خطبة الجمعة 14/2/2020م
كان الحديث في الخطبة الماضية عن سيدنا محمدٍ بنِ مسلمة t، وبقي جزء تناوله حضرته في هذه الخطبة.
وقد قدم حضرته في هذه الخطبة رداً على الاعتراضات التي تثار، بأن الإسلام يبيح الكذب في بعض الأحيان، وذلك لأن سيدنا محمداً بنَ مسلمة أخرج كعب بن الأشرف من بيته بحيلة، ثم أخذه بعيدا عنه فقتله، وأن الإسلام أمر بإخفاء الدين.
يقول سيدنا المسيح الموعود u لقد جعل القرآنُ الكريم قولَ الزور مساويا لعبادة الأوثان كما يقول: ]فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[، وقال في آية أخرى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ[.
فالكذب الحقيقي رجس وحرام في الإسلام ويساوي الشرك، بينما التورية فجوازها في الأحاديث موجود بحق العامة عند الاضطرار تفاديا للفتنة أو للإصلاح بين مسلمَين، أو ليدرأ المرء عن زوجته الفتنة، أو النـزاع العائلي أو الشجار، أو لإخفاء المصالح عن العدو في الحرب، أو لإمالته إلى طرف آخر.
ثم تابع حضرته الحديث في سيرة محمد بن مسلمة t. حين أراد بنو النضير قتل النبي r بإلقاء رحى عليه غدرا فأخبره الله تعالى وحيا بما هموا به، فنهض r سريعا كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة، وأرسل النبي r محمد بن مسلمة إلى اليهود، قال: “اذهب إلى يهود بني النضير فقل لهم: إن رسول الله r أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلدي. لأنهم قاموا بهذه المؤامرة، ونقضوا العهد وغدروا، لذا عوقبوا بالنفي.
ثم بين حضرته كيف كان سلوك اليهود مع المسلمين في تلك الحقبة:
غدر بني قريظة:
كتب خليفة المسيح الثاني t في موضعِ حادثِ غدرِ بني قريظة، أن غدرُهم لم يكن مما يُغَضُّ الطرفُ عنه. وأمر رسول الله r فورَ عودته من غزوة الخندق أصحابَه ألا يستريحوا في بيوتهم، بل يجب أن يصلوا إلى حصون بني قريظة. ثم بعث صلى الله عليه وسلم عليَّاً بنَ أبي طالب إلى بني قريظة ليسألهم لماذا نكثوا العهود غادرين. ولكن اليهود لم يندموا ولم يستعفوا ولم يعتذروا، وإنما تكلموا مع علي وأصحابه بكلام سيء، وبدأوا يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم ونساءه، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصون اليهود، فأغلقوا أبوابه متحصنين، وبدأوا حرب المسلمين حتى شاركت فيها نساؤهم.
ثم اختلف اليهود فيما بينهم، فقال بعضهم لقد غدرنا بالمسلمين، وإن سلوكهم يدل على أن دينهم هو الحق. فدخل بعضهم في الإسلام تاركين اليهودية. وقال لهم رجلٌ منهم، وهو عمرو بن سعدى وهو يلومهم: يا معشر اليهود، لقد حالفتُم محمداً على ما حالفتُموه عليه ثم غدرتُم به، فإن أبيتم أن تدخلوا معه في دينه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية. فقال معظمهم لن ندخل في الإسلام ولن نعطي الجزية، بل القتل أفضل لنا. فقال: فإني بريءٌ منكم، وخرج من الحصن. فمر بكتبية من المسلمين عليها محمد بن مسلمة، فقال له محمد بن مسلمة: من هذا؟ فقال: أنا فلان. فقال محمد: مُرّ، اللهم لا تحرمني إقالةَ عثرات الكرام، فخلَّى سبيلَه. يعني: أن هذا قد ندم على ما فعله هو وقومه، فمن واجبنا الأخلاقي ألا نلقي القبض عليه، بل علينا أن نخلي سبيلَه، وأدعو الله تعالى أن يوفقني لمثل هذه الأعمال. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لم يعنف محمداً بنَ مسلمة على ذلك ولم يقل له لماذا تركت هذا اليهودي، بل أشاد بفعله.
مؤامرات يهود خيبر:
إن هزيمة الأعداء في غزوة الخندق ومصيرَ بني قريظة المخيف زاد من عداء يهود خيبر بزعامة سلام بن أبي الحقيق والذي كنيته أبو رافع للمسلمين. فدبّر مكيدة ماكرة، فبدأ بجولة في قبائل نجد مثل غطفان وغيرها كما حدث قُبيل غزوة أُحد، وبدأ يجمعهم كجيش عظيم للقضاء على المسلمين.
عندما بلغ الأمرُ هذا الحدّ، ومثُلَت أمام أعين المسلمين مشاهدُ كانت قبيل غزوة أُحد، جاء بعض الأنصار من قبيلة الخزرج إلى النبي r وقالوا أنه لا علاج لهذه الفتنة إلا أن يُقتل أبو رافع الذي هو أصل هذه الفتنة ومؤسسها. فسمح رسول الله r الصحابة بقتله واضعا في الحسبان أن قتل شخص واحد مُثيرٍ للفتن أهون من أن تعمَّ في البلاد الفوضى، ويسود القتل وتتناثر أشلاء الضحايا على نطاق واسع. وبعثَ أربعةً من الصحابة من قبيلة الخزرج تحت قيادة عبد الله بن عتيك الأنصاري إلى أبي رافع، وكان من بينهم محمداً بنَ مسلمة ونصحهم عند إرسالهم ألا يقتلوا امرأة ولا صبيا على الإطلاق. فخرجت هذه البعثة في شهر رمضان عام ستة من الهجرة، وأكملت مهمتها بكل دهاء وعادت. وبذلك انقشعت سحائب الفتن من جو المدينة.
لماذا كان قتله جائزا؟ لأنه لم تكن في بلاد العرب حينذاك حكومة رسمية، ليكون تطبيق العدل بواسطتها ممكنا، بل كانت كل قبيلة حرّة في حد ذاتها. فلم تكن هناك طريقة سوى هذه الطريقة تضمن استتباب الأمن، ولم يكن بالإمكان حيلة أخرى تضمن حفظ الأنفُس.
قد استعمل سيدنا عمرُ بن الخطاب محمداً بن مسلمةٍ رضي الله عنهما في عهده علی زکاة جهینة، وقد کان عمر إذا شکي إلیه عامل، أرسل محمداً إليهم من أجل التحقيق في القضية. مما يدل على أنه كان محل ثقة كبيرة لدى عمر t، فكان يبعثه لجمع المحاصيل المركزية، كما كان يستعمله لحل مشاكل المناطق المختلفة وتسوية أمورها.
وحين بنى سعدٌ بنُ أبي وقاصٍ قصرًا في الكوفة، وجعل له بابًا، فكان يغلق بابه، وبالتالي لم يكن يسمع صوت الناس. فلما بلغتْ هذه الكلمةُ عمرَ بنَ الخطاب بعث محمدًا بن مسلمة فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يحرق باب القصر.فلما انتهى إلى الكوفة قدح زناده وحرق الباب. فلما علم سعد خرج فأخبره بالأمر كله ولماذا أنه حرق الباب.
لقد ذُكر عن محمدٍ بن مسلمة أنه بعد استشهاد عثمان t اعتزلَ الناس، واتخذ لنفسه سيفا من الخشب، وكان يقول: أعطاني رسول الله r سيفًا وقال: قاتل به المشركين ما قتلوا، فإذا رأيت المسلمين قد أقبل بعضهم على بعض فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم اجلس في بيتك حتى تقتلَك يدٌ خاطئة، أو مَنِيَّةٌ قاضية. ففعل هكذا واعتزل الفتن فلم يشهد صفين ولا الجمل.
قال زبير بن حصين التغلبي: كنا جلوسا مع حذيفة فقال: إني لأعلم رجلا لا تُنقصه الفتنة شيئًا. فقلنا: من هو؟ قال: هو محمد بن مسلمة الأنصاري. فلما مات حذيفة وكانت الفتنة خرجت فيمن خرج من الناس، فأتيتُ أهلَها فإذا بفسطاطٍ مضروبٍ بنجيّ به تضرب الرياح، فقلت: لمن هذه الفسطاط؟ فقالوا: لمحمد بن مسلمة. فأتيته، فإذا هو شيخ، فقلت له: يرحمك الله أراك رجلا من خيار المسلمين. تركتَ بلدَك ودارك وأهلك وجيرانك. قال: تركته كراهية الشر.
توفي في المدينة، وعمره يومها 77 عامًا، وصلى عليه مروان بن الحكم وكان واليا على المدينة. وذكر في بعض الروايات أنه قد قتله أحدُ الناس.
ثم صلى حضرته صلاة الجنازة بعد صلاتي الجمعة والعصر على السيد تاج الدين ابن صدر الدين الذي وافته المنية في 10 فبراير الجاري عن عمر يناهز 84 عامًا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان بفضل الله تعالى منضمًّا إلى نظام الوصية.
كان مواظبًا على الصوم والصلاة ومتديّنًا، كما كان بشوشًا ومطيعًا ويتسم بطبع هادئ. كانت يرتبط ارتباطاً وثيقا بالخلافة، ويتعلق بها بعلاقة الإخلاص والوفاء. تخرّج أحدُ أحفادِه السيد مدبر الدين داعيةً من الجامعة الأحمدية في بريطانيا، ويعمل حاليا في أم. تي. أيه. يقول: أخبرني الكثيرون الذين كانوا يسكنون في إسلام آباد أن جدّي كان مجتهدًا ومجدًّا كثيرا. وكان جدي يقول بأنه كان يسكن وحيدًا في إسلام آباد في البداية، ولم تكن فيها الكهرباء ولا التدفئة. وكان الوقت عصيبًا، إلا أنه كان سعيداً مسروراً بأنه مُوفَّقٌ للتضحية من أجل الجماعة وخليفة الوقت.
كانت من صفاته المميزة الصلاةُ على وقتها، والقيامُ بالأعمال بيده، وحسن الضيافة والصبر.
رحمه الله وغفر له وزاد أولاده وذريتهم أيضا إخلاصا ووفاء وصبرًا وهمّة. آمين.