المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..149

الاحتكام في لغة المسيح الموعود ع إلى لغات العرب الأربعين ألف وكلُّها حُجة …

ذهبنا في توجيهاتنا للغة المسيح الموعود عليه السلام إلى الاحتجاج باللّغات العربية المختلفة، ومن هذه اللغات ما يندرج تحت اللغات العربية المعروفة والرائجة ومنها ما هو دون ذلك.

ولتأكيد صحة هذا المنهج لا بد لنا من نظرة فاحصة في تطور اللغة العربية وتطور النحو فيها. فهذه الدراسة تؤكد أن استقراء اللغة العربية والذي اعتمد عليه النحاة الأوائل في تقعيد اللغة، كان استقراء ناقصا لا يمكننا الاتكال عليه فقط، من أجل تحديد القواعد العربية واللغات الفصيحة ومدى شيوعها أو شذوذها، وبالتالي لا يمكننا الاعتماد عليه للحكم على لغة المسيح الموعود عليه السلام وما تحويه من لغات عربية مختلفة.

فمن أسباب النقص في هذا الاستقراء كان ما يلي:

  1. في عملية استقراء اللغة العربية ومن أجل تقعيدها اعتمد أوائل النحاة البصريين والكوفيين على القرآن الكريم باعتباره أعلى مستويات الفصاحة والبلاغة، ثم من بعده كلام العرب الفصحاء، وقيّدوا أنفسهم بقيود زمانية ومكانية لأخذ هذه اللغة.
  2. فمن حيث المكان قيّدوا أنفسهم ببعص القبائل العربية المعروفة بفصاحتها ونقاء لغتها، والتي كانت تسكن أواسط الجزيرة العربية ولم تشب لغتها شائبة من لغات الشعوب المجاورة، مثل القبائل الحجازية وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين.
  3. ومن أسباب نقص الاستقراء هذا، أنه لم يكن في حياة هذه القبائل من الحضارة ما يجعلهم يدونون نصوص لغتهم تدوينا يفيد منه اللغوي في عملية الاستقراء.  إذًا، فمن الطبيعي أن يكون الاستقراء، حتى من هذه القبائل المحدودة، لم يكن قد وصل إلينا كاملا متكاملا.  (يُنظر: نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 26)
  4. ومن حيث الزمان فقد قيدوا أنفسهم بالأخذ عن العرب الفصحاء الذين عاشوا قرنا ونصف قبل الإسلام إلى قرن ونصف بعده. وهذه القرون الثلاثة عُدّت بأنها عصور الاحتجاج اللغوي.
  5. وقد ضيقوا على أنفسهم في مسألة الاحتجاج بالقراءات القرآنية المختلفة، وكذا عدم الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف.
  6. ناهيك عن أن المدرسة البصرية عُرف عنها تشددها في مسألة القياس على المسموع من لغات العرب، فلم يقيسوا إلا على اللغات والظواهر اللغوية الشائعة المطّردة التي عرفت بكثرتها، وأما ما لم يوافق هذا المنهج أو هذا القياس من لغات العرب فلم يأخذوا به في تقعيد اللغة. [ينظر نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 24]

ومن الإنصاف القول إن هذه التقييدات لم يأخذ بها كل النحاة الأوائل، ولكنها كانت بالأخص سمة المدرسة البصرية والتي راج منهجها مع مرور الوقت وطغى على المدارس الاخرة كالمدرسة الكوفية والأندلسية. فأما المدرسة الكوفية فلم تتشدد في مسألة القياس كمثل البصريين، إذ عُرف عنهم أخذهم بالمسموع من كلام العرب ولو كان شاذا، وكانوا يقيسون حتى على الشاذ من هذه اللغات، وجعلوا لكل شاذ قاعدة بعينها،  ولم يهملوا أي شاهد سُمع عن العرب، لأنهم رأوا أن إهمال الشواذ قد يفقد اللغة كثيرا من تراثها . [ينظر نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 24 وص 35]

كذلك فإن الكوفيين قد أجازوا الاستشهاد بالقراءات القرآنية، وهي مصدر مهم من مصادر النحو الكوفي [ينظر نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 28].

إلا أنه على الرغم من هذا، فإن منهج المدرسة الكوفية لم يرُج كما راج منهج المدرسة البصرية. الأمر الذي أدى إلى أن تصلنا القواعد النحوية واللغات العربية التي عليها بنيت هذه القواعد ناقصة أيما نقصان.

فقد أدت هذه القيود التي وضعها النحاة الأوائل، لا سيما البصريين منهم إلى إهدار الكثير من كلام العرب الفصيح، وإضاعة الكثير من الظواهر العربية الفصيحة. وكانت من المآخذ التي أُخذت على النحويين هي اقتصارهم على القابئل التي لغتها اقتربت من الفصحى المتمثلة بلغة الحجاز وتميم وهذيل وطيء، فكان عليهم الأخذ بلغات العرب جميعها، لأنها من أصل واحد وشابهتها بالنشأة، وتدرّجت معها حتى نهاية عصر الجاهلية، فليس هناك لهجة أفضل من الأخرى، وبأيهما اقتدينا اهتدينا. [ينظر: نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 26]

كما “أن التشدد في القياس، بالأخذ فقط باللغات المشهورة المطّردة، أدى إلى إهدار كثير من استعمالات العرب، لأن اللغة لا تخضع دائما للقياس ولا تسير دائما على قواعد…” [ينظر نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 37]

وأما بالنسبة للتضييق الزمني في حصر عصر الاستشهاد اللغوي بالقرون الثلاثة 150 ق.ه إلى 150 ه، فقد أدى إلى تضييع الكثير من اللغة مثل القراءات القرآنية والحديث الشريف وكلام الشعراء المولِّدين مثل المتنبي.

وقد قوّم هذه النظرة الزمنية ابن قتيبة فقال: ” كل قديم من الشعراء فهو محدث زمانه بالإضافة إلى من كان قبله، ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص قوما دون قوم، بل جعلوا ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره) [ينظر : نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث 32]

لذا فنرى أن النحاة المتأخرين أخذوا ينحون منحى مخالفا للنحاة الأوائل، فمنهم من أجاز الاستشهاد بالقراءات القرآنية وكذلك الاستشهاد بالحديث الشريف مطلقا أو بقيود مثل ابن مالك، ومنهم من احتج بالشعراء المولدين وبلغتهم كابن هشام.

وقد انبرى المجمع اللغوي في القاهرة لهذه القضية بعد دراسة واعية وانتهى فيها إلى رأي صريح قاطع، وهو” إن العرب الذين يوثق بعربيتهم ويستشهد بكلامهم هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني، وأهل البدو من جزيرة العرب وإلى آخر القرن الرابع) [ينظر: نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 32] .

كذلك كان مجمع اللغة العربية القاهري ممن أجاز الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف أيضا وهذا ما فصّلنا الحديث عنه في مقال سابق.

وبهذا فإن النحاة المتأخرين بما فيهم مجامع اللغة قد وسّعوا مكان وزمان الاستشهاد اللغوي ومصادره، اعترافا منهم بحجية هذه المصادر وأن إهمالها فيه إهدار كبير لكمٍّ هائل من بليغ الكلام وفصيحه.

لذا فإننا نرى بأن اللغة العربية وما تضمنته من قواعد نحوية، والتي وصلتنا اليوم من الأوائل لا سيما من المدرسة البصرية التي طغت على غيرها، ما هي إلا لغة عربية ناقصة أهدرت الكثير من اللغات العربية والظواهر اللغوية النحوية والصرفية الصحيحة والفصيحة.  وفق التدرج التالي:

فأولا: لم تؤخذ اللغة عن كل القبائل العربية فأُهدر الكثير من الفصيح فيها.

ثانيا: حتى القبائل التي أخذت منها اللغة، لم تصلنا منها كل ظواهرها اللغوية الفصيحة، وهذا أدى إلى تضييق وتقييد أكثر في اللغة، وإهدارٍ أكبر للّغات والظّواهر اللغوية.

ثالثا: التشدد في القياس عند المدرسة البصرية، والأخذ فقط باللغات الشائعة التي وصلتهم، أدى إلى إهدار أكبر وأزيد للغة العربية وظواهرها الفصيحة.

رابعا: إهمال الكثير من النثر العربي من عصور الاستشهاد اللغوي، مثل: القراءت القرآنية التي احتوت على الكثير من الظواهر اللغوية، التي كانت سائدة عند القبائل العربية، وكذلك الحديث النبوي الشريف الذي احتوى هو الآخر على كلام أبلغ البلغاء سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وصحابته المتكلمين بلغة قريش أفصح لغات العرب؛ أدى إلى أهدار جزء كبير من فصيح الكلام وبليغه .

خامسا: عدم الأخذ بشعر الشعراء المولِّدين وبعض الشعراء الإسلاميين، رغم كونهم أئمة الفصاحة والبلاغة، أدى إلى إهدار جزء كبير آخر من اللغة العربية.

سادسا: طغيان المذهب البصري في النحو على المذاهب الاخرى أدى إلى إهمال الكثير من اللغات والظواهر اللغوية التي تقبلها المارس والمذاهب النحوية الأخرى، او اعتبارها أقل درجة وبقائها بين طيات الكتب دون اللجوء إلى استعمالها وترويجها وتدريسها في المناهج الدراسية.

ورغم أن المدرسة البصرية ومنهجها المتشدد كانت سببا أساسيا في مثل هذا الإهدار للّغات العربية الفصيحة، إلا أنّ من نحاتها من يعترف بنقص الاستقراء الذي وصلهم هم، وفي هذا جاء عن أبي عمرو بن العلاء أحد كبار نحاتهم ما يلي: “ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلى أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير”. [ينظر: نظرية النحو العربي ومناهج الدرس اللغوي الحديث، ص 15-16]

إذن فيعترف أبو العلاء، أن ما وصلنا من الاستقراء ما هو إلى أقل اللغة وليس أكثرها، ولو جاء الاستقراء وافرا لجاءنا منه الكثير من اللغات والشعر والظواهر اللغوية الأخرى.

ولذا فإن فهم أبي عمرو بن العلاء لنقص الاستقراء، جعله يعترف أنه حتى اللغات العربية التي لم يُأخذ بها في تقعيد اللغة، لهي لغات صحيحة ولا يمكن وصمها بالخطأ، فقد سؤل: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حُجة؟ قال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات.”

إذن، فهو يأخذ باللغات التي اشترهت بكثرة سماعها ويقيس عليها لبناء القاعدة النحوية، أما اللغات الأخرى التي ليست مشهورة عنده ولم تَرْقَ عنده إلى مستوى القاعدة النحوية، فيسميها لغات ولا يرميها بالخطأ، لأنه يعلم أنها لغات جاءت عن العرب الفصحاء الحجة في اللغة، فأنى له أن يرمي هذه اللغات بالخطأ أو أن يقدح فيها. وقول أبي العلاء هذا فيه المفتاح لفهم وحلّ لغز لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية، فهنالك مجمل اللغات العربية وهنالك جزء منها ما أُخذ في تقعيد اللغة، وكلها لغات عربية صحيحة.

ولا بدّ هنا من التنويه أيضا إلى أن الاختلاف في المناهج بين المدارس والمذاهب النحوية الكوفية والبصرية والبغدادية والأندلسية والمصرية، أدى إلى الكثير من اختلاف الرأي فيما بينها، بالنسبة لقبول العديد من هذه اللغات والظواهر النحوية والصرفية أو عدم قبولها. الأمر الذي أدى في نهايته إلى أن الكثير من اللغات أو الظواهر التي اعتبُرت شاذة أو غير مشهورة أو حتى المشهورة التي لم يتنبّه لشهرتها النحاة الأوائل، قد أخذت بها المدارس المتأخرة والنحاة المتأخرين على خلاف المدرسة البصرية والنحاة الأوائل.

ولم يتوقف اختلاف الرأي بين المدارس المختلفة، بل إن نحاة المدرسة الواحدة قد اختلفوا فيما بينهم في الحكم على هذه اللغات وهذه الظواهر اللغوية وقبولها.

وقد أشرنا في مقال سابق أن من أسباب الاختلاف هذا هو نقصان الاستقراء وكماله، فمن جاءه الاستقراء ناقصا حكم على لغة معينة بالشذوذ، ومن جاءه استقراء أوفر وأوسع وأشمل لنفس اللغة، حكم عليها بالشهرة وأخذ بها. ومن هنا فإن الحكم بالشذوذ والشهرة على لغة معينة ليس بالأمر القطعي المطلق، بل هو نسبي لكمال الاستقراء.

وبناء على كل هذا، نخلص إلى أن قواعد اللغة العربية الرائجة اليوم، ليست مبنية على لغات العرب كلها، فأكثر اللغات العربية الفصيحة لم يصلنا بسبب الاستقراء الناقص، وكذلك فإن الكثير مما وصل بهذا الاستقراء تم إهماله خطأ، فالنتيجة القطعية التي نصل إليها هي:

“هنالك مجمل اللغات العربية مما وصلَنا وما لم يصلنا عن طريق الاستقراء، وهناك القواعد النحوية والصرفية وهي اللغات التي ارتقت إلى مستوى القاعدة دون غيرها بسبب نقص الاستقراء وإهمال الكثير من اللغة والتشدد في القياس، فهذه القواعد هي في الحقيقة جزء قليل من لغات العرب، وأما الجزء الأكبر من لغات العرب والذي لم يرتق إلى مستوى القاعدة، فإنه قد بقي في عداد اللغات العربية الصحيحة والفصيحة ولكنه لم تبن عليه القواعد للأسباب التي بيّناها.”

وعليه فإننا نقول، بأن الاحتكام في تقييم لغات المسيح الموعود عليه السلام، لا بدّ أن يستند إلى مجمل اللغات العربية الفصيحة مما شمله أو لم يشمله الاستقراء، ومما ارتقى إلى مستوى القاعدة أو لم يرتق، وليس فقط إلى القواعد العربية المقيَّدة بآلاف القيود. والسبب في قولنا هذا أن المسيح الموعود عليه السلام، بنفسه قال بأن الله تعالى علّمه أربعين ألفا من اللغات العربية، وهذه هي اللغات التي كتب حضرته فيها. ولم يقل حضرته بأنه جاء بالقواعد العربية المعروفة فقط، وبتعليم من الله ولن يستطيع أحد مبارزتي في هذه القواعد! فلو كان الأمر كذلك لغاب من لغته عليه السلام أحد أهم وجوه الإعجاز والتفرد فيها، وهو الذي قال:

 “فالآن أُيّدتُ من الحضرة، وعلّمني ربي من لدنه بالفضل والرحمة، فأصبحت أديبا ومن المتفرّدين” [نجم الهدى (3/ 38)] فكلام حضرته بلغات العرب المختلفة لا شك أنه مظهر من مظاهر هذا التفرد والإعجاز اللغوي الذي يعجز عنه الأدباء.

وكل هذه اللغات التي كتب فيها حضرته عليه السلام، لهي لغات عربية صحيحة وفصيحة، جاءت مجاورة لأخواتها من اللغات الفصيحة البليغة الأخرى في كلام حضرته، ولا يمكن لأحد أن يقدح بفصاحتها فكلها حُجة يُحتج بها على رأي النحاة أنفسهم.

فها هو ابن جني يفرد في كتابه الخصائص بابا خاصا أسماه ” اختلاف اللغات وكلها حُجة “ومن بين ما قاله عن استعمال اللغات غير المشهورة مقارنة بالمشهورة، كان ما يلي:

” فإذا كان الأمر في اللغة المعوّل عليها هكذا، وعلى هذا فيجب أن يقلّ استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى “وأشيع”منها، إلّا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود اللغتين. فأمَّا إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعيّ عليه. وكذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا, ويقول على مذهب من قال كذا كذا.

وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغةٍ من “لغات العرب” مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه. “[الخصائص (2/ 14)]

فهذا الذي يقوله ابن جني في الحقيقة ما نراه ينطبق على لغة المسيح الموعود عليه السلام في توجيهاتنا المختلفة، حيث إن استعماله عليه السلام للّغات غير المشهورة كان قليلا، ولم يكن شائعا في لغته، فنسبة هذه اللغات الشّاذة في لغته كانت صفرية إذا ما قورنت بجاراتها الأخرى، كذلك فإن بعض استعمالات المسيح الموعود لبعض هذه اللغات جاء بالفعل للسجع، كمثل استعماله لصرف الممنوع من الصرف للتناسب اللفظي، أو حتى إلزام المثنى الألف في جميع حالات اعرابه .

كذلك فقد صرّح المسيح الموعود عليه السلام بشكل واضح وفق ما وضّحه ابن جني، بأنه يتحدث على لغات العرب المختلفة ومذاهبها المختلفة بقوله عليه السلام، إن الله علمه أربعين ألفا من اللغات العربية.

ويفصّل ابن جني الحديث عمّا إذا اختلفت اللغتان وكانتا بنفس الشيوع فيقول:

“,غاية ما لكَ في ذلك أن تتخيّر إحداهما فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها. فأما ردّ إحداهما بالأخرى فلا. أوَلا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: “نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ 3. [الخصائص (2/ 12)]

ولسنا بحاجة إلى شهادة أكبر من هذه التي استند عليها ابن جني، فالقراءات القرآنية التي راعت اللغات والظواهر النحوية القبائلية المختلفة، يقر بصحتها أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فسيد الخلق يقرّ بدوره بصحة اللغات النحوية المختلفة الواردة فيها.

والذي يقوله ابن جني في النص الأخير، نراه ينطبق على بعض لغات المسيح الموعود عليه السلام، فلا يمكن ردها بأختها لأنها تضاهيها بالقوة والشيوع، كمثل لغة صرف الممنوع من الصرف في صيغ منتهى الجموع والتي هي لغة شائعة في النصوص القديمة، وكذا لغة اقتران خبر (كاد) بـ (أن) فهي أيضا لغة شائعة.

وعلى أية حال، فإن ابن جني يقرّ بأن المتحدث على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، ولا يمكن رمي هذه اللغات بالخطأ مهما كانت شاذة أو غير مشهورة، فهذه اللغات كلها حُجة يُحتج بها على الصحة والفصاحة، لأنها مما نُقل عن فصحاء العرب ودار في الكلام الفصيح، وإن كان بعضها أقل فصاحة من غيره.

ويؤكد ابن جني قوله هذا في المحتسب حيث جاء:

” ليس ينبغي أن يُطْلَق على شيء له وجه في العربية قائم -وإن كان غيره أقوى منه- أنه غلط “ [المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها (1/ 236)]

ويؤيده أبو حيان حيث يقول: وإذا كان لغة لقبيلة قِيسَ عليه.(التذييل والتكميل في شرح التسهيل، 28/2)

ولكل هذا نقول، بأن الحكم على لغات المسيح الموعود عليه السلام لا بدّ أن يرتكز على لغات العرب كلّها، مما وصلنا أو لم يصلنا من هذا الاستقراء للّغة، فمنها لغات معروفة مشهورة ومنها دون ذلك، والحكم على شهرة بعضها أمر نسبي لا قطعي ومختلف عليه.

وإننا لا نستبعد أن تكون في لغته عليه السلام، لغات عربية لم تنقلها إلينا الكتب العربية بسبب نقص الاستقراء؛ لذلك فإن منهجنا لا بدّ أن يسير نحو الاستماتة في توجيه لغته عليه السلام على لغات العرب كلها مما نقلته الكتب. وأما ما لم نجد له توجيها فلسنا مخوّلين ولا يحق لأحد مهما بلغ علمه في اللغة العربية، أن يرمي هذه اللغات بالغلط واللحن أو حتى السهو، إذ لا بد في هذه الحال من تفويض أمر هذه اللغة التي لم نعثر لها على توجيه معين لله عز وجل، لأنه الأعلم بحقيقتها، فليس من البعيد أن تندرج تحت لغة عربية قديمة صحيحة وفصيحة لم ينقلها إلينا الاستقراء اللغوي والكتب العربية.

ومهما كان الأمر، فقد أثبتنا وفق أقوال النحاة، أن كل هذه اللغات سواء المشهور منها أو الأقل شهرة أو الشاذ منها، بأنها كلها لغات عربية صحيحة وفصيحة يُحتج بها على الصحة والفصاحة. وهو ما يؤكد صحة منهجنا في توجيه لغات المسيح الموعود عليه السلام على هذه اللغات كلها، نظرا لقوله عليه السلام إن الله تعالى علّمه أربعين ألفا من اللغات العربية.

فكون لغات العرب كلها حجة ويقاس عليها، وفق ما يصرح به ابن جني، لهو الفخّ الذي وقع فيه المعترضون على لغة المسيح الموعود عليه السلام ولم يتنبهوا له، نظرا لجهلهم وظنهم اقتصار اللغة العربية على المناهج الدراسية الضيقة التي تدرس فس المدارس والجامعات.