خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام
يوم 22/12/2017
***
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.
في الخطبة الماضية تحدثت عن عظمة صحابة النبي وفضائلهم وعن سيرتهم. كان في بالي أن أتحدث حول هذا الموضوع أكثر ولكني لم أتمكن من ذلك لضيق الوقت، ثم شعرتُ نتيجة رسائل الإخوة التي وصلتني بأن أبيّن على الأقل ما كنتُ قد جهزّتُه من رؤوس الأقلام ليطّلع الإخوة على سوانح الصحابة وعلى تضحياتهم، فيتوجهوا إلى التأسي بأسوتهم. لذا سوف أتحدث اليوم أيضا في الموضوع نفسه.
كان أبو عبيدة بن الجراح من الصحابة الأجلاء. فلا شك أنه كان يحتل مكانة مرموقة بصفته صحابيا، وكان يتحلى بمزايا كثيرة. أما الشهادة التي أدلى بها النبي بحقه كأمين مذكورةٌ في رواية كما يلي: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا ابْعَثْ لَنَا رَجُلًا أَمِينًا فَقَالَ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ النَّاسُ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ.
وقد جاء في رواية أخرى: عن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.
انظروا ما أعظم الشرف الذي شرف به النبي أبا عبيدة ! فهناك رواية أخرى تتحدث عنه وتذكر مكانته العظيمة. لقد رمى العدو يوم أُحد جيش المسلمين بالحجارة بكثرة وذلك بعد أن كاد المسلمون ينتصرون، ولكن العدو عاود الهجوم ورمى المسلمين بشدة بعد أن ترك بعض الجنود موضعهم الذي أمرهم النبي ألا يغادروه بأي حال. وقد أصابت بعض الحجارة النبي أيضا. فقد جاء في رواية أنه قد أُصِيبَ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَدَخَلَتْ الْحَلَقَتَانِ مِنَ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتَيْهِ فنـرعهما أبو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ. يقول أبو بكر أن أبا عبيدة نَزَعَ إحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ . وقد أمسكها بأسنانه ونزعها بشدة فَسَقَطَتْ ثَنِيّتُهُ ثُمّ نَزَعَ الأُخْرَى وسقط إلى الوراء بسب الشَد. ثم نزع الحلقة الثانية بالطريقة نفسها فَسَقَطَتْ ثَنِيّتُهُ الْأُخْرَى وسقط إلى الوراء كما حدث من قبل، لأن الحلقتين كانتا منغرستين في وجه النبي بشدة. إن هذا الحادث لإخلاص أبي عبيدة وحبه سوف يبقي ذكره حيا إلى الأبد. يقول الراوي أن الناس كانوا يقولون كما ورد في الروايات أننا لم نر شخصا سَاقِطَ الثّنِيّتَيْنِ بجمال أبي عبيدة.
أقول: إن سقوط بعض أسنان المرء يؤدي إلى شيء من التغيير في ملامحه ولكن الراوي يقول إن سقوط ثنيتَي أبي عبيدة أضاف إلى جماله.
ثم هناك حادث آخر يدل على تواضعه والبتّ في الأمور بحكمة والتعاون المتبادل. فقد جاء في الروايات أن النبي استعمل عمرو بن العاص على جيش وأرسله إلى مهمة، ولكنه علم بعد الوصول إلى ذلك المكان أن عدد جيش العدو كبير جدا بينما معظم الجنود في جيشه كانوا أعرابا، وكان المهاجرون وكبار الصحابة بعدد ضئيل. فَلَمّا كَانَ عَلَيْهِ خَافَ فَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ يَسْتَمِدّهُ فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ مع كتيبة من الجيش وَقَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَجّهَهُ لا تَخْتَلِفَا فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَتّى إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ ظن عَمْرٌو أن هذه الكتبية جاءت مددا له فهي تحت إمرته فبدأ يعطي تعليمات لجنود في كتيبة أبي عبيدة مباشرة. فقال كبار الصحابة الذين كانوا في كتيبة أبي عبيدة لعمرو أن النبي أمّر أبا عبيدة على كتيبة مستقلة ونصحه: “لا تختلفا”. فأنت قائد جيش وأبو عبيدة قائد جيش آخر. قال عمرٌو: كلا، بل أنا الأمير لأني أُرسلتُ قبله. فبدلا من الخوض في الجدال أو النقاش قال أبو عبيدة: يَا عَمْرُو إِنّ رَسُولَ اللهِ أرسلني أميرا مستقلا وقَالَ لِي: لا تَخْتَلِفَا، وَإِنّك إنْ عَصَيْتنِي أَطَعْتُك.
أقول: هذا مثال عظيم على تخلّيه عن صلاحياته نظرا إلى حساسية الموقف وبهدف تعزيز قوة المسلمين. وهذا النوع من التعاون المتبادل الذي من شأنه أن يجعل المسلمين اليوم قوة عظيمة يحتاج إليها المسلمون اليوم بشدة. ليت القادة المسلمين يفطنون إلى هذا الأمر ليتعاونوا فيما بينهم.
هذا، وهناك أمثلة في سيرة أبي عبيدة لإدارة الحكم بالعدل وفتح قلوب الأعداء. عندما جمع ملك الروم جيوشا من البلد كله وأرسلهم لمواجهة المسلمين كان أبو عبيدة قائد جيش المسلمين. وكُتب لجيش المسلمين انتصار واحتلوا أراضي شاسعة ومناطق واسعة كانت خاضعة لحكم النصارى. ثم أرسل ملك الروم جيشا كبيرا آخر. فاستشار أبو عبيدة ضباط الجيش الآخرين وتقرر أن من الحكمة أن يُخلي المسلمون حاليا بعض المدن والمناطق التي فتحوها. كان المسلمون قد أخذوا الجزية سلفا من المناطق والمدن التي فتحوها ولكن أبا عبيدة أعاد الجزية إلى سكانها قائلا بأننا لا نقدر على حمايتكم حاليا ولا نستطيع أن نؤدي حقوقكم لذا نعيد إليكم ما دفعتموه جزيةً. وبذلك أعاد إلى النصارى وسكان المناطق المفتوحة مبالغ قدِّرت بمئات الآلاف. هذا العدل والأمانة ترك في غير المسلمين أثرا كبيرا لدرجة عندما ودّع النصارى المحليون المسلمين كانوا يدعون لهم من الأعماق أن يعيدهم الله إليهم سريعا. إذًا، هؤلاء ضربوا أمثلة مُثلى- ما كان لأحد أن يتصورها حينذاك ولا يمكن أن يتصورها اليوم أحد أيضا- للعدل والإنصاف نتيجة استفادتهم من صحبة النبي .
اليوم لا يمكن إقامة الأمن والسلام إلا بأداء العدل والإنصاف على النحو المذكور، وليس بأن تُجبر الحكومات القوية دولا ضعيفة على الخضوع لإرادتها وتهددها أنها ستقوم بإجراءات حاسمة ضدها. إن العدل المذكور آنفا لا يمارَس حتى في معظم البلاد الإسلامية، بل تأخذ الحكومة الضرائب من الرعية ويملأ الحكام بها جيوبهم بدلا من إنفاقها لفائدة الناس، ثم يدّعون حب الرسول وحب أصحابه!
كان العباس عمّ النبي وكان معروفا بالجُود والسخاء وصلة الرحم. ذات مرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِلْعَبَّاسِ: هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا. عندما سمع العباس ذلك أعتق سبعين رقيقا. إذًا، هذا كان مستوى الـجُود عند هؤلاء الناس. ثم خذوا جعفر الذي كان ابن عم رسول الله وشقيق علي . قد نال شرف قبول الإسلام في أوائل الأيام ثم هاجر إلى الحبشة بسبب الظروف الصعبة في مكة. عندما علم أهل مكة بذلك أرسلوا زعماءهم إلى الحبشة مع هدايا كثيرة لزعماء الحبشة وقالوا إن بعضا من شبابنا قد جاؤوا إلى بلدكم تاركين دينهم ولم يعتنقوا دينكم أيضا بل اعتقنوا دينا جديدا تماما. فأراد زعماء قريش بواسطة الزعماء المحليين وبتقديم الهدايا إليهم أن يشفعوا لهم لمقابلة ملك الحبشة.
كذلك أخذوا للملك أيضا هدايا كثيرة، فقابلوه وقدَّموها له، وبعد سماع كلام ممثلي كفار مكة طلب النجاشي المسلمين في بلاطه، فحضره المسلمون في قلق لا يعرفون ماذا يقول لهم، فسألهم قائلا: مَا هَذَا الدّينُ الّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا في دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ؟ فقال له جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ممثلا للمسلمين: أَيّهَا الْمَلِكُ، كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا الضّعِيفَ فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا .. فَلَمّا قَهَرُونَا وَضَيّقُوا عَلَيْنَا، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِك وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِك، لأنا قد سمعنا عن عدلك وإنصافك، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَك أَيّهَا الْمَلِكُ. فتأثَّر النجاشي بذلك كثيرًا وقال اقرأْ علي شيئا مما نزل على رسولكم. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ {كهيعص} فَبَكَى النّجَاشِيّ وقَالَ والله: إنّ هَذَا وَاَلّذِي جَاءَ بِهِ موسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وقال لسفراء مكة: لن أعيدهم إليكم وسيقيمون هنا. وعندما خرج سفراء قرروا بعد أن تشاوروا أن يقولوا غدا للملك: إن هؤلاء لا يؤمنون بعيسى مثل إيمان النصارى به، بل يحطّون مكانته، فدعا الملك المسلمين مرة أخرى، وسألهم عن اعتقادهم بعيسى فقال له جعفر : الّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا : هُوَ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ. فَأَخَذَ النّجَاشِيّ عُودًا من الأرض، ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ مَا عَدَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. ثم قَالَ للمسلمين: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ بِأَرْضِي آمِنُونَ. فهكذا بحكمته وفراسته وعلمه توفَّر للمسلمين السكنُ الآمن هناك.
ومن الصحابة سيدنا مصعب بن عمير ، كانت والدته غنية جدا، وكان تربى في النعم ورغد العيش، كان يلبس أفخم لباس، وكان وسيما. يقول سيدنا سعد ابن أبي وقاص : لقد رأيت مصعبا في زمن الرغد وبعد إسلامه أيضا، فقد تحمل الأذى الكثير في سبيل الله، ورأيت الشاب الذي ترعرع في النعم جهِد في الإسلام جهدًا شديدًا، حتى قد رأيت جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية. ذات يوم طلع على النبي وما عليه إلا بردة مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله بكى للذي كان فيه من النعمة، والذي هو فيه اليوم. والصحابة أيضا حين رأوه في هذا الحال حنَوا رؤسهم، لأن كثيرين منهم كانوا قد رأوه قبل هذا في حالة النعم، والآن كانوا عاجزين عن مساعدته، فسلَّم وردَّ النبيُّ عليه بالحب القلبي، ثم قال تشجيعا له: هنيئا لأهل الدنيا دنياهم. لقد رأيت مصعبا في زمن لم يكن فيه أغنى منه في مكة، وكان الأحبَّ لوالديه، وكان يتوفر له كل نعمة عظيمة من الأكل والشرب، لكن حبه للنبي قد أدى به إلى هذا الحال، حيث ترك كل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فوهب الله وجهه نورا، كان مصعب يملك قدرة فائقة على نشر الدعوة، فكان يبلِّغ الدعوة بلطف ورفق. كان يقول للناس: إذا أعجبكم كلامي فاستمعوا لي وإن لم يعجبكم فانصرفوا. وهكذا قد بلَّغ رسالة الإسلام إلى سكان المدينة الذين كانوا أجانب له، وأسلم الكثيرون بدعوته.
ثم من الصحابة الأنصار سيدنا سعد بن الربيع، فحين أجرى النبي بعد الهجرة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، جعل عبد الرحمن بن عوف أخاه، فأخذه إلى بيته وأكرمه وقال له أودّ لتوطيد هذه العلاقة أن أقدِّم لك نصف عقاري، ثم قال له: عندي زوجتان فأيًّا منهما تريد يمكن أن أطلقها لتتزوج بها. فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله في مالك وعقارك وزوجتيك، أما أنا فرجل تاجر يمكن أن أكسب قوتي، أرجو أن تدلني على السوق وأنا ممتنّ لك. فبدأ التجارة وتدريجا صار من كبار التجار الأغنياء، حيث بلغ دخْله الملايين. وكان سعد بن الربيع قد شارك في غزوة أحد واستُشهد. يقول سيدنا أبي بن كعب إن النبي قال تحرَّوا عن سعد بن الربيع فكنت قد رأيته قد حاصره الأعداء، فخرجت أناديه فلما وصلت إليه وجدته ساقطا في مكان وقد أصيب بجروح بالغة. فقلت له: قد أرسلني النبي إليك، وهو يسأل عن حالك ويسلم عليك. فقال: فاذهبْ إليه فاقرئه مني السلام، وأخبرْه أني قد طُعنت بالرماح والسهام طعنات، ولا أرى أني سأعيش، وقل له: جزاك الله عني خير ما جزى نبيا عن أمته. وقل لقومي بعد إلقاء السلام: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف. أرسل هذه الرسالة ورحل من هذا العالم.
هناك صحابي آخر وهو سيدنا أسيد بن الحضير فكان قد أسلم بدعوة سيدنا مصعب بن عمير ، وعن مكانته الروحانية، رواية أنه كان يقول: لي ثلاثة أحوال إذا دام لي أحدها فإني أعدّ نفسي من أهل الجنة، أولها إني حين أقرأ القرآن أو أستمع إلى أحد يقرأ القرآن فالخشية التي تصيبني إذا دامت فأعدّ نفسي من أهل الجنة، والثاني أنه حين يُلقي النبي خطبة وأستمع إلى وعْظه باهتمام فالحالة التي تطرأ علي عندها إذا دامت فأعدّ نفسي من أهل الجنة، وثالثا إني عندما أصلي أي جنازة يخيَّل إلي كأنها جنازتي فأنا أحاسَب، وهذه الحالة إذا دامت فأعدّ نفسي من أهل الجنة.
باختصار، هذه علامة خشيته الكاملة من الله تعالى، وهذه الحالة تجعل الإنسان يخشى الله تعالى، ويسعى الإنسان للأعمال الصالحة ويذكره تعالى دوما وفي كل مناسبة. أما قوله: لو أني أكون كما أكون في حال من أحوال ثلاث لكنت من أهل الجنة، فطروء هذه الحالة عليه في كل مرة تُثبت أنه كان من أصحاب الجنة وممن ينالون رضى الله تعالى. ومن شِيَمه حبُّه الشديد للعبادة والصلاة، وكان إماما في مسجد حارته، وكان يأتي المسجد في أيام المرض أيضا، وفي بعض الأحيان حين كان صعبا عليه أن يصلي واقفا حينها أيضا كان يأتي المسجد ويصلي فيه جالسا لكي لا يفوته ثواب الصلاة بالجماعة. هذه كانت حالة هؤلاء وهكذا ضرب هؤلاء العابدون نماذجهم لنا. كان صائب الرأي وكان يعطي مشورة رائعة، كان أبو بكر يقول بعد رأي أسيد الآن لا يناسب الاختلاف. وجد زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتوفي في عهد عمر وأبدى نموذجا عمليا للطاعة، كان رئيس قبيلة الأوس وقال لقبيلته لو اختلفت قبيلة أخرى فلْيختلفوا فإننا لن نختلف ونبايع أبا بكر الصديق .
ثم هناك صحابي أنصاري هو أبي بن كعب ، كان عالما وعاملا وكان يصلي الصلوات الخمس مع النبي بالمواظبة، روى حديث الرسول عن الالتزام بالصلوات، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ يَوْمًا الصُّبْحَ فَقَالَ أَشَاهِدٌ فُلَانٌ قَالُوا لَا قَالَ أَشَاهِدٌ فُلَانٌ قَالُوا لَا، قَالَ إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ. (سنن أبي داوود، كتاب الصلاة) أكّد النبي هنا على صلاة الفجر والعشاء.
وهناك بعض مروياته التي تحلّ بعض القضايا. مرة سأل شخص أبي بن كعب: وَجَدْتُ سَوْطًا، فماذا أفعل به، فَقَالَ أبي: هذا سوط ولكنني وَجَدْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ولم يأت من يعرفها، فأَتَيْتُ النبي مرة أخرى، فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلًا آخر فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ وقلتُ: مضى حول آخر ولم يعرفه أحد، فَقَالَ النبي : عَرِّفْهَا حَوْلًا آخر وحين لم يأت أحد حتى بعد مضي حول ثالث سألتُ النبي للمرة الرابعة فَقَالَ: الآن يمكنك أن تسْتَمْتِع بِهَا. (سنن أبي داوود، كتاب اللقطة) هذه هي مستويات التقوى.
مرة قال أبي للرسول : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أريد أن أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ عند الدعاء فَقَالَ: مَا شِئْتَ. قَالَ قُلْتُ: الرُبُعَ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. فقُلْتُ النِّصْفَ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قَالَ: قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. ففرح أبي وقال مبديا أمنيةَ قلبه: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَـمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ وتُرفع درجاتك. كان أبي يحب القرآن الكريم أيضا حبا جـما ويتلوه بكثرة.
كانت أمانته قد بلغت الكمال، مرة بعثه رسول الله مصدقا إلى بعض القبائل المجاورة للمدينة كقبيلة بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَجَمِيعِ بَنِي سَعْدٍ، قَالَ أبي: فَصَدَّقْتُهُمْ حَتَّى مَرَرْتُ بِآخِرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ عند العودة إلى المدينة وَكَانَ مَنْزِلُهُ وَبَلَدُهُ مِنْ أَقْرَبِ مَنَازِلِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ بِالْمَدِينَةِ قَالَ فَلَمَّا جَمَعَ إِلَيَّ مَالَهُ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ فِيهَا إِلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ يَعْنِي (كان يملك جمالا تترتب عليها زكاة ناقة بعمر سنة واحدة) فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهَا صَدَقَتُهُ قَالَ فَقَالَ ذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ فماذا تفعله؟ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ سَمِينَةٌ فَخُذْهَا، قَالَ أبي بن كعب : فَقُلْتُ لَهُ إنني أمين وأتيتُ لآخذ الأمانة فمَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لَمْ أُومَرْ بِهِ، وفي طرف آخر كان هذا الرجل المخلص الذي كان يُصر على إعطاء ناقة فتية، فقال أبي : فَهَذَا رَسُولُ اللهِ مِنْكَ قَرِيبٌ فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ فَافْعَلْ قَالَ فَإِنِّي فَاعِلٌ، فقَدِم هذا الصحابي أيضا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقص القصة كلها وقَالَ: الرجاء قبول هذه الناقة الفتية، ففرح رسول الله بتضحيته وقال: إِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ قَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَآجَرَكَ اللهُ فِيهِ. (مسند أحمد، كتاب مسند الأنصار ) كان أبي رجلا عالما كبيرا يعرف القرآن الكريم جيدا وكان مجلسه حافلا بالأمور العلمية، باختصار كان مقامه عاليا جدا.
إن فيض هؤلاء الصحابة مستمر اليوم أيضا وإننا نستفيد من أقوالهم. يقول المسيح الموعود : ماذا كان عند النبي ليجعل الصحابة يبدون صدقا وإخلاصا إلى هذا الحد؟ لم يُعرضوا عن عبادة الأوثان وعبادة الخلق فحسب بل الحق أن طلب الدنيا قد سُلب من بواطنهم تماما وبدأوا يرون الله تعالى. كانوا فداء في سبيل الله بكل حماس وكأن كل واحد منهم كان إبراهيم. لقد قاموا بكل إخلاص لإظهار جلال الله تعالى بأعمال لا نظير لها قط. وقبلوا أن يُذبحوا في سبيل الله بكل سرور. بل بعضهم الذين لم يحظوا بمرتبة الشهادة فورا خطر ببالهم وكأن في صدقهم نقصا كما أشير في الآية: مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، أي منهم من نالوا مرتبة الشهادة ومنهم من ينتظرونها بفارغ الصبر. يجب الانتباه جيدا، ألم ترافقهم الحوائج مثل بقية الناس؟ ألم يكن لديهم أولاد يحبونهم، أو علاقات أخرى؟ ولكن هذا الجذب قد جعلهم نشوانين فقدّموا الدين على كل شيء.”
ثم قال : إن نصرة النبي التي قام بها المؤمنون من قريش المقيمون في مكة ولم يشاركهم فيها أيّ شخص من قوم آخرين إلا ما شذ وندر، كانت بقوة الإيمان والمعرفة، إذ لم يُخرَج من الغِمد سيف، ولم تُحملْ في اليد سنانٌ، بل كانت المواجهة الظاهرية ممنوعة بتاتا. بل كان الصحابة يُظهرون للناس أسلحة لامعة من قوة الإيمان ونور المعرفة، وكانوا يُرُونهم قوة تلك الأسلحة المتمثلة في الصبر والاستقامة والحب والإخلاص والوفاء والمعارف الإلهية والحقائق السَّنِيَّة الدينية التي كانوا يملكونها. كانوا يسمعون الشتائم ويُخوَّفون بتهديدات على حياتهم، وكانوا يواجهون ألوان الذلة والهوان، ولكنهم كانوا نشوانين في الحب بحيث لم يُبالوا بشيء، وما خافوا بلاء. ماذا كان النبي عندها يملك شيئا من الناحية الدنيوية حتى يخاطروا طمعًا فيه بحياتهم وأعراضهم ويقطعوا علاقاتهم القديمة والنافعة مع قومهم.كلا، بل كان النبي يمر بفترة من الضيق والعسر والشدة، ولم تكن هناك أية قرائن أو أمارات لعقد الآمال عليه في المستقبل أيضا. لقد تمسكوا بذيل ذلك الفقير الدرويش – الذي كان مَلِكا عظيما في الحقيقة – بوفاء وبقلوب مفعمة بالحب والعشق في زمن كان يبدو في الظاهر أن ذلك الرجل المصلح سيقضى عليه في أيام معدودة، دعْ عنك أن يؤمَل في نجاحه في المستقبل. إن علاقة الوفاء هذه كانت نتيجة قوة الإيمان فقط التي جعلتهم نَشْوتُه ينهضون للتضحية بنفوسهم كما ينهض العطشان إلى عينِ الماء الزلال عفويا. (إزالة الأوهام)
ويقول حضرته عليه السلام في كتابه “سِرُّ الخلافة” ما نصه:
“اعلموا، رحمكم الله، أن الصحابة كلهم كانوا كجوارح رسول الله وفخر نوع الإنسان، فبعضهم كانوا كالعيون وبعضهم كانوا كالآذان، وبعضهم كالأيدي وبعضهم كالأرجل من رسول الرحمن، وكل ما عملوا من عمل أو جاهدوا من جهد فكانت كلها صادرة بهذه المناسبات، وكانوا يبغون بها مرضاة رب الكائنات رب العالمين.”
وفَّقَنا الله تعالى للاقتداء بهذه النجوم المتلألئة، وجعلنا ممن يحبون الله ورسوله، وجعل كل عمل من أعمالنا خالصًا لابتغاء مرضاته تعالى. آمين.
بعد الصلاة سوف أصلي جنازة غائب، على السيدة عريشة ديفن ثولر زوجة السيد فهيم ديفن ثولر المحترم من هولندا. كانت مقيمة حاليا في دولة بنين. في 11 ديسمبر توفيت إلى رحمة الله عن عمر يناهز 62 عاما في بنين إثر سكتةٍ قلبيةٍ مفاجئة. إنا لله إنا إليه راجعون. كانت تعمل في أحد البنوك بعد إكمال دراستها. وتزوجت من الأحمدي الهولندي السيد فهيم ديفن ثولر المحترم عام 2002 بمباركة من حضرة الخليفة الرابع رحمه الله. وكانت عندها غير مسلمة، لكنها كانت مائلة إلى الأحمدية. بعد الزواج صامت شهر رمضان من أجل التجربة. يقول زوجها السيد فهيم الهولندي الأصل: بينما كنا نتحدث فيما بيننا ذات يوم خلال تلك الفترة أخذت بالبكاء، فقلت في نفسي لعلي قلت لها قولا قاسيا، لكنها أخبرتني فيما بعد وقالت كنتُ أقارن بين نفسي وبين الأحمدية، وأدركتُ أن بيني وبين الأحمدية فرقًا كبيرا ولن أستطيع أن أكون مسلمة أحمدية أبدا، والإحساس بهذا الحرمان هو الذي أبكاني.
ذهبت مع زوجها السيد فهيم المحترم في جولة إلى غامبيا، ورأت هنالك إنجازات الجماعة، فأعجبت بها جدا، فأعطاها زوجها استمارة البيعة، فقرأت شروط البيعة المسجلة فيها، فقالت في أول أمرها لا أستطيع التوقيع عليها، لكن بعد قراءة الشروط بأيام ملأت الاستمارة، وذلك في 18 مارس عام 2006، وأرسلتْها لي في رسالة.
كانت تحب الخلافة حبًا شديدا، وكانت تساعد زوجها في أعمال الجماعة. كان زوجها سكرتير الإعلام في جماعتنا بهولندا، فكانت تساعده في أعمال الترجمة. ولما دُعيت إلى الانخراط في نظام الوصية وعلمتْ بخطبتي التي دعوت فيها إلى الوصية، قامت بالوصية سريعا. في عام 2009 قامت المرحومة بوقف حياتها في سبيل الله، وذهبت مع زوجها إلى دولة بنين بأفريقيا الغربية للإشراف على دار الأيتام التي أقامتها الجماعة هنالك بواسطة منظمة “الإنسانية أولاً”. كان قرارا عاطفيا في ظاهر الأمر، إذ كانت المرحومة تعمل في أحد البنوك في وظيفة مرموقة، فتركتها وذهبت. يقول الداعية المسؤول في هولندا: لقد سعيت أن أنصح المرحومة لإعدادها نفسيًا للعمل هناك وقلت لها إن الظروف في أفريقيا لست سهلة. فقالت: حضرة الداعية، لا تخبرني بهذه الأمور، فإني قد أخذت هذا القرار بعد تفكير رصين. ونصَحها أقاربها الذين ظنوا أنها ذهبت هنالك للعمل في إحدى الشركات وقالوا لقد ذهبتِ للعمل في أفريقيا، والشركات هنالك تصاب بالكساد والإفلاس التام، ففكّري جيدا مخافة ألا يبقى لك مستقبل هنا ولا هناك. كان إيمانها عظيما فردّت على أقاربها المسيحيين هؤلاء قائلة: لا حاجة بكم للخوف علي، فإن هذه الجماعة ليست كشركة تصاب بالكساد والإفلاس، ومن المحال أن يصيبها الكساد، أما أنا فلو متُّ هناك فأود أن أدفن في بيت الأيتام ذلك. كانت المرحومة قد ترعرعت في المجتمع الأوروبي وكانت عندها وظيفة مرموقة في البنك، ومع ذلك وفّت بعهد وقف الحياة على أحسن وجه في بلد أفريقي وفي ظروف صعبة، وقامت بواجبها خير قيام.
كانت مداومة على الصلوات. منذ أن انضمت إلى الأحمدية صارت مواظبة على الصلوات الخمس وصلاة التهجد. لم تترك الصلاة قط، بل كانت تنصح الآخرين بأداء الصلاة في ميقاتها.
كانت تستمع لخطبي للجمعة بإنصات وبدون انقطاع، وكانت تسعى جاهدة للعمل بكل ما فيها من نصائح وتعليمات. ومما يدل على عظيم حبها للإسلام والأحمدية أنها حين كانت ترى بعض الأحمديين يقصرون في العمل بتعاليم الإسلام كانت تحزن حزنا شديدا بأن هؤلاء مسلمون أحمديون ومع ذلك لماذا لا يلتزمون بأحكام الإسلام كما ينبغي.
كانت تتلو القرآن الكريم يوميا بدون انقطاع، ساعيةً لمعرفة معاني كلماته وتفسيرها.
لم يكن عندها أولاد، فعدّتْ الأولاد اليتامى المقيمين في بيت الأيتام الذي كانت تشرف عليه أولادًا لها. يقول السيد أحمد يحيى أحد المسؤولين في “الإنسانية أولا”: أتيحت لي الفرصة لزيارة “دار الإكرام” وهو بيت الأيتام التي كانت تشرف عليه المرحومة تحت منظمة “الإنسانية أولا”، وكانت أعمار هؤلاء الأيتام ما بين شهرين إلى 12 سنة. ومع وجود طاقم العاملين في بيت الأيتام إلا أني رأيت في حضن المرحومة يتيمة عمرها شهران كل حين. كلما تدهورت صحة ولدٍ كانت تصاب بقلق شديد، واعتنت بغذائه ودوائه بحرص شديد. وإذا رأت في التقرير الدراسي لأحد من الأيتام ما يبعث على القلق فكانت تحرص حرصا شديدا على تطوير مستواه العلمي بشتى الطرق. كلما سألتها عن حاجة من حاجاتها الشخصية أجابت: إننا واقفون، ونشكر الله تعالى أنه وفّقنا لذلك وأتاح لنا الفرصة لخدمة هؤلاء الأطفال الأيتام، ونحن مسرورون بذلك، فلا تقلق علينا. لكن إذا كان هناك أمر يخص إصلاح بيت الأيتام فكانت تنبهنا إلى ذلك فورا.
ويقول الدكتور أطهر زبير المحترم، رئيس فرع منظمة الإنسانية أولا بألمانيا: أخبرني زوج المرحومة السيد فهيم: كانت زوجتي مشغوفة بلعب “اليانصيب”- علمًا أن في أوروبا رواجا كبيرا لليانصيب- ولما أُخبرتْ أن الإسلام ينهى عن ذلك، امتنعت عنه فورا، والمال الذي كانت تنفقه في لعب “اليانصيب” بدأت تتبرع به أسبوعيا في صندوق بناء المساجد.
ويتابع الدكتور أطهر زبير الذي كان يرافقني في جولاتي في ألمانيا، كلما قابلتُ المرحومة سألتني عن جولات الخليفة وكانت تصبح عاطفية جدا بسماع مختلف الأحداث والواقعات.
كانت مضيافة، تقابل الناس في بنين بحب واحترام كبيرين، ومن أجل ذلك كان أهل الحي الذي كانت تقيم فيه في بنين ينادونها “ماما”، وكانوا يستشيرونها في أمورهم الشخصية.
ويقول أمير جماعتنا في بنين: كانت حريصة على أداء تبرعاتها، وكانت مدوامة على دفعها. وقالت لداعيتنا في منطقة بورتونو ذات مرة: عليكم أن تأتوا لاستلام تبرعاتي في ميعادها. كانت تسدد تبرع الوصية في أقرب فرصة.
عندما دعوت للتبرع لتجديد بناء مجمع بيت الفتوح مؤخرا لبّت ندائي مسرورة، وكانت تجمع المعلومات عن التبرعات.
يتابع الأمير ويقول: كانت تعمل في بيت الأيتام الأحمدي “دار الإكرام” بمنتهى التفاني والإخلاص. كانت تذهب وتأتي فيه محتضنة الأيتام، وتعتني بهم عناية كبيرة. أرى أن الأولاد في “دار الإكرام” قد أصبحوا الآن أيتامًا بوفاتها.
رفع الله درجات المرحومة، وتغمدها بواسع رحمته ومغفرته، ووهب للجماعة دائما المزيد من الواقفين الأوفياء مثلها، الذين يدركون روح الوقف في سبيل الله تعالى، آمين.