خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 11/10/2109م
في مسجد المهدي في فرنسا
]إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ[ (التوبة: 18)
لقد وفَّق الله I الجماعة الأحمدية في فرنسا لبناء مسجد آخر بعد مدة طويلة. في مدينة ستراسبورغ هذه يقيم عدد كبير من الأحمديين الجدد وغير الباكستانيين بفضل الله I، بل إن 75 في المائة من الأحمديين هنا من غير الباكستانيين. ومتقدمون بفضل الله I في الإخلاص والوفاء. على كل حال قد وهب الله I لهم مسجدا هنا، ويمكن أن يرتبط الأحمديون المقيمون الآن بنظام الجماعة أكثر من ذي قبل، وفقهم الله لذلك.
لقد بين الله I في الآية التي تلوتها عليكم مزايا الذين يبنون المساجد ويعمرونها، أنهم يؤمنون بالله I أي هم يوقنون يقينا كاملا بأن الله I هو مصدر كل قوة ومالك لها، وكل ما سواه فانٍ وباطل. فلإحراز هذا الإيمان من الضروري جدا أن ينيب المرء إليه ويعبده. فالله I يزيد المنيبين إليه إيمانا ويقينا. ثم بيَّن الله I أن من مزايا بُناة المساجد أنهم يوقنون بالآخرة، لأن اليقين بالآخرة حصرا يُميل الإنسان إلى عبادة الله، أي العبادة التي تصدر لنيل رضوانه I خالصة. ولبيان ذلك قال سيدنا المسيح الموعود u في مناسبة:
إن فائدة الإيمان بالآخرة أنه يُكسب معرفة الله تعالى ولا تتحقق المعرفة الحقيقية دون خشية الله الحقيقية وتقواه. تذكروا أن بنشوء الوساوس عن الآخرة يلقي الإيمان في خطر، ويحدث الفتور في حسن الختام. (أي لا يبقى حسن الختام مؤكدا، أي لا يبقى ثبات المرء على الإيمان مضمونا). فإنما العابد الحقيقي وعامر المساجد من لا يساوره الشك في الآخرة ويبقى راكعا لله لتكون عاقبته حسنة.
ثم قال حضرته: لا يقدر على عمارة المساجد أو لا يستحقون بناء المساجد، إلا الذين يقيمون الصلاة ويتعهدون أن من واجبنا أن نعمره خمس مرات ولم يبنوا هذا المسجد لنري العالم أن لنا أيضا مسجدا. فقد قال الله I هنا “أقام الصلاة”، والمراد من إقامة الصلاة أنهم يؤدون الصلاة جماعةً، ثم يجب أن يكون من مزايا الذين يعمرون المساجد الاهتمامُ بالزكاة والتضحية بالمال، وهذه التضحيات من أجل نشر دين الله، وتأدية حقوق عباده أيضا، وكل ذلك لتزداد خشيةُ الله في قلوبنا وبذل قصارى جهودنا لنيل رضوان الله I. يقول الله تعالى إن الذين يقومون بكل هذه الأعمال هم المفلحون أمام الله أو هم سيعدّون مهتدين.
إذن يجب على المبايعين الجدد والقدامى -وتقع المسئولية أكثر على القدامى وخاصة القادمين من باكستان أن يعتنوا أكثر لأن عليهم أن يقدموا الأسوة الحسنة للجدد- أن يدعوا الله I دوما منيبين إليه قائلين: ربنا وفِّقْنا بعد بناء هذا المسجد لأن نعمره بهذا التفكير محرزين العمل بهذا الحكم الرباني، واكتبنا من الذين يهتدون، واجنُبْنا أن ندمر دنيانا وعقبانا بعدم الاتصاف بصفات عامري المساجد هذه نتيجة ضعفنا وتقصيراتنا، واعصمْنا من الضلال رحمةً بنا وثبِّتنا على الصراط المستقيم، وأبق نياتنا نقية وحسنة دوما، ووفقنا لأداء حقك ونشْرِ رسالة دينك في هذه المنطقة، واتخاذِ بناء هذا المسجد وسيلةً لتبليغ الإسلام بحسب ما قال مبعوثك المسيح الموعود u، واجعلنا بفضلك مصداق قول نبيك الحبيب r: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ. وأنزل علينا أفضالك دوما بجعْلك إيانا مؤمنين حقيقيين. يجب أن يداوموا على هذا الدعاء ويسعوا بحسب ذلك.
فلنيل هذه الأمور يجب على كل أحمدي أن يفحص نفسه أولا هل يهتم بأداء الصلوات الخمس بانتظام، ثم يرى هل يهتم بأدائها جماعةً. إذ لا يكفي مجرد بناء مسجد، فهو غير كاف لبناء بيت في الجنة. كلا بل ثمة حاجة للأعمال أيضا والاستجابة لأوامر الله. فالمسلمون يبنون آلاف المساجد كل سنة. لكنه إذا كانت تُلقى فيها دروس الفُرقة ويصدر فيها الحديث عن المصالح الخاصة بدلا من خوف الله وخشيته ولفْت الانتباه إلى أداء حقوق عباده، أو كان يجري فيها الكلام عن مصالح الفئة التي بنتْها، أو كان العلماء المزعومون يخترعون فيها البدع المستحدثة التي لا علاقة لها بسنة النبي r، فليست تلك المساجد في نظر الله ورسوله التي تُدخِل الجنة. فأداء حق المسجد واتخاذه وسيلة لدخول الجنة وبناء البيت في الجنة مقابل بناء المسجد مسئولية جسيمة. ويجب على كل أحمدي أن يدرك هذه المسئولية ثم يعمل بها ويسعى لأداء حقها. ثمة حاجة لإدراك ما علَّمَنا الخادم البار للنبي r في هذا العصر كيف نصبح مسلمين حقيقيين ونؤدي حق عبادتنا ومساجدنا وحقوق خلق الله، والعملِ به. عندها يمكن أن نقول إننا آمنا بالله إيمانا كاملا ووثيقا ونؤمن باليوم الآخر إيمانا كاملا، ونقيم الصلاة ابتغاء رضوان الله تعالى ونضحي بأموالنا لأداء حقوق عباد الله. وإذا كنا نخاف أحدا فهو الله I وحده، وإن خشية الله وحدها في قلوبنا، لأننا نحبه ولا نخاف أي كائن مادي ولا نحبه كما نحب الله I. ونحن نضحي بمصالحنا المادية من أجل إيماننا وديننا. الآن سأقدم لكم بعض النصائح التي أسداها لنا سيدنا المسيح الموعود u لنكون أحمديين حقيقيين وعبادا حقيقيين لله I، يقول حضرته:
إن كل القوى والقدارت التي آتانا الله إياها (من الأيدي والأرجل والعيون واللسان وغيرها من الأشياء) ليست لنُضيعها، (بل لتنميتها) وهي تتحقق بتعديلها واستعمالها الجائز، (يعني أن استعمالها العادل وفي محلها يؤدي إلى تنميتها) ومن أجل ذلك لم يأمر الإسلام بالقضاء على قوة الرجولة أو بإخراج العين، بل حثّنا على استعمالها الجائز وتزكية النفس، (أي لا يجوز إخراج العين لأن بها يحدث سوء النظر، ولا إبطال القوة الجنسية لأن بها تُرتكب المعاصي) بل يجب تزكيتها واستعمالها الصحيح، كما قال الله تعالى ]قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[. ونرى أنه تعالى رسم أولاً هنا (أي في سورة البقرة أيضا) حياة المتقي ثم قال في النهاية كنتيجة: ]وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[. أي أن الذين يسلكون سبل التقوى ويؤمنون بالغيب، وحين تنهار الصلاة (أي تخطر ببالهم أثناء الصلاة شتى الأفكار) يقيمونها، وينفقون في سبيل الله I مما أعطاهم من نِعَم، ويؤمنون بالكتب السابقة وبكتاب الله هذا بلا تردد رغم هواجس النفس، (أي يؤمنون بكل الكتب السماوية بحسب ما أمر الله) وأخيرا يصِلون إلى درجة اليقين، فأولئك هم على رأس الهدى، وسائرون على طريق مستقيم يوصل السالك إلى الفلاح، فأولئك هم المفلحون الذين سيصلون إلى غايتهم والذين قد صاروا في مأمن من أهوال الطريق. ومن أجل ذلك قد أمرنا الله بالتقوى منذ البداية، وأعطانا كتابا فيه الوصايا بالتقوى.
لذا على جماعتنا أن تجعل أكبر همها التفكير فيما إذا كانوا من أهل التقوى أم لا. يجب أن يفوق هذا الهم كل همومهم الدنيوية الأخرى.
كيف يتأكد الإنسان هل هو يتحلى بالتقوى أم لا، ومن هم المتقون، فقد قال u بيانا لذلك:
نجد في كلام الله تعالى أيضا أن المتقين هم أولئك الذين يمشون بحلم ومسكنة (أي يتحلون برفق وتواضع كبيرين)، ولا يتكلمون بكلام ينمّ عن الزهو والغرور، بل يكون حديثهم كحديث الصغير مع الكبير. علينا أن نعمل دومًا ما فيه فلاحنا. إن الفوز بقرب الله تعالى ليس حكرًا على أحد، وإنما يريد التقوى الخالصة، فمن اتقى بلغ الدرجة العليا. لم يجد أيٌّ من رسول الله r أو إبراهيم u العزة من الإرث. صحيح أننا نؤمن أن والدَ النبي r الكريمَ عبد الله لم يكن مشركا، إلا أن ذلك لم يُكسبه r النبوة، وإنما تشرف بها فضلاً من الله بسبب أنواع الصدق الذي كان في فطرته r فهو الذي جلب هذا الفضل.
وإن صدق إبراهيم u، أبي الأنبياء، وتقواه هي ما جعلته لا يتردد في ذبح ابنه، ثم هو نفسه أُلقي في النار. انظروا إلى صدق سيدنا ومولانا محمد رسول الله r ووفائه، فقد تعرّضَ لأنواع الهجمات الشرسة، وكابد صنوف المصائب والآلام، ولكنه لم يكترث لها بتاتا، وبسبب هذا الصدق والوفاء أنزل الله عليه فضله، ومن أجل ذلك قال تعالى: ]إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ (الأحزاب:57).
فإذا كنا نريد أن يُتقبل دعاؤنا أُمرنا بالصلاة على النبي r لذلك، ولا يمكن أن تصل السماءَ الأدعيةُ الخالية من الصلاة على النبي r ولا يمكن أن يحرز الإنسان النجاحات، فلتحسين مستوى العبادات ولنيل قرب الله تعالى لا بد من الصلاة على النبي r، والذي يصلي على النبي r سيضع أمامه أسوة النبي r أيضا حتما. ما هو مستوى عبادته؟ وماذا نصح به أمته؟ قال r: قرة عيني في الصلاة. ثم لأداء حقوق الخلق أيضا ضرب نموذجا يصعب العثور على أمثلته، لم يبالِ بنفسه كثيرا، وإذا كان لديه وادٍ من المال وزّعه وكلما سأله سائل لم يردّه صفر اليدين أبدا، وإضافة إلى ذلك كانت يده تظل مستعدة لمساعدة خلق الله تعالى كل حين، والمصلي كلما يصلي على النبي r واضعا أسوته r أمام عينيه يسعى للعمل بها، وإذا كانت هذه حالتنا فسوف يتقبل الله تعالى أدعيتنا بسبب إظهارنا الحب لنبيه الحبيب وعبده العزيز وبسبب صَلاتنا عليه r، وحينها يمكن أن ننال قرب الله تعالى ونظهر الحلم والتواضع ونكون من الذين يسلكون دروب التقوى وأولئك هم المفلحون.
قال المسيح الموعود u في مناسبة بأنه ولو كان عملنا مقتصرا على الكلام فلا فائدة، فالتقوى ضرورية للفتح، وإذا كنتم تريدون الفتح فكونوا متقين، والتقوى هي التي تهب المرء معرفة الله تعالى وتجعله يعمل بأحكامه تعالى. ثم قال المسيح الموعود u وهو يبين حقيقة الصلاة وماهيتها وكيفية الصلاة الحقيقية:
“كثير من الناس يقرّون بوجود الله باللسان ولكن إذا فحصتموهم لوجدتموهم ملحدين لأنهم عندما ينشغلون في مشاغل دنيوية ينسون غضب الله وعظمته تماما. لذا من الضروري جدا أن تطلبوا المعرفة من الله بالدعاء لأن اليقين الكامل لا يتسنى بغيرها، بل يتأتّى حين يعلم المرء أن في قطع العلاقة بالله موتا. فحين تدعون لاجتناب الذنب لا تنسوا الأخذ بالأسباب أيضا، (التدبير أيضا ضروري إضافة إلى الدعاء) واتركوا جميع المجالس والمحافل التي تدفع إلى الذنوب. (ونحن بأنفسنا نستطيع أن نتحقق من المجالس أو البرامج التلفزيونية والبرامج الأخرى التي تدفع إلى الذنب، فلا بد من تركها) وإلى جانب ذلك استمِرّوا في الدعاء (لأن الله تعالى بفضله يوفق لتركها) واعلموا جيدا أن الخلاص من الآفات التي تحل بالإنسان نتيجة القضاء والقدر مستحيل ما لم تحالف المرء نصرة الله وعونه. الصلاة التي نصليها خمس مرات كل يوم تتضمن أيضا إشارة إلى أنه لو لم نُنقذها من الأهواء والأفكار النفسانية لن تكون صلاة حقيقية أبدا. ليس المراد من الصلاة أن ينقر المرء نقرات أو يؤديها تقليدا وعادة فقط، بل الصلاة ما يشعر به القلب وتذوب الروح وتخر على عتبات الله بالهيبة. على المرء أن يسعى جاهدا لخلق الرقة فيها قدر استطاعته ويدعو بالتضرع ليزول التجاسر والذنوب الكامنة في نفسه. هذه الصلاة تكون مباركة، ولو ثابر عليها المرء لرأى أن نورا سينزل على قلبه ليلا أو نهارا ويقلّ تجاسر النفس الأمارة (التي تأمر بالسوء). كما في الثعبان سم قاتل كذلك في النفس الأمارة أيضا سم فتاك، والذي خلقه هو الذي يملك علاجه أيضا.” أي الذي خلق هذا السم هو الذي يملك علاجه أيضا، لذا ينبغي أن نطلب منه فضله لاجتناب السيئات والذنوب.
ثم قال المسيح الموعود u في أهمية الصلاة: الصلاة مخ العبادة ولا يمكن أداء حق العبادة من دونها، لذا يجب أن نعلم بأنه لأداء حق العبادة لا بد من اتخاذ الطريق الذي علمنا الله تعالى إياه، فللصلاة هناك بعض المتطلبات والشروط التي تحقيقها ضروري. ويجب أن ينتبه المرء في الصلاة أنه واقف أمام الله تعالى بكل أدب وأن يكون متواضعا ومركِّزا كل التركيز وطالبا أفضاله، قال المسيح الموعود u وهو يوضح هذه الحالة:
“فكرتُ ذات مرة ما الفرق بين الصلاة والدعاء. وقد ورد في الحديث الشريف: الصلاة هي الدعاء، والصلاة مخ العبادة. إذا كان دعاء الإنسان مقتصرا على الأمور الدنيوية فقط فهذه ليس صلاة، (يدعو الإنسان ويأتي المسجد للصلاة ويبدأ يصلي الصلوات الخمس ويكثر من الدعاء ويبتهل ولكن للأمور الدنيوية فقط، فهذه لا تُسمى صلاة) ولكن عندما يريد أن يلقى اللهَ ويجعل مرضاته I نصب عينيه ويقوم في حضرة الله بالأدب والتواضع والفناء طالبا رضاه عندها يُعدّ مصلّيًا. إن حقيقة الدعاء هي التي تتسبب في تقوية العلاقة بين الله والإنسان. وهذا الدعاء يكون سببا للحصول على قرب الله تعالى وينهى الإنسان عن المنكرات. الأصل هو أن ينال الإنسان رضا الله تعالى ثم يجوز أن يدعو لحاجاته الدنيوية أيضا، (ادعوا لنيل رضى الله تعالى، ثم ادعو للحاجات الدنيوية لأنها أيضا لا تتحقق إلا بفضله تعالى) وذلك لأن المشاكل الدنيوية أيضا تحول دون الأمور الدينية، وتكون خاصة حجر عثرة في زمن عدم النضج. (التقصيرات والأمور الدنيوية تتسبب في الزلة، لذا يجب أن ترتبطوا بالله تعالى، ثم ادعوا للأمور الدنيوية) إن كلمة الصلاة تدل على الحرقة والاصطلاء، فكما تكون الحرقة في النار فعلى هذا المنوال يجب أن تكون الحرقة في الصلاة. عندما يصل الأمر إلى حالة كحالة الموت عندها تسمى “الصلاة”.
هذه هي الصلاة الحقيقية التي ينبغي أن نسعى لحصولها، وفقنا الله تعالى لذلك، (آمين).
ثم وضح المسيح الموعود u في موضع: تذكروا إن كنتم تدّعون الإيمان فلا بد من أداء الصلوات. ومن الخطأ أن يدعي المرء الإيمان بأداء ثلاث صلوات أو أربع صلوات كما يفعل بعض الناس لأن أصل الإيمان هو الصلاة وإذا لم يكن للشجرة جذور وساق فهي جوفاء سيلقيها الهواء البسيط على الأرض. قال u:
“كما تتراكم السحب على السماء نتيجة حر الشمس فيحين نزول المطر، كذلك تخلق الصلوات حرقة الإيمان وعندها تستوي الأمور كلها. الصلاة الحقيقية هي قيام المرء أمام الله بالحرقة والذوبان والأدب جميعا. ولكن إذا لم يبال المرء مع كونه عبدا فليعلم أن الله غنيٌّ (فهو أيضا لا يبالي). كل أمة تكون قائمة ما دامت متوجهة إلى الله تعالى. إن أساس الإيمان هي الصلاة. يقول بعض السفهاء، ما حاجة الله إلى صلواتكم؟ فيا أيها الأغبياء إن الله ليس بحاجة إليها بل أنتم محتاجون إليها ليتوجّه الله إليكم. وبتوجُّه الله تعالى تستقيم الأمور الفاسدة. الصلاة تزيل آلاف الأخطاء، وهي وسيلة للحصول على قرب الله تعالى.
ثم ليس أداء الصلاة فقط ما يُؤدي إلى قرب الله والعفو عن الأخطاء وإصلاح الأمور الفاسدة، بل المجيء إلى الصلاة بإخلاص والجلوس في المسجد في انتظار الصلاة أيضا يوجب الثواب كما قال النبي r: إِذَا دَخَلَ أحدكم الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ. (صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة) ما أعظم أجر المصلي الذي يأتي المسجد ليصلي، فلا ينال ثواب الصلاة فقط بل ثواب الانتظار أيضا، وتدعو له الملائكة. فيجب أن نهتم بكل ما في وسعنا بالقيام بعبادة هذا الإله الرحيم، وأن نسعى جاهدين لعمارة المسجد خمس مرات يوميا بأداء الصلاة فيه.
يقول المسيح الموعود u مبينا أن من أهداف الدين هو خلْق الوحدة وجعْل القوم أمة واحدة. فيقول u ما تعريبه:
“يريد الله تعالى أن يجعل الناس جميعا كنفس واحدة، وهذا ما يُسمّى وحدة الجمهور التي بسببها يُعدُّ كثير من الناس في حالتهم الاجتماعية في حكم شخص واحد. هذا ما يهدف إليه الدين أن ينخرط الجميع في خيط وحدة جمهور واحد كحبات المسبحة. الصلوات التي تصلَّى جماعةً إنما هي لتحقيق الوحدة ليُصبح المصلّون كلهم وجودا واحدا. والأمر بالوقوف معا هو ليسرِي نورُ من كان يملك قدرا أكبر منه إلى الضعيف ويقويه، وكذلك سُنَّ الحج للغرض نفسه. فلتحقيق وحدة الجمهور هذه وبقائها أمَرَ اللهُ تعالى أن يصلّي أهل الحي خمس صلوات جماعةً في مسجد الحي ليتبادلوا الأخلاق وتجتمع الأنوار وتُزيل الضعفَ وينشأ الأنس والتعارف المتبادل. التعارف شيء مستحسن لأنه يؤدي إلى ازدياد الأنس الذي هو أساس الوحدة. إن العدو المعروف لدى المرء أفضل من الصديق غير المعروف بكثير لأنهما إذا تقابلا في بلد أجنبي نشأ في القلوب أُنس بسبب التعارف. والسبب في ذلك أن البُغض -وهو نزعة مؤقتة- يزول عند الابتعاد عن أرض الضغينة ويبقى التعارف قائما. والأمر الثاني هو أن يجتمع الناس في مسجد جامع يوم الجمعة لأن اجتماعهم على هذا النحو كل يوم متعذر، لذا أمر الله أن يجتمع الناس من المدينة مرة في الأسبوع ويخلقوا التعارف والوحدة. (أما في هذه المجتمعات إذا كانت المسافات بعيدة فإن المراكب والمطايا متيسرة، فمن كانت لديه المرافق مهيأة فلا يصعب عليه المجيء إلى المسجد كل يوم. فإذا كان المرء ينوي حضور المسجد فإن مجيئه إليه بنية عمارته سهل. ومن كان يسكن بعيدا ولا يستطيع الحضور كل يوم فلا بد له من الحضور يوم الجمعة)
يتابع المسيح الموعود u قائلا: فبذلك يصيرون كجسد واحد يوما من الأيام. ثم سنّ الله تعالى العيدين بعد عام وأمر أن يجتمع الناس من القرى والمدينة ويصلّوا معا ليزداد الأنس والتعارف وتنشأ وحدة الجمهور. ثم حدّد يوما واحدا مرة في حياة المرء للاجتماع على المستوى العالمي ليجتمع الناس جميعا في ميدان مكة (أي من كان قادرا على الحج فيحجّ). فبذلك أراد الله تعالى أن يزداد الأنس والألفة المتبادلة بين الناس.
ثم يقول u عن المعارضين: من المؤسف أن المعارضين لا يدرون ما أقوى فلسفة الإسلام. (أي أن معارضي الإسلام لا يدركون الحقيقة ويعترضون على العبادات والصلوات الخمس ويقولون ما الهدف منها؟ وما الهدف من العبادة الأسبوعية والأعياد وغيرها)
يقول المسيح الموعود u: الأحكام التي تأتي من الحكام الماديين يمكن للإنسان أن يتهاون فيها، أما التهاون في أحكام الله والإعراض الكلي عنها لا يمكن بأيّ حال. هل من مسلم لا يصلي العيدين على الأقل؟ فالفائدة لهذه الاجتماعات هي أن تؤثر أنوار المرء في غيره وتقويه. (اللقاءات المتكررة تفيد في كل الأحوال). إذًا، الإيمان الحقيقي هو أن يحضر المرء المسجد خمس مرات يوميا للصلاة جماعة. فما دام الله تعالى قد هيأ لكم مسجدا، فلا بد لكم أنتم الذين تتمعتون بمرافق السفر من تقديم نموذج لمشهد الوحدة فيه. فعليكم أن تعمروه مستفيدين من فضل الله تعالى عليكم. والله تعالى رؤوف ورحيم فقد سخّر الملائكة كما قلت آنفا للدعاء للذين يلتزمون بالصلوات الخمس. وكما هو معلوم أن ثواب الصلاة جماعة أكثر من صلاة المرء وحده بسبع وعشرين مرة. فلو لم نقدّر أفضال الله هذه على الرغم من كوننا قادرين على الاستفادة منها فهذه شقاوة كبيرة. إذًا، هذا الأمر يهيء لكل أحمدي وقفة تأملية، وعليه أن يسعى بكل جهده لعمارة المسجد.
يقول المسيح الموعود u:
يا مَن تحسبون أنفسكم من جماعتي، إنكم لن تُعَدّوا من جماعتي في السماء إلا إذا سرتم في دروب التقوى حقا وصدقا. فأَدُّوا صلواتِكم الخمس بخشية وخضوع كأنكم ترون الله تعالى، وأتِمُّوا صيامكم بصدق القلب لوجه الله تعالى، وكلّ مَن وجبتْ عليه الزكاة فليؤدِّها، وكل مَن وجب عليه الحج فليحجّ ما لم يكن هناك مانع. افعلوا الخيرات على أحسن وجه، واتركوا الشر كارهين إياه. اعلموا يقينا أنه لن يصل إلى الله عملٌ خالٍ من التقوى. … كلّما تعرّضتم لضرر فإنما هو بأيديكم أنفسكم وليس بأيدي الأعداء. ولو زالت كرامتكم الأرضية كلّها لوهب الله لكم كرامة في السماء لا تزول أبدا. فلا تخذلوه…. إنكم جماعة الله الأخيرة، فقوموا بأعمال صالحة تكون قمّة في كمالها… كل من يتكاسل فسوف يُطرد من الجماعة كشيء رديء، وسوف يموت بحسرةٍ، ولن يضرَّ الله شيئًا.
ألا إني أبشّركم بكل سرور بأن إلهكم لموجودٌ حقًا. لا شك أن الجميع خلْقُه إلا أنه لَيصطفي مَن يختاره U ويأتي مَن يأتيه، ويُكرم مَن يعظِّمه.”
ندعو الله تعالى أن يوفقنا للازدياد في الإيمان وأداء حق العبادة ولإنشاء العلاقة مع الله I مدركين الحرقة والألم في كلمات المسيح الموعود u ويوفقنا لعمارة المساجد دائما.
والآن أقدم لكم لمحة عن هذا المسجد. لقد بدأت الجماعة قبل بضع سنين محاولتها لبناء هذا المسجد، وأعطى الله تعالى الجماعة أرضا مساحتها 2640 مترا مربعا. كانت هناك بناية ذات ثلاث طوابق موجودة على هذه الأرض سلفا، بالإضافة إلى قاعة كبيرة. وقد أخذت جماعة فرنسا بعض الدَّين من المركز لشراء البناء. ويقول أمير الجماعة أن هذا الدَّين تمّ تسديده بكامله تقريبا إلا خمسين ألف يورو.
كانت للبلدية بعض التحفظات وقد تم الموافقة عليها في جلسة مع أعضائها. وعُرض رسم المبنى في الاجتماع مع رئيس البلدية، وقُبل بفضل الله تعالى. وبالنظر إلى الرسم قال المهندس أن هناك حاجة لمليون يورو لبناء هذا المبنى. وقد وعد مجلس خدام الأحمدية في فرنسا بتسديد هذا المبلغ. ولكن اكتمل بناء المسجد بـ 530000 يورو بفضل الله تعالى. وقد ساهم مجلس خدام الأحمدية بثلاثمئة ألف يورو، أما المبلغ الباقي فقد دفعتها الجماعة. ويقول مجلس خدام الأحمدية بأنهم سوف يدفعون بقية المبلغ أيضا، مع أنهم قد دفعوا من قبل وسيدفعون البقية أيضا بإذن الله. ولكن يجب ألا يبقى بقية أفراد الجماعة محرومين من هذه البركة. لقد اكتمل بناء هذا المسجد، والآن ينبغي على لجنة إماء الله ومجلس أنصار الله أن يأخذوا على عاتقهم مسؤولية بناء مسجد آخر ويجب أن يبنوا مسجدا آخر هنا في فرنسا خلال ثلاث سنين القادمة ويجب أن يتحمل هذه المسؤولية لجنة إماء الله ومجلس أنصار الله معا.
لقد شُكِّلت لبناء هذا المسجد التي اكتمل بناؤه لجنةً تتضمن السيد أسلم دوري، والسيد شهباز، والسيد محمد عاصم منصور، وقد بذلوا جهدا كبيرا كما جاء في التقرير، فجزاهم الله خيرا. هذا المسجد يتسع لمئتين وخمسين مصلٍّ من حيث القانون وبحسب حساب البلدية، وهناك مكان لإيقاف خمسين سيارة. المبنى يتضمن مكتب الجماعة، ومكتب لجنة إماء الله ومكتبةً للرجال والنساء، والحمامات. وبالإضافة إلى ذلك هناك قاعة كبيرة مستخدمة كموقف السيارات، تسع لمئة وخمسة وعشرين فردا إذا أُريد استخدامها في حالة طارئة.
كان هناك مبنى موجود سابقا يحتوي على 15 غرفة وتم ترميمه وهو صالح للاستعمال الآن. يقع المسجد على بُعد 15 كيلو مترا تقريبا من مدينة ستراسبورغ. هذه المسافة ليست بطويلة حتى يصعب على المصلّين حضور المسجد بل يمكنهم أن يأتوا بكل سهولة. المساحة المسقوفة للمسجد والقاعات هي 303 مترا مربعا. المبنى يشمل منـزلا للداعية، ودار ضيافة ذات أربع غرف. لم يُسمح لنا ببناء المنارة الرسمية غير أنه سُمح بنباء قبة إلى الجانب الأيمن من المسجد وارتفاعها 8 أمتار وتبدو جميلة جدا وتشكّل جزءا من المسجد. وفي المسجد محراب، بل كل ما يلزم مسجدا. وقد كُتبتْ بعض العبارات في شكل دائري. ندعو الله تعالى أن يبارك في المسجد من كل النواحي والجوانب، ويبارك في أموال أعضاء مجلس خدام الأحمدية ونفوسهم الذين قدموا التضحيات لبناء المسجد. ولكن يجب ألا يقتصر الأمر على التضحيات المالية فقط بل ندعو الله تعالى أن يوفق الجميع لإدراك روح عمارة المسجد، كما ندعوه I أن يرتفع مستوى عبادة أعضاء خدام الأحمدية وبقية أفراد الجماعة.