خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 12/6/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
من الصحابة الذين أذكرهم اليوم سيدنا سعيد بن زيد. فاسم والد حضرة سعيد، زيدُ بن عمرو واسم أمه فاطمة بنت بعجة وكان من قبيلة عدي بن كعب بن لؤي وكان يكنى أبا الأعور وقيل أبا ثور أيضا. كان طويل القامة حِنطيَّ اللون كثيف الشعر. وهو ابن عم عمر بن الخطاب t ويصل نسبه في الجيل الرابع أي عند نفيل بسيدنا عمر t بينما يصل بسيدنا النبي r عند كعب بن لؤي في الجيل الثامن. لقد تزوج عمر t عاتكة أختَ سعيد وهو تزوج أخت عمر t وهي نفسها التي تسببتْ في إسلام عمر t.
كان والد سعيد، زيد بن عمرو في الجاهلية يعبد إلها واحدا، وكان يبحث عن دين إبراهيم u وكان يقول إن إلهي إله إبراهيم، وإنه يدين بدين إبراهيم نفسه. ففي ذلك الزمن أيضا كان ثمة موحدون. أحيانا يسأل بعضُ الأولاد عن دين النبي r قبل بعثته. لقد كان النبي r أكبر موحِّد وكان يعبد إلها واحدا.
كان زيد بن عمرو يجتنب كل نوع من الفسق والفجور بل أَكْل ذبيحة المشركين أيضا. فقد ورد في صحيح البخاري: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ (وهو واٍد على طريق التميم غرب مكة) قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ (لم يأكل النبي r حذرا من أن يكون قد ذُبح على اسم غير الله فقال زيد أنا أيضا لا آكل ما ذُبح باسم غير الله) وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ.
لما كان زيد بن عمرو يكره الكفر والشرك سافر طويلا إلى أقصى البلاد بحثا عن الحق، فعن سفره هناك رواية في صحيح البخاري كالتالي:
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي فَقَالَ لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ زَيْدٌ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ قَالَ مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
لقد وجد زيد بن عمرو زمن النبي r لكنه توفي قبل بعثته r
عن عامر بن ربيعة قال: كان زيد بن عمرو بن نفيل يطلب الدين، وكَره النصرانية واليهودية، وعبادة الأوثان والحجارة، وأظهر خلاف قومه واعتزل آلهتهم، وما كان يعبد آباؤهم ولا يأكل ذبائحهم. فقال لي يوما: يا عامر، إني خالفت قومي واتبعت ملَّة إبراهيم، وما كان يعبد ولده إسماعيل من بعده. فقال: وكانوا يصلون إلى هذه القبلة، وأنا انتظر نبياً من ولد إسماعيل يُبْعَثُ، ولا أراني أُدْركه، فأنا أُؤمن به، وأُصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقْرِئْهُ مني السلام.
قال عامر: فلما تنبأ رسول الله r أسلمتُ وأخبرته بقول زيد وأقْرأتُه منه السلام، فرد عليه رسول الله السلام، وترحَّم عليه، وقال: قد رأيتُه في الجنة يسْحَبُ ذُيولاً.
كان زيد بن عمرو يفتخر كثيرا بأنه موحِّد، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا. (أي أُنفق على زواجها وغير ذلك.) (صحيح البخاري)
عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. وكان يقول: اللهم لو أني أعلم أحبَّ الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته.
وعن سعيد بن المسيب أن زيد بن عمرو توفي قبل خمس سنوات من بعثة النبي r، يوم كان قريش يبنون الكعبة، فقال عند وفاته أنا على دين إبراهيم.
كنت أتكلم عن سعيد بن زيد، فتطرق الحديث ضمنيا إلى ذكر والده، فقد نال الابنُ المقام السامي ببركة حسنات أبيه وهو الآخر قد سُجل ذكره في التاريخ وبينته لكم، فهذه الروايات موجودة في البخاري أيضا.
على كل حال أتناول الآن ما بقي من ذكر سيدنا سعيد بن زيد، ذات يوم جاء سيدنا سعيد بن زيد وسيدنا عمر بن الخطاب إلى النبي r وسألاه عن زيد بن عمرو، فقال النبي r رحم الله زيد بن عمرو وغفر له فقد مات على دين إبراهيم.
وبعد ذلك كلما ذكر المسلمون زيدَ بن عمرو دعَوا به بالرحمة والمغفرة.
وفي رواية أخرى: سئل عنه النبي r فقال: يُبعث أمةً وحده يوم القيامة.
كان سيدنا سعيد بن زيد- كما ذُكر سابقا- زوجَ أخت سيدنا عمر t، وكان عمر t تزوج أخت سعيد بن زيد t السيدة عاتكة.
أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بن الخطاب في صدر الإسلام، وكان إسلامهما قبل دخول النبي r دار الأرقم. كانت زوجة سعيد سببا لإسلام عمر، كما ذكرت سابقًا، ومرّ تفصيل ذلك سابقًا في ذكر خباب بن الأرت، ولكن بما أن الأمر يتعلق بسعيد أيضا لذلك أسرده هنا أيضا بشكل مختصر.
كتب مرزا بشير أحمد في كتابه “سيرة خاتم النبيين” كما يلي: لم يمر على إسلام حمزة إلا بضعة أيام وقد أرى الله تعالى المسلمين مناسبة أخرى للفرحة وهي إسلام عمر الذي كان إلى الآن من أشد المعارضين.
كان طبع عمر قبل الإسلام يتسم بالشدة، ولكن عداوة الإسلام قد زادتها أكثر. فكان عمر قبل إسلامه يعذب الفقراء والمستضعفين من المسلمين بسبب إسلامهم. ولكن عندما تعب من إيذائه لهم وإيلامهم دون أن يرى رجوع أحد منهم عن الإسلام، خطر بباله أن يقضي على مؤسس هذه “الفتنة” أي النبي r. فخرج بهذه النية والسيف بيده، فرآه شخص في الطريق فسأله: إلى أين تذهب حاملاً السيف بغير جراب؟ فقال عمر: أريد أن أقتل محمدًا (r). فقال له هذا الشخص: تفقدْ أولا بيتك! فإن أختك وزوجها قد أسلما. فرجع عمر لتوّه قاصدًا بيت أخته فاطمة. وعندما بلغ بيت أخته سمع صوت تلاوة القرآن الكريم ينبعث من الداخل، حيث كان “خبّاب بن الأَرَتّ” يتلو القرآن الكريم بصوت جميل. ازداد عمر غضبًا وغيظًا لدى سماعه هذا الصوت، ففتح الباب ودخل إلى البيت مسرعًا. اختبأ خبّاب في أحد الأماكن هناك فور سماعه صوت الخطوات المتسارعة. وقامت فاطمة أخت عمر بإخفاء الأوراق القرآنية جانبًا. قال لها عمر ولسعيد بن زيد: بلغني أنكما تخليتما عن دينكما. قال هذا وهبّ لضرب زوج أخته سعيد بن زيد، تقدمت فاطمة لإنقاذ زوجها إلا أن هجمة عمر كانت شديدة بحيث أصيبت فاطمة بجرح. تشجعت فاطمة بعد جرحها وقالت بكل شجاعة: نعم، لقد أسلمنا، فافعل ما بدا لك، ولا نستطيع أن نتخلى عن الإسلام الآن.
فلما سمع عمر قول أخته النابع عن الشجاعة رفع بصره ونظر إليها فإذا وجهها مصبوغ بالدم لأنها أصيبت على وجهها بجرح كان ينزف دما. لقد أثر هذا المشهد في قلب عمر تأثيرًا عجيبًا، فقال لأخته: أريني ذلك الكلام الذي كنتما تقرءانه. قالت فاطمة: لن أعطيك إياه لأنك ستضيع تلك الأوراق، فوعد عمر أنه لن يفعل ذلك بل سيردها إليها بعد الاطلاع. قالت فاطمة: مع ذلك لا يمكن أن تُعطى لك قبل أن تغتسل، فاذهبْ واغتسل أولا.
فلما انتهى عمر من الغسل أخرجت فاطمة أوراق القرآن وقدمتها أمامه، فتناولها فإذا هي الآيات الأولى من سورة طه، فراح يقرأ فيها بقلب مرعوب، كانت فطرته سعيدة كما كان هناك دعاء النبي r أيضا يعمل عمله فلدى قراءته لها أخذت كل كلمة تدخل إلى قلبه، ظل عمر يواصل القراءة إلى أن وصل إلى قوله تعالى: ]إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى[ (طه 15-16)
فلما قرأ عمر t هذه الآية تفتحت عيناه واستيقظت فطرتُه فجأة، فقال من تلقاء نفسه، ما أعجب هذا الكلام الطيب، فلما سمع خباب هذه الكلمات خرج من مكمنه فورا، وشكر الله I على أن هدايته والتغيير الحاصل في موقفه لهو ثمرةُ دعاء النبي r وقال: والله سمعتُ رسول الله r بالأمس فقط يدعو الله بإلحاح وضراعة أن يهدي للإسلام عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام أي أبا جهل.
سأل عمر خبابًا: دلّني على الطريق إلى النبي r وكان متلهفا ومتحمسا لدرجة أنه لم يشعر بأن السيف لا يزال مسلولا في يده ولم يخطر بباله ليرجعه إلى غمده، وكان رسول الله r يومذاك في دار الأرقم فدلَّه خباب على الطريق إليه، توجه عمر t إلى هناك وطرق الباب، وحين رأى الصحابةُ من شقوق الباب أن الطارق هو عمر وفي يده سيف مسلول، ترددوا في فتح الباب، ولكن الرسول أمرهم بفتح الباب، وكان حمزة t أيضا هناك وقال هو الآخر: افتحوا الباب، فإذا كان قد جاء بصالح النية فجيّد، وإلا سوف أقطع رأسه بسيفه هو، ففُتح الباب ودخل عمر t مع السيف المكشوف، فتقدم إليه النبي r وأمسك بطرف ثوبه بقوة وهزَّه، وسأله: بأي نية جئت؟ فقال عمر: “يا رسول الله، لقد جئت لأسلم”. فلما سمع النبي r هذه الكلمات كبَّر بحماس وفرحة وكبَّر معه الصحابة: “الله أكبر .. الله أكبر”، وردّدت قمم الجبال صدى الصوت.
هذا كان سعيد بن زيد الذي كان سببا في إسلام عمر. كان سعيد بن زيد من المهاجرين الأوائل، أقام لدى وصوله إلى المدينة عند رفاع بن عبد المنذر أخي أبي لبابة. لقد آخى النبي r بينه وبين رافع بن مالك وفي رواية آخى بينه وبين أبي بن كعب.
لم يستطع سعيد بن زيد أن يشترك في غزوة بدر إلا أن رَسُول اللَّهِ r ضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ في الغنائم. وبناء عليه فجميع الصحابة الذين عُدّوا ممن شهدوا بدرًا بشكل أو بآخر أو ضرب لهم النبي r بسهمهم في الغنائم فإنهم يُعتبرون من الصحابة البدريين.
لقد مرّ في ذكر طلحة بن عبيد الله سببُ عدم تمكن سعيد من الاشتراك في غزوة بدر، ولكن ذكره هنا أيضا ضروري لذلك أتناول سرده هنا أيضا، ولا سيما أنه قد مضى على ذكره شهران أو ثلاثة.
كان سبب عدم مشاركته في غزوة بدر أن النبي rتوقع عير قريش قافلةٍ من الشام فقبل خروجه من المدينة بعشرة أيام أرسل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ليتحسّبا خبر عير قريش هذه، فخرجا حتّى بلغا الحوراء، فلم يزالا مقيمَين هناك حتّى مَرّت بهما العِير. والحوراء ميناء تقع على البحر الأحمر كانت تمرّ منه القوافل السارية بين الحجاز والشام.
بلغ النبي r -قبل رجوع طلحة وسعيد إليه- خبرُ مرور عير قريش ودون إرادتها للعودة إلى تلك الناحية، فنَدَبَ r أصحابه للخروج من أجل ملاقاة القافلة، ولكنها استطاعت الإفلات.
عندما مرت القافلة الأولى لم تكن الأخبار الكاملة والصحيحة وصلت النبي r غير أن القافلة مرت من هناك فندب النبي r صحابته وخرج يقصد القافلة إلا أنها اتخذت طريقا ساحليا وانفلتت سريعا وأخذت تواصل السير ليل نهار اختفاء من نظر الباحثين عنها، وتغير أهلها سير القافلة فلم يتم اللقاء معها في الطريق الذي كان من المتوقع الالتقاء فيه، وذلك لأن القافلة لفّت بعيدًا عن تلك الطريق ومضت نحو الساحل.
بعد ذلك عاد طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى المدينة المنورة ليُخبرا النبي عن خبر العير؛ ولم يَعْلَما بخروجه r لغزوة بدر، فَقَدِمَا المدينة في اليوم الذي حدثت فيه المعركة بين المسلمين وقريش ببدر، فخرجا من المدينة للمثول عند النبي r فلقياه مُنْصَرِفًا من بدر بتزبان، وهي واد على بعد 19 ميلا من المدينة، تكثر فيه عيون ماء عذب، وأقام فيه النبي r عند ذهابه إلى بدر.
وكانت هذه عير أخرى التقى بها النبي r ببدر، أما القافلة التجارية الأولى فكانت قد انفلتت من هناك. ولكن العير التي خرجت من مكة أو جيش مكة الذي جاء للهجوم على المسلمين هم غير القافلة التجارية القادمة من الشام، وحصل معه اشتباك في بدر. على كل حال، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج يستطلع أخبار القافلة التجارية، ولم يكن يعلم أن هناك جيشًا قادمًا من مكة أيضا.
ثم تذكر الرواية أن طلحة وسعيد لم يشتركا في وقعة بدر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم آتاهما نصيبًا من غنائم بدر، وعدَّهما ممن شهد بدرًا.
كان سعيد بن زيد من العشرة المحظوظين المبشر لهم بالجنة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم المبارك في هذه الدنيا.
يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى كل واحد من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبي عبيده بن الجراح، وقال إنهم من أهل الجنة.
قال سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ َأَشْهَدُ عَلَى التِّسْعَةِ إِنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ إِيثَمْ. فقيل له: كيف ذلك؟ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حِرَاءٍ: اثْبُتْ حِرَاءُ، إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيد. فقيل له: وَمَن التِّسْعَةُ؟ قال هم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. فقيل له: وَمَن الْعَاشِرُ؟ قَالَ أَنَا.
قال سَعِيدُ بْنُ جبير: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وسعيد بن زيد يقومون أمام النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب، أي دفاعًا عنه، ويقومون وراءه في الصلاة.
وروى حكيم بن محمد عن أبيه أن سعيد بن زيد كان قد نقش في خاتمه آية قرآنية.
لما خرجت الجيوش الإسلامية للحرب في ناحية الشام في خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه كان سعيد بن زيد قائد الجنود المشاة تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنهما، وشارك في الحرب بكل بسالة وشجاعة في حصار دمشق والمعركة الحاسمة في اليرموك. عيّن أبو عبيدة، والمعارك دائرة، سعيدا بن زيد رضي الله عنهما أميرا على دمشق، فكتب لأبي عبيدة: إني لا أطيق أن تشتركوا في الجهاد وأنا محروم منه، فمجرد أن يصلك كتابي ترسل شخصا آخر أميرًا على دمشق بدلاً مني، وسوف ألحقك بأسرع ما يمكن. فاضطر أبو عبيده رضي الله عنه ليرسل يزيد بن أبي سفيان أميرًا على دمشق، وشهد سعيد بن زيد الحرب ثانية.
لقد وقعت انقلابات وحروب داخلية عديدة أمام أعين سعيد بن زيد رضي الله عنه، ولكنه اعتزل هذه الخصومات كلها لزهده وتقواه، غير أنه كان لا يتردد في إبداء رأيه في الناس بكل حرية. فعندما استُشهد سيدنا عثمان رضي الله عنه كان سعيد بن زيد يقول في مسجد الكوفة: لا غرابة لو زُلزل جبل أحد بسبب ما فعلتم بعثمان رضي الله عنه.
وكذلك ذكر ذات يوم الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بسوء في المـسجِد الأكبر في الْكُوفَةِ، فقال له: يَا مُغِيرَ بْنَ شُعْبَ، يَا مُغِيرَ بْنَ شُعْبَ، ثَلَاثًا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هؤلاء العشرة في الجنة، وعلي منهم.
وكان سعيد بن زيد رضي الله عنه مجاب الدعوة. اتُّهمَ مرة بالاستيلاء على أرض بغير حق، وبذلك أنه كانت لأروى بنت أويس أرضٌ بالقرب من أرضه، فشكتْه إلى مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة لمعاوية، وقالت: إنه ظلمني أرضي. فأرسلَ مروانُ رجاله لتحري الأمر، فقال سعيد: أتروني ظلمتُها وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” مَن ظلَم شبراً من أرضٍ طُوِّقَه يوم القيامة مِن سبعِ أرضين؟ ثم قال: اللهم إن كانت كاذبةً فلا تُمِتْها حتى تُعمِيَ بصرَها، وتجعلَ قبرَها في بئرِها”. وورد أنها ذهب بصرُها، ثم ذات يوم كانت تمشي في دارها فوقعت في بئرها فكانت قبرَها. فصارت مضربَ المثل بين أهل المدينة حيث كانوا يقولون: أعماك الله كما أعمى أروى.
تُوفي سعيد بن زيد رضي الله عنه يوم الجمعة في السنة الخمسين أو الواحدة والخمسين من الهجرة وسنّه حوالي سبعين سنة، وفي رواية: إحدى وسبعين سنة.
كانت داره في ضواحي المدينة بمكان يسمى العقيق. عِلمًا أن في الجزيرة العربية عدة وديان باسم العقيق، وأهمها الواقعُ في ضواحي المدينة وهو ممتد من جنوب غرب المدينة إلى شمال شرقها، وتنصبّ فيه كل وديانها.
كان عبد الله بن عمر يستعدّ للجمعة حتى سمع بوفاة سعيد بن زيد، فاتجه إلى العقيق فورًا وترك الجمعة. وقام سعد بن أبي وقاص بغسله، وجاء الناس حاملين نعشه على أكتافهم إلى المدينة، ثم إن عبد الله بن عمر صلى عليه الجنازة، ودفن في المدينة.
وفي رواية أن عبد الله بن عمر سمع خبر وفاة سعيد بن زيد وهو يستعدّ للجمعة، فترك الجمعة وخرج إلى سعيد بن زيد، فغسله وعطّره وصلى عليه الجنازة.
وروت عائشة بن سعد: قام سعد بن أبي وقاص بغسل سعيد بن زيد، وعطّره، ثم أتى البيتَ واغتسل، وعندما خرج من البيت قال للناس لم أغتسل لأني غسلت سعيد بن زيد، وإنما اغتسلت بسبب الحر.
صلّى عبد الله بن عمر على سعيد بن زيد صلاة الجنازة، ونزل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر في قبره، أي لكيلا يضعاه في اللحد.
وتزوج سعيد بن زيد عشر زيجات في أوقات مختلفة، وكان له منهن 13 ابنا و19 بنتا.
أختصر هنا ذكر سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه، وأذكر الآن الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو، وفي رواية أخرى: عبد الكعبة، وعندما أسلم سمّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. كان من بني زهرة بن كلاب.
عن سهلة بنت عاصم قالت: كان عبد الرحمن بن عوف أبيضَ، واسع العينين، أهدبَ الأشفار، أقنى الأنف، طويلَ النابين الأعليين، له جمة أسفل مِن أذنيه، وكان طويل العنق، ضخم الكفّين، غليظ الأصابع.
عن عبد وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه كان عبد الرحمن رجلاً طويلاً، أبيض مشربَ حمرةٍ، لم يغيّر شعرَه بخضاب، حسن الوجه، رقيق البشرة. ويقال كان أعرج القدم وذلك نتيجة إصابته في سبيل الله تعالى في غزوة أحد.
كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، وكان أحد الستة من أصحاب الشورى الذين عيّنهم سيدنا عمر t لانتخاب الخليفة بعده، وقال: كان النبي r مات وهو عنهم راض.
ولد عبد الرحمن بن عوف بعد عام الفيل بعشر سنين. كان من بين القلة من الناس الذين كانوا يحرمون الخمر على أنفسهم في الجاهلية، وكان أحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام. وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق قبل اتخاذ النبي r دار الأرقم مركزًا لنشر دعوته. اشترك في كلتي الهجرتين إلى الحبشة.
هناك رواية في صحيح البخاري عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ t قال: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ r بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا (علمًا أن هذه الرواية قد ذكرت في ذكر سعد بن الربيع أيضا، وأذكرها هنا أيضا).
وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ أَيْنَ سُوقُكُمْ فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَمَا انْقَلَبَ إِلَّا وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْيَمْ قَالَ تَزَوَّجْتُ قَالَ كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا رجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة. أي بارك الله تعالى في تجارته كثيرا. شهد عبد الرحمن بن عوف بدرا وأحدا وجميع المواقع مع النبي r.
يقول عبد الرحمن بن عوف: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَة أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ قُلْتُ نَعمْ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ قُلْتُ أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُه.ُ فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ. (صحيح البخاري)
لقد ذُكر حادث قتل أبي جهل من قبل أيضا ولكنني سأعيده هنا بإيجاز. فقد ورد في بعض الروايات أن ابنَي عفراء ضرباه حتى أوشك على الموت، ثم قطع عبدُ الله بن مسعود عنقَه t. ويرى الإمام ابن الحجر العسقلاني أن معوذ بن عفراء ضربه بعد معاذ بن عمرو ومعاذ بن عفراء. (تلخيصا عن فتح الباري، شرح صحيح البخاري)
يقول سيدنا المصلح الموعود t في بيان هذا الحادث: كان أبو جهل رئيس مكة وقائد جيشها يوم بدر. يقول عبد الرحمن بن عوف – أحد قادة المسلمين المحنكين – أنه فيما كان أبو جهل يصفّ جنوده في بدر، نظرت يمنة ويسرة، فإذا بصبيّين أنصاريين يبلغان الخامسة عشرة، فقلت في نفسي: لن أستطيع اليوم شفاء نفسي أثناء القتال، لأن معي – لسوء حظي – صبيين من الأنصار عديمي الخبرة بالقتال. وبينما أنا في ذلك حتى غمزني الذي على يميني، فقال: يا عمّ ادْنُ مني لأني لا أريد أن يسمع صاحبي ما سأقول في أذنك. فاقتربت منه فقال: عمّ، أَرِني أبا جهل الذي آذى رسول الله r أذى شديدا، فإني أريد قتله؟ وما أن أنهى كلامه، حتى غمزني الصبي الذي على يساري، فقال: يا عم، من هو أبو جهل الذي كان يؤذي رسول الله r أذى شديدا، فإني أحب قتله اليوم؟ ويقول عبد الرحمن بن عوف t: كنت مقاتلاً محنّكًا، إلا أني لم أتصور أني قادر على قتل قائد جيش الكافرين أبي جهل الذي كان يقف وسط حلقة من جنوده الخبراء بفنون الحرب. فأشرتُ لهما بيدي وقلت: هو ذلك الشخص المختفي في الخوذة والدرع والذي يحرسه مقاتلون أشداء بسيوفهم. وكنت أعني بذلك أن قتلهما هذا الرجلَ دونه خرط القتاد. ولكن لم تكد يدي تهبط بعد الإشارة حتى انقض الصبيان نحو أبي جهل انقضاضَ الصقر على العصفور وأخذا يشقّان صفوف الكافرين.
وكان عكرمة المقاتل المحنّك المغوار يحرس أباه أبا جهل من أمامه، ولم يدُر بخلده أو غيرِه قَصْدَ الصبيين اللذين اقتربا بسرعة بالغة من الحراس الشاهرين سيوفهم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن ينزلوا سيوفهم قبل فوات الأوان، إلا واحدا منهم الذي قطع يد أحد الصبيينِ، ولكن الذي يرى بذل النفس رخيصًا لا يعيقه قطعُ يده عن قصده، فما زال الصبيان يشدّان على الحراس كالصخرة المتدحرجة من أعلى الجبل حتى انقضّا على أبي جهل بسيفيهما، فوقع صريعًا قبل أن تبدأ الحرب فعلاً.
يقول عبد الله بن مسعود t: وجدتُ أبا جهل في حالة الغرغرة بعد انتهاء القتال، فقلت له: كيف حالك؟ قال: أموت بحسرة. ليس القتل عارًا، ولكن لو غيرُ أكّارٍ قتَلني، يعني ليتني لم أُقتَل بيد صبيين من الأنصار المزارعين بل قتَلني غيرهما؛ ذلك لأن أهل مكة كانوا يحتقرون أهل المدينة الذين كانت حرفتهم الزراعة. ثم قال أبو جهل لابن مسعود: إني في أذى شديد، فاعملْ لي معروفًا واقتلْني بضربة سيف، ولكن اقطَعْ عنقي طويلةً؛ لأن قطع العنق طويلةً من علامات القائد. فرضي ابن مسعود t بقتله ليخلصه من العذاب، ولكنه قطع عنقه قريبا من الذقن. وهذا يعني أن رغبته الأخيرة أيضًا لم تتحقق.
لقد ذكر سيدنا المصلح الموعود t هذا الحادث في بيان التضحيات وكيفية حب الصبيان للنبي r وكيف كانوا يريدون أن ينتقموا من أعدائه. لقد ذُكر هذا الحادث من قبل أيضا. هذا بيان التضحيات والحب الذي بسببه ما كانوا يبالون بأنفسهم.
وسأواصل الحديث مستقبلا بإذن الله في بيان سوانح عبد الرحمن بن عوف t.