خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 3/7/2020م
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
كنتُ أذكر سعد بن معاذ t منذ الخطبة الماضية، كذلك هناك حادث إظهار عهد الوفاء في مشهد بدر، وقد ذُكر هذا الحادث في الخطبة الماضية أيضا، وبينه المصلح الموعود t أيضا بأسلوبه فقال:
من الطبيعي أنه إذا كانت ثمة علاقة الحب فلا يريد محِبٌّ أن يصيب محبوبَه أيُّ أذى، ولا يحب أن يذهب محبوبه للحرب بل يسعى كل السعي ليحمي محبوبه من الحرب، كذلك كان الصحابة لا يحبون أن يذهب النبي r للحرب ولكنهم أنفسهم كانوا يكرهون أن يتخلفوا عنها، إلا أنهم ما كانوا يريدون أن يذهب النبي r للحرب. وأمنيتهم هذه طبيعية يُكنها كل محبّ لمحبوبه، وإضافة إلى ذلك نرى أنه ثابت من التاريخ أن النبي r حين بلغ قريبا من بدر قال للصحابة: أخبرني الله تعالى أننا سنواجه الجيش بدلا من القافلة، ثم استشارهم وسألهم عن رأيهم. حين سمع كبار الصحابة ذلك قاموا واحدا تلو الآخر وألقوا خطابات مخلصة وقالوا إننا مستعدون لكل خدمة. كان يقوم واحد ويلقي كلمةً ويجلس، ثم كان يقوم الآخر ويعطي مشورته ويجلس، وهكذا كل من قام قال: إذا كان الله تعالى يأمر بالقتال فسنقاتل حتما، ولكن كلّما جلس أحدٌ بعد خطابه قال النبي r: أشيروا علي أيها الناس، لأنّ كل من كان قد ألقى كلمة إلى الآن كان من المهاجرين، وحين كرر النبي r قوله: “أشيروا علي أيها الناس”، ففهِم سعد بن معاذ t رئيس الأوس مراده r، فقام من طرف الأنصار وقال: يا رسول الله: قد أُشير عليك ولكن بالرغم من ذلك تقول: أشيروا علي، مما يبدوا أنك تريد أن تعرف رأي الأنصار. إذا كنا صامتين إلى الآن فكان ذلك لكي لا يظن المهاجرون أننا نريد قتال قومهم وإخوتهم ونريد قتْلهم. ثم قال: يا رسول الله، لعلك تفكر في معاهدة العقبة التي كان اشتُرط فيها أنه لو شُن الهجوم على المدينة دافعنا عنها معك ولكن إذا كان القتال خارج المدينة فلن نكون مسؤولين عن ذلك. فقال النبي r: نعم. قال سعد بن معاذ t: يا رسول الله، حين دعوناك إلى المدينة لم نكن نعلم مكانتك العظيمة أما الآن فقد رأينا حقيقتك بأم أعيننا لذا فالآن لا قيمة لتلك المعاهدة في نظرنا، يعني تلك المعاهدة كانت معاهدة عادية من منظور دنيوي ولكن الآن ما قد رأيناه وقد انفتحت عيون روحانيتنا فلم تَعُدْ بعد ذلك أي أهمّية لتلك المعاهدة، لذا فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، يا رسول الله إننا سنقاتل بين يديك وخلفك وعن يمينك وشمالك ولن يصلك العدو حتى يدوس على جثثنا.
قال المصلح الموعود t في تفسير الآية 12 من سورة الرعد ]لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ[: الحق أن حياة النبي r ما بعد الدعوة كلّها شاهدة على هذه العصمة التي وعدها الله تعالى في قوله “لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ”. فإن الملائكة هي التي كانت تحرسه في الفترة المكية، وإلا لما كان لينجو من الأعداء الذين حاصروه من كل صوب. أما بعد الهجرة إلى المدينة فقد تمتع فعلا بالحماية بنوعيها: حماية ملائكة السماء وحماية ملائكة الأرض أي الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وإن معركة بدر أصدق مثال على هذه الحماية الظاهرية والباطنية. لقد تعاهد النبي r مع أهل المدينة قبل أن يهاجر إليهم، أنه لو حاربه العدو خارج المدينة فلن يكونوا ملزمين بالخروج معه. وقبل مشهد بدر استشار النبي r المهاجرين والأنصار عن القتال. فكان المهاجرون يشيرون عليه بكل حماس بالخروج من المدينة، ولكنه r لم يزل يقول: أشيروا عليّ أيها الناس. فتقدم أحد الأنصار سعد بن معاذ t وقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال: يا رسول الله لا شك أننا اشترطنا عليك أنه لو قاتلت خارج المدينة لن نكون ملزمين بالخروج معك، ولكنا كنا حين ذاك حديثي العهد بالإسلام. أما وقد شهدنا الآن واختبرنا أنك رسول الله حقًا، فلا حاجة للاستشارة. والله لو أمرتنا أن نخوض بخيلنا البحر لخضناه. والله، إنا لن نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى u: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون. ولكننا سنقاتل العدو عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ولن يَخلصوا إليك ما لم يطؤوا جثثنا الهامدة. (البخاري، مسلم، السيرة لابن هشام). قال المصلح الموعود t: أرى أن هؤلاء المخلصين أيضا كانوا من المعقبات التي جعلها الله تعالى لحفظ النبي r.
قال أحد الصحابة: لقد شهدت مع النبي r ثلاث عشرة غزوةً، ولَأنْ أكون صاحب هذه الكلمة أَحَبُّ إلي مما فعلت. (البخاري، المغازي)
قال مرزا بشير أحمد t في سيرة خاتم النبيين r وهو يذكر إخلاص سعد بن معاذ t في مناسبة بدر:
إن الموقع الذي عسكرت فيه قوة المسلمين لم يكن موقعا مناسبا للحرب، فقال الحباب بن المنذر للنبي r: أرأيت هذا المنزل، أمَنزلاً أنزلَكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي، ولم ينزل عليَّ بهذا الصدد أيُّ أمر من الله تعالى، فإن كنت ترى غير ذلك فأت بما عندك. فقال يا رسول الله هذا ليس لك بمنزل جيد نظرا إلى القتال، بل الأفضل أن تنهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من قريش، فتنزلها وتقبض عليها، فإني عالم بهذه البئر وقد عرفت عذوبة مائه.
فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاقتراح، وكانت قريش نازلين وراء التل وكانت عين الماء خالية، فتقدم المسلمون وقبضوا عليها. ومع ذلك لم يكن بتلك العين ماء كاف في ذلك الوقت، كما نجد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك، وظل المسلمون بحاجة إلى المزيد من الماء، كما أن أرضية طرف الوادي الذي كان به المسلمون لم تكن جيدة بل كانت رملية وكانت أقدامهم لا تتثبت عليها جيدا.
بعد اختيار المكان المناسب بنى الصحابة باقتراح من سعد بن معاذ رئيس الأوس عريشا في جانب من الميدان، وربط سعد راحلة النبي صلى الله عليه وسلم بالعريش وقال يا رسول الله تفضل أنت في العريش، ونلقى عدونا باسم الله تعالى، فإن كتَب الله لنا النصر كان ذلك مما أحببنا، وإن كانت الأخرى، لا قدر الله، جلستَ على ركائبك فلحقتَ بمن وراءنا من قومنا. (وكما ذكرتُ من قبل كان سعد قد ربط مع العريش راحلة جيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم تصل إلى المدينة على تلك الراحلة بسلام) فهناك إخوان وأقارب لنا ما نحن بأشدَّ حبًّا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، ولن يتردوا في بذل نفوسهم دفاعًا عنك عندما يعلمون بما حصل.
لقد قال سعد قوله هذا من فورة إخلاصه، ولا شك أنه يستحق به الثناء عليه، وإلا فمتى كان لنبي الله أن يفر من ساحة القتال؟ كان الرسول r أمام القوم كلهم دائما أثناء القتال. فإننا نرى يوم حنين أن الجيش المسلم الذي كان قوامه اثنيْ عشر ألف مقاتل لما ولى مدبرًا ظل مركز التوحيد هذا (صلى الله عليه وسلم) في مكانه لم يتزعزع.
على كل حال، أُعِدّ العريش كما كان اقتراح سعد، وقام سعد وبعض الأنصار الآخرين بحراسة العريش، وبات فيه النبي r وأبو بكر رضي الله عنه، وظل النبي r يدعو الله تعالى ببكاء وابتهال طوال الليل. وورد أن النبي r كان الوحيد الذي لم ينم طوال الليل من بين القوم، أما الآخرون فناموا على التناوب.
عند غزوة أحد بات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة y ليلة الجمعة في المسجد النبوي مدججين بالسلاح يحرسون باب النبي r.
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة أحد راكبا فرسه، مُتَنَكِّبا قوسه، حاملا رمحه، كان السعدانِ أي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يجريان أمامه وكل واحد منهما لابساً درعه.
كتب حضرة مرزا بشير أحمد وهو يسجل أحداث غزوة أحد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أحد بعد صلاة العصر مع جماعة كبيرة من أصحابه، وكان سعدُ بن معاذ سيدُ الأوس، وسعدُ بن عبادة سيدُ الخزرج، يمشيان أمام راحلته ببطء، وكان سائر الصحابة يمشون عن يمينه وشماله ومن خلفه صلى الله عليه وسلم.
لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة أحد نزل من فرسه، ودخل بيته مستندًا إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.
يقول حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه وهو يتحدث عن مدى حب والدة سعد بن معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: عند القفول من غزوة أحد كان سعد بن معاذ يمشي بكل فخر أمام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم حاملا خطامها، وكان أخو سعد قد استُشهد في القتال، فلما اقتربوا من المدينة رأى سعد رضي الله عنه أمَّه قادمةً، فقال يا رسول الله، ها هي أمي قادمة. وكانت أمُّ سعد قد قاربت الثمانين أو الاثنتين والثمانين، وذهب نور عينها وضعف بصرها جدا، وكانت لا تفرق بين الضوء والظل، ولما سمعت هذه العجوز خبر استشهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من المدينة تمشي صوب أُحد متخاذلة القدمين. فلما قال سعد يا رسول الله هذه أمي قادمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف راحلتي عند أمك.
ولما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم منها فإن هذه العجوز لم تسأل عن أبنائها، وإنما قالت أين النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال سعد ها هو أمامك. فرفعت العجوز ببصرها ظلت تنظر الى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بنظرها الضعيف. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إني متأسف جدا أن ابنك الشاب قد استُشهد في الحرب. عندما يسمع المرء العجوزُ مثل هذا الخبر يفقد صوابه، ولكن ما أروعَ ما أجابته به هذه العجوز حيث قالت: ماذا تقول يا رسول الله، إنما كنتُ عليك أحاذر.
بعد ذكر هذه الواقعة يقول حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه مخاطبًا السيدات الأحمديات مذكرًا إياهن بواجب التبليغ والدعوة: إنّ هؤلاء النساء هن اللواتي كن يعملن في مجال نشر الإسلام والدعوة مع الرجال جنبًا بجنب، وهؤلاء هن النسوة اللواتي يفتخر العالم الإسلامي بتضحياتهن. إنكنّ تدّعين اليوم أنكن آمنتن وصدقتن بحضرة المسيح الموعود عليه السلام، وبتعبير آخر تدعين أنكنّ بروز للصحابيات، ولكن بالله اصدُقْنَني القول هل تتحلين من أجل الدين بنفس الحماس والحب اللذين تحلت بهما الصحابيات، وهل يوجد فيكنّ النور نفسه الذي كان موجودا في الصحابيات؟ هل أولادكن صالحون مثل أولاد صحابيات النبي r؟ لو تأملتنّ في الموضوع لوجدتنّ أنفسكنّ متخلفات كثيرا عن الصحابيات. التضحيات التي قدمتها الصحابيات لا يوجد نظيرها اليوم على وجه الأرض. التضحيات التي قدّمنَها مضحيات بأنفسهن أُعجب الله تعالى بها كثيرا لدرجة أعطاهن النجاح سريعا، وقد أنجز الصحابة والصحابيات في غضون سنين قليلة ما لم يستطع العالم والأقوام الأخرى إنجازها في قرون. أقول: لما كان حضرته t يخاطب النساء الأحمديات لذا ذُكرت النساء بوجه خاص في هذا الخطاب وإلا قد قال الخلفاء في عدة أماكن، وقلتُ أنا أيضا مرارا أن من واجب الرجال أيضا في الجماعة أن يقدموا الأسوة نفسها، لا يمكننا أن نحقق الادعاء الذي نهضنا به أي أننا سننشر دعوة الإسلام في العالم كله وسنجمع العالم كله تحت رايته إلا إذا كانت تضحياتنا وأعمالنا مطابقة للأسوة التي قدمها لنا الصحابة y.
يقول سيدنا المصلح الموعود t: العالم المسيحي فرحٌ جدا بشجاعة مريم المجدلية وصاحباتها أنهن وصلن إلى قبر المسيح وقت الصباح متخفيات عن الأعداء، ولكني أقول لهم: تعالوا وانظروا إلى المضحّين المخلصين لحبيبي r وانظروا في أية ظروف حالكة قاموا معه وفي أية ظروف قاهرة رفعوا راية التوحيد! هناك مثال آخر من هذا القبيل مذكور في التاريخ، وبيان ذلك أنّ النبي r كان عائدا إلى المدينة بعد دفن الشهداء، وخرجت النساء والأطفال إلى ظاهر المدينة للقائه r. وكان حبل بغلته في يد سعد بن معاذ t سيّد المدينة. كان سعد يقود البغلة بفخر واعتزاز، وكأنه يعلن للعالم كله أنه رغم كل ما حدث، فقد استطعنا أن نعود برسول الله سليمًا معافى إلى المدينة. وحدث أن رأى قرب المدينة أمّه العجوز تتقدم، كانت هذه العجوز ضعيفة النظر جدًا، وكان ابنها عمرو بن معاذ قد قُتل في أُحد، وعرفها سعد والتفت إلى الرسول قائلاً: يا رسول الله، هذه أمّي قادمة. قال رسول الله r: دعها تتقدم على بركة الله. جاءت المرأة تتقدم إلى الأمام، وببصر كليل تنظر هنا وهناك لتعثر على الرسول r، وأخيرًا، لما استطاعت أن تتبيّنه ظهرت عليها أمارات السعادة. فقال لها النبيﷺ أتأسف على استشهاد ابنك فقالت: ما دمتُ قد رأيتك بخير وعافية فكأنني شويتُ المصيبة وأكلتُها. إن شواء المصيبة وأكلها تعبير غريب حقا ويدل على حزن عميق وأن الإنسان قد تحمّل ذلك الحزن العميق. فبأية شجاعة قالت تلك العجوز التي كانت قد بلغت من العمر عتيًّا أن حزن وفاة ابني لن يأكلني بل ما دام محمد رسول الله حيا يُرزق فسآكل أنا ذلك الحزن، ولن يقتلني موت ابني بل الفكرة أنه قد ضحى بحياته من أجل رسول الله r قد زادتني قوة.
ثم يقول المصلح الموعود t مادحا الأنصار وداعيا لهم: أيها الأنصار! فدتكم نفسي ما أعظم الثواب الذي نلتموه!
ثم نأتي إلى الحكم الذي أصدره النبي r بقتل كعب بن الأشرف بسبب مؤامراته ومكايده ضد الإسلام ونشره الضغائن والعداوة بل مؤامرته لقتل رسول الله r، فقد استشار سعدَ بنَ معاذ بصفته رئيس قبيلة الأنصار. وقد سبق أن بيّنت قبل فترة في بيان سوانح صحابيين تفصيل هذه القصة، أي تنفيذ هذا الحكم بقتل كعب بن الأشرف، غير أنني سأذكر جزءاً منها هنا أيضا، أي الجزء الذي يتعلق بسعد بن معاذ t. وما سأذكره الآن قد اقتبسته من المرجع الذي ذكرته من قبل وكذلك من كتاب “سيرة خاتم النبين”.
حين جاء النبي r المدينة مهاجرا كان كعب مع اليهود الآخرين الذين كتبوا مع النبي r ميثاق الصداقة والأمن والأمان والدفاع المشترك، ولكن بدأت نار البغض والعداء تنشب في قلب كعب خفيةً، وبدأ يحارب الإسلام ومؤسِّسه بالمكايد السرية والمؤامرات الخفية.
فقد ورد أن كعباً كان يتصدق بمبلغ كبير كل عام على العلماء والمشايخ اليهود. وذات يوم سأل المشايخ عن النبي r هل هو صادق أو كاذب ليردوا عليه في ضوء كتبهم الدينية. قال المشايخ: يبدو ظاهريا أنه الرجل نفسه الذي وُعدنا به ومذكور في تعليمنا. من المعلوم أن كعبا كان ألدّ أعداء النبي r والإسلام، فلما سمع هذا الجواب استشاط غضبا ووجه إليهم كلاما قاسيا وشديد اللهجة وصرفهم من عنده وأوقف أيضا ما كان يتصدق عليهم من قبل. عندما انقطعت الأموال التي كانوا يتلقونها صدقةً جاؤوا إلى كعب بعد فترة وقالوا: لقد تأملنا في الموضوع مجددا (لا يمكن للمشايخ أن يتخلوا عن الأموال اليوم أيضا، وهذه كانت حال مشايخ اليهود هؤلاء) فقالوا: لقد تأملنا في الموضوع مجددا وتوصلنا إلى نتيجة أن محمدا ليس ذلك النبي الذي وُعد به. فسُرّ كعب وبدأ يتصدق عليهم مجددا.
إذًا، إن استقطاب كعبٍ مشائخ اليهود كان أمرا عاديا، ولكن الأخطر في الموضوع كان أنه سلك بعد معركة بدر مسلك نشْر الفساد وإثارة الفتنة الشديدة، مما أدى إلى نشوء ظروف خطيرة ضد المسلمين.
حين نال المسلمون فتحا عظيما يوم بدر، وقُتل معظم رؤساء قريش، علم كعب أن هذا الدين الجديد لن يتلاشى بسهولة، لأنه كان يظن من قبل أن هذا الدين جديدٌ وسوف يتلاشى تلقائيا، ولكن ارتأى لاحقًا أنه لن يتلاشى هكذا بل سینتشر، وبالتالي بعد “بدر” بذل كل قوته من أجل القضاء على الإسلام ولم یدّخر وسعًا في محاولته لإبادته؛ بل وعقد العزم على تدمير الإسلام بأي حال من الأحوال. وكما قلت: إنه امتلأ غيظا وغضبا أكثر بعد انتصار المسلمين في بدر. فلما عقد العزم على إبادة الإسلام مندفعًا بثورة غضبه أعدّ للسفر فورا وتوجّه إلى مكة، ونتيجة طلاقة لسانه وقوة شعره ألهب النار المضطرمة في قلوب قريش، وأثار في قلوبهم لهيب عطشٍ لا يبرد لقتل المسلمين، بحيث قال لهم: إنكم انهزمتم بعد أن قَتَلوا زعماءكم وجلستم دون أن تحركوا ساكنًا، فانهضوا الآن واذهبوا وخُذوا ثأركم. فاستشاطوا غضبا لأنه ملأ صدورَهم بعواطف الانتقام والعداوة بخطاباته وشعره، وحين توقدت عواطفهم للغاية نتيجة إثارته، جمَعَهم في فناء الكعبة وجَعَلهم يمسكون بأستار الكعبة في أيديهم وحلّفهم على أنهم لن يهدؤوا ما لم يُبيدوا الإسلام ومؤسِّسه من على وجه الأرض. لم يقتصر كعب على خلق جوّ بركاني من الغضب والإثارة في مكة فحسب، بل وبعد ذلك توجّه هذا الشقي إلى قبائل العرب الأخرى، فذهب من قبيلة إلى أخرى وأثارهم ضد المسلمين، ثم عاد إلى المدينة وكثف نشاطاته في معاداة الإسلام، وأنشد بين غير المسلمين ولا سيما في اليهود بعض قصائده الحماسية كما ذكر في أبياته المثيرة النساء المسلمات بأسلوب بذيء وفاحش. لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل تآمرَ لاغتيال الرسول r، حيث خطّط أن يدعو النبي r إلى بيته بحجة استضافته ليقتله هناك بعض الشباب اليهود، ولكن الله بفضله أطلع النبي r على المؤامرة قبل حدوث شيء، ففشلت هذه الخطة. فلما بلغ الأمر هذا الحد، وثبتت جرائم كعب من نَكْثِ عهدٍ كان قد أبرمه سابقا، والتمردِ ضد الحكومة القائمة، وإثارة حرب وفتنة، والتشبيب ومؤامرة للقتل، أصدر النبي r قراره بأن كعب بن الأشرف يستوجب القتل على تصرفاته المجرمة هذه، وكان قراره بصفته رئيسا وحاكما أعلى للحكومة الديموقراطية القائمة نتيجة المعاهدة التي تمت بين مختلف شعوب المدينة بعد هجرته r إليها. فقد أصدر النبي r قراره بأن كعب بن الأشرف يستحق عقوبة القتل بسبب جرائمه وأمر بعض صحابته بقتله. ونظرًا للظروف السائدة ومراعاة للحكمة أمر النبي r ألا يُقتَل كعب علنًا، بل يجب أن يقتل بصمت في فرصة مناسبة، وعهد r هذه المهمة إلى صحابي مخلص من قبيلة الأوس وهو محمد بن مسلمة، وأوصاه أن يستشير سعد بن معاذ رئيس الأوس في اتخاذ أي طريق مناسب لقتل كعب. فاستشار محمد بن مسلمة سعدَ بن معاذ وأخذ معه أبا نائلة واثنين أو ثلاثة من الصحابة، ونفّذ عقوبة القتل في كعب. أما الطريق الذي تم اتباعه لقتله فقد ذكرتُ بأنني سبق أن تناولت تفاصيله في ذكر سوانح بعض الصحابة.
على أية حال، الطريق الذي تم اتباعه هو أنه أُخرج ليلا من بيته وقُتل.
ولما انتشر خبر قتله في البلدة سادها الصمت الممزوج بالخوف، وثار اليهود جدا، وجاء وفدهم في الصباح إلى النبي r واشتكوا إليه قتل رئيسهم كعب بن الأشرف. فقال النبي r بعد سماع كلامهم ألا تعلمون جرائمه؟ أي صحيحٌ أنه قُتل ولكنه قُتِل عقابا على جرائمه. ثم إن النبي r عدّد لهم جرائمه المختلفة مِن نكثِ عهد، وتأجيج حرب، وإثارة فتن، وتشبيب فاحش، ومؤامرة قتل وغيرها. فسكت اليهود وخافوا ولم يثيروا المزيد من الضجة لأنهم كانوا يعلمون بأن كعبًا كان يفعل كل هذه الأفاعيل. ثم قال لهم النبي r عليكم الآن أن تعيشوا معنا مسالمين ومتعاونين ولا تبذروا بذور الفتن. فرضي اليهود بقول النبي r وكُتبتْ معهم معاهدة جديدة وعدوا فيها من جديد بالتعايش السلمي متجنبين الفتنة والفساد.
لم يرد في أي مصدر تاريخي أن اليهود ذكروا بعد ذلك قط قتل كعب بن الأشرف واتهموا المسلمين بقتله دون مبرر، لأنهم كانوا يدركون في قرارة نفوسهم أنه نال عقوبة كان يستوجبها. لقد تلقى عقوبة جرائمه، لم ينكر النبي r قتله، ولم يقل إنه لا يعرف ذلك، بل عدّد لليهود كل أفاعيله. ثم كان قتله وفق قرار النبي r الذي كان رئيسا للحكومة وكان اثنان من رؤساء المدينة أيضا قد اشتركا في هذا القرار وأحدهما سعد بن معاذ.
لقد خطط بنو النضير، أحد أحياء اليهود، لقتل النبي r خداعًا بإلقاء الحجر عليه من فوق، ولكن الله تعالى بوحيه أطلع النبي r على ذلك – وكان النبي r قد ذهب إلى ناحية هذه القبيلة مع أصحابه – فرجع النبي r فورًا إلى المدينة مع أصحابه. وبعد ذلك أمر النبي r بمحاصرة هذه القبيلة اليهودية.
اضطر النبي r في ربيع الأول من العام الرابع للهجرة للخروج مع جيشه دفاعًا ضد بني النضير ونتيجة لذلك أجليت هذه القبيلة من المدينة. فلما جاءت النبي r غنائم بني النضير دعا ثابت بن قيس فقال له: ادعُ لي قومك. فقال سیدنا ثابت بن قیس، هل تقصد الخزرج؟ قال نادِ جميع الأنصار من أي قبيلة كانوا. فنادى الأوس والخرزج إلى حضرته، فألقى النبي r فيهم الخطاب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر منن الأنصار على المهاجرين أي إسكانهم إياهم في بيوتهم، وإيثار الأنصار المهاجرين على أنفسهم. فذكر كيف أَحسنَ الأنصار إلى المهاجرين. ثم سألهم هل أُقسّم أموال الفيء التي جاءت من بني النضير عليكم والمهاجرين؟ بحيث يبقى المهاجرون في بيوتكم وأموالكم. أي إنني أقسّم هذه الأموال عليكم وعلى المهاجرين بالمناصفة وفي هذه الحالة سيبقون في بيوتكم كالمعتاد وتستمرون في الإحسان إليهم. أو إذا أردتم فأُقسّم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولا أعطي شيئا منها الأنصارَ. وفي هذه الحالة يخرجون من بيوتكم، ويدبرون لهم شئون الحياة بأنفسهم لأنهم قد نالوا الأموال. فتشاور سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وقالا له يا رسول الله قَسِّم هذه الأموال على المهاجرين وحدهم، وفي الوقت نفسه سيظلون يقيمون في بيوتنا إذ لا نريد أن يخرجوا من بيوتنا بعد الحصول على الأموال. بل ستبقى المؤاخاة كما هي. وقال الأنصار يا رسول الله نحن راضون بذلك وننقاد للأمر. فلن نشتكي إذا قسَّمتَ المال كله على المهاجرين فقط. فقال رسول الله r اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار. ثم قسِّمَ أموال الفيء كلها على المهاجرين فقط ولم يعط منها شيئا لأي من الأنصار، إلا اثنين من ذوي الحاجة وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة. وأعطى سيف أبي الحقيق اليهودي لسعد بن معاذ، وكان هذا السيف مشهورا جدا في اليهود.
حين اتُّهمت السيدة عائشة إفكا، وواجه النبي r والسيدة عائشة رضي الله عنها وعائلتُها، أشد الأذى، ثم ذكر r هذا التصرف الباطل للمنافقين خلال تلك المدة أمام الصحابة، فعندها أيضا كان سعد بن معاذ قد أبدى إخلاصا عظيما وعفيفا.
لقد بين سيدنا المصلح الموعود هذا الحدث بالتفصيل، وقد ذكرتُه لكم بالتفصيل أيضاً ضمن بيان ذكر أحد الصحابة وهو حضرة مسطح بن أثاثة، وأتناول هنا أيضا ما يتعلق منه بسيدنا سعد بن معاذ. فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع أصحابه وقال: من ذا الذي يريحني من هذا الشخص الذي يؤذيني؟ وكان يقصد عبدَ الله بن أبي سلول. فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال: إذا كان هذا الشخص من قبيلتنا ضربنا عنقه، وإذا كان من الخزرج فنحن مستعدون لقتله أيضا.
أثناء غزوة الخندق أرسل أبو سفيان زعيم بني النضير حييَ بن أخطب، إلى زعيم بني قريظة كعب بن الأسود، وطلب منه أن ينهي ميثاقه مع المسلمين، فلما لم يقبل أغراه بكثير وأكد له هلاك المسلمين وأقنعه بأن لا يعمل بحسب الميثاق الذي عقده مع المسلمين، بل قد جعله يقبل أن تكون قبيلته من مساعدي كفار مكة.
فعن هذا الحدث كتب سيدنا مرزا بشير أحمد t في كتابه سيرة خاتم النبيين، أن رسول الله r حين اطلع على غدر بني قريظة الخطير، أرسل أولا الزبير بن العوام مرتين أو ثلاثا سرًّا لتقصي الحقائق. ثم أرسل إليهم بشكل رسمي سيدَي الأوس والخزرج سعدَ بن معاذ وسعدَ بن عبادة في وفد يضم بعض الصحابة ذوي النفوذ. وأكد عليهم أنهم إذا وجدوا أمرا مخيفا فيجب أن لا يذكروه علنا للناس بعد العودة من هناك بل يجب أن يتكلموا بإشارة أو كناية. فحين وصل هؤلاء إلى مساكن بني قريظة وقابلوا زعيمهم كعب بن الأسود استقبلهم ذلك الشقي بمنتهى الجلافة والتكبر. وحين ذكر له السعدان، أي: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الحلفَ الذي بينهم، تمرد هو وأفراد قبيلته، وقالوا: اذهبوا فليس بيننا وبين محمد أي حلف، فلم نكتب معه أي حلف. فعند تلقي هذا الجواب عاد وفد الصحابة، وأطلع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رسولَ الله r على الأوضاع بأسلوب مناسب.
على كل حال كان تصرُّفهم يومذاك هزة كبيرة للمسلمين، حيث كان كفار مكة قد حاصروا المدينة من الجهات الأربعة، وخلال الحرب لم تكن أي عملية سهلة ضد هذه القبيلة. فلما عاد النبي r إلى المدينة بعد نهاية الحرب أطلعه الله I في الكشف على غدر بني قريظة، وضرورة عقوبتهم على التمرد. فصدر الأمر بمعاقبتهم، حيث أعلن النبي r أن يتوجه المسلمون إلى حصون بني قريظة، وأن يصلوا العصر هناك. وأرسل عليا t مع كتيبة الصحابة فورا. ولهذه المعركة تفصيل طويل نوعا ما، حيث كان لسعد بن معاذ إسهام في تنفيذ القرار، لذا سوف أتناوله في المستقبل إن شاء الله.