الاعتراض:

يقول مؤسس الجماعة:
“ورد في بعض الأحاديث… بأنه عندما يموت عبدٌ صالح ومقدس يُحيا بعد مماته، ويُعطَى بقدرة الله جسمًا نورانيًا نوعًا ما، وبه يسكن في السماء بحسب درجته”. (إزالة الأوهام، ص 361)
أين النصّ الحرفي لهذه الأحاديث التي تقول ذلك، أو لبعضها؟

الرد:

بكل سرور

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ؓعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ:

إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلاّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ.” (رواه الإمام أحمد في “المسند” برقم 17803)

إذن بعد موت العبد الصالح تُعاد روحه إلى جسده. ولكن هل هو الجسد الميت الذي بدأ يتحلل مباشرة بعد مفارقة الروح ؟

يجيبنا الإمام جعفر الصادق ؒ حيث يصف روح العبد الصالح بعد أن تقُبض بالموت كالتالي:

فإذا قبضه الله عزَّ وجلَّ صَيَّرَ تلك الروح في قالبٍ كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادمُ عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.” (الكافي، الكليني، ج 3، الصفحة 245، رواية 4741)

فالجسد الذي تُعطاه الروح بعد الموت للصالحين ليس جسد الدنيا الذي يبلى من اللحظة الأولى ويتحلل بل هو جسد آخر نوراني يليق بالروح التي هي الأخرى عبارة عن جسد نوراني لطيف يغادر جسد الدنيا بعد الموت، وقد قدَّمَ الحافظ ابن القيم تعريفاً للروح بأنها جسد نوراني فقال:

إن الروحَ جسمٌ خفيفٌ حَيٌّ متحركٌ علويٌّ نورانيٌّ، يسْري في جسدِ الإنسانِ كما يسْري الدهنُ في العودِ، وكما تسْري النارُ في الفحمِ، فما دام هذا الجسدُ قابلاً لهذه الإفاضات ولهذه الإمدادات من هذا الروح، فإن الروحَ تبقى عامرةً لهذا الجسد، فإذا خَرُبَ ذلك الجسدُ ولم يبْق مَحَلّاً لهذه الروح، ولا قابلاً للإفاضاتِ منها، ولا للحركات، أَذِنَ اللهُ تعالى لخروج هذه الروحِ من هذا الجسد فبقيَ هامدا.” (كتاب الروح، ابن القيم)

إذن الروح الصالحة بعد الموت تعود إلى الحياة ولكن بجسد نوراني مناسب للعالم الآخر.

فهل الأرواح في تلك الأجساد النورانية درجاتٌ في السماء أم كلها سواء في الحياة بعد الموت أو البرزخ ؟

يجيبنا الإمام ابن القيم ؒأيضا:

الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي ليلة الإسراء.” (الروح، ابن القيم)

وهو قول ابن أبي العز كما يلي:

الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وهم متفاوتون في منازلهم.” (شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز)

وهذا كان معرض كلام المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الذي كان يناقش موت عيسى عَلَيهِ السَلام ردّاً على بعض ما يُساء فهمه عند المسلمين، فيقول حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:

أما الحجة التي قُدِّمَتْ عن موت “عُزير” وعودته إلى الحياة بعد مئة عام، فلا تنفع معارضينا شيئا، لأنه ما قيل قط إن عُزيراً أُحيي وأُرسل مرة ثانية إلى الدنيا، دار الهموم والأحزان، حتى يستلزم ذلك مأساة إخراجه من الجنة، بل لو حُملت تلك الآية على معناها الحرفي أيضا، لما ثبت شيء إلا تجلِّي قدرة الله التي أحيت عُزيراً لحظةً واحدة ليهب له اليقين بقدرته. ولكن المجيء إلى الدنيا كان مؤقتا فحسب، وبقي عزيرٌ في الجنة في الحقيقة. وليَكُن معلوما أيضا أن جميع الأنبياء والصدِّيقين يُحيون بعد الممات ويُعطَون جسما نورانيا، وفي بعض الأحيان يقابلون الأتقياء في اليقظة أيضا. وإن هذا العبد المتواضع صاحب تجربة في هذا المجال. فأية غرابة لو أحيا اللهُ تعالى عُزيراً على هذا النحو؟ أما الاستنباط من هذا النوع من الحياة أنه أُحييَ وأُخرِجَ من الجَنّة فهو جهل غريب من نوعه، بل الْحَقُّ أن تجلِّي الجَنّة يتعاظم بهذه الحياة.” (إزالة الأوهام)

ثم يبيّن عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بتفصيل ممتع كيف أن الجسد النوراني هو الذي أُعْطِيه المسيح عَلَيهِ السَلام بعد وفاته وكذلك شرْح معنى الكلمة التي أُلقيت إلى مريم عَلَيْهِٰا السَلام وأنها لا تخص المسيح عَلَيهِ السَلام وحده بل جميع المؤمنين الصالحين، وبهذا ردَّ عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام على إحدى شبهات التنصير التي تقول أن المسيح عَلَيهِ السَلام وحده كلمة الله تعالى، فقال عَلَيهِ السَلام:

وإن قلتم بأن المسيح لم يصعد إلى السماء بالجسد المادي، بل دفن ذلك الجسد في الأرض، وأن الجسد النوراني الذي أُعطيه المسيح كان بريئا من حاجات الأكل والشرب فرفع بذلك الجسد. قلت: هذا هو الموت بعينه الذي أقررتموه أخيرا، وهذا ما نعتقد به نحن أيضا؛ وهو أن المقدسين يُعطَون جسما نورانيا بعد الممات. والنور الذي يصحبهم، يصبح لهم جسدا وبه يُرفَعون إلى السماء. هذا ما يشير إليه الله جلَّ شأنه في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. أي أن الأرواح الطيبة والنورانية تصعد إلى الله تعالى، والأعمال الصالحة ترفعها أكثر، أي كلما كثرت الأعمال الصالحة رفعت الروح أكثر فأكثر. لقد أطلق اللهُ تعالى على الروح هنا الكلم وفي ذلك إشارة إلى أن الأرواح كلها كلمات الله في الحقيقة، ولكنها تحولت إلى الأرواح كسِرٍّ لا يُدرَك، ولا يمكن للعقل أن يسبر غوره. وإلى هذا الأمر يشير مضمون الآية: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ}. ولما كان ذلك سر الربوبية، فليس لأحد أن ينبس ببنت شفة أكثر من أن كلمات الله هي التي تلبس حُلّة الروح بأمر الله وإذنه تعالى، وتنشأ فيها كافة القوى والقدرات والخواص التي توجد في الأرواح. والأرواح الطيبة تتخلى عن جميع قواها في حالة فنائها في الله، وتفنى في طاعته، فكأنها تخرج من حالة الروح، وتتحول إلى كلمة الله نهايةً، كما كانت كلمة الله بدايةً. إذاً، فإن تسمية هذه الأرواح الطيبة بكلمة الله، إشارة إلى كمالها البالغ ذروته، فإنها تُعطَى لباس النور، وبقوة الأعمال الصالحة تُرفع إلى الله تعالى.” أهـ

ويرد المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام على خطأ القائلين بموت المسيح عَلَيهِ السَلام لثلاث ساعات ثم رفعه إلى السماء -وهو سياق النص الذي بتره صاحب الاعتراض- كما يلي:

يتبين بإلقاء نظرة عابرة على هذا الرأي، أن الذين تبنّوا هذا الرأي بدايةً لعلهم كانوا ينوون -كما ورد في بعض الأحاديث، وكما كتب المولوي عبد الحق الدهلوي كثيرا في كتبه، وكما يعتقد المتصوفون- بأنه عندما يموت عَبْدٌ صالحٌ ومقدس يُحيا بعد مماته، ويُعطَى بقدرة الله جسما نورانيا نوعا ما، وبه يسكن في السماء بحسب درجته؛ فلماذا نجعل من رفع المسيح قصة غريبة؟! نحن نعترف أنه رفع إلى السماء بجسد نوراني كما رفع الأنبياء الآخرون، وقد أُعطي جسدا نورانيا، لذلك لم يعد بحاجة إلى الأكل والشرب والبول والتبرز. ولو كان في السماء بجسد مادي لكان ضروريا أن يكون له مطبخ ومرحاض هنالك أيضا، لأن الله تعالى قد جعل هذه الأمور كلها ضرورية للجسد المادي، كما يتبيّن من آيات القرآن البينات. يا أيها المشايخ لما كان موت المسيح ثابتا من القرآن الكريم بوجه عام، وظلت أقوال بعض الصحابة والمفسرين أيضا تؤكد على موته منذ البداية إلى اليوم، فلماذا تتعصبون لرأيكم بغير حق. فَدَعُوا إله النصارى يموت.” أهـ

ويكمل حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام شرح معنى الجسد النوراني الذي يُعطى للصالحين بعد الموت وكيف أن لا ميزة خاصة للمسيح ؑ على باقي النبيين ؑ، فيقول عَلَيهِ السَلام:

وبما أن المسيح قد أقر بنفسه -في الإنجيل- أن إبراهيم موجود في العالم الثاني مع الجسد، فأية ميزة خاصة توجد في جسد المسيح حتى يستيقن المنصف أن للمسيح جسدا ماديا، ولإبراهيم جسدا نورانيا. أما لو ثبت أن جسد المسيح يحتاج إلى لوازم الجسد المادي مثل الأكل والشرب والتبول والتبرّز وغيرها، بينما لا يحتاج جسد إبراهيم إلى هذه اللوازم؛ لما وسع أحدا أن يُصِرّ على الإنكار بعد هذا الإثبات. ولكن لم يستطع المسيحيون ولا أحد من المسلمين أن يثبت ذلك إلى الآن، بل جميعهم يقرّون بكل وضوح أن حياة المسيح مماثلة ومتحدة الحقيقة تماما مع حياة الأنبياء الآخرين، ولا توجد فيها ميزة يمتاز بها عن غيره.” أهـ

وهكذا ثبت أن ما قاله المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام له أصل في الحديث الشريف وأقوال السلف الصالح رحمهم الله أجمعين.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد