كنا قد أثبتنا في سلسلة المقالات السابقة، وفق بحث واكتشاف الدكتور عبد الحميد حمود الشمري والذي عنوانه ” العدول عن المألوف في إعراب شبه الجملة”، والذي هو بمثابة اكتشاف يستحق صاحبه الحصول على جائزة نوبل في التجديد اللغوي؛ أثبتنا أن شبه الجملة من الممكن أن تقع مبتدأ واسما للنواسخ، وبذلك أثبتنا أن كل التراكيب في كتابات المسيح الموعود عليه السلام، والتي ظُنّ خطأ أن حضرته رفع فيها اسم النواسخ الحرفية المؤخر ونصب اسم النواسخ الفعلية المؤخر- أنها كلها صحيحة لا خطأ فيها، لأن حضرته عليه السلام اعتبر شبه الجملة الواردة فيها على أنها مبتدأ وجب رفعه مع النواسخ الفعلية ونصبه مع النواسخ الحرفية.

وقد يتسائل البعض، بأن هذا النوع من التركيب – أي أن تكون شبه الجملة اسما للنواسخ- غير وارد في القرآن الكريم، فكيف نقبل به في كلام المسيح الموعود عليه السلام!؟

الرد:

– أولا، لا بدّ من التنويه إلى أنه على الرغم من أن القرآن الكريم بقراءته الموجودة بين يدينا، هو العماد والأساس الأول في تقعيد قواعد اللغة، إلا أنه في الحقيقة ليس الأساس الوحيد الذي اعتُمد عليه في هذا الأمر، بل إن تقعيد اللغة العربية اعتمد كذلك على لغات بعض القبائل العربية التي عُدّت أنها الأفصح من بين القبائل، ولم يشمل هذا التقعيد جميع القبائل العربية. وبناء على هذا فليس من المفروض أن تكون كل القواعد العربية موجودة في القرآن الكريم وأن يكون القرآن الكريم قد اشتمل جميع الصيغ والتراكيب النحوية. فإن خلا القرآن الكريم من تراكيب اعتُبرت فيها “شبه الجملة” اسما للنواسخ، فهذا لا يقدح في صحة هذه التراكيب ولا يلغي كونها لغة من لغات العرب.

ولعل نزول القرآن الكريم بسبعة أحرف، لهو من الأدلة على صحة ما نقول، فالقراءات المختلفة راعت اللهجات المختلفة بين قبائل العرب لكي يسهل على هذه القبائل قراءتها ونطقها.

– ثانيا، لقد أثبتنا رغم ما قلناه سابقا، أن القرآن الكريم يزخر بالتراكيب التي اعتبرت شبه الجملة مبتدأ، وقد أوردنا العديد من الأمثلة لها في مقال سابق

وبناء على هذا، فإذا كان هذا الأصل موجودا في القرآن الكريم، والذي هو الأساس في اعبار شبه الجملة اسما للنواسخ، فلا مانع ولا ضير ولا إشكال في التصرف بهذه التراكيب على نفس هذا النحو عند دخول النواسخ عليها. ولا يمكن حينها القول بأن هذا النحو – اعتبار شبه الجملة اسما للنواسخ- خروجا عن النحو القرآنيّ.

ثالثا: إن من أكبر الدلائل على كون ” شبه الجملة” مبتدأ واسما للنواسخ وفق لغة من لغات العرب، هو ورودها بهذا الشكل في كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في الحديث التالي: {إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا الْمُصَوِّرُونَ } (صحيح مسلم, كتاب اللباس والزينة)،

– {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ وَقَالَ أَحْمَدُ الْمُصَوِّرِينَ} (سنن النسائي, كتاب الزينة)؛ فرغم اختلاف اللغويين في اعراب شبه الجملة ” من أشد” الواردة فيه، إلا أن منهم من ذهب الى اعتبارها اسما ل ” إن” ، واعتبار ” المصورون” خبرا لها؛ فهل يا تُرى، رفع سيد الخلق اسم إن المؤخر في هذه الصيغة وهذا التركيب!!!!؟؟؟؟؟

وفيما يلي ما قاله الدكتور عبد الحميد حمود الشمري، في بحثه المذكور أعلاه حول هذا الحديث النبوي الشريف وإعرابه:

“….ولَما أمكن في هـذا كلِّه أن تقع (من) التبعيضية ومجرورها مبتدأ، وهـو المسند إليه في الجملة الاسمية، سواء كان ذلك باعتبار مضمون التركيب أم كانت هي نفسها اسما، ومن دون أن يخـلَّ هـذا بالمعنى، بل كان أوفق له، وأثبت في تحصيل الفائدة، كان من الممكن أن يقع اسما للناسخ أيضا، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :

“إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ ” إذ اختلف النحويون في توجيه (من أشد النّاسِ)، فقد حمله الكسائي على زيادة (من)، و(أشد) اسم إن و(المصورون) خبرها، ورُدَّ هذا بأن زيادة (من) مع اسم (إن) غير معروف، ولأن الكلام مثبت، ولا تزاد (من) في الإثبات، وما دخلت عليه معرفة على الأصح، والمعنى لا يساعد على ذلك؛ لأن المصورين ليسوا أشد عذابا من سائر الناس، في حين ذهب ابن مالك وتابعه في هذا ابن هشام إلى أن اسم (إن) ضمير الشأن المحذوف، والتقدير: إنّه من أشد ،…. أي الشأن، والباقي خبرها.”(أ.ه)

وبعد عرض هذه الآراء الإعرابية يخلص الباحث إلى ما يلي:

“….ويمكن التخلص من هذا كلّه _ أي من الإعراب السابق-بالقول: إنَّه لَما كانت (من) بمعنى (بعض)، صار (من أشد) باعتبار المضمون اسما لـ (إن) ؛ لأن المعنى: إن بعض أشد …، ويكون (المصورون) خبرا للحرف الناسخ، ولاسيما أن هذا التوجيه لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف، في حين أن الإعراب السابق يفتقر إلى ذلك، (وما لا يفتقر إلى تقدير محذوف أولى مما يفتقر إلى تقدير)، لذا ليس من ضرورة تدعو هنا إلى تقدير اسم (إن) ضمير شأن، إذ متى أمكن حمل الكلام على غير ضمير الشأن، فلا ينبغي أن يُحمل عليه، ومثل هذا يمكن أن يقال في قوله صلى الله عليه وسلم) فيما كتبه إلى خُزاعة: ((وإن من أكرمِ أهلِ تهامةَ علي وأقربِه رحما أنتم ومن تبِعكم))

– يخلص الدكتور عبد الحميد إلى أن الإعراب الأصح لشبه الجملة ” من أشد” الواردة في هذا الحديث الشريف ووفق هذه الرواية، هو اعتبارها اسما ل “إن”، لأن هذا الإعراب لا يحتاج إلى تقدير محذوف، وهو الأَولى.

– ويثبت من كل هذا، إلى أن اعتبار شبه الجملة اسما للنواسخ وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يؤكد أن هذا النحو، لهو لغة من لغات العرب، لا تتنافى مع القرآن الكريم، ولا تعارضه.

– فإذا ثبت هذا التركيب اللغوي على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يجرؤ أن يعترض على المسيح الموعود عليه السلام في استعماله تراكيب كهذه!!!؟؟؟؟؟ أقول: إن الذي يعترض على المسيح الموعود في هذا الأمر، إنما يعترض على القرآن الكريم وعلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

– ثبت مرة أخرى، أن المسيح الموعود قد ألمّ بلغات العرب، بفضل الوحي الإلهي الذي علّمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة، وثبتت نبوته بفضل هذا الألمام الذي لا يمكن أن يتأتى بدون الوحي الإلهي، فالعربية لا يحيط بها إلا نبي.