التوارد في الوحي الإلهي في القرآن الكريم وكتب المسيح الموعود والتوارد في الوحي الشيطاني عند أعداء الإسلام ومعارضي الجماعة القائلين بالسرقة من مصادر أخرى
ما زال أعداء الإسلام حتى يومنا هذا يكررون ادعاءهم بأنَّ القرآنَ الكريم مقتبسٌ من الشعر الجاهلي ومن أساطير الأولين من الأمم والشعوب السابقة ومن التوراة والإنجيل، ويقدمون ما يرونها أدلةً على ذلك بعثورهم على تعابير أو جمل قليلة وردت في الشعر الجاهلي وجاءت في القرآن الكريم أو بسبب عثورهم على مَثَلٍ أو قصة أو تعليم ورد في التوراة أو الإنجيل وسجَّله القرآن الكريم أو أتى بما يشابهه. ولا يزيد ما يقدمونه على عدد قليل من الأمثلة، ولكنهم يوحون بأنها مجرد عيِّنات وما بقي أعظم!
وبنفس الطريقة نجد أن معارضي الجماعة يفعلون الشيء نفسه، ويقولون بأنَّ كتاباتِ المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مسروقةٌ من الحريري والهمذاني والشعر الجاهلي، وأن الأفكار قد سُرقت من “سيد أحمد خان” أو فلان أو علان، وتراهم يقدِّمون ما يدَّعون أنها أدلة بنفس الأسلوب تماما، ويقدمون عددا محدودا من الأمثلة المزعومة ويدَّعون أنها ليست سوى مجرد عيِّنات، وإلا فحجم هذه السرقات كبير جدا!
والمذهل أنك لو دققت النظر في الأسلوب والحجج وطريقة القياس والمراوغة والمخادعة تظن أن الكاتب في الحالين واحد! وهذا له سببه الذي سنبينه، والذي هو حجة إضافية عليهم. ولكن مبدئيا، وبما أن الفريقين في الحقيقة واحد، لذلك فإن الجواب البسيط على هذه التهمة السخيفة هو واحد أيضا، وهو ما يلي:
اجمعوا كل ما ترونه مسروقا من الشعر الجاهلي أو التوراة والإنجيل أو غيرهما ولا تبقوا أي شيء في جعبتكم، ثم تعالوا لنرى كم يشكِّل هذا من القرآن الكريم مهما تساهلنا معكم وتنازلنا. هل يشكِّل هذا نصف القرآن الكريم أو ربعه أو خمسه أو عشره؟ ستجدون أنه لا يشكل شيئا يُذكر، وربما لو قتلتم أنفسكم فلن تستطيعوا جمع بضع صفحات، حتى وإن عددتم ورود تعبير واحد فقط قد جاء سابقا في مصدر آخر سرقة؟ بل إن بضع صفحات كثير أيضا. فإذا كان الأمر كذلك، فماذا عن أكثر من تسعة وتسعين بالمائة من القرآن الكريم التي لا تستطيعون أن تنسبوا إليها السرقة؟
وبنفس الطريقة، فالذين يدعون بالسرقة من الحريري والهمذاني والشعر الجاهلي فليأتوا بهذا كلِّه غير منقوص، ولا يبقوا أي شيء مما يدَّعونه، ولنرَ كم يشكِّل ذلك من كتابات حضرته عليه الصلاة والسلام؟ وماذا عن البقية الباقية التي بلا شك تزيد على تسعة وتسعين بالمائة؟
ومع أن هذا الباب وحده سيكشف فورا تزييفهم ومراوغتهم وكذبهم ودجلهم، وسيسقط هذه الشبهة تلقائيا بمجرد بيان أن ما يعزونه إلى السرقة ضئيل جدا يكاد لا يُذكر، إلا أن هذا الذي لا يُذكر يسقط من باب آخر أيضا ويكون حجة عليهم، ويقدِّم فائدة كبيرة أيضا رغم صغره.
أما عن الفائدة، فالواقع أن هذا التشابه بين الشعر الجاهلي والتوراة والأنجيل من ناحية والقرآن من ناحية أخرى إنما مصدره التوارد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع بنفسه على ما جاء في هذه الكتب ونقلها كما هي. وفي هذا الأمر هنالك رسالتان:
ففيما يخص التوراة والإنجيل فإن هذه الكتب أصلا لم تكن متوفرة حتى للمسيحيين واليهود في ذلك الوقت، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أيضا قارئا ولا كاتبا. ولكن الرسالة الأولى أرادها الله تعالى من هذا التوارد إنما كانت التبيين لليهود والنصارى أن المصدر واحد وهو الله، وهو الذي أوحى لكم هذه الأمور من قبل وأعادها مجددا في القرآن الكريم، ولكن بأبهى وأعظم صورة بعد تصحيحها وترقيتها. والقرآن الكريم بنفسه يعترف بهذا التشابه مع هيمنة القرآن وعلوِّ يده وكعبه، إذ يقول تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }
(المائدة 49)
أما فيما يخصُّ العرب والشعر العربي، فورود الأساليب والتعابير التي وردت في الشعر الجاهلي، أو ما كانت في كلام العرب قبل الإسلام، إنما كان الرسالة الثانية لهم والتي تفيد أن فصاحتهم وبلاغتهم وخير تعابيرهم أيضا موجودة في القرآن الكريم، ولكن القرآن الكريم قد ارتقى بها وتفوَّق وجاء بالجديد الكثير أيضا. والواقع أن وردود هذه التعابير والجمل إنما جاء ليقول لهم تذكَّروا ما كان عندكم واعلموا أن القرآن الكريم أفصح وأبلغ وأعظم، وهو رغم ارتباطه بالتراث فهو يغنيكم عنه ويرتقي به.
وقد فهم ذوي الطبائع السعيدة من النصارى واليهود والعرب هاتين الرسالتين وآمنوا بالإسلام وبذلوا دماءهم من أجله، وكانت تلك الأمور آيات صدق لهم وسببا لتقريب الإسلام لهم ولمتعتهم.
والأمر نفسه ينطبق على كتابات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام التي كان مصدرها الوحي أيضا. فهذا التوارد مع الأدب والشعر العربي إنما كان هدفه تقريب العرب وعشاق العربية إلى دعوى حضرته. فلم يكن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مطَّلعا اطلاعا كافيا على الأدب والشعر بحيث يصبح مُشرَبا في قلبه ومتواردا في ذهنه ولسانه وقلمه، ولكن الله تعالى قد علَّمه هذا بالوحي؛ إذ علَّمه أربعين ألفا من الجذور والأساليب والتراث والشعر والأدب ولهجات العرب القديمة والأمثال العربية حتى غدا وكأنه قد عاش في بلاد العرب عمره كلَّه، بل قد عاش في عصور مختلفة من عصور نهضة اللغة وقوتها. وكان الوحي يمدُّه إمدادا في كتاباته سواء من خلال السليقة المختزن فيها هذا التراث الذي مصدره الوحي أو من خلال الوحي المباشر أيضا عندما تتعثر السليقة أو تستصعب شيئا. فوجود هذه المسحة من التراث والتعابير والأساليب إنما يقرِّب العربي وعاشق العربية من دعوى حضرته بل ويكون سببا لإيمانه وتوقه وذوقه لهذا الكتابات الرائعة ويكون آية له، بل ويرى فيه جوانب عظيمة قد أثْرَت وأَثَّرت في اللغة والأدب العربي وقدمت لهما خدمة عظيمة ستعترف بها الأجيال. وهكذا كان في هذا التوارد فائدة عظيمة للعرب والمسلمين وسببا قويا لتقريبهم من دعوى حضرته التي هي الإسلام الحق ونشأته الثانية الموعودة.
وهكذا نرى أن الأمر في الحالين كان ضروريا جدا، ولم يكن عيبا بل كان جمالا على جمال، وكان دليل صدق للنبي صلى الله عليه وسلم أولا ثم لخادمه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. أما أن يراه السفهاء من المعارضين المتعصبين سرقات وعيبا فهذا لا يقدِّم أو يؤخر، بل يكون علامة على سفههم وطيشهم وتعصبهم وغبائهم.
وهنا تستوقفني نكتة جميلة تخصُّ هؤلاء السفهاء الذين أعماهم التعصب والجهل، وهي أنهم رغم عزوهم إصرارهم هذه التواردات إلى السرقة قد أثبتوا هم بأنفسهم التوارد! فالتشابه الذي يصل حد التطابق في اعتراضاتهم حول السرقة وتشابه الأساليب بينهم وبين أسلافهم مذهل جدا، بل يبدو وكأن الكاتب واحد! مع أنهم في الغالب لم يطَّلعوا على ما كتبوه تفصيلا أو ربما بتاتا. فهذا التوارد في هذه الحالة يثبت وحدة المصدر وهي الشيطان في حالتهم، بينما كان الوحي الإلهي مصدر التوارد عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. وسأضع مثالين في التعليقات لكي يرى القراء مقدار هذا التوارد بينهم وبين أسلافهم الذي حتما سيثير دهشتهم.
الخلاصة أن هؤلاء الذين ينكرون التوارد قد أثبتوه بأنفسهم وعلى أنفسهم، وأن ما يراه هؤلاء المجرمون سببا للاعتراض يراه المؤمنون آيات وسببا للإيمان، وهكذا هي عجائب صنع الله تعالى، إذ يجعل الشيء ذاته نعمة للطيب ونقمة للخبيث. فليأخذ من شاء ما يليق به وما يحلو له.