يُطرح هذا السؤال مؤخراً حول أصل بعض الكلمات والألفاظ أنها ليست عربية بل هي مأخوذة من لغات مختلفة، وقد بدأ القسس ينشرون هذه الشبهة حتى صدَّقها بعض المسلمين للأسف، فهل الفرقان كلمة ليست عربية بالفعل أم هي عربية بالأصل ؟
يجيبنا المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما يلي:
“لقد نقل القسيس (ويري) في تفسيره للقرآن عن تفسير مسيحي آخر للقرآن: إن هذه الكلمة من أصل شاميّ، ويبدو أن محمدًا ﷺ كان مطلعًا على تفسير للتوراة كتبه (إفرايم الشامي)، الذي استخدم في تفسيره كلمة (الفرقان) للتوراة مرّاتٍ عديدة!!
والقسيس (ويري) متفق معه على أن كلمة (الفرقان) من أصل شامي، ولكنه يعارضه في رأيه أن محمدًا كان مطلعًا على ما كتبه شخص نصراني أو شامي أو عبراني، لأن بيان القرآن للأحداث يختلف كثيرًا عن أحداث تاريخ الكنيسة.. فهو بيان ذو مصدر سماعي وليس من الكتب فقط.
ومسألة اطلاع النبي ﷺ أو عدم اطلاعه على كتاب شخص نصراني شامي مسألة لا علاقة لها بهذا الموضوع. لقد ذهب الرسول ﷺ إلى الشام مع قافلة تجارية لبضعة أسابيع فقط. فالزعم أنه تمكن من تعلم الشامية ودراسة كتبها فكرةٌ لا تخطر إلاَّ ببال إنسان مختل العقل. لقد مكث إخوان القسيس الإنجليز في الهند زمن الاستعمار زهاء أربعين سنة وربما لم يكن منهم إلاَّ واحد بالألف يستطيع قراءة كلمات من اللغة المحلية. وكان معظمهم لا يستطيعون حتى التحدث بها. ورغم هذه الخبرات والمشاهدات، فالقول بأن النبي ﷺ قد تمكن خلال بضعة أسابيع من تعلم لغة الشام بل الاطلاع على كتبها، فضلاً عن أعماله التجارية، ليكشف عن تعصب تمكَّن من قلوب الأقوام المسيحية ضد النبي محمد ﷺ.
أما قولهم بأن الفرقان كلمة شامية فهو أيضًا دليل على جهلهم باللغة العربية. العجيب أن هؤلاء الذين لا يعرفون بدائيات العربية يجلسون لكتابة تفسير للقرآن الكريم وهو القمّة التي لا تُدانى في كمال اللغة وفصاحتها وجمالها!
إن الفرقان كلمة عربية الأصل ولها مشتقات عديدة تكثر في حديث العرب مثل: فَرَق، فرَّق، فارق، أفرق، تفرّق، تفارق، انفرق، افترق، فاروق، فِراق، فَرْق، فرُّوق، فرقان، فُرْق، فِرْق، فَرَقٌ، فريقٌ، فَرْقاءُ، فِرْقة، فُروقٌ، فريقة، أفرَقُ، تفاريق، مَفْرَق، مَفْرِق، مُفرِق، مُنفَرِق، ومفرَّق وغيرها من اشتقاقات كثيرة. وإذا كانت هذه الكلمة شامية الأصل فمن أين أتت مشتقاتها هذه؟ وإذا كانت عربية الأصل، فكيف يصبح مصدرها شاميًا؟
نعم، كان من الممكن اعتبارها غير عربية إذا لم يكن وزنها موجودًا في هذه اللغة؛ ولكن نجد وزن (فعلان) مستعملاً فيها بكثرة، منها مثلاً: سبحان، وهو اسم الله تعالى؛ وقرآن، وهو اسم الوحي الذي نزل على محمد ﷺ؛ ونُعمان، وهو اسم إمام الفقه أبي حنيفة؛ وكُفران، أي الكفر؛ فُقدان، أي ضياع الشيء، وغيرها من الكلمات الكثيرة. فعلى الرغم من أن للفرقان في العربية مشتقات كثيرة، وأن وزنها عربي، وهناك مئات الكلمات تماثلها .. إذ زعم أحد أنها شامية الأصل، فزعمه دليل على جهله المطبق. وسوف أُقدّم الدليل الأكبر على كونها عربية الأصل، وأن مادتها مستخدمة في العربية استخدامًا تامًا، أما الشامية والعبرانية .. وهما في الحقيقة مشتقتان من العربية .. فلم تستخدماها بنفس هذه الحكمة والشأن.
وجدير بنا أن نعرف أنه من خصائص اللغة العربية أن اللفظ فيها لا يدل على معنى خاص فقط، بل يشير أيضًا إلى المعاني الأصلية للحروف التي يتكون منها. فهناك ارتباط وثيق بين المعاني التي في الكلمات المشتقة وفي حروف مادتها وفي الكلمات التي تتشابه في مبناها. ويتضح هذا من الأمثلة التالية: فكلمة الفرقان مثلاً التي تتألف من مادة (ف ر ق) .. لها معنى خاص بها، ولكن هناك حكمة وفلسفة توجد في كلمة الفرقان وفي كل كلمة مشتقة من مادة (ف ر ق)، حيث تنطوي تلك الكلمات كلها على نفس المعنى أو ضده .. لأن المخالفة في المعنى هي بمنـزلة المشاركة السلبية .. فعند ذكر معنى من المعاني يرد معه المعنى المخالف تلقائيًا. وهناك كثير من الكلمات في العربية تعطي المعنى وضده، فمثلاً كلمة (الظن) تعني الشك واليقين أيضًا، وكلمة (الرجاء) تعني الأمل والخوف أيضًا. وتسمى مثل هذه الكلمات في الاصطلاح (أضداد). وقد ألف بعض اللغويين كتبًا مستقلة في موضوع الأضداد في العربية، وجمع بعضهم في مؤلفاتهم كل ما ورد في القرآن الكريم من أضداد.
خذ مثلاً كلمة الفرقان المتكونة من حروف (ف ر ق). إذا كوّنا كلمات بتغيير ترتيب هذه الحروف لتضمنت كل كلمة منها المعنى الأساسي في مادة (ف ر ق). فهناك كلمات فَرْق، فَقْر، رِفْق، قَفْر، رَقْف، قَرْف .. وتحمل كل واحدة معنى خاصًا بها، ولكنها أيضًا تشترك في المعنى الأساسي لحروف (ف ر ق)، سواء كانت هذه المشاركة إيجابية أو سلبية. وهذه المشاركة تسمى في الاصطلاح العربي (الاشتقاق الكبير). وهذا يدل على أن كلمة الفرقان عربية.
فمثلاً تعني (فرق) البُعد والخوف. يقال فرَقهما أي أبعد أحدهما عن الآخر، وفَرِق أي خاف. والخوف يتضمن معنى البعد أيضًا، لأن الإنسان إذا خاف شيئًا فرّ وابتعد عنه. والفرقان مصدر فَرَق. جاء في قاموس أقرب الموارد، وهو من وضع عالم نصراني: فَرق يفرق فرْقًا وفُرقانًا.
وتعني (فَقْر) عدم الغنى، فهي تتضمن معنى البُعد لأن الفقير بعيد عن الأغنياء. والبعد ضده الوصل، وهذا المعنى أيضًا موجود في مادة (فقر). يقال فَقَر حباتِ العقد أي نظمها ووصلها بالخيط. وكذلك يسمى العمود الفقري فقرات الظهر لأنها موصولة كالعقد بخيط النخاع الشوكي، ويصل بعضها بالبعض.
و(قَرف) تعني فصل القشر عن الفاكهة وغيرها. يقال قَرَف الجرْحَ: أزال قشره. ومعنى البعد واضحٌ بين هذين المثالين. ويقال قَرَف فلانًا: عابه. وفعل العيب يؤدي إلى التفرقة والبعد. ويقال قرف لعياله: كسب لهم. وقرَف الشيء: خلطه. وقارَف الذنب: قاربه. وهذه الأفعال تفيد الوصل. وهكذا تجمع مادة (ق ر ف) بين معنيي الفصل والوصل.
ثم (قَفَر)، يقال قَفَرَ الأثرَ: تتبَّعه واقتفاه، وتقفرّ أي جَمَع؛ وهذا يدل على الوصل. ويقال أقفر المكان أي خلا. والقفر الخلاء من الأرض لا ناس فيها ولا كلأ. وقِفار خبز بدون إدام، يقال أكل خبره قفارًا. وفي هذه الأمثلة معنى البعد.
و(الرِّفق) تعني اللين، وهو داعٍ إلى الوصل والاجتماع. ورَفَق الناقةَ ربط عضدها. والمِرْفق: الموصل بين الساعد والعضد. والرفيق: الصاحب. والرفاقة: الصداقة.. وكل هذه معان تفيد القرب والوصل.
و(الرَّقْف) تعني الارتجاف، وسببه الخوف، وقد سبق ذكر (فَرَقَ) أي خاف.
فكل هذه الكلمات المؤلفة من حروف (ف ر ق) تؤدي معاني من الفصل أو الوصل. وليس هذا الاشتراك في المعنى مقصورًا على الكلمات المؤلفة من حروف (ف ر ق) فحسب، بل يوجد أيضًا في كلمات قريبة منها مخرجًا. فمثلاً لو وضعنا حرف (و) مكان (ف)، أو (ل) مكان (ر)، أو (ك) مكان (ق) لتكونت كلمات تحمل معاني قريبة من (ف ر ق). وعلى سبيل المثال: فلق بمعنى فرق.
فإذا كانت هناك كلمة في العربية، ولها شبيه من كلمات أخرى في مبناها ومعناها، ولها جذور أصلية في اللغة العربية، فلا يمكن أبدًا القول بأنها كلمة غير عربية مستعارة من لغة أخرى. ومن اليسير علينا، بناءً على الاشتقاق الكبير، إثبات أن كلمة فرقان ليست إلاَّ عربية الأصل. ولكن هذا ليس كتاب لغة بل تفسير، فلا أرى مناسبًا أن ندخل في مزيد من التفصيل.
لقد أسلفت القول أن الفرقان تعني لغةً الفرق أو التمييز بين شيئين. أما معناه الاصطلاحي فقد اختلف فيه العلماء. ذكر ابن جرير عن أبي العالية أنه فسّر الفرقان بما فُرِق بين الحق والباطل. ورُوي عن مجاهد قوله بأنَّ المراد به الكتاب، ومعناه الفارق بين الحق والباطل. وعن ابن عباس أن الفرقان اسم جماعي يُطلق على القرآن والتوراة والإنجيل والزبور. وعن ابن زيد أن الفرقان أوتي لمحمد ﷺ وأيضًا لموسى ؑ، حيث ميّز الله تعالى بين المشركين والمسلمين يوم واقعة بدر، وميّز بين موسى وأعدائه في حادث البحر.(تفسير ابن جرير).
ويقول العلامة القرطبي أن البعض فسروا قوله: [آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ] بأن الله تعالى أعطى موسى التوراة وأعطى محمدًا الفرقان، وحذفَ اسم النبي ﷺ اختصارًا. ولكن هذا المعنى باطل بالبداهة. ويضيف القرطبي بأن الذين فسروا الفرقان بالكتاب يقولون إن الفرقان توكيد للكتاب. وهذا قول الزجّاج والفرّاء. وفسر بعضهم الفرقان أن الله تعالى نجّاهم من المصيبة، أي أخرجهم من مصر. وقال ابن بحر أن معنى الفرقان الحجة والبرهان. وقال غيرهم أن الواو زائدة، والفرقان صفة للكتاب (تفسير القرطبي).
وخلاصة هذه الأقوال أن المعنى الحقيقي للفرقان هو التمييز بين الحق والباطل، ولكنهم اختلفوا في تعيين الشيء الذي أعطاه الله تعالى لموسى تمييزًا بين الحق والباطل. وأرى أن اعتبار الكتاب والفرقان شيئًا واحدًا لا يستقيم نظرًا لما ورد في القرآن في مواضع أخرى. قال الله تعالى: [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ] الأنبياء:49. وتبّين هذه الآية أن الفرقان أوتي لكل من موسى وهارون، فلا يمكن أن يكون معناه التوراة.
لقد وردت كلمة الفرقان في القرآن الكريم بالمعاني التالية:
1_القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] سورة الفرقان: 2. وقال: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ] البقرة: 186، أي أنزل فيه القرآن فيه هداية للناس وأدلة على الهدى، وأدلةٌ ذاتُ فرقان أي مميزة بين الحق والباطل. فالقرآن الكريم مشتمل على الفرقان.
2_النجاة من المصائب والمشاكل؛ قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا] الأنفال:30.
إذا تدبرنا هذه الآيات وجدنا أن معنى الفرقان في الحقيقة هو ما يميّز بين الحق والباطل. وإذا كان موسى قد أوتي فرقانًا فمعناه أنه أوتي ما يستطيع به التمييز بين أصدقائه وأعدائه، وبين الحق والباطل. وإذا كان الرسول ﷺ قد أوتي فرقانًا فمعناه أنه أوتي ما يميز به هو وأتباعه بين الحق والباطل، ولاستطاع به مخالفوه معرفة الحق لو أرادوا. فإذا كان الله تعالى قد وعد المؤمنين بالفرقان، فمعناه أنه سيرزقهم ما يستطيعون به معرفة طريق الخلاص من المشاكل. لذلك فلا داعي لتضيق معاني الفرقان بيوم بدر أو نجاة بني إسرائيل من البحر فقط. لا شك أن غزوة بدر سميت فرقانًا، وكذلك خلاص بني إسرائيل سمي فرقانًا .. ولكن ليس هذا فقط ما أوتي النبيان الكريمان عليهما السلام، بل أوتي موسى ؑ عشرات المعجزات، وأوتي النبي ﷺ آلاف المعجزات علاوة على ذلك. فإذا سمّى القرآنُ معجزةً معينة فرقانًا -كما سمّى بدرًا فرقانًا- سنفسر الفرقان هناك بذلك المعنى الخاص، ولكنه إذا قال (فرقانًا) على إطلاقه فلا يصح تحديد معانيه.
الحق أن كل نبي يُعطى شريعة سواء أُنزلت عليه أو على نبي سابق ويُؤمر باتباعها، وكذلك يعطى فرقانًا، أي آيات تميز بين الحق والباطل. والفرقان هو الوسيلة الحقة لمعرفة صدقه. ولجهل الناس هذه الحقيقة رفضوا في كل زمن أنبياء صادقين أو وقعوا في شراك الكذابين. إن صدق أنبياء الله تعالى لا يتأسس على أمر واحد وإنما يُعطَون عشرات الآيات التي تشكل في مجموعها شهادة على صدقهم وعلوّ درجتهم. هناك من الناس من يحسبون أنفسهم مأمورين من الله تعالى بسبب بضعة أحلام وإلهامات، مع أنها قد تكون من قبيل وسوسة النفس والشيطان، أو نتيجة أمراض وتخيلات، وقد تكون أيضًا من الله الرحمن. وإن تحقُّق حلم أو إلهام ليس دليلاً على أنه من الله تعالى، لأن بعض الأمور الخيالية والطبيعية قد تحدث، فإلهامات بعض الطبائع الضعيفة ليست ميزة لها. وأما وحي الأنبياء له شأن خاص. إنه ذو سعة عظيمة، ويناسب حاجات العصر وهو علاج لمفاسد الزمن. وإلى جانب أصحابهم العظام وإلهاماتهم العظيمة الشأن فإنهم يمتازون حتى قبل دعواهم بحياة طاهرة معصومة. قال الله تعالى على لسان النبي ﷺ: [فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] يونس: 17 .. أي قد يكون هناك خطأ في الإلهام بسبب مرض أو ضعف العقل .. ولكن من الصعب أن يُنسب الضعف العقلي إلى إنسان له هذا الشأن.
فالإلهام الصادق أيضًا دليل، والحياة الطاهرة قبل الدعوى أيضًا دليل، ولكنهما إذا اجتمعا أصبحا دليلاً ثالثًا عظيمًا، وهو الفرقان.
ثم يسوق القرآن الكريم دليلاً آخر على صدق الرسول ﷺ قائلاً: ألا تنظرون إلى وجوه المؤمنين به؟ أليسوا في ذاتهم دليلاً قويًا على صدقه؟ فالناس عمومًا على درجات وطبقات؛ منهم سيئو الخلق، ومنهم الطامعون، ومنهم الجاهلون، ومنهم السذّج .. ولكن يوجد بين المؤمنين به ﷺ من تبوّء مكانة عالية في فنه وعقله وعلمه قبل الإيمان. وإيمان مثل هؤلاء في حد ذاته دليل قوي على صدقه ﷺ. فالذين كانوا ذوي أناة وحلم، وكانوا من أهل العلم والحجة، والبذل والعطاء والبر بالفقراء، ومن ذوي المهارة في مهنهم وفنونهم .. ولم يكونا من أهل الجهل وسوء العمل، ما الذي دعاهم للتعرض إلى الإساءة والتحقير من قومهم .. باتباع إنسان إن لم تكن فيه الآيات الدالة على صدقه؟
ثم ذكر الله تعالى أن آية صدق الرسول ﷺ هي هلاك مناهضيه. وهذا في حد ذاته دليل عظيم، ولكنه إذا اجتمع مع الأدلة الثلاثة السابقة لشكل دليلاً له شأنه العظيم.
كذلك من الأدلة على صدق الرسول ﷺ أنه قضى على المفاسد المنتشرة في زمنه، وأصلح الأخطاء العلمية والعقائدية والعملية. وهذا بنفسه دليل قوي، ولو أضيفت إليه الأدلة السابقة لنهض صرحًا شامخًا على صدقه ﷺ.
إننا نُقرُّ بأن بعض الإلهامات تكون طبْعية وخيالية، ونقر أن بعضها تتحقق أحياناً، ولكن من الصعب جدًّا أن نصدّق أن هذه الإلهامات الخيالية والطبْعية التي هي نتيجة لضعف عقلي أو هذه الإلهامات الشيطانية التي هي نتجية لضعف عقلي وخُلُقي .. لم تجِدْ غيرَ شخص كان قومه يشهدون على طهارة حياته ورجاحة عقله وموفور حكمته. وحتى لو سَلَّمنا جدلاً بهذا الأمر المتعذّر، فإنه من الأشد صعوبةً أن نقبل أن شخصًا صالحًا اختل عقله وادعى أمورًا غير معقولة، ومع ذلك صدّقه عقلاء قومه وفضلاؤهم الذين كانوا يعرفونه عن قرب. ثم لو مضينا في التسليم بحصول هذا الخطأ أيضًا فمن الأشد استحالةً أن نقبل بأن مثل هذا الشخص المخبول قام بإصلاح الأفكار الخاطئة المنتشرة في زمنه؛ سواء في العقيدة أو العلم أو العمل.
يُقِرّ المعترض أن محمدًا ﷺ ادّعى تلقي الوحي السماوي؛ ويقر أن بعض هذا الوحي قد تحقق وإن كانة مصادفة؛ ويُقر أن حياة مُحَمَّدٍ ﷺ قبل دعواه كانت طاهرة تمام الطُهر؛ ويُقر أن المؤمنين به كانوا ممن يعرفونه عن كثب حق المعرفة، وكانوا مشهودًا لهم برجاحة العقل وسعة العلم وصالح العمل؛ ويُقر أن هؤلاء الذين آمنوا بمُحَمَّدٍ ﷺ قد انتصروا مصادفة، وأن أعداءهم انهزموا مصادفة أيضًا؛ ويُقر أن الشرك قبيح وأن مُحَمَّداً ﷺ وفَّق في القضاء عليه؛ ويُقر بأن مُحَمَّداً ﷺ أصلح عشرات العقائد الفاسدة .. بعد كل هذه الإقرارات مجتمعة .. من يستطيع القول أن مُحَمَّداً ﷺ -والعياذ بالله- كان مختل العقل أو تحت تأثير الشيطان. يمكن أن يشكّك أحدٌ في كل دليل على حدة، وينظر إليه منفصلاً عن غيره كحادث من حوادث المصادفات، ولكن اجتماع كل هذه الأدلة ومئات غيرها في إنسان لا يمكن أبدًا أن يكون من المصادفات. وإذا كانت هذه الدلائل مجتمعة محل شبهة فليس في الدنيا شيء يتّسم باليقين.
ومثل هذه المجموعة من الدلائل هي الفرقان في نظري. وقد أوتيتْ مثل هذه المجموعة لموسى، وأوتيت لداود، وأوتيت لعيسى ، وأوتيت لنبينا محمد، وأوتيت اليوم لمؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليهم أزكى الصلاة والسلام.
يعترض المخالف دائمًا على كل دليل بمفرده، وينسى أن الاعتراض ممكن على كل شيء. يجب أن يلاحظ الإنسان كيف اجتمعت عشرات الأدلة المتنوعة في المدّعي. إذا توافرت لأحد مثل هذه المجموعة فيمكن الجزم أنه أوتي فرقانًا، وأنه من الله تعالى، وأن هذا الفرقان لا يمكن أن يُعطى لكاذب.
بيد أن رسولنا محمدًا ﷺ يمتاز عن سائر الأنبياء. ذلك أن هؤلاء أوتوا فرقانًا وكتابًا، ولكنه ﷺ أوتي الفرقان وأوتي الكتاب الذي كان بنفسه فرقانًا. لقد كانت توراة موسى بحاجة إلى معجزات أخرى، أي الفرقان كي يثبت صدقها؛ وكان وحي عيسى بن مريم يحتاج إلى معجزات أخرى، أي الفرقان، كي يتبين صدقه؛ ونفس الحال بالنسبة لكتاب الفيدا الهندوسي، وكتاب الزند الزرادشتي، ولكن الكتاب الذي نزل على مُحَمَّدٍ ﷺ لا يحتاج إلى أدلة أخرى لبيان صدقه .. لأنه بنفسه فرقان .. أي إنه كتاب حيّ، ولو أن الناس نسوا المعجزات الأخرى فإنه رغم ذلك يُثبت صدق نفسه بنفسه .. لِما يحتوي عليه من أدلة وبراهين؛ ومن أجل ذلك سُمي فرقانًا. وليس هناك كتاب سماوي من الكتب السابقة أوتي هذا الاسم. ووعد الله تعالى المؤمنين بالقرآن أنه: [يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا] أي لمّا كان هذا الكتاب فرقانًا فإن المؤمنين به إيمانًا كاملاً يُعْطَون فرقانًا من الله.
هذا الفرقان دليل يبلغ من القوة والشمول بحيث إذا فهمه الإنسان وحاول معرفة صدق الأنبياء على ضوئه لم يصعب عليه أن يتعرف على مأمور زمنه.
قوله تعالى: [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]. حرف (لعل) لا يفيد هنا الشك، بل هو من الأساليب المَلَكية، فيقول الملوك في أوامرهم مثلاً: إننا نأمل من الشعب، والمراد أنه أمرٌ منهم للشعب، فالمعنى: أننا أعطينا موسى نعمة الكتاب والفرقان لكي يهتدي بها بنو إسرائيل، ولكن الأسف أنهم ما استفادوا من الكتاب ولا من الفرقان، ولم يقدِّروا نِعَمنا حق قدرها ومسخوا فطرتهم، فكانت عاقبة ذلك حرمانهم من الهداية.” (التفسير الكبير، سورة البقرة، الآية 54)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
I would like to share my study with ahmadi scholars and researchists. Any one of this calibre there. An Arab scholar was also needed for help. [email protected]
Dear Mubarak,
You may write for us on the following Email:
[email protected]
We will have a look on your research.
Jazaka Allah