خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 10/7/2020
في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا
******
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
كما قلت في الخطبة الماضية أنه كان النبي r قد تلقَّى من الله I أمرا بمعاقبة بني قريظة على غدرهم، فقاتَلهم. ثم أنهوا القتال واقترحوا أن يجعلوا سيدنا سعدا حكما بينهم. فوافق سيدنا سعد. وعن هذه المعركة كتب سيدنا المصلح الموعود t في موضع:
تنفس المسلمون الصعداء حيث عاشوا في أمان لمدة عشرين يوما، أي بعد غزوة الأحزاب، إلا أنه كان يجب أن تُحسم قضية بني قريظة، فلم يكن غدرهم من النوع الذي يمكن السكوت عنه. فقد قال النبي r للصحابة فور عودته ألا يرتاحوا في بيوتهم بل يجب أن يصِلوا إلى حصون بني قريظة قبل المساء.
ثم أرسل عليًّا t ليسألهم لماذا نقضوا عهدهم مع المسلمين؟ لكنهم بدلا من أن يُبدوا ندمًا أو أسفًا، أو أيّ ميْل لطلب الصفح عنهم، بدأوا يهينون عليّا t ورجال الوفد الذين كانوا معه. ويسبّون الرسول r ونساء بيته سبًّا قبيحًا فاحشًا، وقالوا نحن لا نعرف من هو محمد (r) وليس لنا أي عهد معه. وحين عاد عليّ ليطلع الرسول r على ردّ اليهود، وجده هو والصحابة متجهين نحو حصونهم. ولما كان اليهود يطلقون شتائم قذرة على النبي r ويسيؤون إلى أزواجه وبناته، قال له علي t حرصًا على عدم إصابته r بالألم والأذى إثر سماعه شتائم اليهود القذرة: لماذا تزعج نفسك يا رسول الله r فنحن نكفي هذا القتال، أرجو أن تعود. فقال له r: أنا أعرف أنهم يسبُّون وأنت لا تريد أن تتناهى إلى سمعي هذه الشتائم. فقال علي t وهو ناكس الرأس خجلاً: نعم، هذا ما قصدت. فقال له رسول الله r ما الذي يحدث من شتائمهم؟ فقد آذوا نبيهم موسى الذي كان من بني جلدتهم وقريبهم أكثر من هذا. قال ذلك واستمر في تقدمه إلى الحصون. تحصن اليهود وبدأوا يقاتلون المسلمين وشاركتْهم نساؤهم أيضا في القتال. فكان بعض المسلمين يجلسون عند أسفل حائط الحصن، فألقت امرأة يهودية حجرًا ضخمًا عليهم فقُتل أحدُهم. لكن اليهود بعد حصار دام أياما أحسُّوا بالعجز عن الاستمرار تحت الحصار. فأرسل زعماؤهم إلى الرسول r رسالة يطلبون فيها أن يرسل إليهم أبا لبابة t ليستشيروه، وهو زعيم من الأوس وكانت لهم علاقة صداقة معه. فأرسل الرسول r أبا لبابة إلى اليهود، فسألوه عما إذا كان الأصلح لهم هو النّزول والاستسلام وقبول حكم الرسول r، فقال أبو لبابة إن ذلك هو ما يجب فعله، لكنه في نفس الوقت قام بإمرار إصبعه على عنقه كتعبير عن القتل.
لم يكن الرسول r قد أظهر حكمه إلى ذلك الوقت، لكن أبا لبابة تصوّر في فكره أن الجريمة التي ارتكبها اليهود لا تستحق إلا عقوبة الموت، فعبّر بهذه الإشارة متسرعًا دون تدبر، مما أدى إلى موتهم أخيرا. فرفضوا قبول حكم الرسول r. ولو كانوا قبلوه فإن أقصى عقاب كان ينتظرهم هو الطرد من المدينة على شاكلة القبائل الأخرى. ولكن حظهم السيء دفعهم لرفض حكم الرسول r وقالوا إنهم لا يقبلون إلا حكم سعد بن معاذ t زعيم حلفائهم من الأوس؛ راضين بأيّ حكم يعلنه سعد عليهم. حينها دبّ خلاف بين اليهود، فبدأ بعضهم يقول إن اليهود هم الذين نقضوا الميثاق مع المسلمين، وثبت من معاملة المسلمين أن دينهم صادق، فترك أصحابُ الخلاف هؤلاء دينهم وأسلموا.
كذلك قام زعيم من زعماء اليهود، هو عمرو بن سعدي، يلومهم ويُبكّتهم قائلاً: “لقد نكثتم العهد، ورجعتم في كلمتكم التي قطعتموها على أنفسكم، والطريق المتاح لكم الآن هو الإسلام أو دفع الجزية”.
فقالوا: “لن نعتنق الإسلام، ولن نعطي الجزية، الموت أحب إلينا من دفع الجزية”. فأجاب عمرو، إنني بريء منكم. (فكان قد نصحهم، ولما لم يستجيبوا له تبرأ منهم) وغادر الحصن. ورآه محمد بن مسلمة، قائد مفرزة للمسلمين، فسأله من يكون، وعرَّف عن هويته فتركه يمضي في سلام، ودعا محمد بن مسلمة الله قائلاً: “اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام” وكان يعني أنه لما كان هذا الرجل نادما على فعله وفعل قومه فمن واجبنا الأخلاقي أيضا أن نصفح عنه، لذا لم ألق القبض عليه، وتركته يمضي. ودعا الله أن يعينه على أعمال مماثلة مرارًا وتكرارًا. ولما علم الرسول r بما فعل محمد بن مسلمة، لم يلُمْه على تركه لهذا القائد اليهودي، بل وافقه ورضي عما فعله ومدحه على حسن تصرفه.
هذه الأحداث كانت شخصية لبعض الأفراد، أما بنو قريظة كقبيلة فظلوا على رأيهم المتعنت. فبعض الأشخاص كانوا يخالفون رأي بني قريظة وكانوا يريدون أن يُكتب ميثاق مع المسلمين، لكن بني قريظة كقبيلة كانوا متمسكين برأيهم عناداً، فرفضوا حكم الرسول r، وطلبوا بدلاً من ذلك أن يحكم فيهم سعد بن معاذ. وقبِل الرسول r طلبهم، وأرسل إلى سعد، الذي كان يرقد جريحًا، أن يأتي ويصدر حكمه على اليهود الذين نكثوا الميثاق وهم يقبلون حكمه.
وحالما أعلن الرسول r قراره، أسرع إلى سعد أفراد من قبيلة الأوس الذين كانوا حلفاء بني قريظة طويلاً، وضغطوا عليه ليصدر حكمًا في مصلحة بني قريظة، وقالوا له إن الخزرج طالما حاولوا إنقاذ حلفائهم من اليهود، وعلى سعد بدوره أن ينقذ حلفاء الأوس قبيلته. وبالرغم من أن سعداً كان جريحا إلا أنه قد انطلق راكبًا إلى بني قريظة يُحيط به رجال قبيلته من جانبيه يحثّونه ألا يعاقب بني قريظة. وكان كل ما رد به سعد عليهم هو أن الشخص الذي أُسند إليه إصدار الحكم يحمل أمانة، وأن عليه أن يحكم بعدل وأمانة، لذا سوف يحكم بأمانة. وعندما بلغ سعد حصن اليهود رأى بني قريظة ينتظرونه واقفين على أسوار الحصن وفي الجانب الآخر يجلس المسلمون. فسأل أولا قومه هل يعِدونه كلُّهم أنهم سيقبلون حكمه؟ قالوا: “نعم”. ثم توجّه سعد بدوره إلى بني قريظة وسألهم هل يعِدونه أنهم سيقبلون حكمه؟ قالوا: “نعم”. عند ذلك توجّه سعد على استحياء إلى الجانب الذي يجلس فيه الرسول r، (فكان لا يطيق النظر إلى النبي r حياء لكن لما كان قد جُعل حَكما كان لا بد أن يسأله r لذا سأله على استحياء) ما إذا كان r يعِد بأنه سيقبل حكمه، فقال r: “نعم”.
عندما أخد سعد العهد من الفِرَق الثلاثة أصدر حُكمه حسب تعاليم التوراة، التي تقول: {10حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. 12وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، 17بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، 18لِكَيْ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا حَسَبَ جَمِيعِ أَرْجَاسِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ، فَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ.} (اَلتَّثْنِيَة 20 : 10-18)
قرأ سعد t هذه الكلمات من الكتاب المقدس وحكم بحسبها، يتبيّن من حكم الكتاب المقدس هذا أنه لو كان اليهود هم الذين انتصروا وكان الرسول r قد انهزم لكان جميع المسلمين رجالا ونساءً وأطفالا سيُقتلون. ونعلم من التاريخ أن اليهود كانوا ينوون أن يقتلوا المسلمين رجالا ونساء وأطفالا دفعةً واحدةً، وأقلّ ما كان سيصنعه هؤلاء اليهود هو قتل الرجالِ واستعبادُ النساء والأطفال ونهبُ أموالهم، فهذه هي التعاليم المدوّنة بسفر التثنية في التعامل مع الأمم المعادية التي تسكن أقطارًا بعيدة.
كان سعد t حليفَ بني قريظة ومن أصدقائهم. وعندما رأى أن اليهود رفضوا حكم الرسول r بحسب شريعة الإسلام التي تحفظ نفوسهم، قرّر أن يُنْزل بهم الحكم الذي كان موسى u حكم به سلفًا في سفر التثنية في مثل هذه المواقف، وإن مسؤولية هذا الحكم لا يتحمّلها الرسول r ولا المسلمون، بل يتحمّلها تعليم موسى u، ويتحمّلها موسى u والتوراةُ وأولئك اليهودُ الذين عاملوا أمما أخرى بكل وحشية لآلاف السنِين، والذين دُعُوا إلى رحمة محمد رسول الله r ولكنهم رفضوا وقالوا لن نقبل حكم محمد “رسول الله r” بل نقبل حكم سعد “t”. وحين حكم سعد t بحسب ما ورد في كتاب موسى u، فلماذا يثير المسيحيون اليوم ضجة أن محمدا رسول الله r قد ظَلَم. قال المصلح الموعود t: ألا يرى الكُتاب المسيحيون أن محمدا رسول الله r لم يظلم في مناسبات أخرى؟ فهناك مئات المرات التي ألقى فيها الأعداء أنفسهم تحت رحمة محمد رسول الله r وكل مرة كان الرسول r يعفو عنهم، اللهم إلا هذه هي المناسبة الوحيدة التي أصر فيها العدو على عدم قبول حكم محمد رسول الله r وطلبوا حكم شخص آخر، وهذا الشخص أخذ عهدا من الرسول r أوّلا بقبول حكمه، وكان الرسول r أقرّ بذلك كما يثبت من التاريخ، ثم حكم هذا الشخصُ حسب طلبهم، ولم يكن الحكم الذي حكم به من عند نفسه، بل أعاد حكم موسى u الذي كان اليهود يدّعون اتباعه u، فإذا كان هناك من ظلم فهم اليهود أنفسهم الذين ظلموا أنفسهم برفضهم حكم محمد رسول الله r، وإذا كان هناك من ظلم فهو موسى u الذي كتب في التوراة بأمر من الله هذه العقوبة للعدوّ المحاصر، وإذا كان هذا ظلما فكان على الكُتّاب المسيحيين أن يسمّوا إله موسى u، الذي أعطى هذا التعليم في التوراة، ظالما.
بعدما كانت قد انتهت معركة الخندق، أعلن الرسول الكريم r أن المشركين لا يغزون المسلمين بعد اليوم، بل الآن نحن سنردّ عليهم وسنغزو الأقوام الذين قد هاجمونا. وهذا ما حدث… وفي معركة الخندق لم يخسَر الكفار شيئًا يُذكر، وكل ما فقدوه هو بضعة رجال. وكان من الممكن لهم أن يستعدوا ويأتوا في السنة القادمة لمعاودة الهجوم على المدينة مع أربعين أو حتى خمسين ألف جنديٍّ بدلًا من عشرين ألفًا، بل لو كانوا قد اجتهدوا أكثر لم يكن يصعب عليهم جمع جيش من مئة ألف أو مئة وخمسين ألفاً. ولكن قلوب المشركين بعد معارضتهم لواحد وعشرين عامًا بدأت تشعر أن الله مع محمد رسول الله r وأن أوثانهم باطلة، وأن خالق الكون إله واحد. كانت أجسادهم سالمة ولكن قلوبهم كانت قد انكسرت. وفي الظاهر كانوا يسجدون للأصنام ولكن قلوبهم كانت تنادي بشهادة أن لا إله إلا الله.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ r وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا من المسجد قَالَ رَسُولُ اللهِ r: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللهِ r فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ. قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ قَالَ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ. هذه رواية صحيح البخاري.
وقد ذكر بعض التفصيل لهذه الرواية حضرة مرزا بشير أحمد t وأذكر بعض النكات هنا، كتب حضرته t: وفي النهاية عندما استمر الحصار حوالي ثلاثين يوما، نزل اليهود الأشقياء من قلاعهم بعد أن جعلوا لهم حكمًا رغم كونه حليفهم إلا أنه لم يكن يجد في نفسه رحمة لهم بسبب أعمالهم، ومع أنه كان عدْلا متجسدا ولكن لم تكن في قلبه تلك الرحمة والرأفة التي كان يتحلى بها رحمة الله للعالمين سيدنا محمد r، وتفصيل ذلك هو أن الأوس، كانوا حلفاء بني قريظة منذ القِدم، وكان حينها رئيس الأوس سعد بن معاذ الذي أصيب في الخندق وكان يتعالج في باحة المسجد، ونظرا إلى هذه الصلة القديمة قال بنو قريظة إننا نجعل سعد بن معاذ t حكما لنا وسنقبل حُكمه فينا ولكن بعض اليهود ما كانوا يحسبون قرار قومهم صحيحا وكانوا يوقنون بأنهم مجرمون وكانوا قد اقتنعوا في قلوبهم بصدْق الإسلام، وبعض هؤلاء أسلموا بطيب خاطرهم، وورد في كتب التأريخ أنهم كانوا ثلاثة، وكان شخص آخر لم يُسْلِم ولكنه كان خجلا لخيانة قومه لدرجة أن بني قريظة حين قرروا الحرب مع النبي r تركهم وغادر المدينة قائلا إن قومي خانوا محمدا “r” ولا أستطيع أن أشترك في هذه الخيانة، ولكن الباقين ثبتوا على تعنّتهم حتى النهاية وأصروا على أن يكون سعد حَكما لهم فوافق النبي r على ذلك، وبعد ذلك أمر النبي r بعض الصحابة ليأتوا بسعد. وأثناء تقدمه تجمع حوله رجال قبيلته يناشدونه الرحمة بحلفائهم بني قريظة وعدَم عقابهم بشدة كما عامل الخزرج حلفاءهم بني قينقاع بلين.
في البداية ظل سعد بن معاذ يسمع كلامهم بصمت، ولكنهم لمّا أصروا عليه قال الآن لن يخاف سعد لومة لائم في التمسك بالحق والعدل. فسكت الجميع بسماع جوابه.
على كل حال لما وصل سعد قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم للصحابة قوموا لسيدكم وساعدوه في النزول من الدابة. فلما نزل سعد من دابته ودنا من النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد إن بني قريظة قد نزلوا على حكمك، وقالوا إنهم سوف يرضون بما تحكم به فيهم. فنظر سعد إلى أهل قبيلته الأوس وقال هل تعاهدونني بموثق من الله على العمل بما أحكم به في بني قريظة في كل حال؟ فقالوا نعم، نعاهدك على ذلك (وقد سبق ذكر هذا الأمر فيما ذكره حضرة الخليفة الثاني عند ذكر هذه القصة). ثم أشار سعد إلى الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا فيها وقال: يا من تجلسون في هذه الناحية هل تعاهدونني على الالتزام بحكمي في كل حال. فوعده النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وبعد هذا التعاهد من الأطراف أصدر سعد حكمه وقال: تُقتَل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم وتقسم أموالهم بين المسلمين. فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكمه قال عفويا: حكمُك قدرُ الله الذي لا يُلغى. وكان المراد من قوله صلى الله عليه وسلم هذا أن هذا الحكم في بني قريظة قد تم في ظروف تدل بجلاء على أنه تصرّفٌ رباني وقدر إلهي لا يمكن أن يحول دون تنفيذه عاطفةُ رحمته صلى الله عليه وسلم. وكان هذا صحيحا تماما، لأن استدعاءَ بني قريظة أبا لبابة للاستشارة، وخروجَ كلمة لا أساس لها من فمه ، ورفْضَ بني قريظة للاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزولَهم على حكم سعد رئيس الأوس ظنًا منهم أنه سوف يحابيهم في الحكم لأن قبيلته الأوس حلفاؤهم، ثم تمسُّكَ سعد بالعدل والإنصاف في حكمه بحيث خلا قلبه تماما من كل عصبية وانحياز، وأخيرا أخْذَ سعد قبل إصدار حكمه العهدَ الموثق من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعمل بحكمه في كل حال، وكذلك أخْذه للموثق نفسه من جميع الأطراف، أقول إن كل هذه الأمور لم تكن مصادفات، بل كان قدر الله يعمل عمله من ورائها، لذا فكان هذا الحكم حكم الله تعالى لا حكم سعد.
يقول حضرة مرزا بشير أحمد t: يبدو أنه بسبب نقض عهد بني قريظة وغدرهم وتمردهم وتورطهم في الفتنة والفساد والقتل وسفك الدماء كان قد صدر من المحكمة الإلهية حكمٌ بأن يُقضى على مقاتليهم من العالم. فتلقِّي النبي r أول الأمر حثًّا من الغيب على هذه الغزوة يفيد أن ذلك كان قدرا من الله لكنه I لم يكن يريد أن ينفَّذ بيد رسوله r. ومن أجل ذلك فصله تماما عنه من خلال تصرفات غيبية معقدة. واستصدر ذلك الحُكمَ بلسان سعد بن معاذ. وكان بأسلوب لم يكن يخوِّل النبيَّ r بالتدخل فيه لأنه كان قد وعد أنه سيقبل حكم سعد في كل حال. ثم لما كان لا يتأثر r وحده بذلك الحكم، بل كان المسلمون كلهم يتأثرون به، لذا لم يكن يرى من حقه- مهما كان طبعه مائلا إلى العفو والرحم- أن يغيِّر ذلك الحكم. فهذا ما يقتضيه تصرُّف إلهي، بحيث خرجت من فمه، متأثرا بهذا التصرف، كلماتٌ “قد حكمت بحكم الله” من تلقاء نفسها. أي يا سعد يبدو أن حكمك قدر من الله، الذي لا رادَّ له.
قال هذا وقام بصمت وخرج إلى المدينة وكان قلبه مليئا بالحزن أن قوما بسبب أعمالهم السيئة ونقضهم العهود أصبحوا محرومين من الإيمان وباتوا مورِد غضب الله، ورغم ذلك كان يتمنى من قلبه أن يؤمنوا، ولعله في الوقت نفسه قال هذه الكلمات بحسرة: لو آمن بي عشرة من اليهود (يعني من وجهاء اليهود) لكنت رجوت الله تعالى أن يؤمن بي القوم كلهم ونجوا من العذاب. باختصار حين قام أمر بفصل رجالهم عن النساء والأطفال فجيء بكلا الفريقَين إلى المدينة منفصلين وأُقيموا في مكانين منفصلين في المدينة وبتوجيه من النبي r كان الصحابة، الذين كان كثير منهم جائعين، جمعوا كثيرا من الفواكه لبني قريظة، وورد أن اليهود ظلوا يأكلون الفواكه طول الليل وفي الصباح التالي كان سيُنفذ حكم سعد، فأمر النبي r بعض الرجال النشطاء لإتمام هذا العمل وجلس بنفسه في مكان قريب، وذلك ليتمكن من إعطاء التعليمات فورا إذا اقتضت الحاجة في أثناء تنفيذ الحكم، وكذلك إذا طلب أحد المجرمين العفو يمكنه r أن يُصدر حكما سريعاً بنفسه، وإن كان غير ممكن أن يقدّم أمامه r طلب العفو على غرار المحكمة بشأن سعد بن معاذ، ولكن بصفته r ملكا أو رئيس الجمهورية كان قادرا على الحكم في طلب العفو من أحد بوجه خاص. فأمر بمقتضى رحمته أن يُقتل كل مجرم على حدة واحدا بعد الآخر، وألا يشهد مجرم قتلَ غيره. فبحسب هذا الحكم جيء بالمجرمين منفصلين وقُتلوا بحسب حكم سعد بن معاذ.
ثمة من غير المسلمين من يهاجمون سيدنا رسول الله u، بطريقة غير مناسبة تماما، بشأن حادث بني قريظة ويقدمونه r كظالم وسفاك (والعياذ بالله) بسبب قتل قرابة أربعمئة يهودي.
ولكن أثبت أحد الباحثين أنّ هذا العدد في الحقيقة لم يتجاوز ستة عشر أو سبعة عشر مقاتلاً. على أية حال هذا الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث. لقد كتب البعض أن عددهم كان مئة وبعضهم كتب أنهم كانوا أربعمئة، وبعضهم كتبوا أنهم كانوا أكثر من ذلك، وبعضهم كتب أن عددهم كان ألفاً وبعضهم كتب أنهم كانوا تسعمئة. على أية حال ليس هذا العدد محددًا، لذلك فإنه يجب البحث في هذا الأمر مستقبلاً.
فحتى لو كان عددهم أربعمئة، فإن اعتراضهم هذا رغم ذلك كام مبنياً على التعصب الديني الذي لم يستطع التحررَ منه بعضُ المؤرخين الغربيين المثقفين رغم التنور الغربي، على الأقل فيما يتعلق بالإسلام وبمؤسس الإسلام صلى الله عليه وسلم، إذ إنهم يثيرون مثل هذا الاتهام الباطل.
يقول مرزا بشير أحمد: الأمر الأول الذي ينبغي أن نتذكره في الرد على هذا الاعتراض هو أن الحكم الذي اُعتبر ظالـماً في حق بني قريظة كان حكم سعد بن معاذ ولم يكن بحال حكم النبي r. فمادام هو ليس حكم النبي r فلا يجوز الاعتراض عليه.
ثانيا: لم يكن ذلك الحكم خاطئا ولا ظالما نظرًا إلى ظروف القضية.
ثالثا: كان النبي r متقيدا بالعمل بحسب هذا القرار جراء الوعد الذي أخذه منه سعد قبل إصداره هذا الحكم.
رابعا: لقد قبله المجرمون أنفسهم ولم يعترضوا عليه وحسبوه قدرًا مقدّرا لهم من الله تعالى.
فلم يكن للنبي r في هذه الحالة أن يتدخل في هذا الأمر.
بعد حكم سعد لم تكن لهذا الأمر علاقة مع النبي r إلا أنه نفّذ حكم سعدٍ على أحسن وجه تحت نظام حكومته. وقد سبق الذكر أنه نفّذ الحكم بأسلوب يمكن اعتباره أفضل نموذج للرحمة والرفق، أي لما كان هؤلاء الناس أسرى قبل تنفيذ الحكم، دبّر r طعامهم وسكنهم على أحسن وجه. وعندما كان حكم سعد على وشك التنفيذ بحقهم نفذه r بأسلوب أقل عقوبة للمجرمين. فأمر r مراعيا عواطفهم ألا يشاهد مجرمٌ قتلَ غيره. ويتبين من التاريخ أن الذين كانوا يُنقلون إلى المقتل لم يعرفوا إلامَ كان مسيرهم ما لم يصلوا إلى المقتل. وأضفْ إلى ذلك أنه كلما عُرض على النبي r طلب أحد للعفو عنه قبله r فورا، ولم يكتف بالعفو فقط، بل أمر أيضا أن يعاد إليهم أهلهم وأولادهم وأموالهم كلها. هل يمكن أن نتصور معاملة رحمة ولطف أكثر من ذلك؟ إذًا، لا يقع على النبي r أي اعتراض في قضية بني قريظة، بل الحق أن هذا الحادث دليل بيّن على أخلاق النبي r السامية وحسن الإدارة والرحمة والرفق في طبعه. لا شك أن حُكم سعد في حد ذاته كان قاسيا ويشعر الإنسان بالصدمة بسببه، ولكن السؤال هو: هل كان هناك سبيل مفتوح سواه ليتم اختياره؟ إن حكم سعد بحق بني قريظة كما قلتُ كان قاسيا، ولكنه كان ناتجاً عن الاضطرار، وكان النتيجة الحتمية للظروف السائدة إذ لم يكن ثمة سواه. لذلك يعترف المؤرخ مارغوليس -الذي لم يكن من أصدقاء الإسلام مطلقا- بالنظر إلى الظروف، ويقول إنه لم يكن هناك سبيل سوى الحكم المذكور. ويقول إنّ هجوم الأعداء عند غزوة الأحزاب الذي ادّعى عنه محمد (r) أن الأعداء هُزموا فيه، إنما كان نتيجة مؤامرة بني النضير لشن الحرب، أو ظُنّ على الأقل أنه كان ناتجا عن مكائدهم. ومع ذلك اكتفى محمد (r)بنفي بني النضير. السؤال الذي ينشأ هنا هو: هل كان لمحمد (r) أن يضيف في عدد وقوة الأشرار والكائدين ضده بنفي بني قريظة أيضا؟ ومن ناحية ثانية لم يكن ممكنا أن يُسمح للقوم الذين حالفوا المهاجمين علنا بالسكن في المدينة. صحيح أن نفيهم كان خطيرا ولكن بقاءهم في المدينة كان أكثر خطورة. لذا لم يكن ثمة بدّ من أن يُحكم بقتلهم.
هذا ما يقوله مارغوليس. إذًا، كان حكم سعد عادلا تماما ومطابقا لمبادئ العدل والإنصاف. وما كان للنبي أن يُعمِل عاطفة رحمته بشأن هذا الحكم بسبب الميثاق، إلا بحق البعض فقط الذين طلبوا العفو، فبذل النبي r قصارى جهوده لصالحهم لأنه ما كان له r أن يُصدر حكما عاما من عنده. ولكن يبدو أن اليهود رفضوا أن يحتكموا إليه r نادمين على أنهم لم يرجعوا إليه كثيرا بطلب العفو إلا القليل منهم. ومن الواضح أنه ما كان له r أن يعفو عنهم دون أن يطلبوا، لأن المتمرد الذي لا يندم على جريمته ولا يطلب العفو فإنّ إطلاق سراحه يؤدي إلى نتائج خطيرة جدا.
ثم هناك أمر آخر جدير بالذكر وهو أن الميثاق الذي سبق أن أُبرم بين النبي r واليهود كان من شروطه أنه إذا ظهر أمر جدير بالحكم بحق بني قريظة سيُحكَم فيهم بحسب شريعتهم أي شريعة اليهود. فيتبين من التاريخ أن النبي r كان يحكم بسبب الميثاق المذكور بشأن اليهود بحسب شريعة موسى دائما.
حين نقرأ التوراة نجد فيها أن الجرائم التي ارتكبها بنو قريظة كانت العقوبة التي حكم بها سعد بحقهم هي الأنسب والأصح.
على أية حال، في هذا القدر من التفصيل كفاية فيما يتعلق بسعدٍ وقضية بني قريظة، غير أنه بقي جزء من سوانح سعد بن معاذ وسأذكره لاحقا بإذن الله.
والآن سأذكر بعض المرحومين الذين توفُّوا في الفترة الأخيرة وبعد صلاة الجمعة سأصلي عليهم صلاة الغائب بإذن الله.
الجنازة الأولى هي للمرحومة الحاجة رقية خالد التي كانت رئيسة لجنة إماء الله في غانا، وقد توفيتْ بتاريخ 30 يونيو/حزيران عن عمر يناهز 65 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. أصيبت المرحومة بسرطان الرحم من قبل، ولكنها شفيت غير أن المرض عاود كرته فجأة في أيار/مايو هذا العام وبدأت صحتها تتدهور حتى توفيت بتاريخ 30 يونيو بعد قضاء فترة وجيزة في المستشفى. لقد وُلدت السيدة رقية خالد في أبريل 1955م في “واه” المنطقة الشرقية في غانا. كان والدها المرحوم الحاج خالد إماما في مسجد قرب “واه” حيث كان معظم الناس يعبدون الأوثان. فبلّغ المرحوم الدعوة إليهم وأسس الجماعة هنالك. لقد قضت المرحومة فترة طفولتها في منطقة “واه”. كانت سيدة محنكة وحاذقة وملتزمة بالمبادئ الأخلاقية. كانت معلمة من حيث المهنة، وكانت أسوة حسنة في أوساطها المهنية ولأفراد الجماعة ولغيرهم أيضا. بعد التقاعد من الوظيفة الرسمية خدمتْ مديرةً في المدرسة الأحمدية العالمية في قرية “بستان نو”. كانت مولعة بتعليم الأولاد وتربيتهم، وقد تحملت نفقات كثير من الطلاب، وأسكنتْ عديدا منهم في بيتها وعلّمتهم دون مقابل. عُينت رئيسة لجنة إماء الله في عام 2017م، وأكملت فترة رئاستها على أحسن وجه على الرغم من المرض، وظلت تعمل كرئيسة لجنة إماء الله في غانا إلى يوم وفاتها. كانت تشكل برامج مختلفة للّجنة، وعلى الرغم من الحظر المفروض بسبب الفيروس كورونا استمرت في برامج تربوية عبر الانترنيت وظلت تربي عضوات لجنة إماء الله. كانت ملتزمة بالصلاة وتكسب الحسنات بكل شوق، تصلي التهجد وتدفع التبرعات بالتزام وكانت مشتركة في نظام الوصية وعلى علاقة مخلصة مع الخلافة الأحمدية. وقد تركت وراءها ابنين وبنتا وأربعة أحفاد وحفيدات. ندعو الله تعالى أن يغفر لها ويرحمها ويرفع درجاتها ويوفق أجيالها للاستمرار في حسناتها.
الجنازة الثانية هي للمرحومة صفية بيغم زوجة المرحوم شيخ مبارك أحمد، داعية الجماعة الأسبق في أفريقيا وبريطانيا وأميركا. وقد توفيت بتاريخ 27 يونيو/حزيران عن عمر يناهز 97 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد وُلدتْ في بيت السيد قاضي عبد السلام والسيدة مباركة بيغم في أكتوبر عام 1926م، وكانت حفيدة السيد قاضي عبد الرحيم وابنة حفيدة قاضي ضياء الدين اللذين كانا من أصحاب المسيح الموعود u. كانت تتحلى بصفات حميدة كثيرة منها كثرة الدعاء والإخلاص والحب الكبير للخلافة لدرجة قلما يلاحظ هذا الحب والإخلاص. وقد زرعتْ الحب والإخلاص نفسه في أولادها أيضا. كانت مشتركة في نظام الوصية وكانت الزوجة الثانية لشيخ مبارك أحمد وأنجبت له ابنة. كان اسم زوجها الأول هو السيد نصير أحمد بهتي وأنجبت أولادا له أيضا. قضت مع زوجها الثاني السيد مبارك أحمد فترة خدمتْ فيها الجماعة في بلاد مختلفة بكل إخلاص. وقد تركت وراءها ابنة من الزوجة الأولى للشيخ مبارك أحمد، ومن أولادها ابنتين وثلاثة أبناء.
أحد أبنائها السيد فهيم أحمد بهـتي يخدم متطوعًا هنا في مكتب السكرتير الخاص. وأحد أحفادها السيد صبور بهتي داعية للجماعة ويعمل في مكتب وكالة التبشير في بريطانيا، وأحد أحفادها السيد فؤاد بهـتي واقف الحياة ويخدم مدرسًا في الكلية الأحمدية بـ “كانو”، وحفيدها الآخر السيد خليق بهـتي أيضا وقفَ حياته بعد إكمال دراسته ويخدم الآن في مقاطعة “عبدو”. كان أحد أحفادها السيد نبيل بهتي قد مرض مرضا شديدًا قبل سنتين وكان على وشك الموت، فقد دعت له أدعية كثيرة فأخبرها الله تعالى عن شفاء هذا الشاب، وشفاه أيضا، ولكن السيد نبيل بهـتي لا يزال يعاني من بعض المشاكل الصحية جراء مرضه المذكور. شفاه الله شفاء كاملا، وتقبل في حقه دعوات السيدة صفية بيغم التي دعت له بها، إن هذا الشاب أيضا وقف حياته، جعله الله تعالى مفيدًا للجماعة وجعله وأولاده من خدام الدين.
تقول ابنتها فريدة شيخ: كانت والدتنا تحب المسيح الموعود u حبًّا كثيرًا، وكثيرا ما كانت تشير إلى صورته u وتقول: لقد نلنا كل شيء بسببه، والبركات كلها بشخصه.
وكانت ترتبط مع الأخوات الإفريقيات والأمريكيات بعلاقة خاصة، وكانت تهتم بهن كثيرا. وكثيرات منهن يزرنها في البيت يوميا دون أدنى تكلف، فيتكلمن معها في المطبخ وكأنهن من أفراد الأسرة.
وتقول ابنتها الكبرى السيدة نعيمة شبير: كانت شفيقة ومحبة وصبورة، وكانت تهتم بالآخرين ولو على حساب نفسها. هي التي رسخت في قلوبنا محبة الخلافة، فكانت توصينا أن نبقى على التراسل مع الخلافة. وكانت تدأب على ترديد أدعية المسيح الموعود u في حق أولادها. كانت ترعى الفقراء واليتامى بكل حرص واهتمام، كما كانت مواظبة على دفع التبرعات وإكثار الصدقات.
كان الخليفة الثالث رحمه الله تعالى قد زوجها بلطف خاص منه من الشيخ مبارك أحمد الذي كان داعية الجماعة وكانت زوجته الأولى قد توفيت، أما هي فقد توفي زوجها. وعند اقتراح هذا الزواج قال رحمه الله للشيخ مبارك أحمد لما سرّ ببعض أعماله التي قام بها للجماعة: إنني أعطيك جائزة. وكانت هذه الجائزة في صورة تزويجه من السيدة صفية بيغم. لقد قدرها الشيخ مبارك أحمد حق قدرها واهتم بأولادها الذين كانوا من الزوج الأول الذي توفي في شبابه. ابنها الأكبر السيد شميم بهتي كان زميلي في الكلية، وأنا شخصيًا لاحظت أن الشيخ مبارك أحمد قد اهتم بأولادها كثيرًا وأدى حق رعايتهم. وأعانت صفية بيغم زوجها الشيخ مبارك أحمد في ميدان العمل كما ينبغي لزوجة واقف الحياة، وقليلٌ من النساء اللواتي يؤدين حق هذه الرفقة كما أدتها هي، حيث ظلت تخدم الضيوف بكل إخلاص دون رفع أية شكوى قط، وإضافة إلى ذلك كانت تكثر من الدعوات لأفراد الجماعة. كانت تتعامل بشكل رائع مع أهل الدعاة الذين كانوا يعملون تحت إشراف الشيخ مبارك أحمد.
لقد ازدادت علاقتي معها بعد تولي الخلافة فتعرفت عليها ورأيت أنها كانت محبة مخلصة للخلافة لدرجة قلما يوجد أمثالها من المحبين المخلصين. رفع الله تعالى درجاتها ووفق ذريتها أيضا ليكونوا أوفياء للجماعة والخلافة دوما.
الجنازة التالية هي للسيد علي أحمد المعلم المتقاعد لـ”وقف جديد”، الذي وافته المنية في 18 يونيو عن عمر يناهز 86 عامًا. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان والده حضرة ميان الله دته صحابيا للمسيح الموعود u حيث بايع في 1903 عند سفر المسيح الموعود u إلى “جهلم” فقطع 10 أو 12 ميلا مشيًا على الأقدام ووصل إلى حضرته u وبايعه على يده.
لقد وقف المرحوم حياته في 1965، ثم ظل يخدم الجماعة طيلة 41 عاما من 1967 إلى 2008 في فروع الجماعة المختلفة في منطقة سندهـ والبنجاب حيث علّم قراءة القرآن الكريم لمئات الأطفال والبنات والرجال والنساء. وبسبب جهوده التبليغية والدعوات الحارة وُفّقت عشرات من الأرواح السعيدة للدخول في الأحمدية.
كان منضمًّا إلى نظام الوصية. وترك خلفه زوجته وبنتين وثلاثة أبناء. أحد أبنائه السيد عبد الهادي طارق داعية للجماعة في غانا حيث يوفق للخدمة كمدرس في الجامعة الأحمدية العالمية منذ سبع سنوات. ولم يستطع أن يشترك في جنازة والده ومراسيم دفنه بسبب الظروف السائدة حاليا.
اثنتان من أبناء أخ المرحوم أيضا داعيتان، وثلاثة من أحفاده حفاظ للقرآن الكريم.
يقول السيد مغفور أحمد منيب الذي هو واقف الحياة وداعية للجماعة ويعمل حاليا في المركز: لا شك أن المولوي علي أحمد كان نموذجًا حسنًا لواقفي الحياة والمبلغين والمعلمين. كان قليل الكلام وغاض البصر وعاكفا على عمله ومكثر الدعاء ومتواضعًا وبشوشًا عند الالتقاء، ومدافعًا عن الخلافة الأحمدية وخادما لها. إنْ غضب على أحد فكان نُصحه له يفيض بالألم والحرقة، كما كان قنوعًا جدًّا.
لقد كبر تلامذته من الأطفال والبنات ولكن لم تمح من قلوبهم ذكريات حسن أخلاقه ومحبته لهم. رفع الله تعالى درجاته ووفق ذريته ونسله أيضا للعمل بحسناته والاستمرار فيها.
والجنازة التالية هي للسيدة رفيقان بي بي زوجة بشير أحمد دوغر من “إيدهي بور محافظة نارووال” التي انتقلت إلى رحمته تعالى في 22 مايو الفائت. إنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد دخلت الأحمدية في عائلتها عن طريق جدها حضرة ملك سردار خان دوغر مختار القرية الذي كان صحابيًا.
يقول ابنها رياض أحمد دوغر: منذ نعومة أظفاري رأيتها مواظبة على الصلاة والصوم والأعمال الصالحة. كانت تحفظ كثيرًا من سور القرآن الكريم. كانت تعتاد على تلاوة سورة التغابن أثناء عملية خض اللبن كل صباح. كانت كثيرة الاهتمام بالصلوات الخمس، وقبل كل صلاة كانت تجعل أحد أحفادها أو إحدى حفيداتها الصغار معها وذلك لكي ينشأ في الأطفال أيضا حب الصلاة. ثم بعد الصلاة كانت تظل جالسة تقوم بالتسبيحات طويلا. كذلك كانت تتلو القرآن الكريم بصوت عال بحيث كان يسمع صوت تلاوتها في البيت كله. وكانت تحفظ كثيرًا من سور القرآن. كانت تكن للخلافة حبًّا واحترامًا عظيمين، وكان يقينها باستجابة دعوات الخليفة قويًّا. كانت تخبر الناس فخورةً أن ابنها داعية وحفيدها لابنها أيضا يدرس ليكون داعية وحفيدها لابنتها أيضا داعية. ومع أنها كان تذكر أولادها كثيرًا إلا أنها كانت تقول بأن الله تعالى قد تفضّل عليّ كثيرا إذ نشر فروعي إلى أكناف العالم.
لقد تركت خلفها ستة أبناء وبنتا واحدة وعدد من الأحفاد والحفيدات.
أحد أبنائها السيد رياض أحمد دوغر يخدم الجماعة في تنزانيا وهو أيضا لم يستطع أن يشترك في مراسيم جنازتها ودفنها بسبب الظروف السائدة ومن جراء انشغاله في ميدان العمل. ألهمه الله تعالى الصبر والسلوان.
أحد أحفادها لبِنتها السيد عديل أحمد دوغر يخدم الجماعة في باكستان كداعية، وأحد أحفادها لابنها السيد أياز أحمد دوغر يدرس في السنة الخامسة في الجامعة الأحمدية العالمية بغانا.
غفر لها الله تعالى ورحمها ورفع درجاتها ووفق ذريتها للعمل بحسناتها والاستمرار فيها.
إضافة إلى ذلك سأضم في صلاة الجنازة أولئك الذين ذكرتهم في الخطب الماضية، ولكن لم أصلِّ عليهم بسبب الظروف السائدة، وهم السيد ناصر سعيد، والسيد غلام مصطفى من بريطانيا، والدكتور نقي الدين من إسلام آباد في باكستان، والسيد ذو الفقار داعية من إندونيسيا، غفر لهم الله تعالى جميعا ورحمهم. آمين.