المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..197
تحاببوا تحابُبا ما بعده تحابُب
الإدغام وفكّه على غير القياس ..
الاعتراض:
يدعي المعارضون وقوع الخطأ في كلام المسيح الموعود عليه السلام في العبارات التالية:
1: وتَناثَثوا دعواتكم وتَباثَثوا نيّاتكم، (كرامات الصادقين)
2: ولم يبق التحابب والاتفاق (الهدى والتبصرة لمن يرى )
3: ويعاشروا بالتحابب بفضله العظيم، ( إعجاز المسيح)
4: ويعينهم ليُعرَفوا بتحابُبِه (تذكرة الشهادتين)
وموضع الخطأ وفق زعمهم يكمن في فكّ الإدغام في الكلمات (تناثثوا) و (تباثثوا)، إذ لا بدّ من الإدغام في هذه الحالة لأن الفعل المضارع المضاغف لا يفكّ إدغامه عند اتصاله بضمير رفع غير متحرك مثل واو الجماعة، فلا بدّ من القول: (تناثّوا) و (تباثّوا).
كذلك يكمن الخطأ في فكّ الإدغام في المصدر (التحابب) فلا بدّ وفق زعم المعارضين أن يكون (التحابّ) بالإدغام.
الرد:
لا شكّ أن القاعدة المعروفة والرائجة تمنع فكّ الإدغام في مثل هذه الحالات، ولكن لغات العرب الفصحاء لم تلتزم دائما بالإدغام وفق القواعد التي وضعها النحاة، بل ورد فكّ الإدغام عنهم على غير القياس والقواعد المعروفة، كما ورد الإدغام نفسُه على غير القياس، كما سنبينه في هذا المقال.
ولا خطأ في فك الإدغام الوارد في عبارات المسيح الموعود عليه السلام (تناثثوا وتباثثوا)، بل هو صحيح جائز يشهد عليه الدكتور أحمد مختار في معجم الصواب اللغوي حيث جاء فيه:
” حَاججوا / الجذر: ح ج ج
مثال: حاجِجُوا العلماء
الرأي: مرفوضة عند الأكثرين
السبب: لأن العرب لم تفكّ الإدغام في هذا الفعل وأمثاله.
الصواب والرتبة: -حاجُّوا العلماء [فصيحة]-حاجِجُوا العلماء [مقبولة]
التعليق: كانت العامة على زمن «الحريري» تفك المدغم في الأفعال ومصادرها عند الإسناد إلى ضمائر الرفع غير المتحركة. كما جاء ذلك في الشعر القديم على سبيل الضرورة. ولعلّ من فكّ الإدغام في هذا الفعل رمى إلى تمييز الأمر من الماضي، أو إلى التخلص من التقاء الساكنين، كما قالوا في «حاجّ»: حاجج.” [معجم الصواب اللغوي (1/ 307)]
أما بالنسبة للمصدر “تحابُب” فقد أكدّ الدكتور أحمد مختار صحته في معجمه حيث قال:
” تَحَابُب / الجذر: ح ب ب
مثال: التَّحابُب بين أفراد الأمَّة ضروريّ لبقائها
الرأي: مرفوضة عند الأكثرين
السبب: لفك الإدغام.
الصواب والرتبة: -التَّحابُّ بين أفراد الأمَّة ضروريٌّ لبقائها [فصيحة]-التَّحابُب بين أفراد الأمَّة ضروريّ لبقائها [مقبولة]
التعليق: اللفظ الثلاثي المضعف إذا أُخِذَ منه مصدر على وزن «التفاعل» فالفصيح إدغام أحد الحرفين في الآخر. ويجوز على قلة فك الإدغام.” [معجم الصواب اللغوي (1/ 211)]
ومن هنا أقول إذا كان فك الإدغام في المصدر جائز على قلة ومقبول بالذات في وزن (التفاعل) ، فلا بدّ أن يسري نفس هذا الحكم على الفعل الذي على نفس الوزن (تفاعل) عند إسناده للضمائر.
وبناء عليه فإن الدكتور احمد مختار يقول بأن فك الإدغام في مثل هذه الصيغ مقبول، ولم يصنفه في عداد الخطأ، بل في عداد الجائز على قلة. ولا شك أن هناك العديد من الأسباب التي دعت الدكتور إلى عدم القول بالخطأ فيها؛ سنبينها خلال هذا البحث، منها ورود فكّ الإدغام عن العرب الفصحاء ووروده في الشعر كالضرورة الشعرية، وتجويز هذا النوع من الضرورة في بعض أنواع النثر، وفشوّ مثل هذه الصيغ في كتابات كبار اللغويين والمفسرين ورواة الحديث وناقليه.
ولتبيان كل هذا نعرض أولا القاعدة المعروفة التي وضعها النحاة في الإدغام وفكّه.
القاعدة:
لنبدأ بالقواعد المعروفة في إسناد الأفعال إلى الضمائر:
جاء في شذا العرف في فنّ الصرف ما يلي:
“حكم المضعف الثلاثى ومزيده: يجب فى ماضيه الإدغام، نحو مدّ واستمدّ، ومدُّوا واستمدوا، ما لم يتصل به ضمير رفع متحرك، فيجب الفك، نحو مَدَدْتَ، والنسوة مَدَدْن، واستمددت، والنسوة استمددن.
ويجب فى مضارعه الإدغام أيضًا، نحو: يَرُدّ ويستردُّ، ويردُّون ويستردون، ما لم يكن مجزومًا بالسكون، فيجوز الأمران، نحو لم يَرُدّ ولم يَرْدُدْ، ولم يستردَّ ولم يسترددْ،
وما لم تتصل به نون النسوة، فيجب الفك، نحو يَردُدْ ويستردُدْن. بخلاف ما إذا كان مجزومًا بغير السكون، فإِنه كغير المجزوم، تقول لم يردُّوا ولم يستردّوا.
والأمر كالمضارع المجزوم فى جميع ذلك نحو: رُدَّ يا زيدُ واردُدْ، واسترِدَّ واسترددْ، واردُدْن يا نسوة، وردُّوا، واستردُّوا.” [شذا العرف في فن الصرف (ص: 49-50)]
فهذه هي القواعد التي تسري على الفعل الماضي والمضارع والأمر عند اسنادها إلى الضمائر، وملخص ما يعنينا فيها أنه عند اسناد الأفعال إلى ضمائر الرفع غير المتحركة مثل واو الجماعة وألف الإثنين وياء المخاطبة لا يفكّ ادغام الفعل المضاعف. وأما فكّ الادغام فهو عند اسناد الفعل إلى ضمير رفع متحرك مثل التاء المتحركة ونون النسوة ، كذلك فإن فكّ الادغام اختياري في الأمر للمفرد والمضارع المجزوم بالسكون.
وهذه القاعدة في وجوب الإدغام سارية المفعول أيضا على المصادر نفسها، فوفق هذه القاعدة لا بدّ من القول (التحابّ) وليس (التحابب). وهذا ما يؤكده الحريري وفق ما نُقل عنه:
“قال الحريري في “درة الغواص”: فك الإدغام ضعيفٌ، لأن العرب استعملت الإدغام طلباً للخفة، واستثقالاً للنطق بالحرفين المتماثلين، ورأت أن إبراز الإدغام بمنزلة اللفظ المكرر والحديث المعاد، ثم لم تفرق بين الماضي والمستقبل، وتصاريف المصادر” [فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (11/ 314)]
فكّ الإدغام على غير القياس لبيان الأصل:
فكّ الإدغام نثرا:
غير أن العرب لم تلتزم بهذه القواعد دائما، فقد فُكّ الإدغام في العديد من المواضع على خلاف هذا القياس وهذه القواعد التي ذكرناها، وفي هذا جاء في شرح التصريح:
“وقد يفك الإدغام في غير ذلك شذوذًا نحو: لححَتْ عينه” بحاءين مهملتين أي: لصقت بالرمص، بفتح الميم، وهو وسخ يجتمع في الموق، فإن سال فهو عمص، وإن جمد فهو رمص، قاله في الصحاح، “و: ألِلَ السقاء”، أي: تغيرت رائحته، و”ضَبُبَ
البلد”، أي: كثر ضبابه، و”دَبَبَ الإنسان”، أي: نبت شعره في جبينه، و”صَكَك الفرس”، أي: اصطكت عرقوباه، و”قَطِط الشعر”، أي: اشتدت جعودته، وغير ذلك مما جاء بإظهار التضعيف لبيان الأصل، كـ”القود” بالتصحيح، “أو في ضرورة كقوله” وهو أبو النجم العجلي: [من الرجز]
الحمد لله العلي الأجلَلَ … الواسع الفضل الوهوب المجزل
والقياس: “الأجلّ” بالإدغام.” [شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (2/ 766- 765)]
ومن هنا نرى بأن العرب الفصحاء لم تلتزم الإدغام في مواضعه التي أقرها النحاة، فقد وردت عنهم الألفاظ:لحح/صكك/ ضبب/ قطط/ ألل؛ بدلا من لحّ/صكّ/ضبّ/قطّ.
فكّ الإدغام للضرورة الشعرية وما في معناها (تحسين النثر) على غير القياس:
كما جاء فكّ الإدغام للضرورة الشعرية ، كما في شرح شافية ابن الحاجب:
“واعلم أيضا أنه يجوز فكّ الإدغام للضرورة فيما يجب إدغامه، كقوله:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي … أني أجود لأقوام وإن ضَنِنُوا“ [شرح شافية ابن الحاجب – ركن الدين الاستراباذي (2/ 904)]
فجاءت (ضننوا) بفكّ الإدغام للضرورة الشعرية بدلا من القول (ضنّوا).
وهنا لا بدّ من ذكر أن بعض النحاة كسيبويه والمبرد وابن عصفور والسيوطي وغيرهم أجازوا في بعض النثر، مثل: الكلام المسجّع والأمثال، ما جاز في الشعر من الضرورات، حيث جاء في هذا ما يلي:
“والوجه الآخر للضرورة: ردُّ الأشياء إلى أصولها كفكّ المدغم الواجب إدغامه في الكلام كقول الشاعر:
مهلًا أَعاذلَ قد جربت من خلقي … أني أجود لأقوم وإن ضَنِنُوا
الواجب في الكلام أن يقال: وإن ضنًّوا بوجوب إدغام المثلين، فلما اضطر الشاعر فك الإدغام؛ رجوعًا إلى الأصل.
ومما يؤكد اختيار السيوطي لمذهب سيبويه والجمهور في الضرورة الشعرية إجازته أن يُلحَق بالضرورة ما في معناها، وهو الحاجة إلى تحسين النثر؛ فسيبويه والمبرد والسيرافي وابن عصفور وغيرهم كثير من النحويين قد أجازوا في بعض أنواع الكلام النثري ما جاز في الشعر، كالكلام المسجوع، والأمثال؛ لورود ذلك عن العرب. ففي حين منع جمهور البصريين حذف حرف النداء إذا كان المنادى نكرة مقصودة، ذكر سيبويه أنه قد يجوز بقلةٍ حذف ياء من النكرة المقصودة في الشعر. [أصول النحو 1 – جامعة المدينة (ص: 45)]
وعليه فإن كان كلام المسيح الموعود عليه السلام ليس نثرا عاديا، بل يكثُر فيه السجع، وكثير منه وحي وإلهام ربانيّ، والآخر بتأييد الوحي والإلهام، فليس من الغريب أن تجوز فيه الضرورات الشعرية، كفك الإدغام المجاز في الشعر ضرورة.فإن كان يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، أفيجوز له ما لا يجوز للنبيّ، أو الوحي والإلهام!؟ بل أقول إن كانت الضرورات الشعرية قد جازت للشاعر، فهي من باب أولى جائزة للنبي المتكلم بفصيح الكلام الألهامي والرباني.
كما أن ما نقلناه يؤكد أن فكّ الإدغام لهو من قبيل رد الفرع إلى أصله وتبيان له، وهو من الجائز ويؤكده سيبويه حيث جاء في شرح كتابه:
“قال: وقد قال قوم في فعل فأجروها على الأصل إذ كانت تصح في باب قلت، وكانت الكسرة نحو الألف وذلك قولهم: رجل ضفف وقوم ضففو الحال يعني: قد شذ في المضاعف فجاء فعل منه على الأصل كقولهم: رجل روع وكان ينبغي أن يقال راع وضفّ.” [شرح كتاب سيبويه (5/ 363)]
وعليه فإن فكّ الإدغام الذي جاء في كلام المسيح الموعود عليه السلام لهو من قبيل الجائز في ردّ فرع إلى أصله وتبيانه.
كما لا بدّ من وقفة عند ما نقله سيبويه عن العرب حيث قالوا: (ضففو الحال) إذ فُكّ الإدغام فيها عند اتصال الاسم بواو الجماعة، وهذا لا فرق بينه وبين اتصال الفعل بواو الجماعة من حيث النطق والصعوبة والسهولة، فإن كان جاز الأول عند العرب، فلا شك في جواز الثاني أيضا للقول: (تناثثوا)، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه من تماثل المصدر مع الفعل في الرتبة والجواز من حيث فكّ الإدغام في وزن (التفاعل) المضاعف.
فك الإدغام في القراءات القرآنية على غير القياس:
وقد ورد فك الإدغام في فصيح الكلام من القراءات القرآنية في قراءة الآية الكريمة:
{وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأَنْفال 43) حيث قرأها نافع وغيره (من حييَ) بياءين. وفي هذا جاء:
“واختلف في “مَنْ حَيّ” [الآية: 42] فنافع والبزي وقنبل من طريق ابن شنبوذ، وأبو بكر وأبو جعفر ويعقوب وخلف عن نفسه بكسر الياء الأولى مع فك الإدغام، وفتح الثانية..” [إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر (ص: 298)]
فكّ الإدغام في الحديث الشريف ولغة قريش:
ورد فكّ الإدغام على غير القياس في الحديث الشريف فيما يلي من الأحاديث:
1: مسند أحمد ط الرسالة (34/ 499)
” تَخَلَّفَ أَحَدُهُمْ يُنِبِّ كَنَبِيبِ التَّيْسِ “. وفي إحدى النسخ ذكر المصدر في الهامش جاءت: (ينبُبُ) بفك الإدغام.
2: مسند أحمد ت شاكر (7/ 451)
“سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا اسْتَلْجَجَ أَحَدُكُمْ بِالْيَمِينِ ..”
وفي الهامش علق أحمد شاكر:
“قوله “استلجج”: هو بفك الإدغام، من اللجاج. وفك الإدغام لغة قريش، كما حكاه ابن الأثير”
3: كشف الخفاء ت هنداوي (1/ 395- 394)
“حاكّوا الباعة؛ فإنهم لا ذمة لهم.”
“ورواه أحمد بلفظ: “ما زاد التاجر على المسترسل فهو ربا”. وحاكّوا بتشديد الكاف، ورواه في اللآلئ “حاككوا” بفك الإدغام، وقال: لا أصل له، وفي الباب عن علي وأنس”
4: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 204- 205)
“وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَاهُ سَيْفًا مُحَلّىً، فَنَزَعَ عُمَرُ الحِلْية وَأَتَاهُ بِهَا، وَقَالَ:أتيتُك بِهَذَا لِمَا يَعْرُرُك مِنْ أُمُورِ النَّاس»
يُقَالُ: عَرَّه واعْتَرَّه، وعَرَاه واعْتَرَاه إِذَا أَتَاهُ مُتعرِّضا لمعْرُوفه، والوجهُ فِيهِ أنَّ الْأَصْلَ: يَعُرُّك، فَفكَّ الإْدغَامَ، وَلَا يَجيءُ مِثْلُ هَذَا الاتِّساع إلاَّ فِي الشِّعْر.”
فكّ الإدغام على غير القياس في كلام المفسرين والأدباء:
1: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص: 110)
” عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَهَادَوْا تَحَابَبُوا، وَهَاجِرُوا تُوَرِّثُوا أَوْلَادَكُمْ مَجْدًا»”
2: التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون (2/ 295)
“قلت: “السلام” اسم من أسماء الله تعالى وضعه بين المؤمنين في الأرض ليفشوه بينهم، فإذا فعلوا تحاببوا، وزادت المودة والأخوة بينهم.”
3: الشيعة وأهل البيت (ص: 33)
“ويتواددون إليهم، ويتعاطفونهم ويساعدونهم في مشاكلهم”
4: شرح الطحاوية لابن جبرين (53/ 12، بترقيم الشاملة آليا)
“فما زالوا يتحاججون حتى طفئت”
5: موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام – الدرر السنية (5/ 392، بترقيم الشاملة آليا)
“أم يوالونهم، ويتواددون إليهم،”
6: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 367)
“فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله.”
7: التحرير والتنوير (8-ب/ 170)
” وَتَعَالَلَ، أَيْ أَظْهَرَ الْعِلَّةَ”
8: التفسير المنير للزحيلي (20/ 221)
“مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أي لتتواددوا بينكم”
9: التفسير المنير للزحيلي (20/ 223)
“ولتتواددوا بينكم”
10: التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون (2/ 295)
” فإذا فعلوا تحاببوا“
11: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 182) ت1014ه
“( «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ» ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَا تُوَادِدُوهُمْ، وَلَا تُحَابُوهُمْ”
12: البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (40/ 379)
“وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “تحاججت الجنة والنار”
فشوّ فكّ الإدغام على غير القياس في مصادر الأفعال:
لقد جاء فكّ الإدغام في مصادر الأفعال -على غير القياس- في أمهات المراجع الأدبية القديمة والجديدة، كالقول: التحابب والتوادد و التحاجج ، بدلا من التحابّ والتوادّ والتحاجّ.
وقد جاء فاشيا لدرجة يصعب إحصاء الأمثلة التي وردت به، فهي بالمئات إن لم يكن بالآلاف. لذا نورد بعض المهم منها:
1: تفسير القرطبي (10/ 33) ت 671 ه
(إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أَيْ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَفَا بَعْضٍ تَوَاصُلًا وَتَحَابُبًا
2: تفسير النسفي = مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 655) ت 710 ه
وجمع بين كلمتهم بقدرته فأحدث بينهم التوادد والتحابب
3: تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان (3/ 235) ت 850 ه
فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف.
4: تفسير الثعالبي = الجواهر الحسان في تفسير القرآن (5/ 420) ت 875ه
حَتَّى يكونَ بينهم التوادُدُ والتواصُلُ
5: الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية (2/ 18)
إذ هو ادخل في التآلف والتحابب
6: السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (1/ 475)
ولم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف
7: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 332)
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي: جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
8: فتح القدير للشوكاني (2/ 434)
قَوْلُهُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ،
9: تفسير المنار (10/ 95) لمحمد رشيد رضا
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (49: 10) يَعْنِي فِي التَّوَادُدِ وَشُمُولِ الدَّعْوَةِ
10: مكارم الأخلاق للطبراني (ص: 343) ت 360 ه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادُدِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ»”
11: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 317) للاصبهاني ت 430 ه
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «[ص:318] هَؤُلَاءِ أَشَدُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَحَابُبًا»
12: الأربعون الصغرى للبيهقي (ص: 157) ت 458 ه
الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ فِي التَّوَاصُلِ وَالتَّحَابُبِ
13: إثارة الفوائد (1/ 158) للعلائي ت 761 ه
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادُدِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ
14: فتح الباري لابن رجب (6/ 48) ت 795 ه
فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً.
15: فتح الباري لابن حجر (1/ 83)
وَيَحْصُلُ بِهِ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُبُ
16: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 138)
والحث على تألف قُلُوبهم واجتماع كلمتهم وتواددهم ومحبتهم.
17: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 198) للعيني ت 855 ه
، وَيحصل بِهِ التآلف والتحابب وَنَحْو ذَلِك.
18: شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/ 98) ت 923
وفي الثاني الحثّ على التحابب في الله،
19: فيض القدير (1/ 552) زين الدين القاهري
التحابب والتوادد واستكثارا للإخوان
20: شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 414)
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ التَّوَاخِي وَالتَّحَابُبُ،
وهذا كله غيض من فيض لما ورد في فكّ الإدغام في المصدر من أمثلة، فكما قلت إنها تكاد لا تحصى لكثرتها وفشوها في المراجع القديمة والجديدة.
ولكي نؤكد على أن العرب لم تلتزم القياس والقواعد المعروفة في مسألة الإدغام، لا يمكننا التغاضي عن حقيقة أنهم أدغموا أيضا في مواضع لا يقبلها القياس مخالفة للقاعدة المعروفة.
الإدغام على غير القياس:
وكما فكّوا الإدغام على غير القياس فقد أدغموا أيضا في غير مواضع الإدغام، أي أدغموا مع اسناد الفعل إلى ضمير رفع متحرك حيث يجب الفكّ، وفي هذا جاء:
“فك الإدغام في ذلك واجب عند جمهور العرب، قال في التسهيل: والإدغام قبل الضمير لُغيّة، قال سيبويه: وزعم الخليل أن ناسًا من بكر بن وائل يقولون ردَّنَا ومَرَّنَا ورَدَّتَ، وهذه لغة ضعيفة، كأنهم قدروا الإدغام قبل دخول النون والتاء، وأبقوا اللفظ على حاله، وحكى بعض الكوفيين في ردّن ردن -يزيد نونًا ساكنة قبل نون الإناث ويدغمها فيها؛ لأن نون الإناث لا يكون ما قبلها إلا ساكنًا، وحكى بعضهم في ردّت ردّات، وهي في غاية الشذوذ، ووجهه أن هذه التاء لا يكون ما قبلها إلا ساكنًا، وحافظ على بقاء الإدغام فزاد ألفًا قبلها.[ توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (3/ 1647)]
وعليه فإن لغة عدم فكّ الإدغام مع اسناد الفعل لضمير الرفع المتحرك، هي لفرقة من العرب الفصحاء من بني بكر بن وائل حيث قالوا: ردّتَ، وردّنا، وردّنَ/ ردّنّ؛ بدلا من رددتُ ورددْنا ورددْن.
ومن أمثلة هذا الإدغام على غير القياس:
1: ما جاء في قراءة الآية: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (ق 16) حيث قرئت أيضا: أفعيّنا، حيث جاء:
“وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَعَيِينَا، بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، مَاضِي عَيِيَ، كَرَضِيَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مسلم، والقورصي عن أبي جعفر، وَالسِّمْسَارُ عَنْ شَيْبَةَ، وَأَبُو بَحْرٍ عَنْ نَافِعٍ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ فِي الثَّانِيَةِ، ..: أَفَعَيِّنَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ… وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، يَقُولُونَ فِي رَدَدْتُ وَرَدَدْنَا: رَدَّتُ وَرَدَّنَا، فَلَا يَفُكُّونَ، وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ الْيَاءُ الْمُشَدَّدَةُ مَفْتُوحَةً” [البحر المحيط في التفسير (9/ 533)]
2: “فنَبتُّ حقَّها عن التعلق بالزيادة، كما [بتتناه] عن أصل الصداق” [نهاية المطلب في دراية المذهب (13/ 51)]
وفي الهامش جاء في كلمة (بتتناه):في الأصل: ” “بتّناه ” بدون فك الإدغام.”
3: “واستمدّناه فكتب إلينا أنه قد جاءني كتابكم” [تاريخ دمشق لابن عساكر (47/ 254)]
وفي الهامش جاء في كلمة (استمدّناه): كذا بالاصل (وم وز) بإدغام الدال وهو قليل والذي في المسند واستمددناه بفك الادغام.
ومن هنا نرى بأن من العرب الفصحاء من كانت لغته على غير القاعدة والقياس المعروف في الغدغام أيضا.
النتيجة والخلاصة:
ثبت من كل هذا ورود فكّ الإدغام مخالفا للقياس والقواعد المعروفة في عديد من الحالات، التي تؤكد صحة ما أقره الدكتور أحمد مختار في معجمه، فالأسباب التي تدعو إلى قبول مثل هذه الصيغ عديدة كما رأينا، نعددها فيما يلي:
- وروده فكّ الإدغام مخالفا للقياس عن العرب الفصحاء منذ عصور الاحتجاج اللغوي
- ووورده في الشعر للضرورة
- وكذلك تجويز بعض النحاة لهذه الضرورة في بعض أنواع النثر
- كون فكّ الإدغام هو رد الفرع إلى أصله، ولتبيين الأصل، فالأصل هو الفكّ.
- وروده في فصيح الكلام من القراءات القرآنية
- وروده في الحديث الشريف كمسند احمد بن حنبل
- عرف فكّ الإدغام أنه لغة قريش والتي عرفت بفصاحتها
- وروده في الأفعال لا سيما المتصلة إلى ضمير رفع غير متحرك، وكذلك في المصادر
- وروده في كلام الكتاب والمفسرين ورواة الحديث وناقليه
- فشوّ فك الإدغام في مصادر الأفعال
فكل هذه أسباب تدعو إلى القول بأن فكّ الإدغام في هذه الصيغ من المصادر أو الأفعال المسندة إلى ضمير رفع غير متحرك هو أمر جائز أو جائز على قلة، كما ذهب إليه – غير عابث- الدكتور أحمد مختار.
غير أنني لا أرى أن ما قاله الدكتور أحمد مختار صحيحا حين عزى هذا الفكّ إلى العامة في زمن الحريري، فها كما رأينا فإن فكّ الإدغام على غير القياس وارد عن كبار الكتاب والمفسرين ولا أرى من الصحيح قصره على العامة دون الخاصة.
أما الذي يذهب إلى تخطيء هذه الصيغ، فإنما هو يخطئ كل هؤلاء الأدباء واللغويين والمفسرين والمحدثين أو ناقلي الحديث على علمهم بالعربية وأسرارها.
كما أنه من الجدير ذكره، إن كان السبب من وراء الإدغام هو سهولة النطق، فإن فشوّ هذا الفكّ دليل على بطلان هذا السبب في بعض الحالات، لا سيما في صيغة (تفاعل) المضاعفة والتي نحن بصددها كمثل: تحابب وتناثث، فقد يكون فكّ الإدغام فيها في العديد من الحالات أسهل من الإدغام نفسه، وليس من الغريب أن يغيب الإدغام عن ألسن الناس لغيابه سببه، فيكون هذا الغياب هو السبب في لجوء الكثيرين إلى مثل هذا الفكّ.
وبناء عليه يثبت من كل هذا صحة عبارات المسيح الموعود عليه السلام أعلاه وأنه لا خطأ وارد فيها قطّ! بل هي لغة عربية صحيحة فصيحة تتماشى مع لغات العرب الفصحاء.
جزاك الله خير الجزاء واحسنه ياشهاب الله الثاقب وباركك وذراريك ببركات من السماء والارض حبيبنا الغالي… كفيت و وفيت.. والحمد لله رب العالمين الذينصدق وعهده فاخزى الاعادي.