بسم الله الرحمن الرحيم
{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (19)} (الأنبياء 19)
الحلقة الثانية
في الردّ على الاعتراضات بوجود أخطاء لغوية في كتابات سيدنا أحمد عليه السلام
ملخص الحلقة:
نثبت من خلال هذه الحلقة أن بعض الاعتراضات التي يُدلي بها المعارضون عن وجود أخطاء لغوية في كتابات سيدنا أحمد عليه السلام والمتمثلة برفع اسم ” انّ” بدلا من نصبه، ما هي إلا لجهل المعترضون بدقائق اللغة العربية، والمتمثلة باختلاف رأي النّحاة في تحديد المبتدأ والخبر حسب قوة تعريفهما، مما يؤدي إلى اختلافهم في تحديد اسم وخبر “انّ”. وبناء على هذا تكون عبارات المسيح الموعود عليه السلام صحيحة، حيث أن ما توهمه المعارضون فيها أنه اسم “انّ” فهو في الحقيقة خبرها الذي يجب أن يكون مرفوعا تماما كما أورده المسيح الموعود عليه السّلام.
الحلقة كاملة:
كما أسلفنا في الحلقة الماضية فإن هذه الاعتراضات ليست جديدة بل أثارها معارضو المسيح الموعود عليه السلام منذ زمنه، وقد ردّ حضرته عليه السلام على أمثال هؤلاء وتلاميذهم الروحانيين الموجودين اليوم بما يلي:
“واللافت في الأمر أن الوحي الإلهي أحيانا لا يتّبع ظاهريا في بعض الفقرات قواعدَ الصرف والنحو التي وضعها الناس، غير أنه بشيء من التدبر والإمعان يثبت أنها توافق هذه القواعد. لذلك طعن بعض الجهال حتى في القرآن الكريم بالنظر إلى قواعد نحوهم الزائف. والحق أن كل هذه المطاعن جدُّ تافهة وسخيفة. والواقع أنه لا أحد سوى الله تعالى يملك علمَ اللغة الواسعَ. … فالوحي الإلهي لا يمانع استخدام بعض الفقرات من اللهجات المستخدمة في الزمن الماضي أو الحاضر. ولهذا السبب توجد في القرآن الكريم بعض الميزات الخاصة به.
…. والحق أنه ما لم يكن الإنسان متعمقا جدًا في لغة العرب وما لم يكن مطلعا على كافة أشعار العصر الجاهلي، وما لم يقرأ بإمعان الكتب القديمة المحتوية على تعابير العرب، وما لم تبلغ بسطتُه العلمية كمالها، لا يمكن له أن يحيط بشيء من التعابير العربية، ولن يستوعب جيدًا قواعد الصرف والنحو أيضا. فيعترض الجاهل ويقول بأن استخدام حرف الجر كذا وكذا ليس صحيحا، أو أن التعبير الفلاني خاطئ، ثم يُعثَرُ على استخدام حرف الجر أو التعبير أو الصيغة نفسها في قصيدة من قصائد الأدب الجاهلي” (نزول المسيح)
اي ان الاعتراض قد يكون نابعا أحيانا عن الجهل وعدم إلمام المعترض وعدم بلوغ بسطته العلمية كمالها.
والآن نتابع بعرض أحد هذه الاعتراضات:
الاعتراض الثاني :
يقول المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام أخطأ نحويا في الجمل التالية حيث رفه اسم إنّ بدلا من نصبه حيث جاء:
1 ـ إن تحت هذا النبأ(سرٌ)، وفهم السَّر برٌ (التبليغ)
ويجب أن تكون (سراً)
2ـ فإن لكل إنسان (لسان)وأذنين، (وأنف) وعينين (حمامة البشرى)
ويجب أن تكون (لساناً، أنفاً)
3 ـ فحاصل كلامهم أن للخلق كلَّهم (موتٌ واحدٌ). (حمامة البشرى)
ويجب أن تكون (موتاً واحداً)
4 ـ ألا تعتقدون أن لجبرئيل (جسمٌ) يملأ المشرق والمغرب . (حمامة البشرى)
ويقول أنها كان يجب أن تكون (جسماً)
5 ـ وقد سخر الشمس والقمر والنجوم للناس، وأشار إلى أن (كل) منها خلق لمصالح العباد . (حمامة البشرى)
ويرى أنها يجب أن تكون (كُلاً)
6 ـ وأنت تفهم أن في هذا القول إشارةً إلى أن للنجوم ومواقعها (دخل) لتحسس زمان النبوة ونزول الوحي (حمامة البشرى)
ويرى أنها يجب أن تكون (دخلاً)
7 ـ فلا تعجب من ذلك، فإن لكل موطن (رجال)، ولكل وقت (مقال) . (حمامة البشرى)
ويرى أنها يجب أن تكون (رجالاً) و(مقالاً)
8 ـ فإن لكل زمان (سلاح) آخر وحرب (آخر)
ويرى أنها يجب أن تكون (سلاحاً) و (أخرى)
9 ـ ثم إن بعدهم (قوم) يشهدون ولا يُستشهدون
ويرى أنها يجب أن تكون (قوماً)
الردّ:
أغلب هذه العبارات هي من قبيل اسم إن وخبرها، والتي كانت في الأصل جُمَلاً مكونة من مبتدإٍ وخبر على الأغلب، والمبتدأ والخبر صنوان عِدلان كفؤان قليل ما يتمايزان، فكل منهما يصلح أن يحُل محل الآخر، ومناط اعتبار أحدهما (مبتدأً) والآخر (خبراً) هو التعريف، فما كان معرفةً بدئ به الكلام وصار هو المبتدأ، وما كان نكرة كان هو الخبر، وإذا استويا في التعريف والتنكير جاز أن يكون أيهما مبتدأ، وجاز أن يكون أيهما خبراً، والعلماء في حكمهم على المَعارف متفاوتون، فبعضهم يجعل المعرَّف بـ (ال) أقوى من المعرَّف بالإضافة، وبعضهم يرى أن العكس هو الأصوب، والبعض يرى أنه لا فرق بين الاثنين حتى لو كان هناك تفاوت واضح في التعريف والتنكير، فللكاتب الحق في جعل ما يشاء (مبتدأً)، وله الحق أيضا في جعل ما يشاء (خبراً)، ويشهد على ذلك كتاب الله العزيز، في سورة واحدة، بل في موضعين لا يفصل بينهما إلا عشر آيات، وهو في الآية 178 والآية 180 من سورة البقرة، حيث قال تعالى، {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } (البقرة 178)
فقد جاءت كلمة (البرَّ) منصوبة على أنهاخبر (ليس) مقدم، والمعنى : ليس تولية وجوهكم قِبل المشرق والمغرب البرَّ، ولما حدث التقديم والتأخير جاءت الآية كما أوردها رب العزة، أما ألاية الأخرى فهي كالتالي : {َوليْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (البقرة 190)، هنا نفس العبارة تقريبا، ومع ذلك جاءت كلمة (البرُّ) مرفوعة، ولا مبرر لذلك إلا أن الله تعالى صاحب هذا النص المُعجز قد رأى أن يجعل كلمة (البرُّ) هنا مبتدأ مرفوعا، وهو نفسه الذي أراد أن يجعلها في المثال السابق (البرَّ) على أساس أنها خبر، خبراً مقدَّما، فالأمر راجع أولا وأخيرا لتقدير الكاتب أو المؤلف ليجعل ما يشاء كما يشاء حسب توجهه في المعنى المراد.
وعلى ذلك تكون كل العبارات التي أوردها المعترض إنما هي من هذا القبيل، وكان عليه أن يقيس ما اعترض عليه على كلام الله تعالى في الآيتين اللتين أوردناهما، فإن الإمام عليه السلام قد اعتبر الاسم أو شبه الجملة أو المضاف والمضاف إليه المجاور لـ (إن) هو اسمها الذي هو في محل نصب، وجعل الاسم المتأخر ـ الذي ظنه المعترض اسماً مؤخرا ـ تعامل معه حضرته على أنه خبر، وعلى ذلك رفعه، وعلى ذلك فجميع الكلمات التي أوردها المعترض مرفوعة، ويرى أنها كان يجب أن تكون منصوبةً على أنها اسم (إن) مؤخر هوفهم غير صحيح)، وتخليط وتغليط، ومخالف للغة العرب، ومخالف للقرآن الكريم حسب ما أوردنا، وكل تلك الكلمات في الحقيقة تعرب (خبراً مرفوعاً) كما أوردها الإمام تماماً.
أما المثال رقم (2) وهو قوله عليه السلام : (وأن لكل إنسان لسان وأذنين، وأنف وعينين)فقد ورد في هامش الكتاب أنه من سهو الناسخ، لكن المعترض لا يلتفت إلى الإنصاف، ويرى ما يريد، ويعشو عما لا يريد، ولله الأمر
كذلك المثال رقم (8) في قوله عليه السلام : وحرب (آخر)، والتي يرى المعترض أنها يجب أن تكون (أخرى) فالحرب مؤنث مجازي، وليست مؤنثا حقيقيا، والمؤنث المجازي يجوز فيه التذكير والتأنيث، فيجوز أن أقول هذه حرب، وهذا حرب، وهذه شمس وهذا شمس، أو من قبيل عودة الوصف أو الضمير إلى المعنى، وليس إلى اللفظ.
وهنا نذكر المعترضين الذين ساقهم ضحالة علمهم وقلة إلمامهم باللغة العربية وظنوا أن حضرته عليه السلام أخطأ في قواعد اللغة العربية، نذكرهم بما قاله حضرته عليه السلام في هذا الأمر حيث قال:
والحق أن اللسان العربي – الذي هو المفتاح الحقيقي للصرف والنحو – محيط لا شاطئ له، وتصدُقُ فيه تمامًا مقولة الإمام الشافعي- رحمة الله عليه – الشهيرة التي قال فيها: “لا يعلمه إلا نبي”، أي من المستحيل لأي إنسان أن يحيط بهذا اللسان بشتى لهجاته وأساليبه بشكل كامل إلا نبي. إذن فهذه المقولة أيضًا تؤكّد أنه ليس بوسع كل إنسان أن يمتلك ناصية هذه اللغة من كافة النواحي، بل الإحاطة الكاملة بها إنما هي من معجزات الأنبياء عليهم السلام.(نزول المسيح)
فهذه النكات اللغوية من دقائق اللسان العربيّ والتي ظننتم أنها أخطاءٌ لغوية، ما هي إلا دليل ساطع على نبوة سيدنا أحمد عليه السلام وعلى صدق دعواه لإحاطته بدقائق هذا اللسان مع كونه أعجميا وليس عربيا.
بحث وتحقيق الأستاذ حلمي مرمر
اشتراك وتقديم: د. ايمن عودة