ بن كعب فَقَالَ: مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهَا إِلَّا الْآنَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أُبي أَنْ اسْكُتْ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ سَأَلْتُكَ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَلَمْ تُخْبِرْنِي، فَقَالَ أُبَيٌّ لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَا لَغَوْتَ. فَذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ r فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَالَ أُبَيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: صَدَقَ أُبَيٌّ. (سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها) أي كان ينبغي ألا تتكلم في الخطبة.
عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله r: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال أُبي: قلتُ الله ورسوله أعلم، قال (مرة أخرى): يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت “الله لا إله إلا هو الحي القيوم” قال: فضرب في صدري وقال: والله لِيهنك العلمُ أبا المنذر. (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها) أي أقرّ بجوابه وأحبَّه.
في العهد النبوي المبارك علّم أبي بن كعب طفيل بن عمرو الدوسي القرآن فأهداه قوسا، فغدا إلى النبي r متقلدها، فقال له النبي r: من سلّحك هذه القوس يا أبيّ؟ قال: أهداني تلميذ لي أقرأته القرآن، فقال له رسول الله r: أرجعه ولا تأخذ مثل هذه الهدايا في المستقبل. فقال: يا رسول الله، إنا نأكل من طعامهم. فقال: أما طعامٌ صنع لغيرك فحضرته فلا بأس أن تأكله، وأمّا ما صُنع لك فإنك إن أكلته فإنما تأكل بخلاقك. (المعجم الأوسط للطبراني) وكذلك أهداه تلميذ آخر ثوبا وحدث الشيء نفسه فاجتنب أُبيّ من هذه الأمور كلية. أي ينبغي عدم أخذ أي هدية مقابل تعليم القرآن الكريم.
عندما كان أهل الشام يتعلمون منه القرآن الكريم، كانوا يستكتبون من كُتّاب المدينة، ويدفعون لهم الأجر بإشراكهم في طعامهم، أي كانت أجرة ما كتبوا لهم ما يأكلون معهم، ولكن أبي رضي الله عنه ما كان يقبل دعوة أهل الشام للطعام. وذات مرة سأله سيدنا عمر رضي الله عنهما: كيف وجدت طعام أهل الشام؟ فقال: إني لا آكل عندهم، بل آكل من بيتي.
شهد أُبيّ بن كعب رضي الله عنه بدرًا وأحدا والخندق وسائر الغزوات مع النبي صلَى الله عليه وسلم.
رُمِيَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ (والأكحل عرق في البدن يوصل الدم إلى الرأس وما وراء الصدر واليدين والرجلين وغيرها)، فَأَرسل إليه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طبيبا فقطع أَكْحَله وكوى عليه. وهناك واقعة من غزوة أحد وقد ذكرتُها من قبل، وأذكرها هنا أيضا باختصار.
بعد القتال يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب رضي الله عنه اذهب وابحث عن الجرحى. فخرج يبحث حتى وصل إلى سعد بن الربيع رضي الله عنه، وكان به جراح شديدة ويلتقط أنفاسه الأخيرة. فقال له أبي إن شئت بعثت معي برسالة إلى أقاربك؟ فتبسم سعد رضي الله عنه وقال كنت أنتظر أن يمر بي مسلم فأبعث معه برسالتي. ثم قال: ضع يدك في يدي تعدني أنك ستبلّغ رسالتي حتما. وما هي الرسالة التي بعث بها، هي: بلّغْ إخوتي المسلمين سلامي، وقُلْ لعشيرتي وأقاربي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل أمانة ربانية عندنا، وقد دافعنا عنها بأرواحنا، وها إنا نسلم هذه الأمانة لكم الآن ونرحل، فحذار أن تقصروا في الذود عن هذه الأمانة.
عندما فرضت الزكاة في السنة التاسعة الهجرية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عماله إلى مختلف أنحاء الجزيرة لجلب الصدقات، وجعل أُبي بن كعب عاملا على صدقات بني بلي وبني سعد. وذات مرة ذهب أُبي رضي الله عنه إلى قرية، وجاء واحد من أهلها بكل مواشيه ليختار منها أُبيّ ما يشاء زكاةً منه. فاختار أبي رضي الله عنه حِقًّا (أي ما عُمره سنتان من أولاد الإبل)، فقال له المتصدّق ما الفائدة في أخْذ هذا، إنه لا يُحلَب ولا يُركَب، فخُذْ هذه الناقة القوية الشابة إن شئت. فقال أُبي رضي الله عنه لن أفعل ذلك، لأن هذا يتنافى مع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأفضل أن تأتي معي إلى المدينة التي ليست ببعيدة من هنا، لنسأل النبي صلى الله عليه وسلم ونعمل بأمره. فرضي الرجل وجاء بناقته إلى المدينة مع أبي بن كعب رضي الله عنه، وقص قصته على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن تعطي هذه الناقة الكبيرة عن رضا فنقبلها، وسوف يجزيك الله عليها. فقدم الرجل ناقته للنبي صلى الله عليه وسلم ورجع.
في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بدأ العمل على تدوين القرآن الكريم وترتيبه وعُهدت هذه الخدمة إلى جماعة من الصحابة تحت رياسة أُبي بن كعب رضي الله عنهم، فكان يقرأ عليهم كلمات القرآن الكريم فيكتبونها. كانت هذه الجماعة أهل علم ورأي، فكان النقاش يدور حول بعض الآيات، فلما كتبوا قول الله تعالى {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}
قالوا إن هذه الآية آخر ما نزل. فقال أبي رضي الله عنه: كلا، بل قد نزلت بعدها آيتان قد علّمنيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما آخر ما نزل، أما هذه فكانت قبلهما.
سَنَّ سيدُنا عمر رضي الله عنه في خلافته مئات الأمور المفيدة، ومنها إقامة مجلس الشورى. (فنظام الشورى أقيم في عهد عمر رضي الله عنه) وكان هذا المجلس يضم كبار الأنصار والمهاجرين، وكان أُبي بن كعب يمثّل فيه الخزرجَ.
قال رجل يقال له جابر بن الزبير طلبتُ حاجة إلى عمر وإلى جنبه رجل أبيض الثياب والشعر، فقال الرجل: إن الدنيا فيها بلاغنا، وزادنا إلى الآخرة، وفيها أعمالنا التي نجزى بها في الآخرة. فقلت: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ. فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. أي كانوا يصلّون النوافل بالليل.
كان أبي بن كعب رضي الله عنه من كبار الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم عددا كبيرا من أحاديثه، لذا كان كثير من الصلحاء تلاميذه في درس الحديث، فكان أكثر من يحضر درسه الصحابة يسمعون منه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان ممن يستفيد منه في علم الحديث: عمر بن الخطاب، أبو أيوب الأنصاري، عبادة بن الصامت، وأبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، سهل بن سعد، ظلمان بن ثردية، رضوان الله عليه وأجمعين.
جاء قيس بن عبادة إلى المدينة للقاء الصحابة، فقال: لم أجد أحدًا أفضل من أُبي بن كعب رضي الله عنه. ذات يوم كان موعد صلاة وكان الناس حضورا، وكان عمر بينهم رضي الله عنهم، وكان هناك حاجة لتعليم الناس في أمر من الأمور، فقام أُبي رضي الله عنه بعد انتهاء الصلاة وبلّغهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يصغون إليه وكأن على رؤوسهم الطير. وبرؤية هذا تأثر قيس من مكانة أُبي العظيمة.
وكان أُبي بن كعب رضي الله عنه يجيد استنباط المسائل الفقهية من القرآن الكريم. جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إني وضعتُ بعد وفاة زوجي قبل انقضاء العدة (أي الأيام التي عليّ الانتظار فيها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، فهل يكفيني ما قضيت من العدة أم عليّ المزيد من الانتظار رغم وضع الحمل) فقال عمر رضي الله عنه: أنت لآخرِ الأجلين، أي عليك أن تكملي أيام عدة الأرملة رغم وضع الحمل. فخرجتْ من عند عمر رضي الله عنه ومرت بأبي بن كعب وأخبرته عن فتوى عمر رضي الله عنه، فقال: اذهبي إلي عمر وقولي له: إن أُبي بن كعب يقول لي: قد حللتِ، ولا حاجة للعدة الآن، فإنْ سألك عني فإني ها هنا، ويمكنك أن تدعيني. فذهبت إلى عمر رضي الله عنه فأخبرته ما قال أُبي. فقال: ادعيه. فجاء أُبيّ إلى عمر رضي الله عنهما فقال له عمر: مِن أين أخذتَ ما تقول؟ فقال أُبي: من القرآن الكريم، وقرأ قول الله تعالى (وأولاتِ الاحمال أجلُهن أن يضعن حملهن)، فالحامل المتوفى عنها زوجُها عدّتُها أيضا أن تضع حملها؟ وقد سمعتُ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عمر للمرأة: اسمعي ما تسمعين، أي عليك أن تعملي بما يقول أُبي.
كانت دار العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم متصلة بالمسجد النبوي، وأراد عمر رضي الله عنه توسيع المسجد، فقال للعباس: بِعْني دارك أوسِّعْ بها في المسجد. فقال العباس: ما كنتُ لأفعل ذلك. فقال له عمر: تصدقْ بها، فقال: لا (حيث كان العباس حرّا في أن يفعل ما يشاء بصدد داره). فقال له عمر: فوسِّع المسجد من عندك، فتعمل بذلك خيرا كبيرا حيث توسع المسجد لأمة المسلمين بضم بيتك إلى المسجد. فقال العباس كلا، لن أفعل هذا أيضا. فقال له عمر: لابد أن تقبل أحد هذه الخيارات الثلاثة، فقال العباس لن أقبل أيا منها. فاحتكما إلى أُبي بن كعب، فقال أُبي لعمر: لك أن تأخذ ما يملك العباس ما دام راضيا بذلك وإلا فلا يحق لك أخذ ماله. فقال عمر لأبي بن كعب من أين استنتجت هذا، أمن القرآن أم من الحديث؟
فقال أبي: من الحديث وهو أن سليمان عليه السلام عندما بنى بيت المقدس بنا أحد جدرانه، على أرضٍ كانت مِلكَ رجل، فسقط الجدار، فأوحى الله إلى سليمان لا تَبْنِه إلا بإذن صاحب الأرض. فصمت سيدنا عمر رضي الله عنه.
أما العباس رضي الله عنه فكان أيضا مخلصا ووفيا على كل حال، حيث كان قد قطع عهد البيعة مع الخلافة. كانت فكرة مِلكِ الأرض غالبة عليه في البداية ولذلك رفض عرض عمر رضي الله عنه من قبل، ولكن فيما بعد غلب وظهر ما كان يتحلى به من صلاح وتقوى وغيرة للدين، واحترام للخلافة، فقال لعمر رضي الله عنه بعد أن صمت عمر وقال لن آخذ دارك: أما إذ فعلتَ هذا فإني قد تصدقتُ بها على المسلمين أوسّع بها عليهم في مسجدهم.
ذات مرة أراد سيدنا عمر t أن يمنع الناس من حج التمتع، علما أن الحج ثلاثة أنواع. لعل بعض الشباب لا يعرفون أن حج التمتع هو أن الحجاج يدخلون مكة لابسين الإحرام ويعتمرون ثم يحلّون الإحرام ثم يلبسونه مجددا في الثامن من ذي الحجة ويحجّون. والنوع الآخر من الحج هو الحج المفرد الذي يقوم به الحجيج عادةً. والحج القران هو أن الحجيج يعتمرون ويحجون في إحرام واحد. فحين أراد عمر t أن يمنع الناس من حج التمتع. قال له أُبَي بن كعب ما معناه: لا يحق لك ذلك لأن هذا لا يجوز. ثم أراد عمر t ذلك مرة أخرى فمنعه أُبي هذه المرة أيضا قائلا إنّ ذلك لا يجوز، فامتنع عمر t عن إرادته. وبعد فترة أراد عمر t أن يمنع الناس من ارتداء الحلل من مدينة الحيرة التي تقع في منطقة نجد على بُعد ثلاثة أميال من الكوفة. وكان السبب وراء إرادة عمر t بالمنع من ارتدائها أنه كان يُظَنّ أن عملية تلوينها كانت مشوبة بالبول، أو من الممكن أن بول بهيمة ما كان يُستخدم في عملية تلوينها. فقال أُبَيّ أنك لست مخولا لذلك إذ قد رأيتُ رسول الله r مرتديا لباسا بهذا اللون وقد لبس r بنفسه حلة تلك المنطقة، وقد لبسناها نحن أيضا في زمن النبي r ولم يُعتَرض عليها. فسكت عمر t وقال: إن كلامك صائب.
وذات مرة حدث الخلاف في عهد خلافة عمر t بينه وبين أُبي بن كعب حول بستان، فبكى أُبي وقال: هل هذا ما يحدث في عهدك؟ قال عمر t: لم أقصد ذلك، يمكنك أن تحتكم في الأمر إلى أي مسلم تشاء، صحيح أن هناك خلافا بيني وبينك ولكني لا أصدر قرارا نهائيا بل لك أن تحتكم إلى أي مسلم لأني أرى أن رأيي هو الأصوب. فرشّح أُبَيٌّ زيدَ بن ثابت ليحكم في الأمر، فرضي عمر t وعُرض الأمر على زيد. كان عمر t عندئذ خليفة المسلمين ولكنه امتثل في محكمة زيد بن ثابت كفريق في القضية وكان ينكر ما يدّعيه أُبَي فقال له: لعلك ناسٍ، فتأمَّل وحاولْ أن تتذكّر. فكّر أُبَي مليا وقال: لا أذكر شيئا. ثم بيّن عمر t تفاصيل الحادث. سأل زيدٌ أُبيًّا: ما دليلك على ادّعائك؟ قال: ليس عندي دليل، يمكنك أن تستحلف أمير المؤمنين على ذلك دون أن تستحلفني. فقال عمر t: إذا كان الحلف عليَّ فلا مانع عندي في ذلك. على أية حال، ثم صدر الحكم في القضية.
لقد اختار عثمان بن عفان t اثنيْ عشر شخصا من قريش والأنصار لجمع القرآن الكريم، وكان منهم أُبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما. كان الفرق بين لهجات القرآن أمرا شائعا في البلاد كلها في عهد عثمان t، ونظراً إلى ذلك أراد عثمان t أن يُنهي هذا الاختلاف، وطلب القراء وسمع من كل واحدٍ منهم القراءة بنفسه، ووجد الخلاف بين لهجات كلٍّ من أُبي بن كعب وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل، فقال ما مفاده: أريد أن أجمع المسلمين كلهم على القرآن بلهجة واحدة. كان اثنا عشر شخصا من قريش والأنصار يتقنون قراءة القرآن، فكلّفهم عثمان بهذه المهمة وأمّر عليهم أُبي بن كعب. فكان أبي بن كعب يقرأ كلمات القرآن الكريم ويكتبها زيدٌ. إن نُسخ القرآن الكريم المتوفرة حاليا تطابق قراءة أبي بن كعب t.
عن عتي بن ضمرة قال قلت لأبي بن كعب ما شأنكم يا صحابة رسول الله r نأتيكم من الغربة نرجو عندكم الخير أن نستفيده عندكم فتهاونون بنا فقال أبي أما والله لئن عشتُ إلى هذه الجمعة لأقولن قولا ما أبالي استحييتموني أو قتلتموني. قال فلما كان يوم الجمعة من بين الأيام خرجتُ من منـزلي فإذا أهل المدينة يردنون في سككها. فقلت لبعضهم: ما شأن الناس قالوا وما أنتَ من أهل البلاد؟ قلت لا. قال فإن سيد المسلمين مات اليوم قلت من هو؟ قال أبي بن كعب فقلت في نفسي والله ما رأيت كاليوم في الستر أشد ما ستر هذا الرجل.
(لقد سبق أن قال أُبي “لأقولنّ قولا… ولا أدري ماذا يمكن أن تفعلوا بي بعده، فيبدو أن الراوي يقصد من قوله المذكور أن الله تعالى أنقذ أُبيًّا من قول ما كان راضيا بيانه بطيب خاطره، والله أعلم بالصواب) على أية حال، يقول الراوي: والله ما رأيت كاليوم في الستر أشد ما ستر هذا الرجل. (أي أُبي بن كعب). وعن أُبي بن كعب أنه كان يكمل قراءة القرآن الكريم في ثمانية أيام.
كان أبي بن كعب يحب رسول الله r كثيرا كما يتبين من رواية مفادها أن النبي r كان يخطب إلى جذع نخل من أعمدة مسجده r فلما جُعل له منبر وبدأ r يخطب جالسا عليه صعد من العمود صوت الحنين وبدأ يبكي بكاء الصبي، وسمعه الجالسون في المسجد كلُّهم. فجاء النبي r إليه ووضع يده عليه وضمه إلى صدره فهدأ الجذع وانقطع الصوت الصاعد منه. ثم رُمِّم المسجد في فترة لاحقة وأُجريت فيه بعض التغييرات، فأخذ أبي بن كعب ذلك الجذع واحتفظ به لسبب وحيد أن النبي r كان يستند إليه. وظل يحتفظ به حتى بلي وأكلته الأرضة ومع ذلك احتفظ به أبي بن كعب حُبّا للنبي r. تفصيل هذه الحادث مذكور في صحيح البخاري ومسند أحمد بن حنبل.
كان هناك ستة قضاة في أصحاب النبي r وهم: عمر، علي، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، أبو موسى الأشعري وأبي بن كعب y. كان سمرة بن جندب t يحتل مكانة مرموقة بين الصحابة y، وكان يسكت قليلا بين رفعه تكبيرا لإقامة الصلاة وبين قراءة السورة، أي كان يسكت لبرهة بعد قوله الله أكبر لإقامة الصلاة وإلى أن يبدأ بقراءة سورة الفاتحة فاعترض عليه الناس، فكتب إلى أُبي بن كعب يسأله رأيه في الأمر، فكتب إليه أُبي بن كعب بإيجاز وقال إن عملك يطابق الشريعة تماما ولا ضير في سكوتك وإنّ المعترضين مخطئون.
خرج سويد بن غفلة بن صوحان وسلمان بن ربيعة في غزوة فوجد سويد سوطا في العذيب، وهو واد ومورد بني تميم بين القادسية والمغيسة على بُعد أربعة أميال من القادسية. حمل سويد السوط فعاب عليه الناس وطلبوا منه أن يرميه لعله يكون لمسلم، فقال: لن أرميه، لأنه من الأفضل أن أستخدمه بدلا من أن يأكله الذئب. وبعد ذلك بأيام خرج سويد بنية الحج مرورا بالمدينة، فذهب إلى أُبي بن كعب وحدث له حادث السوط. فقال أُبي: أنا أيضا واجهت حادثا مماثلا حين وجدتُ مئة دينار في عهد النبي r. (سواء أكان سوط أم مئة دينار فلكليهما قيمة معينة وبمنـزلة أمانة) فقال النبي r: عرِّفها حولا، فعرَّفتُها حولا: ثم أتيته، فقال: عرِّفْها حولا. وقال r بعد مرور حولين: احتفظ بعدد النقود وعلاماتها، وانتظر حولا آخر، وإذا طلبك أحد إياها بذكر علاماتها فأعطه إياها وإلا فهي لك. أي إذا وجد أحد شيئا فليعلن عنه إلى عامين وإذا جاء أحد بعد ذلك يطالبه بذكر علاماته فليُعطه.
ذات مرة أعلن شخص في المسجد عن شيء كان قد فقده وكان يرفع صوته بالإعلان، فرآه أبي بن كعب وسخط عليه، فقال المعلن: لم أقل فحشا في المسجد. فقال: هذا صحيح ولكن إعلانك في المسجد بشيء دنيوي يخالف آداب المسجد.
هناك روايتان عن وفاة أبي بن كعب t، تقول إحداهما أنه توفي في عهد عمر t في عام 22 من الهجرة، وتقول الأخرى أنه توفي في عهد عثمان t في عام 30 من الهجرة، وهو القول الأرجح لأن عثمان t كلّفه بجمع القرآن الكريم. كان من أولاد أُبيٍّ، طفيلٌ ومحمد، وزوجته أمّ طفيل من قبيلة دوس. قيل إن اسم ابنته أمّ عمرو. وهنا انتهت وقائع أبي بن كعب t.