خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 19/6/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
كنت في الخطبة الماضية أتحدث عن عبد الرحمن بن عوف t، وكان للحديث بقية وسأذكرها اليوم. كانت لعبد الرحمن بن عوف علاقات صداقة قديمة مع أمية بن خلف. ولقد جاء ذكر مفصل لهذا الأمر في صحيح البخاري حيث يقول عبد الرحمن بن عوف t:
كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: !!لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ.
وقد ورد تفصيل أكثر هذا الحادث في تاريخ الطبري كما يلي:
عن عبد الرحمن بن عوف قال كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة وكان اسمي عبد عمرو فسمِّيتُ حين أسلمتُ عبد الرحمن ونحن بمكة قال: فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سَـمَّاكَهُ أبوك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به. أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو، لم أجبه فقلت: اجعل بيني وبينك يا أبا عليّ ما شئت. قال فأنت عبد الإله، فقلت نعم. فكنت إذا مررتُ به قال يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدرٍ مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية آخذا بيده ومعي أدرع قد استلبتُها فأنا أحملها. فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، قلت: نعم، قال: هل لك فيما هو خير لك من هذه الأدرع التي معك قال: قلتُ: نعم، هلُمَّ إذًا. قال فطرحتُ الأدرع من يدي وأخذتُ بيده ويدِ ابنه علَيّ وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط…. يقول عبد الرحمن بن عوف قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذاً بأيديهما: يا عبد الإله مَن الرجل منكم المعَلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذِّب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام، فيُخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضَع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد، فيقول بلالٌ: أحدٌ أحدٌ. فقال بلال حين رآه رأسُ الكفر أمية ابن خلف: لا نجوتُ إن نَـجَوا. قال، قلتُ: أي بلال أسيري. قال لا نجوتُ إن نجوا. قال قلت: تسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجوا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا. قال فأحاطوا بنا. ثم جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه، قال: فضرب رجل ابنه فوقع. قال: وصاح أمية صيحة ما سمعتُ بمثلها قط، قال: قلت: انج بنفسك ولا نجاة، فو الله ما أغني عنك شيئا، قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
شهد عبد الرحمن بن عوف أُحدًا وثبت مع رسول الله r يوم أُحد حين فرّ بعض المسلمين. وقد تلقى يومذاك واحدا وعشرين جرحا، وأصيب في قدمه لذلك كان يعرج. وقد كُسرت ثناياه أيضا.
عن بن عمر قال: بعث رسول الله r عبد الرحمن بن عوف في سبعمائة رجل إلى دومة الجندل وذلك في شعبان سنة ست من الهجرة، فنقض عمامته بيده ثم عمَّمَه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها. ثم قال له: يا أبا محمد، أسمع من دومة الجندل أخبار محزنة، فهناك جيش يتجمع للهجوم على المدينة، وقال: “اغزُ بسم الله وفي سبيل الله. وبوصولك إلى دومة الجندل أُدع زعيم القبيلة “كلب” إلى الإسلام أولا، ولكن إذا كان لا بد من القتال، فلا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليداً ولا نساء. وطهِّر أرض الله من المتمردين على الله. أي مسموح لك القتال بهذه الشروط. فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم. كتب عبد الرحمن بن عوف القصة كلها إلى النبي r فقال r: تزوَّجْ تماضر بنت الأصبغ ففعل وقدم بها إلى المدينة، وعُرفت بعدها بأُمّ أبي سلمة.
عن عمر بن عبد العزيز قال: لما انتهى قتل أبي عبيد بن مسعود في معركة صرار (وقد سبق ذكر معركة صرار أن فيلا للفُرس كان قد دحسه) إلى مسامع عمر، واجتماع أهل فارس على رجل من آل كسرى نادى في المهاجرين والأنصار وخرج حتى أتى صرارا، (وهو جبل على بُعد ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق). وقدم طلحة بن عبيد الله حتى يأتي الأعوص. وسمى لميمنته عبدا لرحمن بن عوف ولميسرته الزبير بن العوام واستخلف عليا رضى الله عنه على المدينة واستشار الناس فكلهم أشار عليه بالسير إلى فارس، ولم يكن استشار في الذي كان حتى نزل بصرار ورجع طلحة فاستشار ذوي الرأي فكان طلحة ممن تابع الناس. وكان عبد الرحمن ممن نهاه فقال عبدا لرحمن فما فديتُ أحدا بأبي وأمي بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل يومئذ ولا بعده. فقلت: بأبي أنت وأمي اجعل عجزها بي وأقم وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد فإنه إن يُهزم جيشُك ليس كهزيمتك، وإنك إن تقتل أو تُهزم في أنف الأمر خشيتُ أن لا يكبِّر المسلمون، وأن لا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا وهو في ارتياد من رجل وأتى كتابُ سعد … وهو على بعض صدقات نجد فقال عمر فأشيروا علي برجل فقال عبدالرحمن وجدتُه قال من هو؟ قال الأسد في براثنه سعد بن مالك، أي أنه رجل شجاع وقائد جيد، فليُجعَل هو قائدا) ومالاه أولو الرأي.
عندما أعطى النبي r الصحابة لقبائل مختلفة سكنا في المدينة، أعطى قبيلة عبد الرحمن بن عوف أرضا في النخيل خلف مسجد النبي r، ثم أعطى عبد الرحمن بن عوف وعمر رضي الله عنهما أرضا كعقار. ثم اشترى الزبير هذا العقار من أولاد عمر. وقد وعد النبيُّ r عبدَ الرحمن بن عوف أنه عندما يفتح الله تعالى للمسلمين بلاد الشام ستكون لك قطعة كذا وكذا من الأرض. فعندما فُتحت بلاد الشام في عهد عمر t أُعطي عبد الرحمن بن عوف أرضَه. وكان اسم المنطقة التي وُعد عبد الرحمن بن عوف الأرضَ فيها “السليل”.
وكان لعبد الرحمن بن عوف شرف أن النبي r صلّى وراءه.
فعن المغيرة أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ r تَبُوكَ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَبَرَزَ رَسُولُ اللهِ r قِبَلَ الْغَائِطِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَحَمَلْتُ مَعَهُ إِدَاوَةً، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ r إِلَيَّ، (حيث كنت قد وقفت على مسافة منه) أَخَذْتُ أُهَرِيقُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْإِدَاوَةِ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُ جُبَّتَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمَّا جُبَّتِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْجُبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ تَوَضَّأَ عَلَى خُفَّيْهِ (أي مسح عليهما ونظفهما) ثُمَّ أَقْبَلَ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ حَتَّى نَجِد النَّاسَ قَدْ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى لَهُمْ فَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ r إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ (أي لقد صلّوا الركعة الأولى وكانوا يصلون الركعة الآخرة من صلاة الفجر حين وصل) فَصَلَّى (في الصف) مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْآخِرَةَ. فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَامَ رَسُولُ اللهِ r يُتِمُّ صَلَاتَهُ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ. فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ r صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُمْ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ، يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوْا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا.
قَالَ الْمُغِيرَةُ: أَرَدْتُ تَأْخِيرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (لما وصلنا هناك) فَقَالَ النَّبِيُّ r دَعْهُ يصلي بالناس. (مسلم، كتاب الصلاة)
قال النبي r بعد الصلاة: ما قُبض نبي حتى يصلى خلف رجل صالح من أمته.
وهكذا فقد منحه النبي r هذا الشرف بحيث قال له إنه أحسن إذ صلى بالناس، كما قال بأن صلاتي خلفك تصديق لكونك رجلا صالحًا.
وفي رواية: كان عبد الرحمن يصلي قبل الظهر صلاة طويلة أي صلاة نافلة، فإذا سمع الأذان خرج للصلاة فورًا. يقول أحد الرواة: رأيت عبد الرحمن يطوف بالبيت وهو يقول: اللّهم قِنِى شحّ نفسي.
عن عبد الله بن عمر قال: استخْلفَ عمرُ عبد الرحمن بن عوف على الحجّ سنة ولي الخلافة.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: شكا عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله r كثرة القمل وقال يا رسول الله تأذن لي أن ألبس قميصا من حرير (يعني كان يعاني من كثرة القمل لسبب ما ولم يكن يتخلص منها فاستأذن) فأذن له (أن يلبس الحرير حتى تخف معاناته). فلما توفي رسول الله r وأبو بكر وقام عمر، أقبل عبد الرحمن بابنه أبي سلمة وعليه قميص من حرير. فقال عمر: ما هذا؟ ثم أدخل يده في جيب القميص فشقه إلى أسفله. فقال له عبد الرحمن: ما علمت أن رسول الله r أحلّه لي؟ فقال عمر: إنما أحلّه لك لأنك شكوت إليه القمل، فأما لغيرك فلا.
عن سعد بن إبراهيم قال كان عبد الرحمن بن عوف يلبس البرد أو الحلة تساوي خمسمائة أو أربعمائة درهم. أي كان قد حاز من الثروة بحيث كان يلبس لباسًا ثمينًا جدًّا. انظروا إلى أفضال الله تعالى عليه إذ كان صفر اليدين عند هجرته، ولكن بعد ذلك أنعم الله عليه ليلبس أثمن لباس، وأعطاه عقارات لا تحصى.
أوصى أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه أن يكون عمر خليفة بعده، فلما أراد ذلك دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن رأيك في عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل؛ ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، (ولأجل ذلك فكان يبدي نوعًا من الغلظة وهكذا تتعادل الأمور) ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. (ولن ترى فيه هذه الغلظة، ثم قال) ويا أبا محمد قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه؛ (ثم قال له أبو بكر:) لا تذكر لأحد يا أبا محمد مما قلت لك شيئاً، قال: نعم.
بعد فتح مكة أرسل النبي r سرايا إلى جهات مختلفة وأرسل خالد بن الوليد في سرية إلى بني جذيمة، وكان بنو جذيمة قد قتلوا في الجاهلية “عوف بن عبد عوف” والد عبد الرحمن، وقتلوا الفاكه بن المغيرة عمّ خالد، فقتل فيهم خالدٌ خطأً، فودى النبي القتلى، وأَعطاهم ثمن ما أُخِذ منهم. فلما علم عبد الرحمن بن عوف ما فعل خالد قال له: “إِنما قتلتهم لأَنهم قتلوا عمك.” وقال خالد: “إِنما قتلوا أَباك أيضا.” وأَغلظ في القول، وقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها. (أي أنكم من أوائل المؤمنين وتعتبرون ذلك فخرًا كبيرا لأجل ذلك تقول لي هذا الكلام). فبلغ ذلك النبي r، فقال: “دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه “.
أي إن مكانتهم كبيرة. فكانت تضحيات هؤلاء الصحابة الأوائل كبيرة ولا يمكن مقارنتها مع تضحيات الآخرين.
قال النبي r عن عبد الرحمن بن عوف: “إنه سيد من سادات المسلمين”.
وقال r أيضا: “عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء وأمين في الأرض”.
مرض عبد الرحمن بن عوف مرةً فأغمي عليه فصاحت امرأته، فلما أفاق وتحسنت حالته قال: لما أغمي عليّ أتاني رجلان (أي رأى هذا المشهد أنه جاءه رجلان) فقالا انطلق نحاكمك إلى الْعَزِيزِ الْأَمِينِ، قَالَ: فَلَقِيَهُمَا شخص ثالث، فَقَالَ: خلِّيَا عَنْهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
هذا ما رآه عبد الرحمن بن عوف عن نفسه.
عن نوفل بن إياس الهذلي قال: كان عبد الرحمن بن عوف لنا جليساً وكان نعم الجليس وإنه انقلب بنا ذات يوم حتى دخلنا منزله، ودخل فاغتسل، ثم جاء بقصعة فيها خبز ولحم، ثم لا نعرف ما الذي أصابه فبدأ يبكي، فقلنا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: مات رسول الله r ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أُخّرنا لهذا لما هو خير لنا.
أي لا ندري إن كان خيرًا ما أعطي لنا من فرصة العيش لهذه المدة، أم إنه ابتلاء لنا. هذه كانت مشاعر الصحابة. إنهم كانوا يخشون الله تعالى، وهكذا كانت مشاعرهم تجاه أهل بيت النبي r. ولم يكن الصحابة يبدون مثل هذه المشاعر لأهل بيت النبي r فحسب بل كانوا يعبّرون عن مثلها فيما بينهم ويتضح ذلك من خلال حبهم المثالي بعضهم لبعض.
وهناك واقعة تلقي الضوء على ذلك. وهي أن عبد الرحمن أتي بطعام عن الإفطار، وكان صائماً، فلما تزيّن الخوان بألذ أنواع الأطعمة، أخذ عبد الرحمن منها لقمة للأكل، فلما وضعها في فمه اغرورقت عيناه، فكف يده عن الطعام، وقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير منا، فكفن في بردته، (أي جعلت كفنًا بردتُه التي كان يرتديها) إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. ثم قال: وقتل حمزة وهو خير مني. ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط، وأعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
هكذا كانوا يخافون الله وهكذا كانت خشيتهم لله تعالى.
عن أم المؤمنين أم سلمة قالت: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمه، قد خفت أن يهلكني كثرة مالي أنا أكثر قريش مالاً. قالت: يا بني، أنفق (في سبيل الله، ثم لا خوف للهلاك) فإني سمعت رسول الله r يقول: “إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه”. (أي بعضهم لن يبلغوا تلك الدرجة). فخرج عبد الرحمن فلقى عمر وأخبره فجاء عمر فدخل عليها فقال: أنشدك بالله أن تُخبريني هل أنا منهم؟ (أي من الذين قال النبي r عنهم أنهم لن يروه بعد أن يفارقهم) فقالت أم سلمة: لا، لست منهم، ولن أبرىء بعدك أبداً. أي لا أستطيع القول عن أحد غيرك ما إذا كان سيرى النبي r أم لا؟
أي لا أستطيع الجزم عن أحد أنه سيرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حتمًا، ولكن كما هو معروف وكما ذكر من قبل فإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان من العشرة المبشرة، الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومع ذلك كان هؤلاء يخافون الله ويخشونه لدرجة أنهم كانوا قلقين على مصيرهم دائما، حتى إن عبد الرحمن بن عوف عندما سمع ذلك من أم سلمة لم يلبث أن تصدق بمال كثير.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ (وهي قرية في وادي التبوك على حدود الحجاز والشام بمسافة ثلاث عشرة ليلة من المدينة، أي أن ظلت المطايا الموجودة في تلك الأيام كانت تقطع تلك المسافة لو ظلت تمشي لثلاث عشرة ليلة) لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. (هذا الحادث وقع في السنة الثامنة عشرة الهجرية في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه بعد فتوحات الشام) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فماذا ترون؟ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ.
فطلب من المهاجرين أن يذهبوا، ثم دعا الْأَنْصَارَ وَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، (أي أشار عليه بعضهم أن يرجع، وقال بعضهم عليه أن يتقدم). فَقَالَ لهم: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ (أي الذين أسلموا عند فتح مكة وهاجروا إلى المدينة) فَدُعوا، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقبل عُمَرُ مشورتهم وأعلن فِي النَّاسِ بالرجوع. فقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. ثم وضّح له بضرب مثال ما هو قدر الله فقال: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟
أي أن قدر الله تعالى قد خيّرك في أمرين: الأرض الخصبة أو الأرض الجدبة التي لا يوجد بها إلا قليل من العشب والكلأ، فلا يمكنك أن تقول إن الأرض الخصبة قد نبت بها العشب والكلأ بكثرة بقدرِ غيرِ الله تعالى، أما الأرض الجدبة فصارت جدبة بقدر الله تعالى. كلا، بل كلاهما بقدر الله تعالى، وإنما عليك أن تختار الأفضل، والظاهر أنك ستفضل الرعي في الأرض الخصبة.
قَالَ الراوي: هذا ما قال عمر له، ثم جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِالوباء بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ.
أي إذا انتشر الوباء في مكان فلا تذهبوا إليه، وإذا تفشى في المنطقة التي تسكنون فيها فلا تخرجوا منها بل ابقوا فيها لكيلا ينتشر بين أهل المناطق الأخرى.
ونرى اليوم أن العالم يعمل بحسب ذلك، والذين علموا بالحجر الصحي في حينه تمكنوا من احتواء هذا الوباء إلى حد كبير، أما الذين تهاونوا فيه ولم يتمكنوا من الأخذ بهذه الحيطة فلا يزال الوباء عندهم في انتشار مستمر. باختصار، لقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته إلى هذا الأمر الأساسي منذ البداية. قَالَ الراوي: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَف.
عن المسور بن مخرمة قال: كان عمر بن الخطاب وهو صحيح يُسأل أن يستخلف فيأبى، فصعد يومًا المنبر بكلمات وقال: إنْ متُّ فأمرُكم إلى هؤلاء الستة الذين فارقوا رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ: علي بن أبي طالب ونظيره الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف ونظيره عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله ونظيره سعد بن مالك. ألا وإني أوصيكم بتقوى الله في الحكم والعدلِ في القسم.
عن أبي جعفر قال: قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم، فإن كان اثنان واثنان، فارجِعوا في الشورى، وإن كان أربعة واثنان فخذوا صنفَ الأكثرِ.
عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: وإنْ اجتمع رأيُ ثلاثةٍ وثلاثةٍ فاتّبِعوا صنفَ عبد الرحمن بن عوف، واسمعوا وأطيعوا.
عن عبد الرحمن بن سعيد أن عمر رضي الله عنه حين طُعِنَ قال: لِيُصَلِّ لكم صهيبٌ، وقالها ثلاثًا، وتشاوروا في أمركم، والأمرُ إلى هؤلاء الستة، فمَن بعل أمركم، يعني مَن خالفكم، فاضربوا عنقه.
أي يُختار خليفة بعدي مِن هؤلاء الستة، وإلى أن يُنتخب الخليفة سوف يصلي بكم صهيبٌ.
وعن أنس بن مالك قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي طلحة قبل أن يموت بساعة، فقال: يا أبا طلحة كنْ في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفرِ أصحابِ الشورى، فلا تتركْهم يمضي اليومُ الثالث حتى يؤمِّروا أحدَهم. اللهم أنت خليفتي عليهم.
حدثني إسحاق بن عبد الله قال: وافى أبو طلحة في أصحابه ساعة قبْر عمرَ، فلزم أصحابَ الشورى. فلما جعلوا أمْرَهم إلى عبد الرحمن بن عوف يختار لهم منهم لزم أبو طلحة بابَ عبد الرحمن بن عوف بأصحابه حتى بايع عثمانَ.
عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أولُ مَن بايع لعثمان عبدُ الرحمن ثم علي بن أبي طالب. حدث عمر بن عميرة مولى عمر بن الخطاب عن جده قال: أنا رأيت عليا بايع عثمانَ أوّلَ الناس، ثم تتابع الناس فبايعوا.
وفي رواية في البخاري أن سيدنا عمر رضي الله عنه قام للصلاة فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ حتى تعرض للهجوم، فتَنَاوَلَ عُمَرُ، وهو جريح، يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الذي كان قريبًا منه، فَقَدَّمَهُ ليؤمّ بالناس، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلَاةً خَفِيفَةً.
كتب حضرة المصلح الموعود وهو يتحدث عن دور عبد الرحمن بن عوف عند انتخاب سيدنا عثمان رضي الله عنهم. لقد سبقت روايتان وهما تذكران الأمر نفسه مع اختلاف بسيط.
ولما أصيبَ عمر رضي الله عنه وأدرك أن أجله قد اقترب، أوصى بستة أشخاص وأمَرهم باختيار أحد منهم خليفةً، وهؤلاء الستة هم: عثمان، علي، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، الزبير وطلحة رضي الله عنهم. كما ضمّ إليهم عمرُ عبدَ الله بن عمر للاستشارة فقط، وقال: إنه لن يُختار خليفةً. وأوصاهم عمر رضي الله عنه أن عليهم جميعا أن يتخذوا القرار خلال ثلاثة أيام، وأن يصلي صهيب بالناس خلال هذه الفترة. وأمرَ المقدادَ ابن الأسود بالإشراف على تشاور هؤلاء الستة، وأمَره أن يُكرههم على الاجتماع في مكان واتخاذ القرار، وأن يحرس المكان بنفسه حاملا سيفه.
(ذكرت الروايات السابقة أن عمر أمر طلحة بالإشراف على جلسة الانتخاب، لكن حضرة المصلح الموعود قد توصل بناء على ما ورد في مصادر أخرى إلى أن المقداد بن الأسود قد عُيّن على مهمة حراسة جلسة الانتخاب)
وقال عمر رضي الله عنه: مَن اتفق عليه أكثرُهم فليبايعه الناس، وأما من رفض فليُقتلْ. وإذا كان لكل طرف ثلاثةُ أصوات فمن يصوِّت له عبد الله بن عمر فهو الخليفة. وإذا لم يرضوا بقراره فمَن صوّت له عبد الرحمن بن عوف فهو الخليفة. فاجتمع خمسةٌ من هؤلاء الستة للاستشارة، إذ لم يكن طلحة في المدينة في ذلك الوقت، ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة. وبعد نقاش طويل قال عبد الرحمن بن عوف: حسنًا، مَن الذي يريد منكم أن يسحب اسمه؟ فصمت الجميع. فقال عبد الرحمن بن عوف: أنا أسحب اسمي قبل الجميع. ثم قال عثمان: أنا أسحب اسمي. ثم انسحب الاثنان الآخران، وظلّ عليٌّ صامتا، وفي الأخير أُخَذ مِن عبد الرحمن بن عوف عهدًا بعدم الانحياز لأحد عند أخذ القرار. فأعطاهم موثقا، وصار الأمر كله في يده. فظلَّ عبد الرحمن بن عوف يزور بيوت المدينة بيتًا بيتًا ثلاثةَ أيام ويسأل الرجال والنساء عمّن يرضون بخلافته، فرضي الجميع بخلافة عثمان، فحكم لصالح عثمان فصار خليفةً.
وهناك رواية أخرى وهي طويلة جدا، وسوف أذكر ما تبقى، إنْ تطلب الأمر، عند الحديث عن عبد الرحمن بن عوف، أو أذكره منفصلا في سياق آخر إن شاء الله تعالى. إنها رواية طويلة عن انتخاب سيدنا عثمان أو هي بقية حياة عمر رضي الله عنهما، فيمكن أن أذكرها في ذلك السياق. لا تزال هناك أمور أخرى حول سوانح عبد الرحمن بن عوف ومحاسنه ومآثره وسيرته، وسوف أذكرها في الخطبة التالية إن شاء الله تعالى.