خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 23/10/2020
في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يوْم الدِّين * إيَّاكَ نعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
الصحابي الذي سأذكره اليوم اسمه معاذ بن جبل بن عمرو، وأمّه هند بنت سهل من جهينة من بني الرَّبْعة. كان معاذ يُكنى أبا عبد الرحمن، وكان من عدي بن سعد بن علي، فرع قبيلة خزرج.
يقول صاحب سير الصحابة أنه كان لسعد بن علي ابنان وهما سلمة وعدي. كان بنو سلمة من نسل سلمة. ولم يبق في عهد الإسلام من نسل عدي بن سعد إلا رجلان، وهما: معاذ وابنه عبد الرحمن. كانت منازل بني عدي قرب منازل بني سلمة. كان معاذ بن جبل رجلا جميلا وسيما، وضيء الوجه، برّاق الثنايا، أكحل العينين، ومن أجمل شباب القوم وأسخاهم. قال أبو نعيم: كان معاذ بن جبل أكثر شباب الأنصار حِلما وحياء وبذلا وسخاء.
أسلم معاذ يوم بيعة العقبة الثانية مع 70 من الأنصار وعمره 18 سنة، وشهد بدرًا وهو ابن عشرين أو إحدى وعشرين سنة، وشهد أُحُدًا والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله r. وكان أخوه من الأمّ محمد بن الجد أيضا قد شهد بدرا.
يقول صاحب أسد الغابة أن سهل بن محمد بن الجد بن قيس أخو معاذ لأمه، وهو من سهل من بني سلمة، فكان بنو سهل يعتبرون معاذا أيضا من قبيلتهم. عندما هاجر المسلمون إلى المدينة، آخى النبي ﷺ بينه وبين عبد الله بن مسعود. هذا ما ورد في كتب التاريخ المختلفة. بعد أن أسلم معاذ كسر أصنام بني سلمة. لقد ذُكرت كيفية كسره الأصنام من قبل أيضا في ذكر وقائع صحابي آخر، وسأذكرها هنا أيضا باختصار. فقد كان عمرو بن الجموح اتخذ في داره صنمًا من خشب يقال له “مناة” يعظمه ويطهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة بعد بيعة العقبة الثانية، ومنهم ابنه معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل (لقد سبق أن ذُكر هذا الأمر من قبل في بيان وقائع معاذ بن عمرو أيضا) دبر معاذ حيلةً لدعوة والده عمرو إلى الإسلام، حيث كان عمرو قد اتخذ صنما في بيته وكان معاذ يرميه ليلا في القمامة، ويستعين بالشباب لهذا الغرض. وذات ليلة فعل معاذ ذلك ولما أصبح عمرو بدأ يبحث عنه ولما وجده جاء به إلى بيته، وقال: لو علمتُ من فعل ذلك بصنم لي لعاقبته عقوبة نكراء. وفي اليوم التالي فعل الشباب بالصنم ما فعلوه من قبل ورموا به في حفرة منكّسا على رأسه. وجاء به عمرو إلى بيته هذا اليوم أيضا ونظفه وطهره ووضعه في بيته وعلق معه سيفا، وقال مخاطبا إياه: والله لا أعلم من يفعل بك هذا، أما الآن فأنا تارك معك سيفا لتحمي بها نفسك. في اليوم التالي أيضا لم يجد عمرو الصنم في مكانه بل وجده مرميا في بعض حفر القوم مربوطا بكلب ميت. فغضب عمرو من ذلك كثيرا وقلق بشدة، واضطر للتفكير أن الصنم الذي اتخذته إلها لي لا يقدر حتى على حماية نفسه مع وجود السيف معه، فأنى له أن يحميني؟ وإلى جانب ذلك وجده مربوطا بعنق كلب ميت، فقال: فأنى له أن يكون إلها. هذا الأمر أرشده إلى الإسلام فأسلم.
يمكن تقدير حب معاذ بن جبل وإخلاصه للنبي r من أنه عندما رجع النبي r من غزوة أُحد إلى المدينة تصاعدت أصوات البكاء من أزقة المدينة. فقال r: ما هذا البكاء. قال معاذ: نساء الأنصار يبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يوْمَ أُحُدٍ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بوَاكِيَ لَهُ. ثم دعا r لمغفرة حمزة. فلما سمع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة ذلك، ذهبوا إلى حاراتهم وجمعوا النائحات والباكيات، وقالوا لن يبكي أحد على شهداء الأنصار ما لم تبكين على حمزة عمّ النبي r لأنه قال: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بوَاكِيَ لَهُ. هذا كان مدى حبّ معاذ للنبي r. مع أن البكاء على الميت على هذا النحو ممنوع ولكن النبي r سمح بذلك بهذه المناسبة لفترة وجيزة، أو أبدى عواطفه نظرا إلى عواطف الآخرين: ليته كان هناك من يبدي هذه العواطف لحمزة أيضا. لكن البكاء على الميت على هذا النحو ممنوع في الإسلام على أية حال، وقد منعه النبي r بنفسه.
بعد فتح مكة سافر النبي r إلى حنين التي تقع شمال شرق مكة وهو وادٍ قرب الطائف، وترك r وراءه في مكة معاذ بن جبل ليعلّم أهلَها الدينَ والقرآنَ. شهد معاذ بن جبل غزوة تبوك. ولما سأل النبي r عن كعب بن مالك الذي كان قد بقي في المدينة فقال شخص من بني سلمة كلاما غير مناسب أمام النبي r فزجره معاذ بن جبل وقال: يا رسول الله: لم نر منه إلا الحسنة فقط.
إذًا، هذا هو مقتضى الأخلاق الفاضلة أن الغيبة ممنوعة.
عَنْ قتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r أَرْبعَةٌ كُلُّهُمْ مِن الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ. (كان أبو زيد عمّ أنس t)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ اسْتقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
يقول الخليفة الثاني t في شرح حديث البخاري الذي قرأته من قبل في ذكر أبي بن كعب: كان النبي ﷺ قد اختار جماعة من المعلمين، فكانوا يحفظون القرآن المجيد تحت إشرافه ﷺ الشخصيّ، ثم يعلّمونه الناس الآخرين. وكان هؤلاء المعلمون من علية القوم وكان عملهم أن يتعلَّموا القرآن على يد النبي ﷺ ثم يعلِّموه الآخرين. كذلك كانت هناك جماعة من الصحابة تحت إشرافهم تعلّموا القرآن الكريم على أيدي هؤلاء الأربعة وعلّموه الآخرين. وأسماء هؤلاء الأساتذة الأربعة الكبار هي كالتالي: عبد الله بن مسعود، سالم مولى أبي حُذيفة، مُعاذ بن جبل، أُبيّ بن كعب y. اثنان منهم كانا من المهاجرين والآخران من الأنصار. كان عبد الله بن مسعود يمتهن مهنة الأجير، وكان سالم عبدا معتَقا، أما معاذ بن جبل وأُبي بن كعب فمن سادة المدينة. وهذا يعني أن النبي r عيّن القراء من كل فئة.
وقد جاء في الحديث: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيفَةَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْب.
فهؤلاء الأربعة قد تعلّموا القرآن الكريم كله من النبي r وتدربوا على يده، غير أنه كان هناك كثير من الصحابة الآخرين أيضا الذين تعلّموا منه r القرآن جزئيا. فقد ورد في رواية ما مفاده أن عبد الله بن مسعود t قرأ كلمة بطريقة ومنعه عمر t من ذلك، فقال له عبد الله بن مسعود إنّ النبي r علّمنيها على نحو كذا. فأمسكه عمر وذهب به إلى النبي r وقال إنه يخطئ قراءة القرآن الكريم فقال r: اقرأ علي يا ابن مسعود. فلما قرأ ابن مسعود قال رسول الله r: هذا صحيح. فقال عمر t: يا رسول الله: قد علّمتني هذه الكلمة بطريقة كذا، فقال r ذاك أيضا صحيح. فيتبين من ذلك أنه لم يكن الصحابة الأربعة المذكورون آنفا وحدهم يتعلّمون القرآن على يد النبي r بل كان هناك آخرون أيضا يتعلمونه. فإن قول عمر t: علّمتني هذه الكلمة بطريقة كذا يوحي أنه أيضا كان يتعلّم على يده r.
عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: “أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهَا فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وأقرأهم أُبي بن كعب، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ”.
لقد سبق أن ذكرت هذه الرواية من قبل أيضا.
وعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: “نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ”.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ يوْمًا ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ قَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تقُولَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. (مسند أحمد)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ قَالَ قُلْتُ بَلَى قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. (مسند أحمد)
سأل معاذ بن جبل: يا نبي الله، أي الإيمان أفضل؟ قال: تحب لله وتبغض لله، وتعمل لسانك بذكر الله. قال: وماذا بعد ذاك يا رسول الله؟ قال: وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ. (صحيح البخاري) أي كان يأتي المسجد النبوي أولا فيصلي خلف النبي r ثم ينصرف إلى حارته فيصلي بالناس.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ (حيث رأى أنه يقرأ سورة طويلة فانفصل عنه وصلى وحده) فَقَالُوا لَهُ أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ (إذ قد انفصلت عن الجماعة وصليت وحدك) قَالَ لَا وَاللَّهِ (لستُ منافقا) وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ (بما فعلت، فلو نافقت لتواريت أما أنا فسوف أخبر النبي r بما فعلت) فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ (أي ننقل المياه على الجمال إلى بيوت الناس) فنَعْمَلُ بِالنَّهَارِ وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (لماذا تلقي الناس في المشاكل، ثم علَّمه ما يجب أن يقرأ من السور فقال) اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا.
عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. فذكر هذه السور الأربعة كمثال. وهذه الرواية من صحيح مسلم.
وقد ورد في صحيح البخاري: عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي (أي كان يصلي بالناس إماما في المسجد) فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ. وهذه رواية البخاري كما قلت.
يقول سيدنا الخليفة الثاني للمسيح الموعود u عن نصيحة النبي r لمعاذ بن جبل رضي الله عنه بقراءة السور القصار في الصلاة، أن النبي r كان يحب أكثر أن يقرأ في الصلاة المكتوبة عموما سورة الأعلى والغاشية والفجر ومثلها. لقد روى النسائي عَنْ جَابِرٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى خَلْفَ مُعَاذٍ فَطَوَّلَ بِهِمْ (وفي بعض الروايات أنه قرأ آل عمران أو النساء) فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا قَضَى مُعَاذٌ الصَّلَاةَ (قال له رجل أنك كنت تصلي فجاء رجل فلحق الصلاة خلفك فلما طولت الصلاة انحرف وانطلق بعد أداء الصلاة وحده في زاوية) فَقَالَ مُعَاذٌ قد يكون منافقا، ثم ذكر الحدث عند النبي r. وقال يا رسول الله كنت أصلي بالناس فلحق فلان الصلاة فلما طالت الصلاة انحرف وصلى وحده وانصرف. فلما علم ذلك الرجل أنه قد رفعت الشكوى ضده عند النبي r جاء إليه، فقال يا رسول الله، حين أتيت كان هذا يصلي بالناس، فلحقت الصلاة خلفه، لكنه أطال، وأنا أعمل بالنهار وكانت ناقتي تقف دون علف، لذا انفصلت عنه وصليت وحدي في زاوية من المسجد، وأتيت إلى البيت وقدمت العلف لناقتي، فلما سمع النبي r ذلك سخط على معاذ، وقال له أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ، ما الذي أصابك لو قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، لماذا لم تقرأ هذه السور، يتبين من ذلك أن الرسول r اعتبر هذه السور من المتوسطة طولاً، ويمكن للإنسان أن يقرأ السور الطوال في أوقات خاصة، أو يقرأ القصار في مرضه، ولكن هذه هي السور المتوسطة التي تنبغي قراءتها عادة في الصلوات جهرًا.
على كل حال يجب التذكر أنه ليس من الضروري أن تُقرأ هذه السور حصرا، بل هو توجيه مبدئي، أنه ينبغي ألّا يقرأ الإمام في الصلاة سورا طوالا، وينبغي أن يقرأ الإمام مما حفظ من القرآن، فبعضهم حفظوا سورا قصارا فقط، وإن لم يتيسر إمام غيره فيمكن أن يقرأ السور القصار أيضا، فالتوجيه أن لا يقرأ الإمام السور الطوال في الصلاة، لأن الذين يصلون وراءه من شتى الأنواع فمنهم كبار السن والمرضى والعمال أيضا.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ r لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ (سأل r أولا ما هو حق الله على العباد الذي يجب أن يؤدوه ثم سأل ما هو حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك واستجابوا لله) قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ. (أي حين يطيع الناس اللهَ I يكون من حقهم عليه I ألا يعذبهم) وهذه الرواية من صحيح مسلم.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ ثُمَّ تَلَا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُون. ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ. (سنن الترمذي)
أي ما تلفظونه بألسنتكم من أقوال حادة، وإن جراحات اللسان تصيب العواطف والمشاعر وتثير فتنة وكثيرا من السيئات، وحين يخرج من اللسان الكلام السيء أو يكون اللسان وسيلة المساوئ فذلك يؤدي بالناس إلى كبّهم في النار على وجوههم، لذلك عليكم استخدام اللسان بحذر والقول به كلاما حسنا.
قال كعب بن مالك كان معاذ بن جبل يُفتي الناس في حياة النبي r وفي عهد أبي بكر t، وعن سهل ابن أبي خيثمة عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله r ثلاثة من المهاجرين، وثلاثة من الانصار: عمر وعثمان وعلي؛ وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت.
عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن أبا بكر الصديق t كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، دعا رجالا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، (يعني كانوا أعضاء لجنة الإفتاء، أو كان الخليفة سمح لهم بالإفتاء لعلمهم الذي تلّقوه من رسول الله r)
كان عمر بن الخطاب يقول حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام: لقد أخلّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، قال عمر لأبي بكر بأن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى أبو بكر وقال: رجل أراد وجها يريد الشهادة فلا أحبسه! قال عمر: فقلتُ والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه. (الطبقات الكبرى لابن سعد)
عن ثور بن يزيد قال كان معاذ بن جبل إذا تهجد من الليل قال: اللهم قد نامت العيون وغارت النجوم وأنت حي قيوم اللهم طلبي للجنة بطئ وهربي من النار ضعيف اللهم اجعل لي عندكم هدى ترده إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. (تاريخ دمشق) ما أعظم مقام الخوف والخشية.
عن أنس بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ r وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا، قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فيَسْتبْشِرُوا، قَالَ: إِذًا يتَّكِلُوا. (أي سيكتفون بهذا القول ولن يقوموا بالحسنات لذا لا تخبرهم) وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. (أي لكي يتجنب الاثم بعدم إخبار الناس بحديث الرسول r، وكان يرى أنه يجب عليه أن يخبر به أهل العلم قبل موته، فأخبر ولكنه لم يخبر به في حياته أو في حالة صحته) (صحيح البخاري، كتاب العلم)
كتب حضرة ولي الله شاه t في شرح صحيح البخاري وهو يتحدث عن بعض الأحاديث ومن ضمنها هذا الحديث أيضا فقال: إنه تحديد شيء علمي في خاصة الناس لأن هذا شيء علمي فحدده في الخاصة لأن عامة الناس سيخسرون بسبب عدم فهمهم معناه الصحيح. لعلهم يكتفون بالقول “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ولا يرون حاجة إلى أي عمل. وفي هذه الأيام رأينا مثل هؤلاء الناس وهذه هي حالة المسلمين عمليا أنهم مسلمون بالاسم فقط إذ ينطقون بالشهادتين ويظنون أنه لا حاجة لأي عمل. ثم كتب ولي الله شاه t: هذا الحديث فوضّح نوعية مثل هذه الأشياء، (كان t يبين الأحاديث المختلفة ومنها هذا الحديث) ثم كتب: لقد ذكر مسلم أيضا رواية بسند صحيح عن ابن مسعود t وردت فيها الكلمات التالية: ما أنْتَ بمُحَدِّثٍ قوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إلَّا كانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً. ويُفهم من هذه الأقوال النبوية أنه ينبغي مخاطبة الناس بقدر عقولهم لأن بعض الأمور تؤدي بالمرء إلى الفتنة. ثم كتب بعض الروايات الأخرى، وأترك تفصيلها لأن الكلام سيطول، ثم كتب بعدها: ونرى اليوم أيضا كيف جعل المشايخ الإقرار بالشهادتين باللسان فقط ستارا لهم، ويريدون إعطاء بني البشر وثيقة الإيمان محرِّرين إياهم من تكاليف الشريعة. ولا يهتمون بكلمات “صدقا من القلب”، أي لا يهتمون بمستلزمات الشهادتين. كل شيخ وخطيب على المنبر يرى أن الذي يصلي ورائي لو نطق بالشهادتين فقد نال الوثيقة ولا يحتاج لشيء آخر. ثم كتب: ولمثل هؤلاء المؤمنين المقرّين باللسان فقط قال النبي r إنه في زمنهم لن يكون الإيمان في القلوب بل سيكون في الثريا في الزمن الأخير. ثم قال أيضا: مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. (صحيح البخاري، كتاب العلم) أيْ من اجتنب الشرك حتى الموت دخل الجنة. ثم إن سكوت النبي r بعد خطابه معاذا ثلاث مرات إنما كان لإثارة الشعور والرغبة في المعرفة. حين قال معاذ لبيك يا رسول الله ثلاث مرات فنشأت فيه رغبة وشوق لمعرفة ماذا عسى النبي r يريد أن يقول؟ حين انتبه كل الانتباه حينها أخبره النبي r. ثم كتب حضرة ولي الله شاه t: ذلك لكي يترسخ القول في الذهن بشكل جيد ويدوم تأثيره. ومن أجل ذلك وجّهه ثلاث مرات. واحترم معاذ t أمر النبي r إذ لم يخبر إلا عند الموت لكيلا يُؤاخَذ بسبب عدم إخبار شيء مهم، أيْ لكي لا يقول الله تعالى له بأنك علمت بشيء مهم ولم تخبر به أحدا. أي ينبغي أن يصل شيء علمي إلى أهل العلم على الأقل. وفي هذه الأيام يدّعي المسلمون الإيمانَ ويظنون أنهم بالنطق بالشهادتين قد برؤوا من الشرك ولكن قلوبهم مليئة بالشرك ويتكلون عن الأشياء الدنيوية، حتى كبار الخطباء أيضا يتوكلون على الأشياء الدنيوية لو ظهرت حالتهم الأصلية.
ويتبين من هذا الحديث القائل بأن النار حُرّمت على الناطقين بالشهادتين أن الله وحده يعطي الأجر وليس من صلاحيات أي إنسان أن يُفتي بفكر الناطق بالشهادتين ويقررَ بأن فلانا مسلم وعلانا غير مسلم. هذه الفتاوى المزعومة منافية لتعليم القرآن أيضا. ففي هذه الأيام يحتفل المسلمون بعيد ميلاد النبي r بكل حفاوة بمناسبة حلول ربيع الأول ولكن المهم أن يتأسوا بأسوته r ولا يزعموا أنهم هم المسلمون فقط دون غيرهم بل ينبغي أن يتركوا أمر الناطق بالشهادتين إلى الله تعالى. هذه الأمور ستُرضي رسول الله r وتتسبب في سعادة أمته. لنشكر الله تعالى إضافة إلى الصلاة على النبي r أنه I لم يترك الإسلام كالكلالة بل بحسب وعده وبحسب نبوءة الرسول r أرسل لإحياء دينه المسيحَ الموعود u الذي أخبرنا حقيقة الشهادتَين والعملِ بأحكام الشريعة لكي تُحرم علينا نار جهنم حقيقة، وندعو الله تعالى أن يهب منكري المسيح الموعود u العقلَ ليفهموا ذلك كما يوفقنا لنفهم تعليم الإسلام الحقيقي وحقيقة الشهادتين ونعمل به.
عن معاذ بن جبل t قال: خرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ r عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، (لا يعني أنه صلى أربع صلوات جميعا بل كان بينها فاصل، وربما كان يصلي الظهر والعصر في آخر وقت العصر وصلاةَ المغرب والعشاء في أول وقت المغرب) ثُمَّ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ (أيْ قدّر الوقت، وأخبر) فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ. فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ r هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ r وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ. قَالَ: ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، قَالَ: وَغَسَلَ رَسُولُ اللهِ r فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ أَوْ قَالَ غَزِيرٍ شَكَّ أَبُو عَلِيٍّ أَيُّهُمَا قَالَ حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ ثُمَّ قَالَ: يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا. (صحيح مسلم، كتاب الفضائل)
يتضح من كتب الحديث أن هذه المعجزة قد وقعت بعد وصول النبي r إلى تبوك فورا.
ويتضح من سيرة ابن هشام أن هذه الواقعة وقعت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في واد اسمه المشقق وهو قافل من تبوك. وقد نقل الإمام مالك أيضا في الموطأ هذه الواقعة.
وقال محمد بن عبد الباقي الزرقاني في شرح هذا الحديث قال أبو وليد باجي إن هذا خبر الغيب وقد تحقق. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا معاذا خاصة (الذي انتقل فيما بعد إلى بلاد الشام وتوفي هنالك) لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد علم بالوحي أن معاذا سوف يرى ذلك المكان الذي فيما بعد وقد أصبح ببركته صلى الله عليه وسلم ذا أشجار وبساتين.
وقال العلامة ابن عبد البرّ قال ابن وساع: لقد رأيت ذلك المكان المحيط بتلك العين وكان مخضرا ونضرا بحيث سيظل هكذا إلى يوم القيامة، فكان كما تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم.
وورد في كتاب “الأقدس” وهو كتاب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أخبرني رئيس قسم الشريعة بتبوك أنه هذه العين ظلت تتدفق بدون توقف منذ 1375 عاما حتى ما قبل سنتين فقط، حيث حفروا في الأراضي المنخفضة في هذه المنطقة مضخات ماء مما أدى إلى انتقال ماء العين إلى هذه المضخات، فجف ماؤها الآن بعد أن انقسم إلى حوالي 25 مضخة ماء هنالك.
ثم أخذونا إلى إحدى المضخات أيضا، فرأينا أن بها أنبوب ماء قطره حوالي خمس بوصات، وكان الماء يتدفق منه بكل قوة بدون أي ماكينة، وكان الحال نفسه لكل المضخات تقريبا.
إنه لمن بركة معجزة النبي صلى الله عليه وسلم أن الماء متوافر اليوم في تبوك بغزارة بحيث لم نره بها إلا في المدينة وفي خيبر. بل الحق أن تبوك أكثر ماء من المدينة وخيبر كلتيهما، وتزرع بهذه المياه بساتين في كل مكان في تبوك التي قد امتلأت الآن كلها بالبساتين وتزداد كل يوم، بحسب نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والباقي أذكره فيما بعد إن شاء الله. أما الآن فسوف أذكر بعض الموتى الذين سوف أصلي على جنازتهم بعد صلاة الجمعة.
المولوي فرزند خان المرحوم، الداعية المسؤول في محافظة “خورده دنيا غره”، بولاية أريسه (بالهند). كان مصابا بالسكري. أُدخلَ المشفى إثر إصابته المفاجئة بالتيفوئيد والتهاب الرئة الشديد في 10 من شهر سبتمبر المنصرم، فوافاه الأجل هنالك. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم موصيا. وممن خلف وراءه: أرملتُه السيدة سكينة بيغم، وابنته فريحة، وابنه العزيز ريحان. كان سباقا إلى خدمة الجماعة، صالحا تقيا، مواسيا للدعاة الذين كانوا يعملون تحت إمرته، وكان هينا لينا، متواضعا، خلوقا، وكبير الصلاح والإخلاص.
التحق بالجامعة الأحمدية بقاديان في 1980 وتخرج منها، ودخل مجال العمل عام 1988، وظل يقدم خدماته طيلة 32 عاما بمنتهى الجد والإخلاص وروح الواقف للحياة في سبيل الله تعالى. وبايع بواسطته كثيرون، وأنشأ فروع الجماعة في عدة أماكن.
تقول أرملته السيدة سكينة بيغم: أخبرني حضرة المولوي أنه أُرسل للعمل أول مرة إلى ولاية “هريانه”، حيث لم يكن له مكان معين للعمل، كما لم يكن هناك أي أحمدي في منطقة عمله، فكان يتجول هنا وهناك ويبلغ الدعوة، ثم كان يقيم مركز الدعوة في كل منطقة.
وخلال تلك الفترة وصل إلى قرية في ولاية “هريانه” وبلّغ أهلَها الدعوة، فقال أحد منهم إن جاموستي لا تدرّ بالحليب، فإذا كانت جماعتك على الحق فاعمل لي رقية على ماء لأسقيها إياه لتدر بالحليب، ولسوف أؤمن بأنك على الحق وسأبايع مع عائلتي كلها إن حصلت هذه المعجزة. قال حضرة المولوي المرحوم: فقرأت الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأدعية على قليل من الماء، وناولته إياه، فذهب به. وبِتُّ الليلة كلها في القرية تحت شجرة، داعيًا الله تعالى يا رب أَرِهم معجزةَ صدق المسيح الموعود عليه السلام. قال المولوي المرحوم: في الصباح الباكر رأيتُ شخصا آتيا إلي بدلوٍ، فإذا فيه الحليب، وقال الرجل في فرحة عارمة: حضرة المولوي لقد بدأت جاموستي تدرّ بالحليب، لقد علمتُ أنا وأهلي كلنا الآن أن الجماعة الأحمدية على الحق، وها نحن ننضم إلى هذه الجماعة.
وكتب ريحان ابن المرحوم: كان أبي شديد التواضع والانكسار، لينَ القلب، عطوفًا محبًّا للجميع. قضى حياته لمرضاة الله وخدمة الجماعة. كان يلبي على الفور كل أمر ونصيحة تصدر من قبل حضرة الخليفة، وكان ينصحنا بذلك. كان شفيقا طيبا جدا. وعلاوة على أعمال الجماعة، كان يساهم في أعمال البيت، ويساعد أمي في شؤونها اليومية. لقد حافظَ على صلواته وكذلك صلواتنا طوال الحياة، وأوصانا بالسير على الصراط المستقيم دائما. إن الدعاة والمعلمين الذين عملوا معه كتبوا كلهم أنه كان داعية نموذجيا ورؤوفا، ولم نره غاضبا قط.
والجنازة الثانية هي للسيد عبد الله موسيكو الذي كان يعمل داعية محليا في ماليزيا. أُغميَ عليه في 7 أكتوبر، فأُخذ إلى المشفى، لكن لم تسعفه الحياة وتوفي بالليل. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان عمره 68 عاما. كان موصيا. خلف وراءه أرملته وثمانية أولاد. كان صهرا لاثنين من دعاتنا في ماليزيا السيد صلاح الدين والسيد مسرور أحمد.
وُلد المرحوم عبد الله موسيكو في الفيليبين. بعد التخرج من الجامعة انضم إلى منظمة إسلامية اسمها ” جبهة مورو القومية الليبرالية” التي كانت تحارب الدولة بهدف إقامة دولة إسلامية في الفيليبين. وفي عام 1973هاجر أبواه إلى ماليزيا، وأقاما في منطقة اسمها “سنداكن سبا”.
كان الله تعالى قد وهب المرحوم قلبا سليما، حيث تشرف في الرؤيا بزيارة سيدنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وحضرة الخليفة الثاني والخليفة الثالث مرات عديدة. بمشيئة الله تعالى أتيحت له فرصة حضور الجلسة السنوية في تاكينابالو عام 1973، فزاده جو الجلسة إيمانا، فبايع. لم يكن في مكان إقامته “سنداكن” أي داعية، وكان في روحه غليل، ولشفاء غليلها كان يقرأ أدبيات الجماعة بنهمٍ شديد. وكان مولعًا بالدعوة والتبليغ، ولتحقيق رغبته هذه بلغ الدعوة كثيرا من أصدقائه وأقاربه، مما جعل الكثيرين يدخلون في الأحمدية، الإسلام الحقيقي. لقد دفعه شغفُه بنشر الدعوة إلى أن ينذر حياته لخدمة الدين، فعُيّن داعيةً، فعمل لبضع سنوات في الفيليبين مع الداعية المرحوم السيد خير الدين باروس، ولقد أنجز هنالك عملاً جبارا بسبب فطرته النقية وشغفه العلمي وتواضعه الجم وانكساره الشديد وخشيته لله تعالى. كان يخوض المناظرات مع المسيحيين، وقد دخل على يده كثيرون في الإسلام.
كان لا يقدر على التكلم باللغة الأردية غير أنه شديد الشغف بها. فحفظ العديد من العبارات التبليغية الهامة والقصائد بالأردية. كان يحبّ إكرام الضيف دائما، وكان يستضيف القادمين لصلاة الجمعة خاصة. كان يحب الانضباط، وكان يحب أن يعيش الجميع بانضباط، فكان يربي الناس على ذلك. كان يعاني من التحرك والمشي منذ بضع سنوات، ولكنه لم يدَعْ معاناته لتكون عقبة في إنجاز أعماله قط.
والجنازة الثالثة هي للسيد عبد الواحد معلم الجماعة بقاديان، حيث وافته المنية في 12 سبتمبر بقاديان بعمر 56 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان من عائلة مسيحية، وكان أول من تشرف بالبيعة في عائلته هو وأخوه الأكبر الذي كان معلما متقاعدا، ثم بعد ذلك بايعت العائلةُ كلها. بعد انضمامه إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية أكملَ المرحوم دورة تعليمية في جامعة المبشرين لثلاث سنوات، وبعد التخرج ذهب للدعوة والتبليغ إلى عدة مناطق. كما عُهدت إليه مسؤولية التعليم والتربية في مختلف أحياء قاديان أيضا. كان المرحوم شديد الطاعة، وكان يُنجز أعماله بمنتهى الشوق والشغف. كان ضليعا في مضمار الدعوة، ودخل على يده في الأحمدية ثلاث عائلات مسيحية وثلاث عائلات من المسلمين الآخرين، واثنان من هؤلاء المبايعين منخرطان في نظام الوصية، وليسا موصيينِ فقط، بل هما من السباقين في الخيرات أيضاً.
وممن خلف المرحوم وراءه: أرملتُه وابن وبنتان. ابنه تخرج من الجماعة الأحمدية وصار داعية هذا العام.
رفع الله تعالى درجات هؤلاء المرحومين جميعا، وتغمدهم بمغفرته ورحمته، ووفق أولادهم جميعا للحفاظ على حسناتهم وصالح أعمالهم، وربّاهم على النحو الذي أرادوا تربيتهم، وجعل مَن هو واقف لحياته من أولادهم سلاطين ناصرين للخلافة. غفر الله لهم ورحمهم. وكما قلت سوف أصلي على جنازتهم بعد صلاة الجمعة إن شاء الله.