خطبة الجمعة 8/3/2019
يتابع حضرته حديثه عن الصحابة البدريين:
قيس بن محصن الأنصاري t، أنيسة بنت قيس، وأبوه محصن بن خالد، شهد قيس بدرًا وأُحُدًا.
جبير بن إياس t: أبوه إياس بن خلدة. شهد بدرًا.
لقد ورد في الأحاديث أن يهوديا سحر النبي r والعياذ بالله، على مُشْطٍ وَمُشَاطةٍ وألقاه في بئر ذي أروان، فخرج إليها النبي r فأخرجه من هناك. ولقد ورد في فتح الباري شرح صحيح البخاري أن جُبَيْر بْن إِيَاس هو مَن استخرجه من بئر ذي أروان. وفي رواية أن قيس بن محصن.
ولكن هل سُحر النبي r ووقع تأثير السحر عليه؟ ما حقيقة الأمر؟ وما هو رأينا في القضية؟
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سُحر رسول الله r حتى إنه ليخيَّل إليه أنه فعَل الشيء ولم يكن فعَله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا، ثم قال: أَشَعَرْتِ يا عائشةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ قلت: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ جَاءَنِي رَجُلانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: في أي شيء؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ فِي بئر ذي أروان. قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ r في أناس من أصحابه. ثمَّ قال: يا عائشةُ، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ولَكَأَنَّ نخْلَها رُءوسُ الشَّياطين (لقد وضح المصلح الموعود t لاحقا.
تقول عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقتَه أي ذلك الشيء الذي سحروا به؟ قال لا، أما أنا فقد عافاني الله تعالى، وكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا. فأمرتُ بها فدُفِنَتْ.
على أية حال، الحقيقة هي كما استنتج المصلح الموعود t أن اليهود سحروا النبي r بزعمهم ولكن لم يكن له أي تأثير على النبي r، أما مرضه r أو النسيان فيمكن أن تكون له أسباب أخرى. ولكن الله تعالى أخبر النبي r عن مكايد اليهود هذه وهكذا أبطل في الظاهر زعمهم بأنهم قاموا بالسحر. وانكشفت حقيقة الفرحة المزعومة لليهود الذين كانوا يفرحون برؤية مرض النبي r وأخذوا ينشرون بين الناس أن مرضه نتيجة سحرهم.
ويتبين ذلك من الحديث الذي قالت فيه عائشة رضي الله عنها لرسول الله r: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟! قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟! قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟! يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ «نَعَمْ. وَلٰكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ». (صحيح مسلم) فمع وجود هذا القول الصريح أيمكن تصور أن يهوديا يكون قد سحر -مستعينا بشيطانه- عظيمًا مثل النبي r ويكون النبي r قد تأثر بسحره الشيطاني، وظل هائما ومغموما ومريضا إلى مدة طويلة؟!
لقد بيّن القرآن الكريم المبدأ الأساسي: ]وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[ (طه 70) أي لا يمكن أن يفلح أي ساحر مقابل الأنبياء كيفما وحيثما شن هجومه، ثم في ضوء حكم القرآن الفيصل: ]يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[ (الإسراء 48) إنما هذا ادّعاء الكفار الذي ورد في القرآن الكريم.
فحين قالا أنه r سُحر لم يقصدا من ذلك أنه سُحِر بحسب رأينا بل الناس يقولون بأنه سُحر. ولم يكن الهدف من الرؤيا إلا أن يُبطل الله سحرهم المزعوم وما أخفاه هؤلاء الخبثاء في البئر ليخدعوا به أشياعهم وليكشف الله تعالى لرسوله ما كان المنافقون يشيعونه. فهكذا كان بالضبط، إذ دُفنت أداة سحرهم ورُدم البئرُ. وبذلك زال بصورة غير مباشرة قلق النبي r على الناس، إذ كان هؤلاء الأشقياء يسعون لخداع البسطاء من الناس بمكائدهم هذه.
وتحقق بكل جلاء وعد الله تعالى القائل: ]لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[ أي مهما قام الساحر بالمكائد لن يفلح مقابل الله ورسوله.
يثبت من الحديث المذكور آنفا ما يلي،
- كان النبي r بطبيعة الحال قلقا نظرا إلى تقصير البعض بعد واقعة صلح الحديبية، فكان ينسى بعض الأمور الدنيوية المتعلقة ببيته.
- نظرا إلى حالته r هذه بدأ اليهود والمنافقون، الذين كانوا يريدون تشويه سمعة النبي r مستغلين مثل هذه الأمور، يروجون أنهم سحروا نبي المسلمين. (والعياذ بالله) إن مَثل ترويجهم هذا الأمر كمَثل تشويهم سمعة السيدة عائشة رضي الله عنها نتيجة تخلّفها في غزوة بني مصطلق، وبذلك قاموا بسعي مذموم ليعكّروا صفو حياة النبي r الطاهرة.
- كعلامة ظاهرية للسحر المزعوم لخداع البسطاء من الناس جعل هؤلاء الأشقياء بواسطة منافق يهودي النسب اسمه لبيد بن عاصم مُشطا ومشاطة في بئر وشاعت أقاويل أحزنت النبي r أكثر.
- دعا النبي r في حضرة الله بتضرع شديد أن يسدّ بفضله ورحمته باب هذه الفتنة ويكشف عليه r حقيقتها، ليتمكن من إزالة الفتنة وينقذ بسطاء الناس من العثار، فقُبل دعاؤه.
- سمع الله تعالى أدعيته r وفضح مكيدة لبيد بن عاصم. فذهب r إلى البئر بصحبة بعض من أصحابه ودفن المشط والمشاطة وردم البئر لاستئصال الفتنة من جذورها.
ثم يبقى سؤال: معلوم أن النبي r هو نبي الله الأعظم شأنا بل هو أفضل الرسل وخاتم النبيين فلماذا أصيب بمرض النسيان الذي كان من شأنه أن يوقع الخلل في أداء مهام النبوة؟!
ردا على هذا السؤال أن كل نبي يكون نبي الله ورسوله من ناحية، وبناء على ذلك يتشرف بكلام الله تعالى، ويكون أستاذا لأتباعه في الأمور الدينية ويكون أسوة لهم. ومن ناحية ثانية يكون إنسانا مثل بقية الناس وتلازمه اللوازم البشرية والأخطار الطبيعية كلها التي تلازم أناسا آخرين، لذلك قال الله تعالى مخاطبا النبي r: ] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ[، أي أعلن أيها الرسولُ قائلا: إنني بشر مثلكم وتنطبق عليّ جميع القوانين مثل بقية الناس، غير أنني رسول الله أيضا، وقد أُكرِمتُ بالوحي والإلهام لهداية الخلق. ففي هذه الآية وُصف الأنبياء من وجهين بأسلوب جميل جدا.
أي من ناحية تم تمييزهم من غيرهم من البشر، ومن ناحية أخرى لم يُخرَجوا من صنف الناس. فالذي يظن أن الأنبياء أرفع عن لوازم البشرية ومما يواجهه الإنسان من الأخطار الطبيعية، فهو كاذب. فمن المؤكد أن الأنبياء أيضا يمرضون كسائر البشر، ويصابون مثلهم بملاريا وتيفوئيد وغيرها من الأمراض.
نحمد الله I على أننا ندرك المكانة العظيمة والمرتبة السامية للنبي r بعد الإيمان بإمام الزمان. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد.