المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..67
أهي فاء عابثة أم فاء هادفة..4
اقتران الفعل الماضي بالفاء في جواب الشرط ..1
الاعتراض:
عدّد المعارضون ما يقارب الخمسين فقرة من كتابات المسيح الموعود عليه السلام، مدّعين وقوع الخطأ فيها باقتران الفعل الماضي الواقع في جملة جواب الشرط بالفاء، كما في الجملة التالية:
- – ثم إذا نظرنا إلى الواقعات الموجودة، ((فوجدنا)) حكومة النصارى قد أحاطت كالدائرة على أهل الأرضين. (حمامة البشرى، ص 32)
وملخص اعتراضهم هو أن هذه الفاء الداخلة على الفعل الماضي لهي خطأ وعابثة وأعجمية تدحضها السليقة العربية، وتنم عن عجز الكاتب عن التحكم بالحروف العربية، وهي خطأ واضح يعرفه حتى الطفل العربي في الروضة، وهي تُربك القارئ فيلتبس الأمر عليه في فهم النص.
وبالإضافة إلى الخمسين مثالا التي أوردها المعارضون على مثل هذا الخطأ المزعوم، قالوا بأن أمثال هذا الخطأ في كتابات المسيح الموعود عليه السلام قد تصل إلى المئات وقد لا تحصى أيضا.
الردّ:
المقدمة:
لقد رددنا على مثل هذا الاعتراض بما يخص اقتران الفعل المضارع بالفاء في جواب الشرط، وإثبتنا صحته وفصاحته. ( يُنظر: مظاهر الإعجاز 65)
وأما اقتران الفعل الماضي بالفاء في جواب الشرط، فيكمن فيه مظاهر بلاغية وإعجازية أكبر من ذلك، لا يمكن أن يعرفها إلا الذي أحاط بدقائق اللغة العربية وامتلك ناصيتها كالمسيح الموعود عليه السلام.
البحث والتفصيل:
فعن اقتران الفاء بالفعل الماضي في جواب الشرط، يقول النحو الوافي في رده على السؤال: هل يصح أن يقترن الجواب بالفاء في غير تلك المواضع التي لا يصلح فيها أن يكون فعل شرط؟ يقول ما يلي:
” إن كان فعل الجواب ماضيا متصرفا، مجردا من “قد” و”ما” … وغيرهما مما يتصل به ويوجب اقترانه بالفاء -طبقا لما تقدم- فله ثلاثة أضرب: فإن كان ماضيا لفظا ومعنى فالواجب اقترانه بالفاء على تقدير: “قد” قبله إن لم تكن ظاهرة؛ لتقربه من الحال القريب من الاستقبال؛ كقوله تعالى في سورة يوسف: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} أي فقد صدقت.
وإن كان ماضيا في لفظه مستقبلا في معناه، غير مقصود به وعد أو وعيد -امتنع اقترانه بالفاء: نحو إن قام المسافر قام زميله.
وإن قصد بالماضي الذي معناه المستقبل، وعد أو وعيد، جاز اقترانه بالفاء على تقدير: “قد”؛ إجراء له مجرى الماضي لفظا ومعنى للمبالغة في تحقق وقوعه، وأنه بمنزلة ما وقع. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ} وجاز عدم اقترانه مراعاة للواقع وأنه مستقبل في حقيقته وليس ماضيا. ويندرج تحت الوعد والوعيد ما كان غير صريح في أحدهما ولكنه ملحوظ في الكلام، مراد منه؛ فيدخل الدعاء بنوعيه “الخير والشر” فمن الدعاء بالخير قول الشاعر:
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة … حيث اتجهت، وديمة مدرار
ومن الدعاء بالشر … قول جميل يخاطب غرب البين، داعيا عليه:
فإن كان حقا ما تقول فأصبحت … همومك شتى، والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فيهمو … كما قد تراني بالحبيب أدور
ويدخل التخويف وبيان العواقب؛ كالذي في قول النابغة الجعدي:
الحمد لله لا شريك له … من لم يقلها فنفسه ظلما
أي: فظلم نفسه. {النحو الوافي (4/ 468- 469)
فنخلص من قول النحو الوافي هذا إلى ما يلي:
أن اقتران الفاء بالفعل الماضي في جواب الشرط جائز على تقدير “قد” قبل الفعل في حالتين :
الأولى أن يكون الفعل الماضي ماضيا لفظا ومعنى، وهدف دخول الفاء عليه بتقدير “قد” هو لتقريب زمنه إلى الحال القريب من الاستقبال.
الثانية: أن يكون الفعل الماضي ماضيا لفظا مستقبلا معنى، ويحوي معنى الوعد والوعيد وما يندرج تحتها كالدعاء والتهديد والتخويف وبيان العاقبة وغيره مما يلاحظ من الكلام. ويكون هدف الفاء الداخلة عليه بتقدير “قد” هو تنزيله منزلة الفعل الماضي معنًى، للتاكيد على تحققه مستقبلا وجعله في عداد ما وقع وتحقق.
وأما ابن هشام في المغني فلم يفصل في مسألة الوعد والوعيد بل تحدّث عن الماضي معنًى حقيقة ومجازا، ففي سياق حديثه عن الفاء الرابطة بين الشرط والجواب يقول ابن هشام ما يلي:
” وَالثَّانِي من أوجه الْفَاء أَن تكون رابطة للجواب وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يصلح لِأَن يكون شرطا وَهُوَ منحصر فِي سِتّ مسَائِل…
وَالرَّابِعَة أَن يكون فعلهَا مَاضِيا لفظا وَمعنى إِمَّا حَقِيقَة نَحْو {إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل} وَنَحْو {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت وَهُوَ من الْكَاذِبين وَإِن كَانَ قَمِيصه قد من دبر فَكَذبت وَهُوَ من الصَّادِقين} وَقد هُنَا مقدرَة وَإِمَّا مجَازًا نَحْو {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} نزل هَذَا الْفِعْل لتحَقّق وُقُوعه منزلَة مَا وَقع” {مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص:218 – 217)}
وبناء على قول ابن هشام فلا حديث عن وعد ووعيد، بل يجوز عنده اقتران الفاء بالفعل الماضي في جواب الشرط في الحالات التالية:
- أن يكون الفعل الماضي في جواب الشرط ماضيا لفظا وماضيا في المعنى حقيقة.
- أن يكون الفعل الماضي ماضيا لفظا وماضيا في المعنى مجازا لا حقيقة – لأن معناه الحقيقي هو الاستقبال-، فينزّله الكاتب مجازا، منزلة الماضي الذي تحقق؛ كل ذلك ليؤكد على تحققه في المستقبل فيجعله في منزلة ما تحقق وحدث.
الخلاصة والنتيجة:
– يجوز اقتران الفعل الماضي بالفاء في جواب الشرط على تقدير “قد” قبل الفعل؛ وذلك في حالتين.
– الأولى: أن يكون الفعل الماضي في جواب الشرط ماضيا لفظا؛ ويكون معناه ماضيا حقيقة.
– هدف الفاء وتقدير “قد” قبل الفعل في هذه الحالة هو تقريب زمن الفعل من الماضي إلى الحال ليكون قريبا من الاستقبال.
– الثانية: أن يكون الفعل الماضي في جواب الشرط ماضيا لفظا؛ ويكون معناه ماضيا مجازا لا حقيقة. أي أن يكون معناه الحقيقي مستقبلا، إلا ان الكاتب يعامله وينزله منزلة الماضي الذي تحقق.
– ويكون هدف الفاء وتقدير “قد” قبل الفعل في هذه الحالة هو هدف بلاغي، للمبالغة في التأكيد على حتمية تحقق الفعل مستقبلا، فيعامَل معاملة ما تحقق ووقع.
– وفي هذه الحالة الثانية من الممكن أن يُلاحظ أمر الوعد والوعيد وما يندرج تحتهما من الدعاء والتخويف والتنبيه لسوء العاقبة وغيره؛ رغم أن ابن هشام لم يشترط كل هذا .
– لذلك فإن إقتران الفاء بالفعل الماضي في جواب الشرط منوط بنية الكاتب، فيما يبغيه من تقريب زمن الفعل الماضي حقيقة إلى الحال، أو التأكيد والمبالغة في حيتمية وقوع الفعل مستقبلا ومعاملته إياه معاملة ما تحقق.
– وبالرجوع إلى كل الفقرات التي وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام، والتي اعترض عليها المعارضون لاقتران الفاء بالفعل الماضي في جواب الشرط، يتضح أنها كلها تنطبق على إحدى هاتين الحالتين أو كلتاهما معا، لجواز هذا الاقتران كما سنبينه لاحقا.
– فيثبت من كل ذلك أن هذه الفاء التي اقترنت بالفعل الماضي لم تكن عابثة بل جاءت للفتة بلاغية، تقتضي إما تقريب زمن الفعل من الماضي إلى المستقبل، أو التأكيد على حتمية وقوع الفعل المستقبلي وكأنه وقع في الماضي.
– كما ويثبت أن هذه الفاء جاءت هادفة لأغراض بلاغية، ولم تكن عابثة. كما أنها جاءت من صميم اللغة العربية ومن صميم البلاغة والفصاحة فيها فلا عجمة تعتريها البتة. ويبطل عند هذا الحد كل اعتراض المعترضين على هذه الفاء وتبطل كل الترهات التي ساقوها فيه.
– مما يؤكد فصاحة وبلاغة اقتران الفاء بالفعل الماضي في جواب الشرط، ورود هذه اللغة في القرآن الكريم وذلك في الآيات التالية:
{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (28) } (يوسف 27-28) وكذلك في الآية: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } (النمل 91) فأي حديث بعد الله وآياته تبتغون لتحطيم المعارضين الذين اعتراهم الجهل والتهور.