يتابع حضرته الحديث عن الصحابي البدري عبد الله بن مسعود ؓ
لقد أثرت صحبة النبي ﷺ في عبد الله بن مسعود ؓ تأثيرا روحانيا كبيرًا وجعلت منه إنسانا تقيا صالحا عابدا. كان يحب العبادة والنوافل حبّا شديدا حتى إنه كان حريصا على صلاة الضحى علاوة على الفرائض والتهجد. كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يصوم كل يوم اثنين وخميس.
ذات مرة ألقى النبي ﷺ خطبة وجيزة ثم أمر عبد الله بن مسعود ؓ (بعد أن أمر أبا بكر وعمرا رضي الله عنها) بإلقاء خطبة، فحمد الله وأثنى عليه ثم اكتفى بقوله: أيّها الناس رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينًا وأحبُّ لكم ما أحبّ اللهُ ورسوله ﷺ. فقال النبي ﷺ أصبتَ يا ابن مسعود. أنا أيضًا أحب لأمتي ما أحبه ابن مسعود لها.
عندما جاء سيدنا على ؓ إلى الكوفة جرى الحديث في مجلسه عن عبد الله بن مسعود فقال القوم: لم نر أحسنَ من عبد الله بن مسعود خلقًا ولا أرفقَ تعليما و لا أفضل صحبةً ومجلسا ولا أكثر خشيةً. فقال عليّ للقوم كلهم على سبيل الاختبار أستحلفكم بالله أن تخبروني هل تقدّمون هذه الشهادة في حقّ عبد الله بن مسعود بصدق القلب؟ فقالوا جميعًا: نعم. فقال علي ؓ: اللهم فاشهد، فإنّي أحمل في عبد الله بن مسعود الرأي نفسه، بل أفضل مما يرون فيه.
آخى النبي بينه وبين عبد الله بن زبير ؓ وقد أدى حق الأخوة حيث أوصى بأنّ يتولى الزبير بن العوام وابنه عبد الله بن الزبير الإشراف على جميع عقاراته وأمواله ويكون قرارهما قاطعًا نافذ العمل في شؤونِ عائلته.
عن طاعة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
- مرة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر اجلسوا ولم يكن قد دخل المسجد بعد فجلس مكانه. خشية أن يفوته تنفيذ أمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
- مرة صلى سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى عند الحج أربع ركعات وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يأتم به فصلى مثله أربعة ولكنه قال:
صليت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر – رضي الله عنه – بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان .
يقول سيدنا المصلح الموعود ؓ: انظروا ما أجمل مثال طاعة الخليفة! مع أن عبد الله بن مسعود لم يعرف إلى ذلك الحين الحكمة وراء صلاة عثمانَ ؓ أربع ركعات، ولكنه لم يترك الصلاة وراءه بل صلَّاها بكاملها طاعة للخليفة، ثم دعا الله تعالى أن يقبل منه ركعتين فقط لا أربع ركعات. اُنظروا إلى طاعته، وإلى روح التأسي بأسوة النبي ﷺ في كل خطوة!
علمه وفقهه:
ذات مرة لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْبًا فِي سَفَرٍ لَيْلا فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَأَمَرَ عُمَرُ رَجُلا يُنَادِيهِمْ: مِنْ أَيْنَ الْقَوْمُ؟ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَقْبَلْنَا مِنَ الْفَجِّ الْعَمِيقِ. فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: الْبَيْتُ الْعَتِيقُ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ فِيهِمْ لَعَالِمًا، فَأَمَرَ رَجُلا يُنَادِيهِمْ: أَيُّ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ؟ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّومُ)حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ، قَالَ: نَادِهِمْ: أَيُّ الْقُرْآنِ أَحْكَمُ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) فَقَالَ: نَادِهِمْ: أَيُّ الْقُرْآنِ أَجْمَعُ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ، أَيُّ الْقُرْآنِ أَحْزَنُ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآيَةَ، فقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ: أَيُّ الْقُرْآنِ أَرْجَى؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) الآيَةَ، قَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ، أَفِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ ” فقال عمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ما مفاده بعد سماع هذا الكلام: قال عمرؓ عبد الله وعاء ملئ علما.
خشية عبد الله بن مسعود ؓ لله سبحانه و تعالى:
- يروى عنه ؓ أنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى ؟ “………. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِلَّا سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ ، قَالَ : فَسَكَتَ ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ ، أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ….
فقد حسب عبد الله بن مسعود ؓ سكوت النبي ﷺ سخطا منه لذا أخذه القلق الشديد كل مأخذ بسبب خشية الله وخوفا من عقابه ﷻ.
- كان شديد الحذر في روايته لحديث النبي صلى الله عليه وسلم. يتبين مدى حذر عبد الله بن مسعود في بيانه الأحاديث من رواية عن عمرو بن ميمون قال: كان عبد الله بن مسعود ؓ تأتي عليه السنة لا يحدث عن رسول الله ﷺ بحديث. فحدّث ذات يوم عنه بحديث، فتغير وجهه، وعلَتْه كآبة، فجعل العرق يتحدر من جبينه ويقول: نحو هذا أو قريب من هذا.
- كانت خشية الله تعالى قد بلغت من عبد الله بن مسعود ؓ مبلغا حتى كان يقول ما مفاده: وددتُ أني إذا ما متُّ لم أُبعث. (لكي لا أتعرض للسؤال).
- عن عبد الله قال: مرض مرضا فجزع فيه، قال: فقلنا له ما رأيناك جزعتَ في مرض ما جزعتَ في مرضك هذا، فقال: إنه أخذني وأقرب بي من الغفلة… ذكر الموتَ عبدُ الله بن مسعود فقال: ما أنا له اليوم بمتيسر… وددتُ أني إذا ما مت لم أُبعث.
- ورغم أنه عندما توفي كان ميسور الحال إلا أنه أوصى أن يُكفن في حُلة بمائتي درهم… وقال: ادفنوني عند قبر عثمان بن مظعونؓ. صلّى عثمان بن عفان ؓ صلاة الجنازة عليه.
قدامة بن مظعون:
هو أخو الصحابي عثمان بن مظعون ؓ، تعددت زيجاته، كان ابن 19 عاما عند إسلامه، هاجر إلى كل من الحبشة والمدينة، وشهد مع النبي ﷺ بدرا وأحدا والغزوات كلها.
ثم ذكر حضرته موقف من حياة قدامة بن المغيرة يوضح حرية المرأة في الإسلام من خلال حديث للنبي صلى الله عليه وسلم:
حين تُوفي عثمان بن مظعون ؓ ترك ابنة أوصى عنها إلى أخيه قدامة ؓ، قال عبد الله بن عمر ؓ: هُمَا خَالَايَ، فَمَضَيْتُ إِلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَخْطُبُ ابْنَةَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَزَوَّجَنِيهَا (أي وافق على زواجه منها) وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَعْنِي إِلَى أُمِّهَا فَأَرْغَبَهَا فِي الْمَالِ فَحَطَّتْ إِلَيْهِ وَحَطَّتْ الْجَارِيَةُ إِلَى هَوَى أُمِّهَا فَأَبَيَا (كانت البنت وأمُّها تميلان إلى الثاني) حَتَّى ارْتَفَعَ أَمْرُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فدعا قُدَامَة بْن مَظْعُونٍ وسأله عن الأمر فقال قدامة: يَا رَسُولَ اللهِ ابْنَةُ أَخِي أَوْصَى بِهَا إِلَيَّ فَزَوَّجْتُهَا ابْنَ عَمَّتِهَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ فَلَمْ أُقَصِّرْ بِهَا فِي الصَّلَاحِ وَلَا فِي الْكَفَاءَةِ، وَلَكِنَّهَا امْرَأَةٌ وَإِنَّمَا حَطَّتْ إِلَى هَوَى أُمِّهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هِيَ يَتِيمَةٌ وَلَا تُنْكَحُ إِلَّا بِإِذْنِهَا (أي لقد توفي أبوها وقد قرّرتَ في حقها ما رأيتَه الأنسب ولكن لا بد من سؤال البنت عن رضاها، ويجب تزويج البنت ممن ترضى به) قَالَ الراوي الذي طلبها أولا وهو ابنُ أخت قدامة: فَانْتُزِعَتْ وَاللهِ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتُهَا، فَزَوَّجُوهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ الذي وافقت عليه البنت وأمُّها.
هذه هي حرية المرأة التي أقامها النبي ﷺ وأوصى بالاهتمام باليتيمة أكثر لأنها محرومة من الوالد فلا بد من مراعاة رضاها. توفي قدامة في 36 للهجرة عن عمر يناهز 68 عاما.
وفّقنا الله تعالى لنفهم الدين ونُري نماذج حقيقية للطاعة والوفاء ونقيم مستويات عالية في حب الرسول متأسين بأسوة هؤلاء الصحابة وأن يحفظنا من أن نكون طرفًا في نوع من الفتنة، (آمين).
بعد ذلك صلى حضرته جنازة الغائب على السيدة أمة الحفيظ بهتي وقد كانت رئيسة لجنة إماء الله كراتشي لمدة طويلة، درست السيدة أمة الحفيظ بهتي بعد الثانوية في الصف الديني بقاديان، وفي هذه الفترة حظيت بشرف المواظبة على حضور دروس القرآن الكريم للمصلح الموعود ؓ، وبدأت تخدم الجماعة منذ أن بلغت سن الرشد. كانت ليِّنة القلب، وكان من طبيعتها أن تلاقي الآخرين بوجه طلق وتتحدث إليهم بهدوء، وكان مبدؤها الالتزام بالمواعيد، كانت المرحومة حليمةً جدا.
والجنازة الثانية هي للسيد عدنان فاندن بروك الذي كان سكرتير الأمور الخارجة في الهيئة الوطنية لجماعة بلجيكا. لقد تُوفي في 29 أيلول 2018. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان والده السيدُ رضوان فاندن بروك أول أحمدي بلجيكي، وقد بايع في الستّينيات. لم يقبل السيد عدنان الأحمدية بسبب والده بل بحث بنفسه وقال أريد أن أدرس بنفسي وبعد الدراسة والتحقيق بايع في 1994م. في 1998 ترجم للخليفة الرابع من الانكليزية إلى الفرنسية والهولندية في برنامج تبشيري. رغم مرضه إلا أنه كان متحمسا لخدمة الجماعة ولعب دورا هاما في تقديم الجماعة في الأوساط الحكومية. كان يقول إن هذا المرض رحمة لي لأن فيه وجدتُ فرصة قراءة كتب المسيح الموعود ؏ وكتبا أخرى للجماعة مما زادني إيمانا بوجود الله تعالى. وكان المرحوم راضيا برضى الله تعالى في مرضه أيضا.
ندعو الله تعالى أن ولده وبنته على الدين ويزيدهما إيمانا ويوفقهما ليقتديا بقدوة والدهما، (آمين).