المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية .. 59
نكتة الخطأ في الأفعال الخمسة ..3
حذف النون في الأفعال الخمسة في حالة الرفع 2
التقارض بين (لعل) و (عسى) وحذف أنْ قبل خبرها مع بقاء النصب.
الاعتراض:
قال المعارضون بخطأ المسيح الموعود عليه السلام في العبارات التالية :
- وإن ((تحسبون)) أنكم على صدق وحق.. فلولا تأتون عليه بنظير من قبل (التبليغ، ص 37).
- فالذين يحكّمونه في تنازعاتهم ثم ((لا يَجِدوا)) في أنفسِهم حَرَجًا مما قضى لرفعِ اختلافاتهم… فأولئك هم المؤمنون حقّا (نجم الهدى، ص 60).
- ويُحبّون أن يُحمَدوا بما ((لا يعملوا ))(مكتوب أحمد، ص 45).
- وكانوا يتيهون في الأرض مُقْتَرين مستَقْرين، ((لعلهم يجدوا)) أثرا مِن قاتلٍ أو يلاقوا بعض المُخبِرين (نجم الهدى، ص 56).
- بل أعلّمكم رُقْيتي، ((لكيلا تضطربون)) عند غيبتي (نور الحق).
- ولكنهم يتكلمون بأعلى الإشارة ((حتى يتجاوزون)) نظر النظّارة (سر الخلافة، ص 52).
- إلى ((أن يصلون)) إلى المبدأ الأول وعلّة العلل (كرامات الصادقين، ص 76).
ويقع الخطأ وفق زعمهم بإثبات النون في مواضع النصب والجزم؛ وحذفِها في مواضع الرفع حيث لا ناصب ولا جازم وارد قبلها. واشترط علينا المعارضون أن يكون ردّنا مراعيا لترتيب الفقرات أعلاه؛ وعدم القفز عن العبارات الأربع الأولى؛ ظنّا منهم أنهم إيانا بهذا الشرط عن الردّ بمعجزين!! ولكن أقول: هيهات ثم هيهات!!!!
الردّ:
لقد رددنا على الفقرة الأولى في مقال خاص ( مظاهر الإعجاز 46) فبالإمكان الرجوع إليه. ففيها تقترض (إنْ) الشرطية حكم (لو) فلا تجزم الفعل بعدها؛ ومن هنا جاء ثبوت النون في الفعل (تحسبون). وذلك وفق ظاهرة تقارض الأحكام النحوية بين الألفاظ.
أما الفقرات الثانية والثالثة والرابعة فقد رددنا عليها في مقال خاص وهو ( مظاهر الإعجاز 45)، وقلنا فيها أن حذف النون في المضارع المرفوع من الأفعال الخمسة جائز صحيح وفصيح لوروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الخليفة عمر بن الخطاب، وسبب هذا الحذف هو التخفيف.
وتأكيدا على ما قلناه في ذلك المقال نورد ما أورده ابن مالك في هذا الصدد في كتابه شواهد التوضيح والتصحيح، كما يلي:
“ومنها قول عقبة بن عامر – رضي الله عنه – للنبي – صلى الله عليه وسلم -: (إنك تبعثنا، فننزل بقوم لا يُقرونا) (صحيح البخاري).
وقول ابن عباس والمِسْور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم لرسولهم إلى عائشة رضي الله عنها يسألونها عن الركعتين بعد العصر (بلغنا أنكِ تصليهما)(صحيح البخاري).
وقول مسروق لعائشة رضي الله عنها (لمَ تأذني له) ( صحيح البخاري في نسخة من النسخ). يعني حسان رضي الله عنه.
((قلت: حذف نون الرفعْ في موضع الرفع لمجرد التخفيف ثابت في الكلام الفصيح نثره ونظمه.))
فمن ثبوته في النثر قوله “لا يقرونا” وقولهم “بلغَنا أنكِ تصليهما” وقوله “لمِ تأذني له؟ “. والأصل: لا يقروننا، وتصلينهما، وتأذنين.
وسبب هذا الحذف كراهية تفضيل النائب على المنوب عنه، وذلك أن النون نابت عن الضمة. والضمة قد حذفت لمجرد التخفيف كقراءة أبي عمرو بتسكين راء، {يُشعِرْكم} و {يأمرْكم}. و {ينصرْكم}. وكقراءة غيره وَبُعُولتْهُنَّ} و {وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ}، بتسكين التاء واللام.
فلو لم تعامل النون بما عوملت الضمة من الحذف لمجرد التخفيف لكان في ذلك تفضيل للنائب على المنوب عنه.
ومن حذفها لمجرد التخفيف قراءة الحسن {يَوْمَ يُدْعَوا كُلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} وقراءة يحيى بن الحارث الذماري: {قالوا ساحران تظاهرا}.
والأصل: قالوا أنتما ساحران تتظاهران. فحذف المبتدأ ونون الرفع، وادغم التاء في الظاء.
وفي قراءة الحسن أيضًا موافقة للغة “أكلوني البراغيت“.
ومن حذف النون لمجرد التخفيف مارواه البغوى من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا). وما ذكر. أبو الفرج في “جامع المسانيد” من قول وفد عبد القيس (وأصبحوا يعلمونا كتاب الله).
ومن استعمال هذا الحذف في النظم قول أبي طالب :
فانْ سرَّ قومًا بعضُ ما قد صنعتم … ستحتلبوها لاقحًا غير باهلِ
ومنه قول الراجز:
أبِيتُ أسري وتبيتي تدلكي … وجهكِ بالعنبر والمسك الذكي” ( إ.هـ){ شواهد التوضيح.. 228-230}
– وفي كل هذا يؤكّد ابن مالك ما ذهبنا إليه في المقال السابق، ويقرّ أن حذف النون في الأفعال الخمسة للتخفيف في حالة الرفع هي لغة صحيحة ثابتة في فصيح الكلام نظمه ونثره.
– بالإضافة للرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن هذه اللغة واردة عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم. وواردة في القراءات القرآنية، والحديث الشريف كصحيح البخاري، والشعر العربي ؛كما هو واضح من أمثلة ابن مالك. وكفى بهذا تأكيدا على صحة ما ذهبنا إليه.
إلا أنه بالنسبة للحذف الوارد في الفقرة الرابعة بعد (لعل) فإن له توجيه إضافي وهو:
تقارض الحكم النحوي بين لعل وعسى في إمكانية دخول أنْ الناصبة على خبرها مع إمكانية حذفها وبقاء عملها في النصب
وفي هذا الصدد جاء في كتاب ظاهرة التقارض في النحو العربي ما يلي:
“ (لعلّ) حرف يفيد معنى الترجي والطمع، وقد يرد إشفاقا، نحو قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} (الكهف: 6) ، ومعلوم أنه ينصب الاسم ويرفع الخبر كإنّ، هذا هو الأصل في عمل هذا الحرف، وقد ينصبهما على قلة، حكي عن بعض العرب: لعل أباك منطلقا، وخبر هذا الحرف الأصل فيه أن يجيء اسما صريحا كما تقدم في الآية الكريمة، وقد يخرج خبره عن كونه اسما صريحا فيجيء فعلا مضارعا مقترنا بأن، مقترضة هذا الحكم من (عسى) ، نحو قول متمم بن نويرة:
لعلك يوما أن تلم ملمة … عليك من اللائي يدعنك أجدعا
ومنه الحديث: “فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض“.
وهكذا رأينا في الأمثلة المتقدمة أن (عسى) أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر، كما أجريت (لعل) مجرى (عسى) في اقتران خبرها بأن، قال صدر الأفاضل: أجري لعل بحيث أدخل على خبرها (أن) المصدرية مجرى عسى، كما تجرى عسى مجرى لعل، وهذا على طريق المقارضة” (إ.هـ){ظاهرة التقارض في النحو العربي58/ 245}
إذن، يثبت من هذا إمكانية دخول حرف النصب أن على خبر لعل كما هو وارد في الحديث الشريف والشعر العربي المذكور في النصّ.
ولا بدّ هنا من ذكر انّ حرف النصب المصدري (أنْ) كثيرا ما يضمر ويحذف في الكلام مع بقاء عمله أي مع بقاء الفعل المضارع منصوبا به، فيُحذف هذا الحرف ويبقى عمله سائرا ؛ كما في الأمثلة التالية الواردة في شواهد التوضيح لابن مالك:
“وأنشد سيبويه (727)
113 – فلم أرَ مثلَها خباسة واحِدٍ … ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعلَه
وقال: أراد: بعدما كدت أن أفعله، فحذف “أن” وأبقى عملها .
وفي هذا إشعار باطراد اقتران خبر “كاد” ب “أن” لأن العامل لا يحذف ويبقى عمله إلا إذا اطرد ثبوته. { شواهد التوضيح 161)
وهنا أقول: إنّ كاد مثل لعل قد اقترضت هذا الحكم النحوي في إمكانية دخول أن على خبرها اقترضته من عسى كما أوضحناه في مقال سابق (يُنظر مظاهر الإعجاز 43)، وجاز حذف هذه ال (أنْ) مع خبر كاد لكثرة وقوعها واطراد ثبوتها في هذا الموضع؛ ولنفس هذا السبب يجوز هذا الحذف مع لعل أيضا.
إذ يؤكد ابن هشام كثرة دخول أن على خبر لعل واطراد ثبوتها قبله بما يلي:
“وَأما الْمَنْصُوب فعلا فكقراءة بَعضهم {ودوا لَو تدهن فيدهنون} حملا على معنى ودوا أَن تدهن وَقيل فِي قِرَاءَة حَفْص {لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات فَأطلع} بِالنّصب إِنَّه عطف على معنى لعَلي أبلغ وَهُوَ لعَلي أَن أبلغ (( فَإِن خبر لَعَلَّ يقْتَرن بِأَن كثيرا ))نَحْو الحَدِيث فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض وَيحْتَمل أَنه عطف على الْأَسْبَاب على حد” {مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 623)}
ويؤكد هذا السيوطي في الهمع حيث قال:
واختص خبر لَعَلَّ بِجَوَاز دُخُول أَن فِيهِ حملا على عَسى قَالَ-
(لعلّهُما أَن يبغيا لَك حِيلةً … )
وَفِي الحَدِيث لَعَلَّ أحدكُم أَن يكون أَلحن بحجته وَقَوْلِي بالممكن مر تَقْرِيره” {همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (1/ 492)}
ويقول السيوطي أيضا:
“لِأَن خبر لَعَلَّ كثر فِي لِسَان الْعَرَب دُخُول أَن عَلَيْهِ” {همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 390)}
ومن الأمثلة الأخرى التي أوردها ابن مالك على حذف ان المصدرية الناصبة مع بقاء عملها ما يلي:
“ويجوز في “فادع الله يحبسها” الجزم على جعله جوابًا للدعاء؛ لأن المعنى: إنْ تدعه يحبسْها. وهو أجود الأوجه.
ويجوز الرفع على الاستئناف، كأنه قال: ادع الله فهو يحبسُها.
ويجوز النصب على إضمار “أن” كأنه قال: ادع الله أن يحبسَها.
– ومثله قراءة الأعمش {ولا تمننْ تستكثرَ} . وقول بعض العرب (خذ اللصق قبلَ يأخذَك). وقول طرفة:
194 – الا أيهذا اللائمي أحضرَ الوغى … . وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنت مخلدي” { شواهد التوضيح 235}
فوفق هذا نرى جواز حذف وإضمار أن الناصبة مع بقاء عملها.
فبناء على هذا التقارض من إمكانية وكثرة دخول (أن) على خبر لعل، وكذلك إمكانية حذفها مع بقاء عملها في هذا الموضع، يكون تقدير الفقرة الرابعة من كلام المسيح الموعود عليه السلام ما يلي:
- وكانوا يتيهون في الأرض مُقْتَرين مستَقْرين، لعلهم يجدوا أثرا مِن قاتلٍ أو يلاقوا بعض المُخبِرين (نجم الهدى، ص 56). أي: (لعلهم أن يجدوا)
- فيكون الفعل (يجدوا) منصوبا بأن المضمرة المحذوفة نظرا لإمكانية دخولها واطراد ثبوتها في هذا الموضع.
ويؤكد ما نقوله السيوطي في الهمع حيث قال في معرض توجيه قراءة النصب للآية : { لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (37) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ } (غافر 37-38) حيث نُصبت (أطلعَ) بقوله:
“وَقَالَ {لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات فَأطلع} [غَافِر: 36، 37] فِي قِرَاءَة من نصب فيهمَا وَقَالَ أَبُو حَيَّان يُمكن تَأْوِيل الْآيَتَيْنِ بِأَن النصب فيهمَا من الْعَطف على التَّوَهُّم لِأَن خبر لَعَلَّ كثر فِي لِسَان الْعَرَب دُخُول أَن عَلَيْهِ” {همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 390)}
إذن فالسيوطي يوجه نصب (أَطّلعَ) بالعطف على توهم دخول (أنْ) على خبر لعل لكثرته على لسان العرب. وهنا أقول: إذا كان العطفُ على توهم وجود أن قبل خبر لعل جائزٌ، فمن باب أولى أن يجوز هذا التوهم في الموضع الأصلي نفسه أي أن يجوز النصب لخبر لعل بتوهم وجود أن قبله.
وعن إمكانية حذف أن وبقاء عملها في النصب يقول النحو الوافي ما يلي:
“حذف *1* “أن” والنصب بها في غير المواضع السابقة:
عرفنا المواضع التي ينصب فيها المضارع بأن المضمرة وجوبا أو جوازا. وقد سمع من العرب نصبه “بأن” محذوفة1 في غير تلك المواضع أحيانا، فمن الوارد عنهم: خذ اللص قبل يأخذك -تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقول الشاعر:
ألا أيهاذا الزاجري أحضر الوغى … وأن أشهد اللذان -هل أنت مخلدي
…. والأصل: خذ اللص قبل أن يأخذك -أن تسمع بالمعيدي … – أن أحضر الوغى …
وقد دار الجدل حول هذه الأمثلة؛ أيصح القياس عليها بحذف “أن” العاملة أم لا يصح؟ وكيف نضبط المضارع في الأمثلة المسموعة بالنصب بعد حذف “أن”؟ أنتركه منصوبا -كما كان عند وجودها- مراعاة للسماع، وللأصل الأول قبل الحذف، أم يصح رفعه مراعاة للأمر الواقع؟
وصفوة ما يختار، وما يجب الاقتصار عليه -حرصا على سلامة اللغة، وبعدا عن اللبس والاضطراب في فهمها- هو: الحكم بالشذوذ على ما ثبت سماعه وصحت روايته من تلك الأمثلة المنصوبة2. وعدم محاكاتها، أو القياس عليها.
أما ضبط الأفعال المضارعة المسموعة بالنصب فيصح رفعها، أو تركها منصوبة كما وردت.
ومن الكوفيين من يجيز حذف “أن” قياسا مع بقاء عملها النصب في المضارع بعدها، وعلى هذا جاء قول المتنبي -وهو كوفي- في وصف غادة:
بيضاء يمنعها تكلم دلها … تيها، ويمنعها الحياء تميسا
يريد: أن تتكلم -أن أتميس “أي: تتبختر”. وإهمال هذا الرأي أولى -لما سبق.
وبهذا نكون قد أثبتنا مرة أخرى ومن جديد وبتصديق ابن مالك على ما نقول، صحة الفقرات الثانية والثالثة والرابعة المذكورة اعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام ، من منطلق حذف النون في الأفعال الخمسة في حالة الرفع للتخفيف على اعتبار أنها لغة عربية صحيحة وفصيحة.
كما وأضفنا توجيها آخر للفقرة الرابعة من منطلق حذف (أنْ) الناصبة التي يكثر دخولها على خبر (لعل) في كلام العرب، مع بقاء عملها، فيبقى الفعل المضارع الموجود في خبر لعل منصوبا بأن المحذوفة.
وكلها مظاهر للإعجاز في كلام المسيح الموعود عليه السلام!!!
________
*1* الحذف هنا غير الإضمار؛ لأن المحذوف غير موجود في الكلام مطلقا، لا ظاهرا ولا خفيا. المضمر، فموجود ولكنه غير ظاهر.” { النحو الوافي (4/401 -400)}