خطبة الجمعة
التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 18/12/2020م
في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يوْم الدِّين * إيَّاكَ نعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.
كنت في الخطبة الماضية أتحدث عنْ حضرة علي t، فقد ورد ذكر خدمته t للنبيّ r في مرضه الأخير في رواية صحيح البخاري على النحو التالي:
عن عُبَيْد اللهِ بْن عَبْدِ اللهِ قال: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ r فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَرْضَ، وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ. (كان في بيت عائشة وخرج منه إلى المسجد مستندا على كتفي رجلين) فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ فَذَكَرْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقَالَ لِي وَهَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لا. قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. (صحيح البخاري، كتاب الأذان)
وقال عَبْد اللهِ بْن عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ t خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ r فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ r، فَقَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ وَاللهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا وَإِنِّي وَاللهِ لَأَرَى رَسُولَ اللهِ r سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ r فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ، يعني الخلافة، إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا فَقَالَ عَلِيٌّ t: إِنَّا وَاللهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللهِ r فَمَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ وَإِنِّي وَاللهِ لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللهِ r. (صحيح البخاري كتاب المغازي)
هنا ورد في صحيح البخاري “أَنْتَ وَاللهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا”، وكتب عليه سيد ولي الله شاه t ملحوظة في شرحه لصحيح البخاري: “عَبْدُ الْعَصَا هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّنْ يَصِيرُ تَابِعًا لِغَيْرِه وَالْمَعْنى أَنَّ النبي r سيَمُوْتُ بَعْدَ ثَلَاثة أيام. (فتح الباري)
عَنْ عَامِرٍ قَالَ غَسَّلَ رَسُولَ اللهِ r عَلِيٌّ وَالْفَضْلُ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَهُمْ أَدْخَلُوهُ قَبْرَهُ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْحَبٌ أَوْ أَبُو مَرْحَبٍ أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا مَعَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ. (سنن أبي داؤد، كتاب الجنائز)
وردت روايات متعددة عن بيعة علي t لأبي بكر t فقال البعض أن عليا t بايع أبا بكر فورا عن كامل الرضى وقال البعض الآخر عكس ذلك.
قال أبو سعيد الخدري t: بايع المهاجرون والأنصار أبا بكر t فصعد المنبر ونظر في وجوه القوم، فلم يجد علي بن أبي طالب وسأل عنه فذهب بعض الأنصار وجاؤوا به فقال له أبو بكر: يا ابن عم رسول الله r، وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال علي: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله r، فقام علي، فبايع أبا بكر. (المستدرك)
وورد في تاريخ الطبري عن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ فِي بَيْتِهِ إِذْ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ لِلْبَيْعَةِ، فَخَرَجَ فِي قَمِيصٍ مَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلا رِدَاءٌ، عَجِلا، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِئَ عَنْهَا، حَتَّى بَايَعَهُ ثُمَّ جَلَسَ إِلَيْهِ وَبَعَثَ إِلَى ثَوْبِهِ فَأَتَاهُ فَتَجَلَّلَهُ، وَلَزِمَ مَجْلِسَهُ. (تاريخ الطبري)
وقال العلامة ابن كثير بأن علي بن طالب t بايع أبا بكر t بعد يوم أو يومين من وفاة النبي r وهذا هو الحق لأن عليا لم يترك أبا بكر t قط ولم يتخلف عن أداء الصلاة خلف أبي بكر t.
قال المسيح الموعود u عن حضرة علي t: “ثبت أن عليا t في أول الأمر تخلف عن بيعة أبي بكر t ثم لا نعرف ما الذي خطر بباله عند الوصول إلى البيت فحضر فورا للبيعة حتى لم يربط العمامة وعلى رأسه الطربوش فقط، وطلب إحضار العمامة لاحقا، ويبدو أنه قد استقر بباله أنه معصية كبيرة، ولذلك أسرع دون أن يلفّ العمامة. أي حضر بسرعة حتى لم يلبس ملابسه كاملة. (الملفوظات ج10)
ثم هناك روايات أخرى تقول بأن عليا t بايع أبا بكر t بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها كما ورد في صحيح البخاري أن عليا t لم يبايع حتى توفيت فاطمة رضي الله عنها وقد انتقد كثير من العلماء رواية صحيح البخاري هذه، كما قال البيهقي في السنن الكبرى، فقد نقل رواية شهاب الدين الزهري التي قال فيها أن عليا t لم يبايع أبا بكر t حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها، ثم كتب:
“وقول الزهري في قعود علي t عن بيعة أبي بكر t حتى توفيت فاطمة رضي الله عنها منقطع، وحديث أبي سعيد الخدري t في مبايعته إياه حين بويع بيعة العامة بعد السقيفة أصح. (السنن الكبرى للبيهقي)
وبعض العلماء طابقوا القولَين قائلين بأن البيعة التي ورد ذكرها في صحيح البخاري هي كانت تجديد البيعة، لعل هؤلاء العلماء ظنوا أنه بما أن الرواية وردت في كتاب مثل صحيح البخاري فلا بد أن يكون لها من صحة لذا سموا بيعة علي t هذه بيعة ثانية. على أية حال ليس ضروريا أن تكون جميع روايات صحيح البخاري صحيحة.
كتب الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه “سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شخصيته وأثره”: ويرى ابن كثير ومجموعة من أهل العلم أن عليا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها. قال العلامة ابن كثير أنه حين توفيت فاطمة رأى عليٌّ أنه من المناسب أن يجدد بيعته لأبي بكر t. (علي بن طالب شخصيته وعصره ص 127)
قال المسيح الموعود u في كتابه العربي “سر الخلافة”:
“ولو فرضنا أن الصدّيق الأكبر كان من الذين آثروا الدنيا وزخرفها، (يتحدث حضرته عن الذين يتهمون أبا بكر t ويرون أن عليا يجب أن يكون الخليفة بلا فصل. فقال موضحا: ولو فرضنا أن الصدّيق الأكبر كان من الذين آثروا الدنيا وزخرفها،) ورضوا بها وكان من الغاصبين، فنضطر حينئذ إلى أن نقرّ أنّ عليًّا أسد الله أيضا كان من المنافقين، (والعياذ بالله) وما كان كما نخاله من المتبتلين؛ بل كان يكبّ على الدنيا ويطلب زينتها، وكان في زخارفها من الراغبين. ولأجل ذلك ما فارق الكافرين المرتدين، بل دخل فيهم كالمداهنين، واختار التقيّة إلى مدة قريبة من ثلاثين. ثم لما كان الصدّيق الأكبر كافرا أو غاصبًا في أعين عليّ المرتضى رضي الله تعالى عنه وأرضى، فلِمَ رضي بأن يُبايعه؟ ولِمَ ما هاجر من أرض الظلم والفتنة والارتداد إلى بلاد أخرى؟ ألم تكن أرض الله واسعة فيهاجر فيها كما هي سُنّة ذوي التقى؟ انظر إلى إبراهيم الذي وفّى، كيف كان في شهادة الحق شديد القوى، فلما رأى أن أباه ضلّ وغوى، ورأى القوم أنهم يعبدون الأصنام ويتركون الرب الأعلى، أعرض عنهم وما خاف وما بالى، وأُدخِل في النار وأوذي من الأشرار، فما اختار التقيّة خوفا من الأشرار. فهذا هي سيرة الأبرار، لا يخافون السيوف ولا السنان، ويحسبون التقية من كبائر الإثم والفواحش والعدوان، وإن صدرت شمّةٌ منها كمثل ذلّة فيرجعون إلى الله مستغفرين.
ونعجب من علي t كيف بايع الصدّيقَ والفاروق، مع علمه بأنهما قد كفرا وأضاعا الحقوق، ولبث فيهما عمرًا واتّبعهما إخلاصا وعقيدة، وما لغِب وما وهَن وما أرى كراهة، وما اضمحلّت الداعية، وما منعته التقاة الإيمانية، مع أنه كان مطّلعا على فسادهم وكفرهم وارتدادهم، وما كان بينه وبين أقوام العرب بابا مسدودًا وحجابا ممدودًا وما كان من المسجونين. وكان واجبا عليه أن يُهاجر إلى بعض أطراف العرب والشرق والغرب ويحث الناس على القتال ويهيج الأعراب للنضال، ويُسخرهم بفصاحة المقال ثم يقاتل قوما مرتدين.
وقد اجتمع على المسيلمة الكذاب زهاء مائة ألف من الأعراب، وكان عليٌّ أحقّ بهذه النصرة، وأَولى لهذه الهمة، فلِمَ اتّبع الكافرين، ووالى وقعد كالكسالى وما قام كالمجاهدين؟ فأيّ أمر منعه من هذا الخروج مع أمارات الإقبال والعروج؟ ولِمَ ما نهض للحرب والبأس وتأييد الحق ودعوة الناس؟ ألم يكن أفصح القوم وأبلغهم في العظات ومن الذين ينفخون الروح في الملفوظات؟ فما كان جمع الناس عنده إلا فعل ساعة، بل أقلَّ منها لقوة بلاغة وبراعة، وتأثير جاذب للسامعين. ولما جمَعَ الناسَ الكاذبُ الدجالُ فكيف أسدُ الله الذي كان مؤيِّده الرب الفعّال، وكان محبوبَ رب العالمين.
ثم من أعجب العجائب وأظهر الغرائب أنه ما اكتفى عليٌّ أن يكون من المبايعين، بل صلّى خلف الشيخَين كل صلاة، وما تخلف في وقت من أوقات، وما أعرض كالشاكين. ودخل في شوراهم وصدّق دعواهم، وأعانهم في كل أمر بجهد همته وسعة طاقته، وما كان من المتخلفين. فانظر .. أهذا من علامات الملهوفين المكفرين؟ وانظر كيف اتبع الكاذبين مع علمه بالكذب والافتراء كأن الصدق والكذب كان عنده كالسواء. ألم يعلم أن الذين يتوكلون على قدير ذي القدرة لا يؤثرون طريق المداهنة طرفة عين ولو بالكراهة، ولا يتركون الصدق ولو أحرقهم الصدق وألقاهم إلى التهلكة وجعلهم عِضِين؟ (سِرّ الخلافة)
إذًا، فقد بين المسيح الموعود u أن عليّا t لم يعارض الخلفاء الذين سبقوه بل بايعهم، وإلا ما تقولونه عن عليّ t أنه لم يبايع أبا بكر t فهذا يحط من شأنه ولا يرفعه.
أما الخدمات التي أسداها عليّ t في عهد الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، فقد ورد بهذا الشأن: …أنَّ رَسُولَ اللَّهِ r لَمَّا توفِّي ارتدَّت أَحْيَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَنَجَمَ النِّفاق بِالْمَدِينَةِ وَانْحَازَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الكذَّاب بَنُو حَنِيفَةَ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْيَمَامَةِ، وَالْتَفَّتْ عَلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ بَنُو أسد وطيء، وَبَشَرٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وادَّعى النُّبُّوة أَيْضًا كَمَا ادَّعاها مُسَيْلِمَةُ الكذَّاب، وَعَظُمَ الْخَطْبُ واشتدَّتِ الْحَالُ، وَنَفَّذَ الصِّدِّيقُ جَيْشَ أُسَامَةَ، فقلَّ الْجُنْدُ عِنْدَ الصِّديق، فَطَمِعَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي الْمَدِينَةِ وَرَامُوا أَنْ يَهْجُمُوا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ الصِّديق عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ حُرَّاسًا يَبِيتُونَ بِالْجُيُوشِ حَوْلَهَا، فَمِنْ أُمَرَاءِ الْحَرَسِ عليٌّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وطلحة بن عبد اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وقَّاص، وَعَبْدُ الرَّحمن بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ.
أي كان عليّ t عندئذ من أمراء الحرس الذين عُيِّنوا لحماية المدينة. عندما انتشر خبر وفاة رسول الله r بدأت قبائل كثيرة من العرب تتردد في أداء الزكاة، فعزم سيدنا أبو بكر t محاربتهم. فعن عروة قال: خرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار حتى بلغ نقعًا حذاء نجد، وهربت الأعراب بذراريهم. (الحق أنهم كانوا من ناحية يدّعون كونهم مسلمين، ومن ناحية أخرى رفضوا أداء الزكاة أيضا، لذا حاربهم أبو بكر t ولم يعاقبوا لارتدادهم) فكلّم الناس أبا بكر، وقالوا: ارجع إلى المدينة وإلى الذرية والنساء، وأَمّر رجلاً على الجيش، ولم يزالوا به حتى رجع، وأَمّر خالد بن الوليد، وقال له: إذا أسلموا وأعطوا الصدقة، فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع، ورجع أبو بكر إلى المدينة.
يقول سيدنا المصلح الموعود t ما معناه: ثابت من التاريخ أن سيدنا عمر أمّر عليا رضي الله عنهما خلفه على المدينة عند بعض أسفاره في عهد خلافته. فقد جاء في تاريخ الطبري أنه عندما منُي المسلمون بنوع من الهزيمة في واقعة “الجسر” مقابل جيوش الفرس، استشار عمر t الناسَ أن يلتحق بنفسه بجيش المسلمين في تخوم إيران، وعيّن عليا t حاكما على المدينة في غيابه.
يقول أيضا سيدنا المصلح الموعود t أن أكبر هزيمة مُني بها المسلمون كانت في واقعة الجسر. ذهب جيش قوي للمسلمين لمواجهة الفرس، فاتخذ قائد جيش الفرس قلاعا بجانب آخر من النهر وانتظر جيش المسلمين. تقدم جيش المسلمين وهاجم العدو بحماس شديد وظل يتقدم ويدفع جيش الفرس إلى الوراء، ولكن تقهقر جيش الفرس كان خطة مدروسة من قائدهم. فأرسل كتيبة من جانب آخر واستولى على الجسر، ثم هاجم المسلمين. تأخر المسلمون قليلا على سبيل حكمة حربية ولكنهم وجدوا العدو مسيطرا على الجسر، فذهبوا إلى جانب آخر مذعورين. عندها شن عليهم العدو هجوما شديدا فاضطر عدد كبير من المسلمين إلى القفز في النهر وهلكوا. كانت خسارة المسلمين هذه كبيرة لدرجة اهتزت منها حتى أرجاء المدينة. فجمع عمر t أهلها وقال لهم: لا حاجز الآن بين المدينة وإيران، إذ قد صارت المدينة عارية ويمكن أن يصل العدو إلى هنا في غضون بضعة أيام، لذا أريد أن أذهب بنفسي إلى هناك كقائد الجيش. أُعجب الناس بهذا الاقتراح ولكن عليّا t قال ما مفاده: لو قُتِلتَ هنالك، لا سمح الله، لتفرّق المسلمون شذرا مذرا وتشتتوا، لذا يجب ألاّ تذهب بل ترسل غيرك. فكتب عمر t إلى سعد- الذي كان حينذاك يحارب الروم في الشام- أن يرسل من الجيش قدر الإمكان لأن المدينة صارت عارية تماما، وإن لم يوضع حدٌّ للعدو فورا لسيطر عليها.
عندما وقعت الفتن في عهد عثمان قدَّم له عليّ رضي الله عنهما اقتراحات مفيدة لدرئها. ذات مرة سأله عثمان t: ما هو السبب الحقيقي وراء الفتن والاضطرابات في البلاد وما السبيل إلى إزالتها؟ فقال عليّ بكل إخلاص وشفافية أن الاضطراب الحالي كله مآله سوء تصرفات عُمّالك. قال عثمان رضي الله عنه قد اخترت عُمّالي على الخصال والصفات نفسها التي كان عمر رضي الله عنه يختار عمّاله عليها، فلا أدري سبب تذمر عامة الناس منهم؟ فقال علي رضي الله عنه: هذا صحيح، ولكن عمر رضي الله عنه كان قد ترك حسم الأمور نهائيا في يده هو، وكان صارما شديد البطش يجعل أشرس بعير في العرب يولول، أي كان شديدا في محاسبة وبطش عماله، أما أنت فإنك حليم أكثر من اللازم، ويستغلّ عمالك حلمك ويفعلون ما يحلو لهم بدون أن تعلم ذلك أنت، وتظن الرعايا أن العمال يعملون كل ذلك بأمر من الخليفة، وهكذا تصبح هدفا لتصرفات عمالك الخاطئة.
لما حاصر المصريون بيت عثمان t ومنعوه الطعام والماء، علم علي رضي الله عنه ذلك، فأتاهم وقال لهم إن هذا الحصار لا يتنافى مع الإسلام فحسب، بل مع الإنسانية أيضا، فحتى الكافرين لم يكونوا يمنعون أسراهم من الطعام والشراب. ما الذي فعل بكم هذا (أي عثمان t) حتى تعاملوه بهذه القسوة. لكن المحاصرين لم يبالوا بشفاعة علي رضي الله عنه ورفضوا تخفيف الحصار رفضا باتا. فرمى علي رضي الله عنه عمامته غاضبا وذهب.
حاصر الناس عثمان t في بيته ومنعوه الماء، فأشرف على الناس وقال: أفيكمْ عليّ؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم سعدٌ؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يبلّغ عليًّا فيسقينا ماء؟
فبلغ ذلك عليًّا، فبعث إلى بيت عثمان t بثلاث قرب مملوءة ماءً، فما كادت تصل إليه بسبب المتمردين، وجُرح بسببها عدةٌ مِن موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه.
ولما بلغ عليًّا أن عثمان t يراد قتله، قال لابنيه الحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تَدَعا أحدًا يصل إليه. فلما رأى الثوار ذلك رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي ومحمد بن طلحة بالدماء. فتسور محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار سرًا حتى دخلوا على عثمان وقتلوه. ولما بلغ الخبر عليًّا رضي الله عنه جاء ورأى أن عثمان رضي الله عنه قد استشهد فعلا، فقال لابنيه: كيف قُتل عثمان وأنتما على الباب؟ ثم لطم الحسنَ وضرب صدرَ الحسين وشتمَ محمدَ بن طلحة وعبدَ الله بن الزبير، وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله.
عن شداد بن أوس قال: لما اشتدّ الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس (يوم الدار هو اليوم الذي حاصر فيه الثوار عثمان رضي الله عنه في بيته وقتلوه بمنتهى الوحشية) فقال: يا عباد الله. قال: فرأيت عليَّ بن أبي طالب خارجا من منزله معتمًّا بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه، أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، حتى حملوا على المتمردين وفرّقوهم. ثم دخلوا على عثمان رضي الله عنه، فقال له عليّ: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقْبِل المدْبِرَ، (أي لم يتيسر له عز الدين وقوته إلا بعد أن حارب الكافرين المحاربين بمساعدة المؤمنين) وإني والله لا أرى القوم إلا قاتليك، فمُرْنا فلنقاتلْ. فقال عثمان: أُنشِدُ اللهَ رجلاً رأى اللهَ حقًّا وأقرَّ أن لي عليه حقًّا أن يهريقَ في سبيلي مِلْءَ مِحْجَمةٍ مِن دمٍ، أو يهريقَ دمَه فيَّ. فأعاد عليٌّ رضي الله عنه عليه القولَ، فأجابه بمثل ما أجابه من قبل. قال: فرأيت عليًّا رضي الله عنه خارجا من باب دار عثمان وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا بذلنا المجهود. ثم دخل المسجدَ وحضرت الصلاةُ، فقالوا له: يا أبا الحسن تَقدَّمْ فصَلِّ بالناس. فقال رضي الله عنه: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي. فصلّى وحده وانصرف إلى منزله. فلحقه ابنه وقال: والله يا أبتِ قد اقتحموا عليه الدار. قال علي رضي الله عنه: إنا لله وإنا إليه راجعون، هم واللهِ قاتلوه. قالوا لعلي: أين هو (أي عثمان رضي الله عنه) يا أبا الحسن؟ قال: في الجنة واللهِ. قالوا: وأين هم (أي قاتِلوه) يا أبا الحسن؟ قال: في النار والله، ثلاثًا.
قال حضرة المصلح الموعود وهو يسرد أحداث محاصرة المتمردين للمدينة: أتى المصريون عليًّا رضي الله عنه وهو يقود عسكرًا خارج المدينة متقلدًا السيف لقمع الفتنة، فقالوا له إن عثمان لم يعد جديرا بالخلافة بسبب عدم قدرته على إدارة الأمور والفوضى السائدة، فجئنا لعزله ونرجوك أن تقبل هذا المنصب. فصاح بهم وطردهم بشدة نتيجة غيرته الدينية، الأمر الذي كان يليق تماما بمكانته، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب (وهما المكانان اللذان كان الثوار محتشدين فيهما) ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فارجِعوا لا صبّحكم الله. قالوا: نعم! وانصرفوا من عنده على ذلك.
لقد سبق أن ذكرت في إحدى خطبي واقعة استشهاد عثمان وبيعة علي رضي الله عنهما ذكرا مفصلا، وسوف أذكرها الآن أيضا بإيجاز. لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه جَاءَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَى عَلِيّ رضي الله عنه يُهْرَعُونَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ. حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ دَارَهُ، فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ فَمُدَّ يَدَكَ، فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ ذَاكَ إِلَيُكْم، وَإِنَّمَا ذَاكَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَمَنْ رَضِيَ بِهِ أَهْلُ بَدْرٍ فَهُوَ خَلِيفَةٌ. فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا أَتَى عَلِيًّا، فَقَالُوا: مَا نَرَى أَحَدًا أَحَقَّ بِهَا مِنْكَ، فَمُدَّ يَدَكَ نُبَايِعْكَ. فَقَالَ: أَيْنَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ؟ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ طَلْحَةُ بِلِسَانِهِ، وَسَعْدٌ بِيَدِهِ. فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ رضي الله عنه ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ إِلَيْهِ فَبَايَعَهُ طَلْحَةُ، وَبَايَعَهُ الزُّبَيْرُ وَسائر الصحابة.
قال حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه متحدثا عن أحداث ما بعد استشهاد سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه: نهب الثوار المفسدون بيت المال بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه وأعلنوا أن الخارج لمحاربتنا سيُقتَل. كانوا لا يسمحون للناس بالاجتماع في مكان -كما يحظر اجتماع الناس في هذه الأيام- وفرضوا على المدينة حصارا مطبقا، فلم يسمحوا لأحد بالخروج من بيته – ذلك كما يفرض حظر التجوال في هذه الأيام- حتى منعوا أيضا عليّا رضي الله عنه الذي كانوا يدّعون حبَّه من الخروج من بيته، ونهبوا المدينة نهبًا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بلغت قلوبهم أنهم لم يتركوا عثمان رضي الله عنه الذي قد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، أقول: لم يتركوه بعد قتله أيضا، ولم يسمحوا بدفنه إلى ثلاثة أو أربعة أيام، حتى دفنه بعض الصحابة سرًّا في جوف الليل.
واستُشهد مع عثمان رضي الله عنه بعض عبيده أيضا، ولم يسمح المفسدون بدفنهم أيضا بل رموا بجثثهم للكلاب. بعد هذه المعاملة الشنيعة مع عثمان والعبيد y ترك المفسدون حبل أهل المدينة على غاربهم، إذ لم يكونوا يكنون لأهلها أية عداوة، فبدأ الصحابة يهجرونها. مضت خمسة أيام وليس على المدينة حاكم. كان المفسدون يسعون لينصبوا خليفةً بحسب رغبتهم ويستغلوه كما يحلو لهم. ولكن لم يحتمل أحد من الصحابة أن يكون الخليفة من اختيار الذين قتلوا عثمان t. لقد أكثر المفسدون في هذه الأيام من زياراتهم لعلي وطلحة والزبير y وحاولوا إقناعهم لتولي الخلافة ولكنهم رفضوا رفضا باتا. وحين رفض هؤلاء الثلاثة تولي منصب الخلافة – وما كان المسلمون ليقبلوا أحدا خليفة في حضورهم – استخدم المفسدون حربة الجبر والإكراه في هذا الصدد أيضا لظنهم أنه لو لم يعيَّن أحدٌ خليفة لثار الناس ضدهم في العالم الإسلامي كله، فأعلنوا أنه لو لم يُنتَخَب خليفةٌ خلال يومين أو ثلاثة أيام سنقتل عليا وطلحة والزبير y والكبار الآخرين كلهم أيضا.
فخاف أهل المدينة هذا الموقف المهيب وقالوا في أنفسهم بأن الذين لم يتورعوا عن قتل عثمان ماذا عساهم يفعلون بنا وبأولادنا ونسائنا؟ فذهبوا إلى علي t وطلبوا منه قبول منصب الخلافة ولكنه رفض وقال لو قبلتُ الخلافة لقال الناس بأنني كنت ممن خططوا لقتل عثمان t وأنا لا أستطيع أن أحمل هذا العبء الثقيل. ثم قال طلحة والزبير أيضا الكلامَ نفسه. وكذلك رفض كل الذين طُلب منهم قبول المنصب من الصحابة. فعاد الناس جميعا إلى سيدنا علي t ورجوه أن يقبل هذا المنصب في كل الأحوال. فقال ما مفاده: أحمل هذا الحمل بشرط أن يجتمع الناس جميعا في المسجد ويقبلوني خليفةً. فاجتمع الناس كلهم في المسجد وقبلوه خليفة إلا بعضٌ ممن قال لن نقبل أحدا خليفة ما لم يعاقَب قاتلوا عثمان t. وقال البعض بأنه لا يجوز اختيار الخليفة ما لم يؤخذ رأي المسلمين خارج المدينة أيضا، ولكن القائلين بهذا كانوا قلة قليلة. ففي ظل هذه الظروف قبل عليٌّ أن يكون خليفة المسلمين. وحدث ما خشيه سيدنا علي t؛ أي راج في العالم الإسلامي كله وشاع أن عليًّا دبّر قتل عثمان t. يقول المصلح الموعود: لو غضضنا الطرف عن بقية مزايا سيدنا علي t لكان – حسب رأيي – إقدامه على قبول الخلافة في ظل تلك الظروف يمثل شجاعة وبسالة جديرة بكل إشادة وتقدير؛ فمن أجل الإسلام ما عنِيَ بشخصه وبما كان يتمتع به من احترام وتقدير وحمل هذا الحِمل الثقيل.
ثم ذكر المصلح الموعود t في أحد المواضع أحداثًا وقعت بعد استشهاد عثمان t فقال:
لقد كثف المفسدون أعمال السلب والنهب ليوم أو يومين، ولكن لما هدأت ثورتهم قليلا خافوا على عاقبتهم وما سيحدث لهم بعد ذلك. فتوجه بعضهم إلى الشام ظنًّا منهم أن معاوية شخصية رائعة فلابد أنه يأخذ ثأر هذا القتل، فوصلوا إليه وأثاروا ضجة قائلين بأن عثمان قد استشهد ولا أحد يقتصّ له. وبعضهم أسرع إلى الزبير وعائشة رضي الله عنهما في طريق مكة، ولحق بهما، وقال لهما بأنه من الظلم الشنيع أن يُقتل خليفة الإسلام ويَسكت عليه المسلمون، ومنهم من أسرع إلى علي t وقالوا له إن الوقت وقت المصيبة، وهناك خطر لانهيار الحكم الإسلامي، فخذ منا البيعة حتى يزول خوف الناس ويستتب الأمن والأمان، وهذا ما اقترح به الصحابة الموجودون في المدينة بالاتفاق أنه من المناسب الآن أن يحمل هو هذا العبء وسيكون عمله هذا موجبًا للثواب ونيل رضى الله تعالى. فلما كثر الإصرار من كل حدب وصوب تحمّل هذه المسؤولية بعد رفضه إياها عدة مرات، وأخذ البيعة.
لا شك أن إقدام علي t هذا كان يحتوي على حكمة كبيرة لأنه لو لم يأخذ البيعة في ذلك الوقت لتضرر الإسلام أكثر مما تضرر بحربه مع معاوية رضي الله عنهما. هذا ما استنتجه المصلح الموعود t.
ثم يقول المصلح الموعود t:
اعلموا أن ما يقال عن طلحة والزبير أنهما نقضا بيعة علي y فهو مثال خاطئ (يذكر المصلح الموعود t عما يقال عن بيعتهما أنهما بايعا بكل سهولة، ويذكر حضرته أنها لم تتم بهذه السهولة، ثم يذكر عما قيل عنهما بأنهما نقضا البيعة والتحقا بعائشة وحاربا ضد علي y فيقول المصلح الموعود t: هذا مثال خاطئ) وهو ناجم عن عدم المعرفة بالتاريخ الصحيح، لم يحدث هكذا. تتفق كتب التاريخ على أن بيعة طلحة والزبير لعلي لم تكن برغبتهما بل أُكرها على البيعة. فقد وردت في الطبري رواية عن راويين محمد وطلحة أنه بعد استشهاد عثمان قرر الناس فيما بينهم أن يتم تعيين أحد خليفة عاجلا ليستتب الأمن وينتهي هذا الفساد، فتوجه الناس إلى علي وطلبوا منه أن يأخذ منهم البيعة. قال علي: إن كنتم تريدون بيعتي فاعلموا أنكم ستضطرون أن تطيعوني دومًا، فإن قبلتم هذا الأمر رضيتُ بأخذ بيعتكم وإلا فالتمسوا غيري فسأكون مطيعًا له بل سأكون أطوعكم لمن وليتموه أمركم. فقالوا نرضى بطاعتكم. فقال علي: فكروا وتشاوروا فيما بينكم، فتشاوروا وقالوا إن بايع طلحة والزبير عليًّا فسيبايع الجميع، وإلا فما لم يبايعا عليًّا فلن يستتب الأمن بشكل كامل. فأُرسل حكيم بن جبلة في نفر إلى الزبير، ومالك الأشتر في نفر إلى طلحة فأجبروهما على البيعة يحدونهما بالسيف، أي أنهم وقفوا رافعين سيوفهم أمامهما وقائلين لهما: إما أن تبايعا عليًّا أو قتلناكما. فاضطرا للقبول بالأمر، ثم رجع هؤلاء.
في اليوم التالي صعد علي t المنبر، فقال: يا أيها الناس! لقد أبلغتموني رسالة وقلت لكم أن تتشاوروا، فهل تشاورتم؟ وهل لازلتم على ما قلته لكم بالأمس؟ إن كان ذلك كذلك فاعلموا أنكم ستضطرون لتطيعوني طاعة كاملة. فذهبوا إلى طلحة والزبير فجاؤوا بهما يسحبونهما رغما عنهما. ولقد ورد في الرواية بشكل واضح أنهم لما وصلوا إلى طلحة وقالوا له: بايِعْ، قال: إني إنما أبايع كرها، ولا أبايع طوعًا. ثم ذهب القوم إلى الزبير فقالوا له: بايع، فرد بالرد نفسه وقال: إني إنما أبايع كرها، ولا أبايع طوعًا بالقلب.
عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال: بعد قتل عثمان t ذهب الأشتر إلى طلحة فقال له أن يبايع، فقال: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه وجاء به يتله تلا عنيفا أي جاء به يسحبه كما يسحب أحد المعز.
يقول المصلح الموعود:
كان طلحة – أحد صحابة النبي r – قد وقف موقفا ضد علي t جراء اختلاف بينهما، فلما فهم الأمر وأدرك أنه كان مخطئا، غادر ساحة القتال. (لقد بدأت هنا هذه القصة أن طلحة اتخذ موقفا ضد علي t ولم يبايعه ولكن حضرته ذكر تفصيله أيضا أنه لا شك أنه وقف موقفا ضد علي وبايعه مكرَها في البداية ثم اختلف معه وخرج مقابله للقتال ولكن عندما فهم الأمر غادر ساحة القتال وأقرّ أن عليًّا على الحق. كتب المصلح الموعود عن ذلك فقال:) وبينما كان عائدًا إلى بيته تتبّعَه شقي من جيش علي t وقتله. ثم جاء إلى علي t طامعًا في المكافأة وقال: أبشّرك بقتل عدوك طلحة بيدي. فقال علي: فإني أبشرك بالنار من قبل رسول الله r، فإنني سمعت رسول الله r أن شخصًا من أهل جهنم يقتل طلحة.
ثم يقول المصلح الموعود وهو يذكر الواقعة نفسها فيقول: وأخرج الحاكم عن ثور بن مجزاة قال: مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق، (أي كان يحتضر لما جرحه ذلك الشقي)، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت من أصحاب أمير المؤمنين عليٍّ، فقال ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي وبايعني وفاضت نفسه، فعدتُ إلى سيدنا علي وقصصت عليه القصة كلها، فكبَّر بعد سماعها مني وقال ما أصدق كلامَ رسول الله، فلم يشأ الله I أن يدخل طلحة الجنةَ دون أن يبايعني. فكان من العشرة المبشرين، وصحيح أنه كان قد بايعه سلفا لكن مُكرَها كما بينت، أما قبيل الوفاة فقد بايعه بانشراح الصدر تماما. كان صالحا وسعيدًا وكان الله I قد وعده بإدخاله الجنة، لذا لم يُرِد الله أن يأتيه الأجلُ دون أن يبايع الخليفةَ. وفي تلك اللحظة تسنى له فبايع الخليفة. هذا البيان سيستمر وسأتناول بقية الوقائع في المستقبل إن شاء الله.
اليوم أيضا أريد أن أحثّكم مكرَّرا على الدعاء للأحمديين في الجزائر وباكستان. اُدعوا الله I أن يحفظهم. في الجزائر أيضا يشدَّد الخناق على الأحمديين والمدعي العام الحكومي يرفع القضايا مرة بعد أخرى عليهم، وفي باكستان أيضا تُخلق المشاكل والمصاعب للأحمديين. فادعوا الله I أن يجعل جميع هؤلاء الذين يخلقون المشاكل للأحمديين أو يعارضونهم عِبرةً، ويفرج عاجلا عن الأحمديين الذين يواجهون الاضطهاد ويجعل لهم سهولة ويسرا. وفي الوقت نفسه أود أن أقول للأحمديين في باكستان بوجه خاص أنه إلى الآن لم ينشأ لديهم الاهتمام بالدعاء والتضرع إلى الله كما يجب. ركِّزوا على الدعاء أكثر بكثير من ذي قبل، أن يخلِّصنا الله عاجلا من هذه المشاكل ويسهِّل علينا شؤون الحياة، ويمكِّننا من نشر الإسلام الصحيح بكل حرية في باكستان وفي كل أرجاء العالم.
بعد الصلاتين سأصلي جنازة الغائب على بعض المرحومين، الجنازة الأولى للدكتور طاهر أحمد من ربوة وكان ابن شودري عبد الرزاق الشهيد، أمير الجماعة في محافظة نواب شاه سابقا، فقد توفي في الرابع من ديسمبر بنوبة قلبية عن عمر يناهز 60 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم يعمل طبيبا في المستشفى الحكومي. كان قد أصيب بنوبة قلبية أولى في عام 1995. ورغم وضعه الصحي الحرج نقَل عمله إلى مِتِّهي لكي يتمكن من خدمة الجماعة في “مستشفى المهدي” التابع للوقف الجديد. كان متخصصا في أمراض العيون، وكان يعالج مرضى العيون كل يوم أَحد في مستشفى المهدي إذ كانت العطلة في عمله. فكان يشترك بانتظام في المخيمات الطبية التي تقيمها الجماعة وكان أحيانا يشتغل في إجراء العمليات الجراحية طول اليوم. كان يحظى بشعبية كبيرة ليس في الأحمديين فحسب بل في غير الأحمديين أيضا في تهرباكر، فكان محببا جدا. كانت العملية الجراحية قد أجريتْ على قلبه، وفي السنوات الأخيرة من عمره واجه ألما شديدا، لكنه مع ذلك واصل عمله في تهرباركر، فقد أمضى خمسة عشر عاما في خدمة الإنسانية في متهي. كان مواسيا جدا للفقراء ومضيافا، وكان يحترم نظام الجماعة والخلافة لأقصى حد، وكان الله I قد وفَّقه بفضله للانخراط في نظام الوصية في شبابه، وكان سبَّاقا في كل تبرع، رحمه الله I وغفر له ورفع درجاته في الجنة ووفَّق أولاده أيضا لتقليد حسناته والحفاظ عليها.
الجنازة الثانية اليوم للمرحوم حبيب الله مظهر ابن شودري الله دِتَّا، وكان قد أُسر أيضا في سبيل الله، وتوفي في 24 أكتوبر عن عمر يناهز 75 سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان والد المرحوم انضم إلى الجماعة الأحمدية مبايعًا على يد سيدنا الخليفة الثاني t. لقد عمل المرحوم في الدوائر الحكومية على مناصب مختلفة، وتقاعد عن منصب المدير في إحدى مؤسسات حكومية. وخدماتُه للجماعة ممتدة على أكثر من خمسين سنة، من قائد مجلس إلى زعيم أنصار الله وغيره من المناصب المختلفة بما فيها رئيس أحد فروع الجماعة. أول قضية رُفعت ضد أحمدي بحسب بند 295 للقانون المتعلق بالإساءة إلى النبي r كانت قد رُفعت ضد المرحوم شودري حبيب الله مظهر في 29 أكتوبر عام 1991 في مخفر الشرطة في شاهدرة. ومن هذا المنطلق كان أولَ أحمدي في التاريخ سُجن بمقتضى هذا البند أسيرا في سبيل الله، ووُفق لمواجهة المشاكل. ومع أن المحكمة المحلية برَّأتْه لكن المعارضين رفعوا استئنافا في المحكمة العليا فألغى القاضي عبد المجيد في المحكمة العليا كفالته، وبذل المعارضون كل ما في وسعهم على نطاق واسع لاستصدار العقوبة ضده، فقد وزَّعوا النشرات باللغة الأردية والإنجليزية واستخدموا ضد المرحوم كلمات نابية جدا، لكن المرحوم شودري حبيب الله ظل يواجه مصاعب السجن بكل شجاعة راضيا برضا الله I، ثم دبَّر الله I له البراءة وفكّ أسره خلال بضعة أشهر. كان المرحوم يداوم على الصلوات الخمس والتهجد أيضا، وظل ينصح أولاده حتى آخر لحظة من حياته للمحافظة على الصلاة. كان اجتماعيا ودمثا جدا ومواسيا ومتواضعا وعاشقا صادقا للخلافة، فكان يستمع إلى خطب الخليفة وخطاباته بانتظام بل كان يجمع أهل بيته كلَّهم ليستمعوا إلى خطبة الجمعة على القناة جالسين معه في مكان واحد، كان بفضل الله موصيا وكانت وصيته بحسب 9/1. ترك زوجته السيدة رقية بيغم وخمسة أبناء وابنة واحدة، أحد أبنائه السيد حسيب أحمد الداعية الأحمدي يخدم في المكتب الإنجليزي التابع لمؤسسة فضل عمر، تغمد الله المرحوم بواسع رحمته ومغفرته. ووفَّق أولاده أيضا لمواصلة حسناته.
الجنازة التالية للمرحوم خليفة بشير الدين أحمد الذي توفي في 30 نوفمبر الفائت عن عمر يناهز 86 سنة، إنا لله وإنا وإليه راجعون. كان قد وُلد في مدينة فيروزبور الهندية، وكان ابنًا للدكتور خليفة تقي الدين وحفيدا لحضرة الدكتور خليفة رشيد الدين. والدكتور خليفة رشيد الدين كان والدَ السيدة أمِّ ناصر الحرمِ الأولى لسيدنا الخليفة الثاني t. ولقد مدح سيدُنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حضرةَ خليفة رشيد الدين كثيرا لتضحياته بأمواله. على كل حال كان المرحوم من نسله، وكان نشيطا في خدمة الجماعة وكان يدعو غير الأحمديين في بيته ليبلِّغهم رسالة الأحمدية. في عام 1998 سافر إلى السويد، وهناك أصيب بأزمة قلبية في عام 1999 فاستعاد صحته، وانشغل في أعمال المسجد، كان سكرتير التبليغ أيضا، وكان يأتي إلى هنا مع زوجته وأولاده كل سنة لحضور الجلسة السنوية، ترك زوجته وثلاث بنات وابنَين. كانت زوجته مسيحية إنجليزية وبايعتْ، وهي تلبس لباسا محتشما جدا وتتحجب، وتعيش حياة بسيطة جدا، وهي مولعة بتلقي علوم الدين وتسعى للعمل بها قدر المستطاع. زادها الله إيمانا وإيقانا ووفَّق أولادها أيضا لاقتدائها في الحسنات. رحم الله المرحوم وغفر له.
الجنازة التالية للسيدة أمينة أحمد زوجة خليفة رفيع الدين أحمد، فقد توفيت في 19 أكتوبر، إنا لله وإنا وإليه راجعون. كانت من غينيا، ومن مواليد 1940 في بيت مسلم تجاري مشهور، وقبِلت الأحمديةَ أثناء دراستها في لندن، وفي الفترة نفسها تزوجت السيدَ ر. د. أحمد رحمه الله، ابنَ الدكتور خليفة تقي الدين، أي كان من نسل حضرة خليفة رشيد الدين t. كانت المرحومة مواسية ومهتمة بالناس ومضيافة، وكانت تحافظ على الصلاة دوما وتخشى أن تفوتها أي صلاة، وكانت تداوم على التهجد رغم ضعف صحتها، وكانت تقرأ القرآن الكريم بانتظام، فقد حضرتْ كل جلسة سنوية في بريطانيا تقريبا رغم صحتها المتدهورة وإصابتها بالسرطان، كان يقينُها بالدعاء قويًّا، وكانت تكنّ للخلافة إخلاصا ووفاء، فكلما زارتْني قابلتْني بكل تواضع وطلبتْ مني الدعاء، رحمها الله وغفر لها ووفَّق أولادها أيضا ليقوُّوا علاقتهم بالجماعة دوما.