خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 8/06/2018
في مسجد بيت الفتوح بلندن
*****
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأَعراف: 157)
إن منن الله تعالى على عباده لعجيبة كما يتبين من هذه الآية إذ يقول الله تعالى رحمتي وسعت كل شيء. والرحمة تعني اللين والرأفة واللطف، أي يعامل الله تعالى عباده بلين وتسامح لا نهاية لهما، ويعاملهم بلطف لا متناهٍ، وعاطفة رحمته ﷻ متقدمة بحيث أحاطت بكل شيء، ورحمته تتضمن الرحمانية والرحيمية. ومن رحمانيته أنه خلق للإنسان في الدنيا أشياء لا تُحصى دونما طلب، ومن رحيميته أنه يجزي الذين يؤدّون حقه ﷻ ويعملون بأحكامه ويطلبون منه مُنيبين إليه. فيقول الله تعالى هنا إنني لا أهدف إلى تعذيب عبادي، يسيء البعض الفهمَ بأن الإنسانَ إن كان سيُعذَّبُ ويعاقَب فلماذا خُلق أصلا؟! يقول الله تعالى ليست غايتي التعذيب إلا أن الذين يبلغون من سيئاتهم منتهاها ينالون عذابي وعقابي ولكن عذابي أيضا مؤقّتٌ ومن أجل الإصلاح وإيجاد الإحساس بالذنب إلى أن يأتي وقتٌ ينال فيه أهلُ النار أيضا نصيبهم من رحمتي الواسعة وينتهي عذابهم. وهم إنما يلقون عقوبة جهنم نتيجة أعمالهم السيئة وتصبح هذه العقوبة أيضا وسيلةً لإصلاحهم، فهذه العقوبة هي الإصلاح، وزمن العقوبة أيضا رحمةٌ من هذه الناحية، ولكن اللهَ مالكُ يوم الدين أيضا لذا يستطيع أن يتـرك الـمذنبين أو الذين نراهم مذنبين في الظاهر دونما عقاب برحمته ومغفرته، ولكنه ﷻ قال لنا لتـرغيبنا في السلوك على دروب الحسنات: (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي سأنزل برحمتي على الذين يتقون ويؤتون الزكاة ويؤمنون بآياتي. وسأضمّ برداء رحمتي أولئك الذين يسلكون دروب التقوى ويؤتون الزكاة ويعملون بأحكامي مؤدّين حقها وموقنين بي، ويؤمنون بآياتي إيمانا كاملا.
ثم يقول الله تعالى في مكان آخر: (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأَعراف:57) المحسنون من يُكملون أعمالهم بتمام شروطها، فالذي يحقّق مقتضيات التقوى ويعمل بأحكام الله تعالى ويؤمن بآياته ﷻ إيمانا كاملا ويُنيب إليه ﷻ فلا بد أن تبلغ مثلَ هذا الشخص رحمةُ الله تعالى، لذا يجب على المؤمن أن يسعى كل السعي للعمل بأحكام الله تعالى وللسلوك على دروب التقوى ولتكميل إيمانه، لو فعل ذلك لسُمّي مؤمنا حقيقيا، فيجب السعي للاستفادة من إعلان الله تعالى أن رحمته ﷻ قريبة من العاملين بأحكامه تعالى مؤدِّين حقها. إن الله تعالى قد كتب على نفسه أن الذين يفعلون كل هذا ستُحيط بهم رحمته. كم هو رحيم وكريم إلهنا! إننا عباد الله تعالى، وكيف لعبدٍ أن يدّعي حقّه على مالكه، ولكن مالك الأرض والسماوات ذاك يقول: إن كنتم تسلكون دروب التقوى وتعملون بأحكامي وتؤمنون بآياتي ستستحقون رحمتي.
لقد بيّن الله تعالى هنا التقوى أولا، وفي الحقيقة لو فهم المرءُ معنى التقوى بوجه صحيح لأحاط بالحسنات الأخرى والإيمان الكامل لأنها تندرج تحت التقوى. يقول المسيح الموعود ؏ عن هذا الأمر في موضع:
“كل الجمال الروحاني للإنسان إنما هو في مراعاة دقائق التقوى كلها. وإن السبل الدقيقة للتقوى ليست إلا ملامح لطيفة وأسارير جميلة للجمال الروحاني. والظاهر أن السبيل إلى الجمال الروحاني إنما يكمن في أداء الأمانات ومراعاة العهود الإيمانية قدر المستطاع، (أي أداءها بشكل صحيح) وفي استعمال جميع الجوارح من قمة الرأس حتى أخمص القدم من عين وأذن ويد ورجل، وجميع القوى الباطنة، من قلب وأخلاق وما إلى ذلك استعمالا صحيحا بحسب المقتضى. (أيْ استخدامها بوجه صحيح وبحسب أحكام الله تعالى التي أخبرنا بها وأداء حقها) وفي كفّها عمّا نهى الله عنه، وفي أخذ الحذر والحيطة من الهجمات الخفيّة التي تُشنّ من قِبَل هذه القوى والجوارح، ثم في مراعاة حقوق العباد (وكفُّ الجوارح والقوى أيْ منعها من الاستخدام الخاطئ والانتباه للمنافذ التي يهاجم منها الشيطانُ، هذا واجب على الإنسان، لو أدّاه لاستطاع أن يسلك على درب التقوى الصحيح، ولَعَمِلَ بأحكام الله تعالى على الوجه الأمثل).
إن الله تعالى قد سمى التقوى لباسا في القرآن الكريم فكلمة “لباس التقوى” هي كلمة قرآنية وفيها إشارة إلى أن الجمال الروحاني والزينة الباطنية إنما هي في التقوى. والمراد من التقوى أن يراعي الإنسان قدر المستطاع جميع الأمانات الإلهية والعهود الإيمانية وأماناته وعهوده التي تتعلق بالمخلوق، أي أن يفي بها بكل دقائقها بكل ما أوتي من قوة. (أي يعمل الإنسان بالأمور الدقيقة قدر المستطاع ويتقيد بها). (تفسير سيدنا المسيح الموعود ؏، تفسير قوله تعالى: “والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون”) فإذا بلغ الإنسان هذا المستوى لوجبت له رحمة الله تعالى وكأنها حقه، أيْ يفرض الله تعالى ذلك على نفسه، وكما قلتُ لا يحق للعبد أن يطلب من الله تعالى شيئا كحق له.
وهذه الأيام من رمضان التي تمر علينا لم يبقَ منها إلا أسبوع أخير، وهي التي قال عنها النبي ﷺ: إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ. (صحيح البخاري) لا يستفيد منها إلا المؤمنون الحقيقيون الذين يعملون الصالحات، وأما أولياء الشيطان فلا يمتنعون من تصرفاتهم حتى في هذه الأيام، وتحدث كثير من الفواحش والمنكرات كل يوم ولم تنتهِ في رمضان، فهذه البشارة للمؤمنين المتقين الذين ينالون نصيبهم من رحمة الله تعالى لأن الله تعالى قد وسّع لهم رحمته في هذه الأيام أكثر من ذي قبل. فانتفِعوا منه واسعوا لأداء حق الله تعالى والعملِ بأحكامه. لقد قال النبي ﷺ وهو يحثّ على أداء هذا الحق: مَنْ قَامَ ليالي رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه (صحيح البخاري) . وهذا مشهد آخر لسعة رحمة الله تعالى حيث قال إنكم تسعون لعمل وأنا أعطيكم جزاءه المضاعف أضعافا كثيرة. فانظروا إلى شتى تجليات رحمة الله من رحمانية ورحيمية. فسعداء الذين يغتنمون هذه الأيام.
ثم إن من منن الله تعالى أنه قد نبّهنا أيضا تحرِّي ليلة القدر في هذه العشر الأواخر من رمضان لكي نرى مشاهد استجابة الدعاء أكثر من ذي قبل. وهذا أيضا ليس حقًا لنا على الله تعالى وإنما هو عطاؤه لكي يرغّب العباد في التقرب إليه أكثر، وهذا أيضا مشهد من مشاهد سعة رحمة الله تعالى.
ثم ورد في حديث آخر عن رمضان أنه شهرٌ أوّله رحمةٌ وأوسطه مغفرة وآخره عتقٌ من النار.
والصائم حين يعمل بأحكام الله أكثر من ذي قبل في رمضان ويزداد عبادة وتقوى يتغمده الله تعالى برداء رحمته أكثر من ذي قبل، لأن الله تعالى يقول: إن العبد عندما يصوم من أجلي في هذه الأيام، ويترك حتى بعض الحلال من أجلي، فأصبح أنا جزاءً لمثل هذا الصائم. وإذا صار الله نفسه جزاءً للصائم فقد تيسرت له المغفرة تلقائيا، وإذا تيسرت له المغفرة وقُبلت توبته عند الله، فقد نجا وأُعتقَ من النار، نارِ الدنيا ونار الآخرة أيضا. ولكن الشرط أن يصوم لله خالصا، ويعمل بأحكامه. ولو صار عمله بأحكام الله تعالى جزءا لا يتجزأ من حياته تغمده الله تعالى برداء رحمته دائما وأبدا. ذلك أن رحمة الله ليست للعشر الأوائل من رمضان فقط، بل إنها تنتقل من العشر الأوائل إلى العشر الأواسط، ومنها إلى العشر الأواخر، وتبقى مع الإنسان إلى الأبد ما دام يعمل بأحكام الله تعالى متحليا بالتقوى وبقوة الإيمان. كما أن مغفرة الله ليست للعشر الأواسط من رمضان فقط، بل تكون في العشر الأواخر أيضا، بل ترافق الإنسان طول حياته، فتنجيه من عقوبة الله. كما أن العتق من النار لا يعني أن ينجو الإنسان من النار في العشر الأواخر فقط، بل إنه يُعتَق من النار بعد رمضان أيضا مغتنمًا رحمة الله وسائلا مغفرته تعالى. أما إذا أُصبنا بالتكالب على الدنيا بعد رمضان مرة أخرى وتركنا التقوى وأهملنا أحكام الله وأصابنا مرض ضعف الإيمان والإعراض عن آيات الله، فمَثَلُنا كمثل إنسان يبني حصنا حصينا وملاذا آمنا، ثم يخرّبه ويدمّره بنفسه. فشهر رمضان هذا إنما جعله الله سببًا لكي نحظى برحمة الله وزلفاه أكثر من ذي قبل. فلا رحمة الله محدودة في أيام معدودة، ولا مغفرته منحصرة في أيام قلائل، ولا العتق من النار بعد مغفرته تعالى محدود لأيام معدودة أو فترة محدودة.
فيجب علينا التفكير في هذا الموضوع دائما. في عصرنا هذا قد أرشدنا المسيح الموعود ؏ عند كل خطوة وبين لنا كيف يمكننا الفوز بقرب الله تعالى، وما هي حقيقة قرب الله، وكيف نستطيع الفوز برحمة الله، وكيف يهيئ الله الأسباب ليتغمدنا بها، أو كيف يجزينا على أعمالنا جزاء مضاعفا، وكيف يهيئ أسباب المغفرة لنا، وكيف ينبغي أن نسعى للفوز بغفران الله تعالى، لكي تشملنا رحمته دائما أبدا. سأقرأ عليكم بعض أقوال المسيح الموعود ؏ بهذا الصدد وأشرحها أيضا.
قال سيدنا المسيح الموعود ؏ وهو يفسر الآية التي استهللتُ بها خطبتي: عذابي أصيب به مَن أشاء ورحمتي وسعت كل شيء سأكتبها للذين يجتنبون الشرك والكفر والفواحش، ويعطون الزكاة ويؤمنون بآياتنا.
وترون أن المسيح الموعود ؏ قد شرح التقوى هنا بثلاث كلمات: اجتناب الشرك والكفر والفواحش. ونرى اليوم عند كل خطوة أسباب الفواحش والخلاعة واللغو، في التلفاز والإنترنت والإعلام. وتجنُّبُ المرء ما في هذه الوسائل من برامج الفحش واللغو يتسبب في نزول رحمة الله عليه. وفي أيام رمضان أيام الصيام يضطر الناس إلى الاستيقاظ مبكرا ويقومون بأعمال كثيرة أخرى أيضا، فلعل هذا يجعل الكثيرين لا يشاهدون هذه البرامج كثيرا في هذه الأيام أو لا يقعون في هذا اللغو والعبث أو هم في منجاة منها، لكن الواجب عليهم أن يجتنبوها دائما. إن أمور اللغو هذه شائعة في الشباب خاصة في هذه الأيام، بل تصلني الشكاوى عن الكبار أيضا في أحيان كثيرة أن هذه الأمور تسمم عقولهم وتفسد أخلاقهم وتبعدهم عن الإيمان. لذا يجب على كل أحمدي أن يأخذ الحذر كل الحذر من هذه الأمور، ويستخدم هذه الأشياء بحذر وبطريق سليم.
ثم يقول المسيح الموعود ؏: يتضح من هذه الآية أن الرحمة عامة وواسعة، وأن الغضب، أي صفة العدل، تتولد بعد أمر خاص، أعني أن هذه الصفة الإلهية توجب نفسها بعد مخالفة القانون الإلهي. فالله تعالى عندما يعاقب أحدا فإنما يعاقبه لأنه قد خالف قانونا من قوانينه تعالى. وكما سبق ذكره فإن العقوبة تكون من أجل الإصلاح، وفي آخرها أيضا تتغلب رحمة الله.
على كل حال قد بين المسيح الموعود ؏ هنا أنه لا ينزل غضب الله على أحد إلا حين يتجاوز الحدود ويخرج على قانون الله تعالى. إن الله قد جعل رحمته واسعة جدا ومع ذلك يصبح البعض عرضة لغضبه تعالى.
ثم يسلط المسيح الموعود ؏ الضوء أكثر على هذا الأمر فيقول:
“الحق أن الوعيد لا يشمل وعدا بل يريد الله بمقتضى قدوسيته أن يعاقب المجرم، وفي كثير من الأحيان يُطلع ملهَميه على هذه الإرادة. ثم حين يؤدي المجرم حق هذا المقتضى بالتوبة والاستغفار والتضرع والبكاء يسبق مقتضى رحمة الله مقتضى الغضب ويحجب الغضبَ ويستره. هذا هو معنى الآية: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي رحمتي سبقت غضبي.” (التحفة الغزنوية، 6 – 7)
فقال حضرته أن الله تعالى لم يكتب على نفسه معاقبة الناس بل كتب على نفسه الرحمة بهم، ثم إن رحمته سبقت مقتضى غضبه بل هي، أما الغضب فيغيب في أستار كثيرة.
ثم يقول حضرته ؏ أن التوبة والاستغفار هما ذريعتان لجذب رحمة الله تعالى. فما هي حقيقة الاستغفار؟ وما هي معانيه؟ يقول حضرته: “المعنى الأصلي والحقيقي للاستغفار هو التماس المرء من الله ألا يَظهر ضعفه البشري للعيان، وأن يَسْنِدَ اللهُ فطرتَه بقوته ويُحيطها بدائرة حمايته ونصرته”.
ما هي فائدة الاستغفار؟ إن الإنسان ضعيف ويستغفر حتى لا يظهر للعيان أي ضعف هو مفطور عليه، فيَسنِدُه الله تعالى بقوته وبالتالي يُعصم من صدور الإثم منه جراء هذا الضعف ويُنقَذ من أن تصدر منه الأخطاء. قال حضرته ؏:
“كلمة الاستغفار مستقاة من مصدر “غفر” وتعني الستر. فمعناها أن يغفر الله تعالى بقدرته ضعف المستغفِر الفطري…. ويقوِّيه بقوته ويهبه علما من علمه ونورا من نوره، لأن الله تعالى لم يتخلّ عن الإنسان بعد خلقه بل كما أنه هو خالق الإنسان وخالق كافة قواه الداخلية والخارجية كذلك هو قيّوم الإنسان أيضا، أي يقيم بسنده الخاص جُلَّ ما خلقه. فلما كان اسم الله “القيوم” أيضا أي قيّوم المخلوقات بسنده الخاص فيلزم على الإنسان أنه كما ولد نتيجة خالقية الله كذلك عليه أن يحمي نقوش خَلقه من الفساد بواسطة قيومية الله تعالى.”
لم يتخل الله تعالى عن الإنسان بعد خلقه، بل هو القيوم أيضا. لا شك أن الله تعالى خلق الإنسان وفق قوانينه ومشيئته، ولا يتم الخلق إلا بإذنه، إلا أن هذا الخلق لابد أن يتم بواسطة سعي إنساني وذريعة إنسانية جعلها الله تعالى تابعة لهذا القانون الإلهي الذي وضعه للخلق. فقال إن النتيجة التي تظهر بعد سعي الإنسان في الخلق لابد لها أن تخضع لصفة قيومية الله من أجل العمل بأوامر الله تعالى، فلا بد من بذل السعي لنيل الفيض من قيومية الله تعالى والتركيز على الدعاء والاستغفار من أجل العمل بأحكام الله تعالى ليهب الله تعالى، وفق صفة قيوميته، تلك القوة التي تمكّن الإنسان من التمسك بأوامر الله تعالى.
ثم يوضح حضرته ؏ فيقول: “لذا فقد وُجِّه الإنسان إلى الاستغفار بسبب هذه الحاجة الطبيعية. وهذا ما أشير إليه في القرآن الكريم في قوله تعالى: (اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)…فإن ذلك الإله خالق وقيوم أيضا. إن مهمة الخالقية تمت بولادة الإنسان، ولكن مهمة القيومية مستمرة إلى الأبد، (تتم مهمة الخالقية بولادة الإنسان ولكن مهمة القيومية مستمرة معه إلى آخر حياته) لذلك كانت هناك حاجة إلى الاستغفار باستمرار. (فهناك حاجة للاستمرار في الاستغفار للحصول على فيض صفة الله)
فباختصار، هناك فيض لكل صفة من صفات الله تعالى. (قال حضرته: والاستغفار ضروري لنيل فيوض قيومية الله تعالى، أي إذا كنتم تريدون الاستفاضة بصفة قيومية الله فلابد لكم من التركيز على الاستغفار، وذلك ليوفّق الله تعالى الإنسان لاستخدام ما منّ به عليه من قوى ومواهب وفق مرضاته تعالى.) ففي سورة الفاتحة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إشارة إلى الاستمرار في الاستغفار للحصول على فيض القيومية. أي نعبدك يا رب ونستعين بك لتعيننا قيوميتك وربوبيتك وتنقذنا من العثار حتى لا يظهر منا ضعفٌ فنحرم من العبادة”.
فهذه هي النقطة الأساسية التي يجب أن نضعها نصب أعيننا دومًا، إذ ليس صحيحًا ترديد هذا الكلام بأن الله تعالى يقول بأن رحمته محيطة بكل شيء لذلك افعلوا ما شئتم وفي النهاية يمكنكم أن تطلبوا من الله الرحمة والمغفرة، بل كتب الله تعالى على نفسه الرحمة لأولئك الذين يتوجهون إليه ويتقيدون بأوامره ويستغفرونه. ولقد سلط حضرته ؏ الضوء أكثر على موضوع الاستغفار فقال:
“بعض الناس يدركون حقيقة الاثم، وبعضُهم لا يدركون ذلك، (أي أن البعض يرتكبون الإثم دون أن يدركوا لأنهم أصبحوا بلا حس ولا شعور، أو تصدر منهم الآثام خطأ بحيث لا يدرون ما هو الاثم) ولذلك قد جعل الله تعالى الاستغفار واجبًا إلزاميًا في جميع الأوقات ليستمر الإنسان في طلب حماية اللهِ من جميع الخطايا، الظاهرة والخفية، المعلومة والمجهولة، وسواء التي ارتكبها بالأيدي أو بالأرجل أو بالأنف أو بالعينين. (أي يجب ألا يصدر الإثم من أي عضو من أعضاء الجسم، لذلك دواموا على الاستغفار) وفي هذه الأيام، يجب الابتهال إلى الله بدعاء آدم (عليه السلام) بتركيز خاص: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، إذ قد قُبل هذا الدعاء مسبقًا.
(لقد قال حضرته ؏: عليكم بهذا الدعاء الذي كان قد استجيب مسبقا)
فلا تُمضِ عمرَك في غفلة. إنّ كلّ من يجتنب الحياة الغافلة لا يُتوقع أن يصاب بأيّ بلاء لا يطاق، لأنّ البلاء لا ينـزل من دون إذن إلهي. وفي هذا الشأن فقد أوحى الله إليّ الدّعاء التالي: “رَبِّ كلُّ شيء خادمُك، ربِّ فاحفظْني وانصرْني وارحمني”. (الملفوظات، الإصدار الجديد، ج 2 ص 577)
فالاستغفار والدعاء ضروريان للفوز بحماية الله تعالى ونصرته وعونه والاستفادة من رحمته. نستخدم عادة كلمتين اثنتين هما: التوبة والاستغفار، ويقول المسيح الموعود ؏ موضحا الفرق بينهما:
“التوبة والاستغفار شيئان مختلفان، ويفوق الاستغفارُ التوبةَ من وجهٍ، (أي أن الاستغفار يسبق التوبة) لأن الاستغفار عبارة عن الاستعانة والاستمداد من الله ﷻ، (لاجتناب الذنوب) والتوبة عبارة عن وقوف الإنسان على قدميه. ومن سنة الله أنه إذا استعان به الإنسان وهب له قوة يقوم بها على قدميه”. (أي أن التوبة دعاء لاجتناب الذنوب والثبات على الاستغفار والدعاء لينقذه الله تعالى من الذنوب. فالتوبة دعاء يدعو به الإنسان ليوفقه الله تعالى للمداومة على دعائه للمغفرة، وأن تكون النجاة التي حظي بها دائمة، وألا يكون أيّ فعل أو عمل من أعمالنا أو مساعينا وجهودنا مدعاة لسخطه وألا نعود مرة أخرى إلى نقطة انطلقنا منها. فالاستغفار هو طلب العفو عن الذنوب، ثم قال: وأتوب إليه، أي ثبِّتنا يا ربنا على اجتناب الذنوب، ووفقنا للفوز بمغفرتك، لننجو من النار إلى الأبد)
يتابع المسيح الموعود ؏ ويقول: “… وبالتالي يتمتع بقوة لكسب الحسنات، الأمر الذي سُمِّي بـ “توبوا إلى الله” في الآية القرآنية… يوفَّق الإنسان للتوبة بعد الاستغفار. والتوبة تفقد قوتها إن لم يكن معها الاستغفار. فإن استغفرتم بهذه الطريقة ثم تُبتم فلا بد أن تحصلوا على النتيجة؛ وهي أن الله يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى. هذه سنة الله المستمرة؛ لو استغفرتم ثم تبتم إلى الله نلتم مراتبكم. لكل حاسة نطاق يحقق فيه المرء الرقي، فليس بمقدور كل إنسان أن ينال درجةَ النبي والرسول والصديق والشهيد”.
(ولكن لا بد لكل إنسان أن يسعى جاهدا للوصول إلى مرتبة قُدِّر له الوصول إليها، وهذا سيحصل بالتوبة والاستغفار. ثم يقول ؏ موضحا التوبة أكثر:
“فليكن واضحا أن التوبة في اللغة العربية تعني الرجوع، لذلك ورد في القرآن الكريم اسم الله “التواب” أيضا، أي كثير الرجوع. ومعنى ذلك أنه عندما يتبرأ الإنسان من الذنوب ويرجع إلى الله تعالى بصدق القلب يرجع الله إليه أكثر منه. وهذا يطابق تماما قانون الله الجاري في الطبيعة لأنه ما دام الله تعالى قد وضع في فطرة الإنسان أنه عندما يرجع إلى شخص آخر بصدق القلب يلين له قلب الأخير أيضا، فكيف يمكن للعقل أن يقبل أن يرجع العبد إلى الله بصدق القلب ولا يرجع الله إليه؟! بل الحق أن الله الذي هو كريم ورحيم جدا يرجع إلى عبده أكثر منه بكثير. لذلك فقد ورد في القرآن الكريم اسم الله “التواب” أي كثير الرجوع. إن رجوع العبد يكون مصحوبا بالحسرة والندم والتذلل والتواضع، أما رجوع الله فبالرحمة والمغفرة. لو لم تكن الرحمة من صفات الله لما نجا أحد. من المؤسف حقا أن هؤلاء القوم لم يتدبروا صفات الله بل جعلوا المدار كله على أعمالهم وأفعالهم. ولكن الله الذي خلق للإنسان آلاف النِعم في الأرض بغير عمل منه هل يمكن أن يكون من خُلقه ألا يتوجه إلى الإنسان برحمة حين يرجع إليه ﷻ الإنسانُ ضعيف البنيان متنبِّها إلى غفلته، ولا سيما إذا كان رجوعه وكأنه يكاد يموت في هذا السبيل ويخلع عن جسمه اللباس النجس القديم ويحترق في نار حبه ﷻ؟!”.
يقول المسيح الموعود ؏ ما مفاده أن هذه قد تكون نظريتهم، ولكنهم كاذبون ولعنة الله على الكاذبين. ويقول ؏ أيضا أنه لا يمكن أبدا أن يؤدي العبد حقه ولا يعطيه اللهُ تعالى شيئا لأن ذلك يخالف صفاته تعالى ويتنافى مع قانونه وإعلانه القائل بأن رحمته واسعة جدا. ولكن يجب على الإنسان أن يؤدي واجبه ويسعى وكأنه يكاد يموت ويخلع اللباس النجس القديم أي لباس الذنوب ويحترق في نار حب الله تعالى. فإذا قام الإنسان بهذه الأمور، وهي هامة جدا، عندها يرجع الله تعالى إلى عبده بدرجة لا يتصورها المرء.
إذًا، هذا هو معيار طلب المغفرة الذي يجعل الإنسان مستحقا لرحمة الله تعالى التي فرضها ﷻ على نفسه. وقد بيّن المسيح الموعود ؏ شروطا للتوبة الصادقة والحقيقية، وبيّن ماذا يجب على الإنسان القيام به من أجلها وكيف ينبغي السعي لها، فقال ما مفاده:
للتوبة ثلاثة شروط … الشرط الأول هو أن يتخلى المرء عن كل ما يؤدي إلى نشوء الأفكار الفاسدة. وهذا لن يحصل ما لم يرسم في ذهنه صورة كريهة ومخيفة جدا للذنوب. فإذا ظللتم متوجهين إليها ولم ترسموا صورتها الكريهة والمنكَرة في أذهانكم لكان اجتنابها صعبا جدا.
فالأمر الأول هو أن يستأصل المرء هذه الأشياء من ذهنه ويستنكرها. والأمر الثاني هو أنه كلما تطرق إلى ذهنِه عمل سيئ أو منكَر فليندم عليه فورا. فعلى الإنسان أن يندم كلما خطرت بباله فكرة ارتكاب المعصية والسيئة ويفكر أن السيئات والملذات التي هو متوجه إليها إنما هي آنية وعابرة ومن شأنها أن تُفسد حياته وأنها سوف تفنى سريعا. فعليه أن يسمع صوت ضميره لأن ضميره يؤنبه ويخبره في كل الأحوال ما إذا كان عمل ما سيئا أم حسنا. فإذا فكرتم على هذا النحو واستمعتم إلى صوت ضميركم، فسوف تتخلصون تدريجا من السيئات. والأمر الثالث أن يعقد العزم على أنه لن يقرب هذه السيئات، وللثبات والدوام عليه في المستقبل، إذا استخدم الإرادة إلى جانب الدعاء فسوف تتركه السيئاتُ تدريجا وتحل محلَّها الحسناتُ.
فحين قال ؏ إنه لا بد من خلع الحلة الخبيثة فإنما معناه أن تستنـزفوا الجهود أولا ثم تداوموا عليها بإرادة قوية، وبذلك ستستحقون رحمة الله ﷻ.
يقول حضرته ؏ موضِّحا كيف يمكن أن يتقي المرء النار بالاستغفار والتوبة:
التوبة ليست شيئا إضافيا أو عديم الجدوى للإنسان، ولن تفيد يوم القيامة فقط بل تنصلح بسببها دنيا الإنسان وعُقباه كلتاهما، وينال في هذا العالم والعالم الآخر راحة وسعادة حقيقية. يقول القرآن الكريم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). لاحظوا أن كلمة “رَبَّنَا” تتضمن إشارة دقيقة إلى التوبة، إذ تقتضي كلمة “رَبَّنَا” أن الإنسان قد تبرّأ من جميع الأرباب التي كان قد اتخذها سابقا وجاء إلى هذا الرب. ولا يمكن أن تصدر هذه الكلمة من صميم الفؤاد بدون الحرقة والرقة الحقيقية. (أي حين يقول الإنسان ربنا فلا ينطق بلسانه فقط بل من صميم فؤاده، وإن كان من الملاحظ أن بعض الناس يقولون ذلك في الظاهر فقط إلا أن هذا الدعاء يصدر في الحقيقة من القلب) والرب هو من يربي الإنسان بالتدريج ويوصله إلى الكمال. الحقيقة أن الإنسان يكون قد اتخذ له أربابًا كثيرة، فعندما يعتمد على حِيَلِه وخُدَعِه فهي تكون أربابه. إذا كان يتفاخر بعلمه أو قوته فهما ربَّاه، وإذا كان يزدهي بماله أو قوة ساعده فهما رباه، وإذا كان يتباهى بجماله أو ماله وثروته فهما رباه. باختصار ترافقه آلاف الأسباب من هذا القبيل. فما لم يتخلَّ عنها كلها متبرئا منها، وما لم يُخضع رأسه بخشوع للرب الحقيقي الصادق الذي لا شريك له، ولم يخر على أعتابه بنداء “ربنا” بألم وحرقة مذيبة القلب، فإنه لا يعرف الرب الحقيقي. فحين يتوب إلى الله بهذا الخشوع والحرقة معترفا بذنوبه ويخاطبه بقوله: “رَبَّنَا”، أي أنت وحدك الرب الحقيقي، فقد كنت مخطئا إذ ظللتُ تائها في أماكن أخرى، أما الآن فقد تخليتُ عن جميع الأصنام الكاذبة والآلهة الباطلة، وأُقرّ بربوبيتك بصدق القلب وأرجع إلى بابك.
لا يمكن للإنسان أن يتخذ اللهَ ربًّا له دون اتباع هذه الطريقة. ولا يمكن للإنسان أن يعرف الرب الحقيقي ويقر بربوبيته ما لم يخلُ قلبه من جميع الأرباب الأخرى وعظمتها وتكريمها وتبجيلها. بعض الناس قد اتخذوا الكذبَ ربًّا لهم، ويرون أنه لا يمكن لهم العيش بدون الكذب، وبعضهم قد اتخذوا السرقة أو النهب أو الخداع ربًّا لهم ويعتقدون بأنه لا سبيل لهم للاسترزاق بدون هذا السبيل، فتلك الأمور هي أربابُهم. باختصار إن الذين يتكلون على خداعهم وحيلهم هم يستغنون عن الاستعانة بالله ودعائه. إنما يحتاج إلى دعاء الله تعالى مَن يجد جميع الأبواب مسدودة أمامه إلا باب الله تعالى، وهو مَن يَخرج الدعاءُ من قلبه. خلاصة القول إن دعاء: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا … ) يقوم به مَن لا يعرف ربًّا سواه – عز وجل -، ويوقن بأن جميع الأرباب الباطلة الأخرى لا تساوي شيئا مقابل هذا الرب الحقيقي.
ليس المراد من النار فقط تلك التي تكون يوم القيامة، بل من يعيش طويلا في الدنيا يرى فيها ألوفا من النيران، ويعرف من لديهم خبرة أن هناك أنواعًا كثيرة من النار في هذا العالم. فأنواع العذاب، والخوف، والقتل، والفقر، والمرض، والفشل، ومخاوف الذلة والزوال، وألوف من الآلام، وهموم الأولاد والزوجة، والاشتباك مع الأقرباء في المعاملات، كلها نارٌ. فالمؤمن يدعو الله تعالى قائلا: اللهم نجِّنا من جميع أنواع هذه النار. حيث إننا قد تمسكنا الآن بأهدابك فَقِنا دوما جميع هذه الأمور التي تنغّص الحياة الإنسانية والتي هي بمنـزلة النار للإنسان”.
ذات مرة نصح سيدنا المسيح الموعود ؏ أبناء الجماعة بالإكثار من دعاء (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) لذا يجب أن نتوجه إلى ذلك أيضا، لكي يحيطنا الله ﷻ برحمته ويقينا دوما من كل أنواع النار في الدنيا والآخرة.
يقول سيدنا المسيح الموعود ؏:
إن ملخص ما قاله الله تعالى في القرآن الكريم ألا تقنطوا يا عبادي من رحمتي فإني رحيم وكريم وستار وغفار وأرحم بكم من غيري، ولن يرحمكم أحد مثلي. أحبُّوني أكثر مما تحبون آباءكم فإني أكثر حبا لكم منهم في الحقيقة. وإذا أتيتموني فسوف أغفر لكم الذنوب جميعا، وإن تبتم إلي فسأقبل توبتكم. ولو جئتموني مشيًا لجئتكم هرولة. ومن بحث عني فسوف يجدني ومن توجَّه إليّ فسوف يجد بابي مفتوحا. إني أغفر ذنوب التائبين وإن كانت أكبر من الجبال. إن رحمتي عليكم كبيرة وغضبي قليل لأنكم خَلقي، فقد خلقتُكم، لذا رحمتي تحيط بكم جميعا.
نسأل الله ﷻ أن يوفقنا لنتوب إليه بإخلاص، ونفوز بالتقوى منه، ونزداد إيمانا ويقينا لكي تحالفنا رحمتُه على الدوام، ولا نُحرَم من رحمته أبدا، ولا نكون محل عقابه جراء أعمالنا السيئة، ويظل ينظر إلينا برحمة للأبد.