سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتصحيح المفاهيم” حلقة 12
نسمع في مواقع وكتب أحبتنا المسيحيين في أوقات عديدة أن المسيح عَلَيهِ السَلام ادّعى أنه ابن الله في الكتَاب المقدس، وسواء قبل المسلمون ذلك أم لم يقبلوا فهو في الكتاب المقدس الذي يعترف به مليار ونصف مسيحي حول العالم. فهل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أي ادّعاء مساوٍ لهذا مما يشير إلى عظمته وعلو مكانته كما عند المسيحيين ليسوع المسيح ؟ ونص الشبهة كالتالي:
الشبهة:
لقد نال يسوع لقب ابن الله مما يثبت عقيدة الفداء والكفارة. فالذي يكون ابن الله فهو بداهة وارث للصفات الإلهية كما يرث الإبن أباه. فهل نال نبي الإسلام أي صفة مثل هذه الصفة العظيمة التي نالها يسوع المسيح؟ كيف يمكن لإنسان عادي أن يمتلك مثل هذه الصفات؟ هل تصدق هذه الأمور على نبي الإسلام؟ إذا كان الجواب بالنفي، كيف يمكن لنبي الإسلام إذاً أن يكون بمثل عظمة يسوع؟
يجيب الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام فيقول:
“لقد وُصِفَ الصادقون الكُمَّلُ في الكتب السابقة بكلمة “ابن الله”، ولكن هذا لا يعني أنهم أبناءُ الله حقيقةً، لأن ذلك كُفرٌ، واللهُ تعالى مُنَـزّهٌ عن الأبناءِ والبنات، بل معناها أنَّ اللهَ تعالى قد نزلَ بصورةٍ انعكاسيةٍ في مِرآةِ هؤلاء الصادقين الكُمّل النقيةِ. إنَّ صورة الإنسانِ التي تظهَرُ في المِرآة تكونُ بمثابة إبنٍ له على سبيل الاستعارة، لأنه كما يتولدُ الابنُ من الأبِ كذلك تنشأُ الصورةُ المنعكسة مِن الأصل. فعندما لا يبقى في القلبِ النقي شيءٌ من الشوائب وتنعكس فيه التجليات الإلهية تكونُ تلك الصورةُ الانعكاسيةُ كالابنِ للأصل على سبيل الاستعارة. لذلك فقََدْ قيلَ في التوراة “يعقوبُ ابني بل هو ابني البكر”. لقد ذُكر عيسى بن مريم في الأناجيل بكلمة “ابن”، لو توقفَ المسيحيون عند هذا الحدِّ وقالوا إنه كما سُمِّيَ إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان وغيرهم أبناء الله في الكتب الإلهية على سبيل الاستعارة كذلك الحال بالنسبة لعيسى أيضاً لَمَا وقَعَ عليهم أيُّ اعتراضٍ لأنه قد سُمِّي أنبياؤهم في كتب الأنبياء السابقين أبناءً على سبيل الاستعارة. وقد ذُكِرَ نبينا ﷺ في بعض النبوءات على أنه إلٰه. والحقّ أنه لَمْ يكن هؤلاء الأنبياء كلّهم أبناء الله وكذلك ليس النبي ﷺ إلها. بل هذه كلّها استعارات لإظهار الحُب. لقد وردَت مثلُ هذه الكلماتِ في كلام الله تعالى بكثرة. حين يفنى الْإِنسَانُ في حُبِّ الله تعالى ولا يبقى مِن وجوده شيءٌ عندها تُستخدَم مثلُ هذه الكلماتِ لبيانِ حالة فنائه لأن وجوده يتلاشى في هذه الحالة، كما يَقُولُ الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، انظروا الآن أنه قد قيل هنا: {يَا عِبَادِيَ} بدلاً مِن يا عباد الله، مع أنَّ النَّاسَ عبادُ اللهِ وليسوا عبادَ النبي ﷺ. والمعلوم أنه قد قيلَ ذلك على سبيل الاستعارة. كذلك يَقُولُ اللهُ تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، فقد اعتُبرت يد النبي ﷺ في هذه الآية يدَ الله، وواضحٌ أنها ليسَت يد الله. كذلك يَقُولُ تعالى في آيةٍ أخرى: {فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، هنا شُبِّه الله تعالى بالأبِ، وهذه الاستعارة أيضاً لا تتعدّى التشبيه. كذلك أوردَ اللهُ تعالى قولَ اليهود في القرآن حكايةً عنهم حيث جاء قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، ولم يستنكر اللهُ تعالى استخدامهم كلمة “أبناء” وَلَمْ يقُل لهم مثلاً ما هذا الكُفر الذي تتفوهون به ! بل قَالَ: إذا كنتم أحبّاء الله فَلِمَ يعذِّبكم ؟ وَلَمْ يُعِد ذِكر كلمة “أبناء”. فتبيّنَ مِن ذلك أنَّ أحبّاء الله كانوا يُذكَرون في كتب اليهود بكلمة “أبناء” أيضا. إنني أهدفُ مِن هذا البيان كلِّه إلى أنَّ اللهَ تعالى قد جَعَلَ حُبه لأحد منوطاً باتّباعه النبيَّ ﷺ. وقد جَربتُ شخصياً أنَّ اتّباعَ النبيِّ بصدقِ القلبِ وحُبه ﷺ يجعلُ الإنسانَ محبوباً عند الله أخيراً بحيثِ يخلق في قلب الإنسان حرقةً لُحبِّ اللهِ تعالى، فيخضع إلى الله راغباً عن كل شيء ولا يبقى له أُنسٌ ولا شَوقٌ إلا لله ﷻ. عندها يقعُ عَلَيهِ تجلٍّ خاصٍّ لحُبِّ الله فيصبِّغه بصبغة الحُب والعشق الكاملة ويجذبه إلى نفسه بكلّ قوة. حينئذ يتغلبُ على أهواء النفس وتظهرُ أعمالُ الله تعالى الخارقة لتأييده ونصرته مِن جميع النواحي بصورة الآيات.” (حقيقة الوحي)
وهكذا يردُّ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام على هذه الشبهة مُفنّداً إياها ومثبتاً كما أثبت الْمَسِيحُ عَلَيهِ السَلام مِن قبْل أنَّ الأنبياء في التوراة قيل بحقهم ذات الشيء، كما أثبتَ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم جاء في حقّه أعظم من ذلك في القُرآن الكَرِيم ومع ذلك هو عبد الله تعالى فقط وليس إلهاً، وهذا يُبْطِل عقيدة الولد لله تعالى وأنها إذا صحّت في الكتب السابقة فلا تعني إلا المجاز والاستعارة. ويكمل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فيقول:
“وبناءً على ذلك فإن الفانينَ في اللهِ تعالى يُسمَّونَ أبناءَ الله، ولكنهم ليسوا أبناء الله حقيقةً لأن ذلك كُفرٌ، فاللهُ تعالى مُنَـزّهٌ عن أن يكون له أبناء. إنهم يُسمّون أبناء الله على سبيل الاستعارة لأنهم يذكرون الله تعالى دائماً بحماس القلب مثل الطفل الصغير؛ فقََدْ أشارَ اللهُ تعالى في القرآن الكريم إلى هذه المرتبة فقال: {فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. ولهذا السبب ذُكر الله تعالى بكلمة “الأب” في كُتب جميع الأقوام. وهناك تشابهٌ بين الله تعالى والأُم أيضاً على سبيل الاستعارة؛ وهو كما أنَّ الأُمَّ تربِّي الجنينَ في بطنها، كذلك يتربّى عباد الله المحبوبون لديه في حُضن حُبه تعالى وينالون جسماً طاهراً بدلاً مِن الطبيعة السيئة. إذن، فالأولياء والصوفيون إنما يسمَّون أبناء الله على سبيل الاستعارة، إذ أنَّ الله تعالى مُنَـزَّه عن الأبناء ومِن صِفاته أنه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.” (حقيقة الوحي)
ثم يبيِّنُ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام أنَّ هذا الكلام كتبه أهل الكتاب بأنفسهم أي قد لا يصحّ ولو صحَّ فمعناه كما سلف أعلاه. يَقُولُ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام:
“فملخّص الكلام أنه لَمْ يتمكن مِن إراءة آيةٍ على ألوهيته كما يتبينُ مِن عبارة الإنجيل المذكورة آنفاً، بل وُلِدَ مِن بطن امْرَأَةٍ ضعيفةٍ وعاجزةٍ وواجَهَ -على حَدِّ قول المسيحيين- طول عُمره ذُلَّةً وهَواناً وعدَم قُدرة وخِزْياً كما يواجهها الأشقياءُ والتُعساءُ من الناس. وكذلك قَبِلَ لنفسه حالة قذرة ببقائه أسيراً إلى مُدة من الزمن في ظلمات الرَحم، وبولادته عبْر طريق غير نظيف، وما بقيَ تلوُّثٌ من تلوّثات البشرية وعيوبها لَمْ يتورَّط فيه ذلك الابنُ المُشوِّه لسُمعة أبيه. وأضِفْ إلى ذلك أنه اعترفَ في كتابه بجهله وعدم علمه وعدم قدرته وعدم كونه بارَّاً. وقد عُدَّ ذلك العبدُ الضعيفُ ابناً للهِ دون مُبرر مع أنه كان أقلّ من بعضِ الأنبياء العِظام من حيث الفضائل العلمية والعملية، وكان تعليمه أيضاً ناقصاً إذ كان فرعاً من شريعة موسى. فكيف يجوز إذن أنْ تُوجَّه إلى الله القادر القدير والأزلي والأبدي تهمةٌ أنه صارَ مُحتاجاً في نهاية المطاف -بعدما كان كاملاً وغنياً وقادراً قديراً في ذاته- إلى ابن ناقص كهذا، وفقدَ جلاله وعظَمته كلها دفعة واحدة؟ لا يسعني أنْ أفهم على الإطلاق أنْ يجيزُ عاقلٌ بحقِّ ذلك الذاتِ الكاملِ والجامعِ لجميعِ الصفاتِ الكاملةِ، أنواعَ الذلّة والإهانة من هذا القبيل. والمعلوم أنه لو نُقِّيت وقائع ابن مريم مِن المحامِد الزائفة والعابثة، لكانَ ملخّص وقائعه الصحيحة الواردة في الأناجيل أنه كان عبداً عاجزاً وضعيفاً ناقصاً كبقية الناس، وكان أحد الأنبياء المطيعين لموسى ؑ. وكان تابعاً ومطيعاً لنبي عظيم الشأن ولم يبلغ تلك العظَمة بنفسه. أيْ كانَ تعليمه فرعاً لتعليم عالٍ وما كان تعليماً مستقلا. وقد أقرَّ بنفسه -كما ورَدَ في الأناجيل- بأنه ليسَ بارّاً ولا عالِماً بالغيب، وَلَيْسَ قادراً بل عبدٌ ضعيف. والواضح من بيان الإنجيل أنه قد دعا لنجاته مراراً أثناء الليلة قبْل اعتقاله، وتمنّى أن يستجاب دعاؤه، ولكنه ما استُجيب. وكذلك ابتُلي مِن الشَّيْطَانِ كما يُبتلى العبادُ الضعفاء. فمِنَ الواضحِ أنه كانَ ضعيفاً وعاجزاً بكلّ المعايير. وكذلك وُلِدَ مِن مَخْرَجٍ مَعلومٌ عنه أنه طريقُ نجاسةٍ وقذارة، وظلَّ يُعاني مِن الجوعِ والعطشِ والألمِ والمرضِ إلى مُدةٍ طويلة. وحدَثَ ذات مَرَّةٍ أنْ ذهبَ إلى شجرة التين وقد سعَرَه الجوعُ ولكن لَمْ يكن في نصيبه شيءٌ منه، لأن الشجرة كانت خالية من الثمار، ولم يقْدِر على أن يخلق بضع حبات من التين ليأكلها. باختصار، بقيَ إلى مُدة من الزمن في هذه الحالات من التلوُّثات حتى ماتَ في نهاية المطاف بعد تَحمُّلِ أنواعَ المعاناةِ بحسبِ إقرارِ المسيحيين ورُفعَ من هذه الدنيا. هنا نتساءل: هل يجوز وجود هذه الصفات الناقصة في الإله القادر القدير؟ هل يُدعى قُدّوساً وذا الجلال مَن كانَ مليئاً بهذه العيوب والنقائص؟ وهل يمكن أن يُولد مِن بطن أُمٍٍّ واحدة -أي مريم- خمسةُ أولادٍ فيصيرُ أحدُهم ابن الله بل الإله نفسه، وأما المساكين الأربعة الآخرون فما نالوا أدنى نصيبٍ من الألوهية. فقََدْ كان بمقتضى القياس أنه ما دامَ مُمكناً أنْ يولَد إلـهٌ مِن بطنِ مخلوقٍ وَلَيْسَ ضرورياً أنْ يولَد إنسانٌ من بطن الإنسان وحمارٌ من بطن الأتان؛ فكان واجباً أنه لمّا وُلِدَ من بطن المرأة إلـهٌ ألا يولَدُ من البطن نفسه مخلوقٌ آخَر بعد ولادة الإله، بل يجب أن يكون جميع الأولاد الذين يتولّدون من هذا البطن آلهةً، لكي يبقى ذلك الرحِم المقدّس مُنـزّهاً من شراكة ولادة المخلوق ويبقى مَصدراً لخلق الآلهة فقط. فبناءً على القياس المذكور كان ضرورياً أن يجد إخوةُ المسيح ؑوأخته أيضاً نصيباً من الألوهية. أما أمُّ هؤلاء الخمسة فكان من المفروض أن تكون ربّة الأرباب، لأن هؤلاء الخمسة استفاضوا منها من حيث القوى الروحانية والمادية. لقد افترى المسيحيون كثيراً في مديح ابن مريم دون مُبرر، ولكن مع ذلك ما استطاعوا أن يُخفوا نقاط ضعفه، بل أقرّوا بأنفسهم بتورطه في أنواع التلوّثات، ثم جعلوه ابن الله دون مُبرر. مع أن اليهود والنصارى كلّهم أبناء الله بحسب كتبهم المشبوهة، بل هم الآلهة ذاتها بحسب إحدى العبارات، ولكننا نرى أنَّ البوذيين كانوا أفضل منهم في افترائهم واختراعهم، لأنهم لَمْ يُجيزوا لبوذا قَطٌّ -بعد أن اتخذوه إلهاً- ولادته عبْر طريقٍ نجسٍ وأكْلِه النجاسة مِن أيّ نوع، بل كانوا يعتقدون أنه وُلِدَ عن طريق الفَم. فالأسف كُلّ الأسف أنَّ المسيحيين قاموا بافتراءات كثيرة، ولكن لَمْ يخطر ببالهم أن يفتروا قولاً بولادة المسيح عن طريق الفَم وينقذوا إلههم من البول والنجاسة. ولم يخطر ببالهم أيضاً ألا يُجيزوا له الموت الذي ينافي حقيقة الألوهية كليّا. وَلَمْ يخطر ببالهم أيضاً أن يحذفوا من الإنجيل الأماكن التي ذُكر فيها اعترافُ ابن مريم أنه ليس بارّاً وَلَيْسَ عاقلاً كاملاً وَلَمْ يأتِ باختياره، وَلَيْسَ عالِماً بالغيب ولا قادراً وَلَيْسَ في قُدرته استجابة الدعاء أيضاً، بل ليسَ إلا عبداً ضعيفاً ومسكيناً من أبناء آدم وجاءَ مرسَلاً من قِبَلِ المالك رَبِّ العالمين.” (البراهين الأحمدية)
ثم يُقدّم الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام مقارنة بين النبي ﷺ والمسيح ابن مريم عَلَيهِ السَلام طالما طلبها المسيحيون أنفسهم، فيقول الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام:
“لَقَدْ اعتُبر في القرآن الكريم قول نبينا الأكرم ﷺ وفعله قولَ اللهِ وفِعله. فمثلاً قد وردتْ عن القول آيةُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. انظروا الآن أنه يثبت من هذه الآية أنَّ جميع أقوال النبي ﷺ هي أقوال الله تعالى. ومقابل ذلك هناك آية أخرى يثبت منها أنَّ أفعاله أيضاً أفعال الله، كما يقول تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}. ويثبت من هذه الآية أنَّ أفعال النبي ﷺ أيضاً هي أفعال الله تعالى. فلمّا كانت أفعال النبي ﷺ وأقواله بمنـزلة أفعال الله تعالى وأقواله فما هي النتيجة إلا أنه ﷺ هو المَظهَرُ الأتمُّ لِِذَاتِ البارئ تعالى. ومع ذلك لا يعتبره ﷺ المسلمون العقلاء إلـهاً ولا يعُدّونه أقنوم الألوهية مثل المسيحيين، مع أنَّ هناك إثباتاً عملياً أيضاً بحقّه وهو أنَّ الله تعالى كما يغار لنفسه كذلك تماماً يغار له ﷺ. والذين آذوا النبي ﷺ وسفكوا الدماء بغير حقٍّ أو أخرجوه من وطنه، ما أمات اللهُ تعالى النبيَّ ﷺ ما لَمْ يُذِقهم عذاباً شديداً، وما لَمْ يُجلس الذين ساعدوه ﷺ على العروش. والآن لمّا نقارن وقائع النبي ﷺ مع وقائع يسوع المسيح نضطر للإقرار بأن الله تعالى لَمْ يُظهِر تأييدَه العملي ليسوع المسيح بل ظلَّ يؤيدُ اليهود حتى علّقوه على الصليب وأهانوه بشدّة. حين أراد كسرى قتلَ النبي ﷺ قُتِل هو في غضون ليلة واحدة. ولكن عندما صدر قرار اعتقال المسيح نتيجة وشي اليهود فقََدْ اعتقله شرطيان فقط خلال ثلاث ساعات وأودعوه السجن. الآن، كُلُّ واحدٍ يستطيعُ أن يفهم إنْ كان جلالُ الله يرافقه إِذْ لَمْ يسْلَم من الاعتقال رغم دعائه طول الليل. ثم نرى كم من الناس اجتمعوا عند بيت النبي ﷺ للهجوم عليه بغية قتله وحاصروا بيته ولكنهم خابوا وخسروا مع محاولاتهم الشديدة وأُنقِذ ﷺ بفضل الله الخالص دون أن يدعو طول الليل مثل يسوع المسيح، وخرجَ مِن بين جمعهم بكل سهولة في وضح النهار ولم يره أحد. أما دُعاء المسيحِ الأليمُ: “إيلي إيلي لِمَ شبقتني” الذي يسخر منه اليهود إلى الآن رُفض تماماً وكانت نتيجته هو صَلْبَه باعتراف المسيحيين أيضا. هذه كانت معاملة الله مع المسيح ؑ، ولا تختلف وقائع الحواريين أيضاً عنها كثيراً، إِذْ قد وعدهم الْمَسِيحُ بأنه سيعود في أثناء حياتهم. انظروا الآن كيف ثبت بطلان هذه النبوءة، إِذْ قد أوشكت ألفا سنة على الانتهاء ولا يوجد لمجيئه أيّ أثر. وقد مات المنتظرون جميعاً ويسخر منهم اليهود دائماً سائلين: أين عاد معلّمكم ؟ وواجه المسيحيون من هذا السؤال خجلاً دائماً ولم يطيقوا جوابا. قد وُعدوا باثني عشر كرسياً ولكن أحد الحواريين ارتدّ في حياة المسيح. والثاني أيضاً تصرف كالمرتدّين تماما وبذلك بقي عشر كراسٍ فقط، مع أنَّ النبوءة كانت تتضمن وعداً باثني عشر. أما نبينا الأكرم ﷺ فقد وعدَ أصحابه برفعهم إلى العروش في الدنيا، ويعترف معارضونا أيضاً أنَّ هذا الوعد قد تحقق. فالحاصل أنه لا يوجد في تعليم المسيح كلمات نادرة وعجيبة مِن شأنها أنْ تؤدي إلى تأليهه لأن الكلمات نفسها جاءت بحق الأنبياء الآخرين أيضا بكثرة. فمثلاً أُطلِقَ على آدم “ابن الله”، وقيل لإسرائيل أيضا “ابن الله” بل ورَدَ أيضاً بأنكم كلكم آلـهة. ولكن هل يجوز الاستنتاج من هذه الكلمات أنَّ الذين استُخدمت هذه الكلمات بحقّهم هم آلـهة أو أبناء الله في الحقيقة ؟ وقد استخدمَ الْمَسِيحُ أيضاً كلماتٍ مثلها !” (عصمة الأنبياء)
ثم يبيِّنُ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام أنَّ حديثه عن المسيح لم يكن إلا تبكيتاً للمسيحيين الذين يهاجمون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ومِن كتبهم هُم وأنَّ المسيح عَلَيهِ السَلام الذي في القُرآن الكَرِيم ليس هو المقصود لأنه لم يدعّي الألوهية ولا البنوة لله تبارك وتعالى، فيقول حضرته:
“ليتذكر القُرّاءُ أننا كُنّا مضطرين لدى الحديث عن الديانة المسيحية أن نختار نفس الأسلوب الذي اختاره هؤلاء ضدّنا. الحقيقة إنَّ المسيحيين لا يؤمنون بسيدنا عيسى عَلَيهِ السَلام الذي قال عن نفسه بأنه عَبْدٌ ونبيٌّ فحسْب، وكان يُؤْمِنُ بصِدق جميع الأنبياء السالفين، وكان يُؤْمِنُ من صميم قلبه بمجيء سيّدنا مُحَمَّدٍ المصطفى ونَبّأ عن بعثته ﷺ. وإنما يؤمنون بشخص آخر يسمى يسوع، ولا يوجد ذِكْرُه في القرآن. ويقولون بأن ذلك الشخص ادّعى الألوهيهَ، وقَالَ عن الأنبياء السابقين إنهم “سُرّاق” و”لصوص”. ويقولون أيضاً إنَّ هذا الشخص كانَ شديد التكذيب لسيّدنا مُحَمَّدٍ المصطفى ﷺ، وتنبأ بأنه لا يأتي بعده إلا المفترون. وتعرفون جيداً أنَّ القرآن الكريم لا يأمرنا بالإيمان بمثل هذا الشخص، بل يقول صراحةً بأن الذي يدّعي بأنه إلـهٌ من دون الله فسوفَ نُدخله جَهنم. ولهذا السبب لم نُبدِ لدى الحديث عن يسوع المسيحيين الاحترام اللازم تجاه رجُلٍ صادق، إذ لَولَمْ يكن ذلك الرجلُ (المزعوم) فاقدَ البصر، لمَا قَالَ بأنه لن يأتيَ بعده إلا المفترون، ولو كان صالحاً ومؤمناً لمَا ادّعى الألوهية. فعلى القرّاءِ ألا يعتبروا كلماتنا القاسية موجَّهةً إلى سيّدنا عيسى عَلَيهِ السَلام. كلا، بل إنها موجهة إلى يسوع الذي لا يوجد له ذِكرٌ ولا أثر، لا في القرآن ولا في الأحاديث.” (مجموعة الإعلانات، مجلد 2، ص 295 و296)
وقال عَلَيهِ السَلام مبيّناً حُبّه واحترامه للمسيح الناصري عَلَيهِ السَلام:
“إننا -بعد تخصيص منصب الألوهية للهِ وحده- نعتبرُ سيّدنا عيسى عَلَيهِ السَلام صادقاً وصالحاً في جميع الأمور، وجديراً بكلّ نوع من الاحترام الذي يجب القيام به تجاه كُلّ نَبِيٍّ صادق“. (كتاب البرية، الخزائن الروحانية؛ ج 13، ص 154)
وهنا يبيِّنُ الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام بأن المسلمين ما آمنوا بصدق وعَظَمة المسيح عيسى ابن مريم عَلَيهِ السَلام إلا من خلال القُرآن الكَرِيم فقط:
“وَلَقَدْ مَنّ القُرآنُ الكريمُ عَلَيهِ مِنَّةً عظيمة إِذْ عَدّهُ في قائمة الأنبياء، ولهذا السبب نؤمنُ به نبياً صادقاً ومصطفىً وبريئاً مِن التُّهم التي وُجِّهت إليه وإلى أمه. … زُبدة الكلام أنَّ القرآنَ الكريم يعدُّ المسيح ؑ صادقا. … قَدْ قَبِلنا مستندين إلى القرآن الكريم وآمنّا به بصِدق القلب وليس في أيدينا دليلٌ على صِدْقه سوى ذلك.” (إعجاز أحمدي)
وبهذا يكسر الْمَسِيحُ الموعودُ عَلَيهِ السَلام صليب التنصير والافتراء على النبي الأعظم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بسيف السماء ويحفظ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مقامه الخاتمي كاللبنة في زاوية القصر النبوي ومقام المسيح عيسى ابن مريم عَلَيهِ السَلام كنبي صادق محبوب عند الله تعالى ما ادّعى البنوة والألوهية قَط.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ