خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 2/3/2018
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
القَدْر الذي ركزّ فيه الإسلام على تعليمه التحلّي بالأخلاق العالية والصفات الحسنة في كل مناسبة في البيوت وفي المجتمع، وما علّمه من إظهار الأخلاق الفاضلة على جميع الأصعدة أمام الأحباب والأغيار، وعدم إهمال أي جانب أخلاقي مهما صغر؛ لم يبينه أيُّ دين آخر بهذا التفصيل، ولكن من سوء حظ المسلمين أنهم يُعَدُّون عمومًا في الدرجة السفلى من هذه الناحية، ويطعن فيهم غيرُ المسلمين لأن أعمالهم تنافي هذا التعليم. إن النبي r علّم أمته بأسوته وبوصاياه المتكررة في مختلف المناسبات أن يضربوا أمثلة عليا للأخلاق. المسلمون يدّعون عموما حبّ الرسول r ولكن عملهم بأقواله وبسُنّته r شِبه معدوم، ولقد أرسل الله تعالى المسيح الموعود u نظرا إلى حالة المسلمين هذه ولكنهم ينكرون التوجه إليه بل بلغ بعضهم في المعارضة منتهاهم في بعض الأماكن أو في بعض البلدان ويستخدمون ضد المسيح الموعود u وأتباعِه لسانا بذيئا وسيئا وفاحشا للغاية لا يستخدمه حتى شخص منحطّ أخلاقيا ودونك أن يُظهروا أخلاقا بسيطة. وهم يلقون جزاءه أيضا بحيث يطعن فيهم غير المسلمين في كل مكان في الدنيا. إن حالة المسلمين هذه ينبغي أن توجّهنا نحن الأحمديين إلى أن نسعى كل السعي للتحلي بالأخلاق العالية، ونبذل جميع قدراتنا للتخلُّق بالأخلاق الحسنة التي علّمنا إياها الإسلامُ وضرب النبيُّ r أمثلتها أو أوصى بها بطريقة ما، وإلا لا فائدة لأنْ نكونَ أو نسميَّ أنفسنا أحمديين.
لو نظرنا إلى عمل الرسول r لتـراءتْ لنا نماذج مُدهشة. ولو نظرنا إلى حالات بيوته لتبيّن لنا أنه تارةً يُبدي استياءه من سخرية إحدى زوجاته من قِصر قامة زوجة أخرى له لأنه ينبغي ألا تُجرح مشاعر أيّ إنسان، وتارةً أخرى ينصح إحداهن بأنه لا يجوز إظهار استياء أبدًا مما تفعل زوجة أخرى. وتارةً أخرى ينصح الأطفال من أجل رفع أخلاقهم بأن لا يُضيعوا ثمار أشجار الناس برمي الأحجار عليها. وقال لطفل إن كنت تشعر بجوع شديد لا يُحتمل فيمكنك أن تأكل من تمر ناضج وقع تحت الشجر، وإلى جانب هذا نصحه بأن الأفضل أن أدعو لك أن لا تُضطرّ لتأكل تمرا وقع على الأرض وأن يهيئ الله تعالى لك أسباب الرزق دوما، وبهذا الدعاء وجّه r الطفلَ إلى أن يرجع إلى الله تعالى لتحقيق حاجاته بدلا من أن يأكل من أموال الناس بطرق غير شرعية. صحيح أن في بعض الحالات يجوز أكل مثل هذه الأشياء الزائدة الواقعة على الأرض ولكن النبي r علّم التحلي بأعلى الأخلاق، وذلك حسنة. ثم قال r لطفل كان يأكل بسرعة وكانت يده تطيش في الصحفة هنا وهناك: سَمِّ اللهَ أولا وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ. (صحيح البخاري، كتاب الأطعمة) فينبغي تربية الأولاد بأسلوب يُنشئ فيهم أخلاقا عالية حين يكبرون.
ثم الكذب ذنب والصدق حسنة وخُلق حسن، أسدى النبي r نصيحة لتـرسيخه في قلب الأطفال منذ الصغر. رَوى أحدُ الصحابة حادثا من زمن طفولته فقال: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ r فِي بَيْتِنَا وَأَنَا لكوني صَبِيّا ذَهَبْتُ أَخْرُجُ من البيت بعد قليل لِأَلْعَبَ والرسول موجود، فَقَالَتْ لي أُمِّي لتمنعني من الابتعاد عن هذا الجوّ المبارك: تَعَالَ أُعْطِكَ شيئا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ r: وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟ قَالَتْ أمي: أُعْطِيهِ تَمْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي وقلتِ ذلك لمجرد منع الولد لكُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ. (مسند أحمد، كتاب مسند المكيّين) وبذلك نشأت في ذلك الطفل أهمية الصدق والكراهية للكذب في صِغره لذلك تذكّر هذا الشيء حتى كبر وذكره لأن أهمية الصدق كانت قد رسخت في قلبه. ذات مرة قال r لشخص إن كنت لا تستطيع أن تتـرك جميع السيئات فعليك أن تتخلى عن سيئة واحدة على الأقل وهي الكذب. والآن نرى هل المسلمون في هذه الأيام يتجنبون الكذب بهذه الدقة ويتمسكون بالصدق؟ بل يجب أن نفحص أنفسنا أيضا هل نبلغ هذا المستوى؟ جاء في رواية أن النَّبِيّ r قال وهو يُنَبِّئُ بِالْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، يقول الراوي: جَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أو شهادة الزور. قَالَ الراوي: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ. (صحيح البخاري، كتاب الشهادات).
ثم نرى أخلاقه من ناحية التحمل والصبر، ما مستوى تحمله وصبره؟ وكيف ينصح الآخرين بذلك؟ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ r: دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ. ثم قال: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ. (صحيح البخاري، كتاب الوضوء). كان ذلك الأعرابي يذكر دوما رفق النبي r هذا. أما اليوم فنرى أن الحكام المسلمين وحزب المشايخ أيضا أكثر الناس تعسيرا، فلا ييسّرون في أي شيء صغيرا كان أم كبيرا.
قال النبي r في مناسبة إِذَا كنتم تريدون أن تعرفوا أنكم تحسنون أم تسيؤون فانظروا ما رأي جاركم فيكم. (سنن ابن ماجه، كتاب الزهد).
ثم قال للمسؤولين لن تُعد أخلاقكم حسنة ما لم تحسبوا أنفسكم خدام القوم وتخدموا العامة بجميع قدراتكم. أين تُرى هذه المعايير في القادة والمسؤولين؟ ويجب أن ينتبه إلى ذلك المسؤولون في الجماعة أيضا.
ثم حين نال النبي r القوة كلها وفُتحت الجزيرة العربية فكيف أبدى نموذجه؟ أبدى نموذج أخلاقه العالية في مناسبة فتح مكة بحيث عفا عن الأعداء الذين كانوا يسعون لقتله وكانوا قد آذوه باستمرار، وهذا العفو نفسه أدّى إلى إسلام الكثيرين.
قال المسيح الموعود u في مناسبة وهو يتحدث عن مستوى النبي r الأعلى في مكارم الأخلاق:
“يخاطب الله جل شأنه نبينا r بقوله: ]وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[، ومعنى هذه الآية -طبقا للشرح المذكور- إنك مستوعب لجميع أقسام الأخلاق من سخاء، وشجاعة، وعدل، ورحمة، وإحسان، وصدق، وهمة (أيْ تحمل شيء بهمّة)، وما شاكلها. وباختصار: فإن جميع القوى الطبْعية الموجودة في الإنسان مثل الحشمة والحياء والأمانة والمروءة والغيرة والاستقامة والعفة والزهد والعدل والمواساة والشجاعة والجود والعفو والصبر والإحسان والصدق والوفاء وما شابهها من الحالات الطبْعية.. إذا أظهرها الإنسان في أوقاتها ومواضعها الملائمة بإعمال الفكر وإيماء العقل، كانت كلها أخلاقا. إنها في الأصل حالات الإنسان الطبعية وغرائزه، وإنما تُسمى أخلاقا عندما يتصرف فيها بالإرادة حسب اقتضاء الزمان والمكان.” (فلسفة تعاليم الإسلام) وليس كالعادة بل يستخدم كل خلق بحيث تظهر له نتائج حسنة، ففي بعض الأحيان يُضطر المرء لعقاب أحد ويكون الهدف أن تظهر نتائج حسنة.
يقول المسيح الموعود u وهو يذكر الحالات المختلفة لإظهار الأخلاق العالية بأن الأخلاق العالية إنما تظهر في حالتين، في حالة الابتلاء والعسر وفي حالة السعة والنعمة. فالذي يُظهر نموذج الصبر في الابتلاء والعسر ويسعى لنيل رضى الله تعالى فهو يملك أخلاقا عالية، كذلك الذي في حالة النعمة والحكم يُبدي التواضع ويقيم العدل يمكن أن يُسمى ذا أخلاق عالية. كِلا هاتين الحالتين ظهرتا بجلاء في ذات نبينا الكريم r كما ذكرتُ آنفا أنه r كيف عفا عن أعدائه الذين كانوا يسعون لقتله.
يقول المسيح الموعود u: تظهر أخلاق المرء حقًا في حالتين: حالة الابتلاء وحالة الإنعام. لو عاش المرء في حال واحدة لم تعرف أخلاقه حقًا. ولأن نبينا r جاء ليتمم مكارم الأخلاق فلذلك كان جزء من حياته مكيا والجزء الآخر مدنيا. لقد صبر على أشد الأذى على أيدي الأعداء في مكة، ومع أنهم عاملوه بمنتهى القسوة إلا أنه تحلى بالحلم والصبر غير مقصر في تبليغ الرسالة التي أتى بها من عند الله تعالى. ثم لما نال الغلبة في حياته المدنية وأُتِيَ إليه بأولئك الأعداء أسرى فإنه عفا عن أكثرهم، ولم ينتقم منهم رغم قدرته على الانتقام.
ثم يقول المسيح الموعود u وهو يتابع موضوع أخلاق النبي r يجب أن تسمعوا لما أقول بإصغاء. لقد رأيت أكثر الناس ودرست أحوالهم بإمعان النظر فوجدت أن منهم من يكون سخيا لكنه يكون عصبيا وسريع الغضب. (أي أن هؤلاء يعطون الناس بسخاء ولكنهم شديدو الغضب يسخطون على كل صغيرة وكبيرة، وإذا غضبوا منّوا على من أحسنوا إليهم) ومنهم من يكون حليما لكنه يكون بخيلا. ومنهم من يغضب فيضرب الآخر بالعصا ويجرحه، وهو غير متواضع ولا منكسر. ومنهم من هو متواضع جدا لكنه ليس شجاعا (أي هو متواضع ولكن تنقصه الشجاعة، فيجبن عند أدنى ابتلاء). لا شك أن كل إنسان لا يكون جامعًا للصفات كلها، لكن لا يكون محروما من كلها كلية أيضا.
ثم يتحدث u عن أخلاق النبي r ويقول: إن نبينا r هو أكمل نموذج في جميع الأخلاق الفاضلة ومن أجل ذلك قال الله تعالى فيه: ]وإنك لعلى خلق عظيم[
فقد تحلى r بالأخلاق في زمن الشدائد فصبر صبرا حير العالم، ولما نال الحكم على العرب كلهم عفا عن كل أولئك الذين ظلموه. فهي المعايير الحقيقية للأخلاق التي يجب على المسلم الحقيقي المؤمن بالنبي r حقًا أن يضعها في الحسبان دائما وأن يتحلى بها دوما.
لقد أرشدنا إلى ذلك المسيح الموعود u. كيف؟ يقول حضرته عن أخلاق النبي r: إن هذه الأخلاق الفاضلة أسرت الناس في حبه وأرت معجزة.
ثم يقول لنا المسيح الموعود u: لو حسنتم أخلاقكم متأسين بهذه السنة النبوية وتحليتم بكل خلق في محله المناسب لصرتم من الذين يُرون المعجزات. الخوارق يقلل من شأنها الناس بتقديم شتى الأعذار ويحاولون التهرب من تصديقها، ولكن تحلي المرء بالأخلاق الفاضلة كرامة لا يمكن أن يطعن فيها أحد، ومن أجل ذلك فإن أكبر وأقوى إعجاز أُعطيَه نبينا r هو إعجاز الأخلاق كما قال الله تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم). لا شك أن خوارق النبي r بكل أنواعها هي الأقوى ثبوتا ودليلا من معجزات كل الأنبياء عليهم السلام، إلا أن معجزة أخلاقه r هي في المقام الأول بحيث لم ولن يقدم تاريخ العالم نظيرًا لها.
ويقول u: أرى أن الذي يُقلع عن أخلاقه السيئة وعاداته الذميمة ويتحلى بالخصائل الحسنة فهذه كرامة له. إنها لكرامة عظيمة جدا لو تخليتم عن الرذائل وتحليتم بالحسنات. فمثلا إذا كنت عصبيا سريع الغضب، وتركت هذه العادة القبيحة وتحليت بالحلم والعفو، أو إذا تحليت بالسخاء بدلاً من البخل، أو تخلقت بخلق المواساة مكان الحسد، فلا شك أنها كرامة منك.
أي إذا كان المرء قاسي الطبع عصبيا، فترك هذه العادات المذمومة واتصف بصفات اللين والرفق والعفو، أو ترك البخل وصار سخيا، أو تحلى بالمواساة بدلاً من أن يحسد الناس ويمسك يده عند الإنفاق عليهم، فلو قام بهذا التغيير الطيب فهذه كرامة منه، وسوف تظهر نتائجها. كذلك لو ترك المرء العُجب والاعتداد بالنفس وتحلى بالتواضع والحلم فهذه أيضا كرامة منه. (أي لو تركت مدح نفسك أو لم ترغب في مدح الناس لك وتواضعتَ لكان هذا كرامة منك).
ثم يقول حضرته: فمن منكم لا يريد أن يكون من أهل الكرامات. أعلمُ أن كل واحد يريد ذلك. إن هذه كرامة دائمة وحية. على المرء أن يصلح أخلاقه، لأن هذه كرامة لا يزول أثرها أبدا، بل نفعها طويل المدى. على المؤمن أن يصير صاحبَ كرامة عند الخَلْق والخالق. لقد كان هناك كثير من الفساق المستهترين الذين لم يقتنعوا برؤية آيات خارقة، لكنهم لم يجدوا مناصًا عند رؤية الأخلاق الفاضلة من الخضوع والإقرار والاقتناع. ستجدون في سوانح كثير من الناس أنهم لم يدخلوا في دين الحق إلا برؤية الكرامات الأخلاقية. لا شك أن أهل الدنيا أيضا يتخلقون في ظاهر الأمر ولكن ما يسمونه أخلاقا إنما هو رياء على العموم، إذ يتظاهرون بالصلاح (أي يتظاهرون بالأخلاق لجلب منافع شخصية، ويُبدون خلاف ما تكنّ صدورهم) أو يتظاهرون أمام مسؤول كبير أو شخص ثري بأخلاق حسنة. والحق أن هذه مداهنة (أي يفعلون ذلك ضعفا أو خوفا وجبنا منهم) وهذا ليس من تعاليم الإسلام في شيء، لأن هذه ليست أخلاق الإسلام الحقيقية، إنما الخلق السامي أن يكون كل شيء من القلب، فإذا كان مواسيا مثلاً فيجب أن تكون مواساته نابعة من القلب.
يبين المسيح الموعود u هذا الأمر أكثر فيقول: الأخلاق نوعان، أخلاق يتخلق بها المثقفون بالثقافة الجديدة في هذه الأيام، فإنهم حين يلاقون أحدًا يلاقونه مداهنين ومتملقين، في حين تكون قلوبهم ملئية بالنفاق والحقد. هذه الأخلاق هي خلاف ما يعلمه القرآن الكريم. والنوع الآخر من الأخلاق أن يواسي المرء غيره مواساة صادقة بدون أي نفاق في قلبه، وبدون أن يلجأ إلى المداهنة والتملق وغيرهما، وذلك كما قال الله تعالى ]إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى[. فهذه هي الطرق الكاملة للأخلاق، أي اعدلوا وأنصفوا وبيّنوا الحقيقة كما هي. ثم هناك حالات تتطلب الإحسانَ من المرء وعندها أحسِنوا، ثم تَقدموا خطوة أخرى وعامِلوا الناس بأخلاق تعامل بها الأم ولدها أو يعامل بها القريب أقرب أقاربه.
يقول حضرته u: هذه هي الطريقة الكاملة. وكل طريقة كاملة وهداية كاملة توجد في كلام الله تعالى، ومن أعرض عنه لم يجدها في مكان آخر. إن التعاليم الحسنة يتوقف تأثيرها على طهارة القلب. لو نظرتم بتعمق في أحوال الذين هم بعيدون عن ذلك لوجدتم فيهم الرجس. فالأمر يتطلب طهارة القلب والخضوع لرضا الله تعالى والعمل بأحكامه.
يقول المسيح الموعود u: الحياة لا ضمان لها، فتَقدّموا في مجال الصلاة والصدق والصفاء (أي ارفعوا مستوى عباداتكم وصدقكم وكونوا صادقين في كل شيء).
يسأل البعض ما هي الحسنات، ويظن البعض أن الصلوات والعبادات بأشكالها فقط هي الحسنات، أو إذا تخلقوا بأخلاق عادية ظنوا أنهم قد عملوا حسنة كبيرة، وهم لا يبالون بأخلاق أساسية كثيرة أخرى. يبين المسيح الموعود u هذا الأمر ويقول:
الأخلاق مفتاح الحسنات الأخرى. إن الذين لا يُصلحون أخلاقهم يصبحون عديمي الخير تدريجيا. إن مذهبي هو أن كل شيء في الدنيا نافع حتى السم والنجاسة نافعان. والاستركنيا أيضا نافع حيث يترك أثره الطيب على الأعصاب. ولكن الذي لا يجعل نفسه نافعا للناس متخلقا بأخلاق فاضلة فلا يصلح لشيء مطلقا (فحضرته يقول يمكن أن ينفع السم وكذلك النجاسة أيضا، لكن الإنسان الذي لا يتخلق بالأخلاق الفاضلة ولا ينفع الناس فلا جدوى منه، إنما ينفع المرء إذا كان ذا خلق سامٍ. ثم يقول حضرته): ويصبح هذا أسوأ من الحيوان الميت، ذلك أن جلد الحيوان الميت وعظامه تنفع، أما هذا فلا ينفع جِلده شيئا، ففي هذا المقام يصبح هذا مصداقا لقول الله تعالى: ]بل هم أضل[. (أي يصبح من أحط الأشياء شأنا) فاعلموا أن إصلاح الأخلاق ضروري جدا، لأن أمّ الحسنات إنما هي الأخلاق.
أي إن تحليتم بالأخلاق وُفّقتم للحسنات الأخرى. ثم يبين المسيح الموعود u كيف تظهر أخلاق المرء في معاملاته اليومية فيقول:
من عادة بعض الناس أنهم يستاءون من رؤية السائل، وإذا كان فيهم شيء من عِرق المشيخة فيشرعون في شرح مسائل السؤال له.
(أي إذا جاءهم سائل فبدلا من أن يعطوه شيئا يبدأون بشرح مسائل السؤال من الناحية العلمية) ويرعبونه بمشيختهم وينهرونه أيضا في بعض الأحيان. من المؤسف حقا أن هؤلاء لا يملكون عقلا ولا قوة على التفكير التي يُعطاها شخص طيب القلب وسليم الفطرة. لا يفكرون أنه إذا سأل السائل وكان سليما معافى فذنبه عليه، (فإن كان لديكم شيء له فأعطوه) إذ لا يُعد إثما إعطاؤه شيئا بل قد وردت في الحديث كلمات: “لو أتاك راكبا”، أي يجب أن تعطي السائل شيئا وإن أتى راكبا مطية. وورد في القرآن الكريم: ]وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ[ ولم يُصرَّح في ذلك تحديد سائل يجب نهره وآخر يجب ألا يُنهر. فاعلموا أنه ينبغي ألا تنهروا السائل لأن ذلك يؤدي إلى سوء الخلق. الخُلق يقتضي ألا يسخط المرء على السائل بسرعة. بل يريد الشيطان أن يُحرم المرء من الحسنة بهذه الطريقة ويورثه السيئة.
ثم قال حضرته: تأملوا أن حسنة تُنتج حسنة أخرى كذلك سيئة تؤدي إلى سيئة أخرى. فكما يجذب شيء شيئا آخر كذلك وضع الله مثل هذا التجاذب في الأعمال أيضا. فإذا عاملتَ السائلَ باللطف وبالتالي تصدقتَ صدقة أخلاقية لوفِّقت لكسب حسنة أخرى أيضا بحيث تعطي السائل شيئا بعد زوال الانقباض. (أي سيزول الانقباض من القلب ويوفق الإنسان لكسب حسنات أخرى وهكذا سيعطي للسائل شيئا أيضا.) (الحكم، مجلد4 رقم25، عدد9/ 7/1900م، ص2)
يُثار عمومًا سؤال في مجتمعنا عن كيفية احترام الوالدين إن لم يكونا أحمديين ولا سيما إذا كانا يعارضان. لاحظوا كيف أقام حضرته u احترامهما. لقد وجّه حضرته u النصيحة لشيخ عبد الرحمن القادياني بخصوص والده فقال u: عليك أن تدعو له وينبغي جبر قلب الوالدين جهد المستطيع، وتقنعه بصدق الإسلام بضرب أمثلة عليا للأخلاق الفاضلة وبأسوتك الحسنة بألف ضعف من ذي قبل. (لأنهما لم يكونا مسلمين، فأمره بإظهار نموذج حسن حتى يقتنعا بصدق الإسلام) إن نموذج الأخلاق معجزة لا تضاهيها معجزات أخرى. إن معيار الإسلام الحقيقي هو أن يرتقي الإنسان إلى أعلى مدارج الأخلاق الفاضلة، ويصبح شخصا مميزا، لعل الله يلقي في قلبهما حب الإسلام بواسطتك. الإسلام لا يمنع من خدمة الوالدين، فيجب طاعتهما الكاملة في الأمور الدنيوية التي لا تخلّ بالدين، فاخدُمهما قلبا وقالبا.”
إن الأخلاق تفرق بين الإنسان والحيوان، لقد بيّن حضرته u مرة هذا الموضوع فقال: “أولا: الدابة لا تستطيع التمييز بين الكيفية والكمية، وتأكل ما تجد وبقدر ما تجد، كما يأكل الكلب الذي يكثر حتى يتقيأ أخيرا. (أي ما هي الكيفية التي يجب أن تكون للطعام؟ وكيف ينبغي أن تكون حالته؟ وما هي الكمية المطلوبة منه؟ كل ذلك لا يستطيع الحيوان التمييز فيها، وضرب هنا مثال الكلب لأنه لا يعرف كم ينبغي أن يأكل؟ بل يشرع بالأكل ويستمر فيه إلى أن يتقيأ. ولقد رأينا الحال نفسه عند بعض الناس إذ لا تنتهي مطامعهم فتستمر محاولاتهم لأكل الأطعمة أو أموال الناس بطرق مشروعة أو غير مشروعة.)
قال حضرته u: ثانيا: الحيوان لا يفرّق بين الحلال والحرام. (كان الأول هو أن هؤلاء لا يعرفون كيف ينبغي أن تكون حالتهم وماذا تقول الروحانية؟ وإلى أي مدى تسمح لهم بكسب العيش وأكله بطرق مشروعة، فلا يقتصر الأمر على ملء الجيوب والخزينة بل ينبغي أن يكون لها حد وقدر مقدور.)
والثاني هو: الحيوان لا يفرّق بين الحلال والحرام. (وهنا ضرب حضرته u مثال الثور فقال) كما لا يفرّق الثور أنها مزرعة الجار التي لا يجوز أن ترعى فيها، (أي إذا كان الثور خليع الرسن وليس هناك حاجز بين الحقول فإنه يرعى في حقل الجار أيضا ولا يفرق بين هذا وذاك.) كذلك لا ينتبه إلى أي أمر يتعلق بالأكل.
قال حضرته: إن الذين ينقضون المبادئ الأخلاقية ولا يعيرون لها اهتماما كأنهم ليسوا أناسا. أما ما يتعلق بالطهارة والنجاسة فإن العرب كانوا يأكلون الميتة أيضا (بعد ذلك ضرب حضرته u مثال مَن يأكلون الميتة في هذا العصر أيضا. ثم يقول بأن هؤلاء الناس:) لا يترددون في أكل أموال الأيتام. كما لو وُضع كلأ اليتيم أمام البقرة لأكلته دون تردد (أي إذا وُضع الكلأ أمام البقرة فإنها ستأكله سواء تمّ إحضاره بطريقة مشروعة أو غير مشروعة وهذا هو حال أولئك الذين يأكلون أموال اليتامى بطرق مشروعة أو غير مشروعة. قال حضرته:) كذلك الحال بالنسبة لهؤلاء الناس، أي هذا هو معنى قوله تعالى: ]والنار مثوى لهم[. (أي عندما يأكلون أموال الناس بطرق غير مشروعة فإنهم يتبوَّءون مقعدهم في الجحيم.) (الحكم، مجلد4، رقم25، عدد9/ 7/8/ 1900م، ص4)
قال حضرته: هناك جانبان مهمان أحدهما العظمة الإلهية؛ فما يخالفها فهو يخالف الأخلاق، وثانيهما الشفقة على خلق الله؛ وما يخالف نوع الإنسان فهو يخالف الأخلاق أيضا. فإذا كان الناس لا يؤدون حقوق الله تعالى ولا يقيمون عظمته ولا يعبدونه ولا يسمعون لأوامره ولا يسعون لنيل رضاه فهذا أيضا يخالف الأخلاق؛ وإذا كانوا لا يؤدون حقوق الناس، ويأكلون أموال الناس بطرق غير مشروعة ويحاولون الإضرار بهم أو يعاملونهم بسوء الخلق بطرق أخرى فإن ذلك يخالف الأخلاق أيضا.
يقول حضرته: مع الأسف، قليل من يفكرون في هذه الأمور التي هي الهدف الأساس لحياة الإنسان.
ثم هناك سيئة أخرى وهي التكبر التي تحرم المرء من الحسنات بل تجعله موردَ سخط الله تعالى. يقول حضرته u: يقول الصوفية: إن في الإنسان جنيات كثيرة للأخلاق الرذيلة (أي تكون في الإنسان جِنيات كثيرة للأخلاق الهابطة السيئة)
وعندما تبدأ بالخروج فإنها تستمر، والجن الأخير الذي يخرج من الإنسان هو التكبر، وإنه يظل فيه ولا يخرج إلا بفضل الله ومجاهدة الإنسان الحقة والأدعية.
كثيرون يعدون أنفسهم متواضعين لكن فيهم أيضا يكمن نوع من التكبر، لذا يجب اتقاء أدق أنواع التكبر، أحيانا ينشأ التكبر من الثروة، فالمتكبر الثري يرى الآخرين فقراء معدمين، ويقول من هذا الذي ينافسني، وأحيانا يظهر التكبر بسبب العائلة والنسب، حيث يزعم المتكبر أن عائلته أكبر، وفلان من عائلة صغيرة…
وأحيانا يتولد التكبر من العلم أيضا فحين ينطق أحدهم كلمة خاطئة فهذا يخطِّئه فورا، ويثير الشغب فورا أن هذا لا يستطيع لفظ كلمة واحدة صحيحة. باختصار للتكبر أنواع كثيرة، وكلها تحرم الإنسان من الحسنات، وتمنعهم من نفع الناس، ويجب اجتناب كل هذه الأنواع.
ثم يقول حضرته: لم يُعط أحد قوة أخلاقية إلا وقد وُفّق للحسنات الكثيرة، إن ترك الأخلاق هو السيئةُ والذنب. (قال حضرته بأن الإنسان يوفّق للحسنات من خلال التزامه بالأخلاق ولكنه إذا ترك الأخلاق فإن ذلك يتحول إلى السيئة والاثم، وهكذا يُحرَم من التوفيق لكسب الحسنات أيضا. يقول حضرته:)
إن الذي يزني مثلا لا يدري كم يصاب زوج تلك المرأة من أذية شديدة بسبب ذلك. (أي إن زنى بإمرأة متزوجة). فلو استطاع الزاني أن يدرك مدى هذه الأذية والمعاناة وكان في نصيبه مسحة من الأخلاق لما ارتكب هذه الفعلة الشنيعة. ولو علم هذا الإنسان الشقي كم تأتي هذه الفعلة الشنيعة بنتائج سيئة وخطيرة للبشرية لامتنع من ارتكابها. ومن يسرق (فإنه يسرق من بيت رجل فقير ومسكين) وإن مثل هذا الإنسان الشقي والظالم لا يترك حتى قوت ليلة لأصحاب البيت. ولقد لوحظ بوجه عام أنه يدمّر ما ادّخره صاحبُ البيت المسكين منذ عدة سنوات.
يقول حضرته: فلو قدّر هذه الظروف ولم يكن أعمى من حيث الأخلاق لما سرق. نقرأ في الجرائد أخبار القتل والهلاك الأليمة كل يوم بما فيها أن طفلا كذا وكذا قُتل نتيجة طمع القاتل في الحلي، أو قُتلت سيدة في مكان كذا وكذا وهلم جرا. … فكِّروا الآن، لو كانت الحالة الأخلاقية مستقيمة لما حلت مثل هذه المصائب. (الحكم، مجلد4، رقم25، عدد9/ 7/1900م، ص3 – 4)
هل يمكن للإنسان أن لا يشعر بمعاناة أخيه الإنسان إن تعرّض للمصائب. لا شك أن مثل هذه الحالة لا تنشأ إلا عند انعدام الأخلاق وفقدان الشعور وعدم خوف الله تعالى، وإلا فإن كان الإنسان يخاف الله تعالى أو يتحلى بالإنسانية فلا يقوم بمثل هذه الأفاعيل.
ثم يقول المسيح الموعود u ناصحا جماعته:
“الذي يُري جارَه أنه قد غيّر أخلاقه وصار إنسانا مختلفا تماما، فكأنه يُري كرامة، وسوف يكون لتغييره هذا تأثير طيب على جاره. يعترض الناس على جماعتنا قائلين إننا لا نرى أي تطور حققه أبناؤها، ويرموننا بالافتراء والغيظ والغضب. (أي يتهموننا بأنواع التهم ويقولون إن أفراد جماعتنا معتادون على الغيظ والغضب) ألا يبعث ذلك جماعتي على الندم، فإنهم قد انضموا إليها باعتبارها جماعة صالحة، (فالذين يقومون بمثل هذه التصرفات غير اللائقة يجب أن يندموا عليها) شأن الابن الرشيد الذي يُذيع سُمعة والده الطيبة، لأن المبايع في حكم الابن… (أي أن الناس يتهمون المبايعين أنهم يفعلون كذا وكذا، فعليكم ألا تتحقق فيكم تُهمهم أبدا)
يتابع u ويقول: الأب المادي يتسبب في إتيان الأولاد إلى الأرض وفي حياتهم الظاهرة، أما الأب الروحاني فيرفعهم إلى السماء ويرشدهم إلى مقامهم الحقيقي. فهل ترضون أن يشوه الابن سمعة أبيه، ويذهب إلى المومسات، ويلعب القمار، ويشرب الخمر أو يتورط في غيرها من الأفعال القبيحة التي تسيء إلى أبيه؟ إني لأعلم أنه لا أحد يرضى بذلك، ولكن إذا ما ارتكب الابن السيئ هذه المنكرات فلا بد أن يتحدث عنها الخلائق، ويذكره الناس مع ذكر أبيه ويقولوا إن ابن فلان يرتكب هذه المنكرات. فالحق أن ذلك الابن الشرير هو الذي يلطّخ سمعة أبيه. كذلك تماما إذا ما انضم أحد إلى هذه الجماعة ثم لا يبالي بعظمتها وكرامتها، ويخالف تعاليمها، فهو مؤاخد عند الله، لأنه لا يلقي بنفسه فقط إلى التهلكة، بل يقدم للآخرين مثالاً سيئا ويحرمهم السعادة والهداية. (فلو رأى الناس نموذجا سيئا لابتعدوا عن الجماعة بدلا من أن يقتربوا منها، وبذلك يحرمون من سعادة الانضمام إليها)
لذا فاستعينوا بالله ما استطعتم، واسعوا للتخلص من تقصيراتكم بكل ما أوتيتم من قوة وهمة، وحيثما عجزتم فارفعوا أيديكم بصدق ويقين، لأن الأيدي المرفوعة بخشوع وخضوع وبدافع الصدق واليقين، لا ترجع خائبة. أقول بناء على خبرتي إن آلاف أدعيتي قد استجيبت ولا تزال تستجاب. من المؤكد أن الذي لا يجد في نفسه حماسًا لمواساة بني جنسه فهو بخيل. فلو رأيتُ طريق صلاح وخير، لصار من واجبي أن أنادي الناس إليه بصوت عالٍ، بغض النظر عما إذا كان أحد يلبي ندائي أم لا”.
ثم يقول u: لا تزول الغشاوة التي تغشى قلب الإنسان ما لم يقم بالمجاهدة والدعاء. قال الله تعالى: ]إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[، أي: لا يرفع الله عن قوم أي نوع من الآفات والمصائب ما لم يسعوا لإزالتها. فما لم يرفعوا الهمم ولم يتشجعوا لذلك كيف يحصل التغيير؟ هذه سنة الله تعالى التي لا تتغير كما قال: ]وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا[. فسواء كانت جماعتنا أو غيرها، فليس بوسعهم تغيير أخلاقهم إلا أن يجاهدوا ويدعوا الله تعالى، وإلا فهذا محال.”
ندعو الله تعالى أن يوفقنا لتحسين أخلاقنا في كل مناسبة ومكان وفي كل الأحوال، متأسين بأسوة رسول الله r، وألا يكون علوّ مستوى أخلاقنا للرياء بل لنيل رضا الله تعالى، وأن تتولد في قلوبنا مواساة حقيقية لخلق الله ويرتفع معيار تقوانا. لقد آمنّا بإمام الزمان، فينبغي أن يكون محور تفكيرنا دائما ألا يصدر منا عمل يسيء إلى سمعة الإسلام والنبي r والمسيح الموعود u، بل نكون سببا لنشر تعليم الإسلام الجميل، ونؤثر في العالم. وفوق ذلك يجب أن نسعى دائما لرفع مستوى أخلاقنا، ونستعين بالله تعالى دائما داعين الله وخاشعين له I.
بعد الصلاتين سأصلي صلاة الغائب على المرحوم شيخ عبد المجيد بن شيخ عبد الحميد الساكن في منطقة Defense Society في كراتشي الذي توفِّي في 15/2/2018م عن عمر يناهز 88 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد دخلت الأحمدية عائلة المرحوم بواسطة جده شيخ نور أحمد من سكان مدينة جالندهر، الذي ذكره المسيح الموعود u في كتابه “عاقبة آتهم” ضمن قائمة أصحابه الـ 313. وأورد اسمه في القائمة تحت رقم 242 وكتب: شيخ نور أحمد من مدينة جالندهر ويسكن حاليا في مدينة ممباسا.
وُلد المرحوم شيخ عبد المجيد في مدينة جالندهر في عام 1929م، ونال شهادة البكالوريا من كلية تعليم الإسلام بقاديان، ثم التحق بالكلية الحكومية بلاهور ونال شهادة الماجستير في الهندسة الكيميائية حائزا المرتبة الأولى. ثم جاء إلى بريطانيا ودرس في جامعة “سَري” هندسة التعدين من عام 1951م إلى 1953م. ثم خدم الجماعة في كراتشي في مناصب مختلفة، منها سكرتير العقارات، ورئيس لجنة المساعدات، ورئيس الجماعة المحلية. كذلك خدم نائبا لأمير الجماعة في كراتشي وكان عضوا في مجلس التحريك الجديد المركزي. وله ابنة اسمها السيدة سلمى طارق، زوجة السيد طارق سجاد، وحفيدان وحفيدة.
يقول حفيد المرحوم: بسبب عيشه في قاديان منذ الصغر في صحبة الصالحين كانت له علاقة خاصة بالله تعالى. كان يقول أن امتحان الإنجليزية في امتحانات الثانوية لم يكن على ما يرام. بعد الامتحان كان المرحوم قادما من المسجد إذ لقيه في الطريق مولانا شير علي وسأله عن الامتحان. فقال: إن امتحان الإنجليزية لم يكن على ما يرام. رفع المولوي شير علي يده في الحال ودعا له ثم قال له مبشرا بأنك ستنجح. وقال المرحوم بعد ذلك بأن الله تعالى استجاب دعاءه على أحسن وجه لدرجة ظللت أجتاز امتحانا بعد امتحان.
لقد مرّ المرحوم بظروف العسر واليسر بعد عودته من بريطانيا وتولى وظائف مختلفة، وعُزل منها إما بسبب المعارضة لكونه أحمديا، أو نتيجة تصرفات غير لائقة للمسؤولين فوقه. وفي نهاية المطاف بدأ التجارة وعهد أنه سيحتفظ بنـزر يسير من المال لنفقاته المنـزلية وسيقدم كل ما تبقى منه للجماعة. وبفضل الله تعالى وفى بعهده هذا مدى حياته. قام بالتجارة وأقام مصانع، وأنفق في سبيل الجماعة بغير عدّ وحساب مما كان يحصل عليه من الأرباح وظل يدفع التبرعات للجماعة دائما.
عندما أطلق الخليفةُ الرابع رحمه الله تعالى قناتنا ايم تي ايه دفع المرحوم عشرة ملايين روبية فورا في هذا المشروع. كذلك كان هناك مشروع بناء المسجد في روسيا قيد الدراسة فجاء وفد الأحمديين من روسيا لزيارة الخليفة الرابع رحمه الله والبحث في الموضوع. كان الحديث ما زال جاريا حول هذا الموضوع، وأخبر السكرتير الخاص المرحومَ عما يدور من حديث فتبرع – بغير طلبٍ – مبلغا كبيرا جدا في هذا المشروع. ثم أخبر السكرتيرُ الخاص سيدَنا الخليفة الرابع أن شيخ عبد المجيد المحترم قد تبرع بهذا المبلغ الكبير لبناء المسجد في روسيا، وذلك دون أن يُطلب منه، فأشاد الخليفة رحمه الله كثيرا بتضحيته هذه مظهرا سروره البالغ.
يقول داعية الجماعة في كراتشي: عندما وقع الحادث في مسجد دار الذكر ومودل تاون في لاهور في 28/5/2010م، ذهبتُ ذات يوم إلى المكتب ورأيت أن سكرتير المال يكتب وصلا لتبرع ويضع صفرا بعد صفر، فسألتُه مستغربا: هل تفعل ذلك بالخطأ؟ قال: لا، بل الشيخ عبد المجيد قد تبرع في “مشروع سيدنا بلال” بعشرة ملايين روبية.
كذلك قدّم مبالغ باهظة في مشروع نشر القرآن الكريم. هذا، وكانت هناك مشاريع كثيرة جارية في جماعتنا بكراتشي وتبرع فيها المرحوم بسخاء، ومن جانب آخر عاش بنفسه عيشا بسيطا جدا، لدرجة ما كان لأحد أن يعرف من أسلوب حياته أنه يملك مصنعين وأنه رجل ثري جدا لأنه كان يقدم الأموال كلها للجماعة بعد توفير مبلغ زهيد لنفقات بيته. وفي الفترة الأخيرة من حياته أوصى أن تكون عقاراته مِلك للجماعة.
ندعو الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ويرفع درجاته ويلهم ابنتَه وحفيدَيه وحفيدته الصبر والسلوان ويوفقهم جميعا للتأسي بأسوته. وسأصلي عليه صلاة الغائب بعد الجمع بين الصلاتين.