المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية.. 161
الفصاحة في لغات المسيح الموعود عليه السلام..8
الفصاحة والبلاغة ليست حِكرا على قبيلة دون أخرى ولا زمن دون آخر ولا فصيح دون آخر
نتابع ما أورده العلامة عباس حسن في سلسلة مقالاته: “صريح الرأي في النحو العربي داؤه ودواؤه”:
8: من الأمور التي عرض لها عباس حسن في نقده لأصول النحو التي اعتمدها النحاة الأوائل، هو موضوع عصور الاحتجاج ومَن هو العربي الأصيل الذي تؤخذ منه اللغة؛ فعاب على النحاة تجريدهم العربي الأصيل من أصالته وووصفه بأنه مولِّد ومُحدِث، لمجرد اختلاطه بالعجم، وبيّن أن النحاة ليسوا متفقين في تحيدد المعايير الواضحة لكل هذا؛ إذ كيف يمكن الانعزال التام في البادية وعدم مخالطة العجم؟ وما هي مدة مخالطة العجم، قصرها وطولها، التي تحتم نزع الأصالة عن العربي، وكيف لنا أن نفحص ونتتبع ذلك لكل شاعر أو قبيلة؟
فكل هذه الأمور متضاربة، لم يتفق عليها النحاة، الأمر الذي أدّى بهم إلى إهمال لغة الكثير من فحول اللغة، وجرّحوا بهم ووصموهم بوصمة العُجمة والتوليد، كالفرزدق وجرير وكميت والطرماح والأعشى وعدي؛ رغم أن الأخيرَين من فحول الشعراء الجاهليين، ورغم أن جرير والفرزدق يعتبران من فحول الشعر بإقرار الحُذّاق، فكيف للفحولة أن تجتمع مع العجمة والتوليد والتجريد من الأصالة!؟ ونفس هذا الحكم من تجريد العربي من أصالته لم يسلم منه أفذاذ الشعراء كبشار، والمتنبي، والمعري، والشريف الرضي.، ورغم ذلك هنالك من النحاة كابن هشام من استشهد بلغة هؤلاء. فالميدان إذن، ميدان فوضى واضطراب عارمين!!! وفي كل هذا يقول عباس حسن:
“مما تقدم يتضح بجلاء مبلغ اختلاف الأئمة في أمر التوثيق، وفي زمنه، ورجاله، ومكانه، وأن الخلاف ليس لفظياً مناطه مجرد التعريف، وشهوة الجدل المنطقي، بل له آثاره في مادة اللغة، ” ونحوها “، وسائر شئونها؛ إذ يأتي لغوي فيأخذ مادتها من أ عرابي دون أعرابي؛ فيجئ لغوي آخر فيرضى عن الاثنين معاً، وقد يخالف زميله فيما رضي عنه أو فيما استنكره من فرد، أو من قبيلة، أو عسر. ثم يجري النحاة في أعقابهم؛ فيستنبط فريق أحكامهم من كلام هذا دون ذلك، ويخالفه فريق آخر من النحاة مخالفة قليلة أو كثيرة؛ فتصدر الأحكام متناقضة، متضاربة وقد يخطّئ بعضهم بعضاً، ويخطئون الكلام العربي الذي يُستشهد به لتأييد الأحكام، أو يدّعون أن قائله غير فصحيح، أو ليس ممن يحتج بكلامه… أو… ويضطرب الشعراء والكتاب في سائر العصور المتتالية تبعاً لذلك فلا يدرون ما يأخذون وما يدعون” [إ.ه]
أقول: ما تقدم يثبت لنا مرة أخرى أن كل هذه الأحكام التي أُنزلت باللغات المختلفة، مثل: الشذوذ والقلة والندرة والضعف وقلة الفصاحة، ما هي إلا أحكام عبثية تنمّ عن الفوضى والعبث السائدَين في ميدان النحو وأصوله، في تلك العصور الأولى من جمع اللغة وتقعيدها.
ولعل أهم ما أورده عباس حسن في هذا الصدد، هو رأي ابن قتيبة الذي لم يربط صحة اللغة وبلاغتها بأي عصر من العصور ولا قوم دون قوم فيقول:
“ولابن قتيبة رأي يختلف عن هذين؛ فهو يقول. (كل قديم من الشعراء فهو محدِث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله … ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصّ قوما دون قوم؛ بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره …)
ومعنى هذا أنه لا يرتبط في صحة اللغة وبلاغة الكلام بقوم أو بعصر؛ وإنما مناط
الأمر عنده تحقق الغرض الذي يرمي إليه من السلامة والبصر؛ لا يبالي بعد ذلك أين وجدهما، ولا متى صادفهما؛ فلا اعتبار لعصر معين، ولا لقبيلة خاصة؛ وإنما الاعتبار كله للبلاغة وما يتصل بها. وأول شرط من شروطها ـ كما هو معلوم ـ صحة المفردات والتراكيب؛ إذاً لا فضل لعربي في باديته على عربي في حضره، ولا لشاعر جاهلي على آخر إسلامي أو محدث؛ وإنما يجئ التباين من حيث الصحة، ومن حيث البراعة وتحقق البلاغة وشروطها.” [إ.ه]
فأهم ما نخلص إليه من قول ابن قتيبة هذا، أن الفصاحة والبلاغة ليست حِكرا على قبيلة دون أخرى ولا زمن دون آخر ولا فصيح دون آخر. وعليه فإن التجريح ببعض لغات العرب على أنها شاذة أو ضعيفة لقلة السماع بها أو لأنها لم تأت من قبيلة كهذه أو تلك، أو لأنها سُمعت من العرب الفصحاء المتأخرين، أو لوصم المتفوه بها بالعجمة وعدم الأصالة في اللغة ؛ فإن هذا التجريح تجريح عبثي تعسفّي يفتقر إلى الدقة في المعايير.
وفي النهاية أورد عباس حسن رأي مجمع اللغة القاهري في عصور الاحتجاج ومن هم العرب الذين تؤخذ منهم اللغة فقال:
“وقد تجرد المجمع اللغوي (بالقاهرة) لهذه المشكلة، وراقبها من مختلف مناحيها، وانتهى فيها إلى رأي صريح قاطع هو: ” (أن العرب الذين يوثق بعربيتهم، ويستشهد بكلامهم ـ هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني، وأهل البدو من جزيرة العرب إلى آخر القرن الرابع.) ” محتجا بأن اللغة ظلت سليمة في البوادي والحواضر طوال المدة السالفة وما ظهر فيها من خطأ أو لحن خلال تلك المدة ـ قليل يحسن الإغضاء عنه؛ تيسيراً لاستخدام اللغة، واتفاقا على رأي هو أقرب الآراء إلى الصواب، وأكملها نفعاً.” [إ.ه]
وفي رأي ابن قتيبة ورأي مجمع اللغة القاهري، أهمية كبرى للحكم على لغات العرب ولغات القبائل العربية المختلفة، واللغات الأخرى التي يعج بها الرآن الكريم بقراءاته المختلفة، والحديث الشريف، وكلام أئمة اللغة كالشافعي والشعراء الآخرين المتأخرين ممن وُصموا عبثا بوصمة العجمة والتوليد. فلنا أن نقرّ بناء على هذه الآراء، أن ما وصلنا من لغات عربية من قبائل العرب القديمة لا بد أن تُعد من صحيح وفصيح الكلام، وأضرب على سبيل المثال: إلزام المثنى الألف، وإلزام جمع المذكر السالم أو ملحقاته الياء والنون، أو تمييز الأعداد 11-99 بالجمع، أو معاملة كلا وكلتى معاملة المثنى عند إضافتها للاسم الظاهر، فكل هذه اللغات وغيرها لا بد من الإقرار بفصاحتها لأنها واردة عن قبائل عربية عريقة، ولأنه لا أفضلية لقبيلة على أخرى ولا للغة قبيلة على أخرى كما يقر ابن قتيبة وغيره.
كذلك لا بدّ أن نقرّ أن اللغات التي يعج بها الحديث الشريف كلغة اقتران أن بخبر كاد، ولغة أكلوني البراغيث، واعتبار كلمة أجمعين حالا، وصرف الممنوع من الصرف وغيرها الكثير ؛ لا بد من اعتبارها لغات عربية فصيحة لأنها واردة من عصور الاحتجاج اللغوي، فالشافعي عاش في القرن الثاني و الأحاديث الشريفة كانت دونت بمعظمها حتى أواخر القرن الثاني الهجري. لذا فلا بد من الاقرار بفصاحة هذه اللغات كلها الواردة في الحديث الشريف ولغة الإمام الشافعي.
هذه هي اللغات نفسها التي أثبتنا بناء عليها صحة لغات المسيح الموعود عليه السلام، مما يقودنا للقول بأن كل هذه اللغات التي كتب فيها المسيح الموعود عليه السلام لهي لغات عربية ليست صحيحة فحسب بل فصيحة أيضا، لا يستطيع أحد أن يقدح بفصاحتها، لأنها لغات القبائل العربية العريقة التي لا أفضلية لواحدة منها على غيرها في الفصاحة، ولغات أفذاذ اللغة الذين لا فضل لأحدهم على الآخر، ولغات القرون الأولى المختلفة من العصر الجاهلي إلى الإسلامي والتي لا أفضلية لأحدها على الآخر .