المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..242

نكتة الخطأ في التوابع 13

القطع في المعطوفات

الاعتراض:

يدعي المعارضون وقوع الخطأ في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام:

_  فيُجعَلُ رجلٌ مهديا ويُلقَى الروح عليه، ويُنوَّر قلبُه وعينيه. (سر الخلافة، ص 63).

_  وأن لكل إنسان لسانٌ وأذنين، وأنفٌ وعينين (حمامة البشرى)

_  وكان الميّت حيًّا ما دام عيسى قائمٌ عليه أو قاعدًا. (حمامة البشرى)

وموقع الخطأ وارد في عطف الكلمات عينيه / أذنين/ عينين/ قاعدا ، حيث جاءت هذه الكلمات منصوبة رغم أنها معطوفة على أسماء مرفوعة واقعة قبلها.

الرد:

سبق وقد وجهنا هذه الفقرات بتوجيهات مختلفة في مقالات سابقة يمكن الرجوع إليها. إلا أننا في هذا المقال سنوجه هذه الفقرات على ظاهرة عربية فصيحة انقرضت من الكتابات المعاصرة، وهي ظاهرة القطع في النعت والعطف. فكل هذه الكلمات التي جاءت مغايرة في إعرابها لما عُطفت عليه من الكلمات السابقة لها، تتخرج على القطع في العطف وفق ما سوف نبينه في التفصيل التالي.

فالقطع يعني مخالفة التابع لمتبوعه، ومنها مخالفة المعطوف للمعطوف عليه في حركة الإعراب، على النقيض مما توجبه القواعد العربية المعروفة من الإتباع في الحركة. وملخص هذا الاختلاف ما يلي:

1: القطع أي الانتقال من الرفع إلى النصب على تقدير قعل محذوف يفسره السياق

2: القطع أو الانتقال من النصب إلى الرفع  على تقدير مبتدأ محذوف

3: القطع أو الانتقال من الجر إلى الرفع أو النصب على نفس التقديرات

والهدف من القطع هو الإيجاز في اللفظ والتوسع في المعنى كأن تؤدي جملة واحدة معنى جملتين، وسببه هو سبب بلاغي لتأدية دلالات مختلفة، منها المدح أو الذم أو الترحم أو التخصيص وغيرها، كالأمثلة التالية:

1: المدح ، كالقول: (الحمد للهِ الحميدُ) بتقدير مبتدأ بمعنى: (هو الحميدُ). أو كما في قول الله تعالى (والمقيمين الصلاة) وقوله تعالى: (والصابرين في البأساء) فهذه نصبت على تقدير فعل محذوف للمدح بتقدير:(وأمدح).

2: الذم ، كقوله تعالى : { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (5)} (المسد 5) نصب حمالةَ بتقدير فعل (أذمُّ).

3: الترحم كالقول : مررت بعبدِك المسكينَ ، أو : مررت بعبدِك المسكينُ.

ويقول في هذا الدكتور فلاح ابراهيم الفهداوي:

” والنحاة يوجبون حذف عامل الرفع والنصب للنعت والمعطوف المقطوعين، وذلك لأنهم لما قصدوا إنشاء المدح والذم والترحم جعلوا إضمار العامل أمارة على ذلك كما فعلوا في النداء …. وإن كان النعت المقطوع لغير المدح والذم  أو الترحم وإنما كان المراد منه التخصيص أو الإيضاح أو التعميم أو التفصيل، جاز ذكر العامل الذي هو المبتدأ  أو الفعل، حسب الحالة الإعرابية للمقطوع، فنقول مررت بزيدٍ التاجر” بالأوجه الثلاثة بالجر على الإتباع، والرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، والنصب على المفعولية بفعل محذوف ، ولك أن تظهر كلا من المبتدا والفعل وتقول: (هو التاجرُ) و (أعني التاجرَ) وكأنه على تقدير سؤال سائل يقول: من هو؟ أو : من تعني؟.”  [ظاهرة القطع في النعت والعطف دراسة في التركيب والدلالة للدكتور فلاح ابراهيم الفهداوي، مجلة الآداب العدد 129،  ص 114-115]

وبناء على كل هذا فإن القطع قد يأتي للمدح والذم والترحم، وليس هذا فحسب بل أيضا للتخصيص والتفصيل والتعميم وغيرها بتقديرات مختلفة يحددها السياق، كتقدير مبتدأ أو فعل محذوف مثل: أمدح، أذمّ، أقصد، أعني، أذكر .

ويقول النحو الوافي في جواز القطع في العطف ما يلي:

“الصحيح جواز “القطع” في المعطوف عطف نسق؛ كما أشرنا من قبل وهو كثير في المعطوفات المتعددة التي كانت في أصلها نعوتا، ثم فصل بينها بحرف العطف؛ فصارت معطوفات بعد أن كانت نعوتا. وحجة القائلين بصحته وقوعه في أفصح الكلام. ومن الأمثلة كلمة: “الصابرين” من قوله تعالى في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} فقد نصبت كلمة: “الصابرين” بسبب “القطع” ولو كانت معطوفة لرفعت كسائر المعطوفات المرفوعة التي قبلها، ومثل كلمة: “المقيمين” من قوله: في سورة النساء.

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} ، ومثل كلمة: “القائلون” فيما أنشده الكسائي لبعض فصحاء العرب:

وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم … إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظاعنين، ولما يظعنوا أحدا … والقائلون لمن دار نخليها؟

ومثل: ما أنشده الفراء لبعضهم كذلك:

إلى الملكِ القرم وابن الهمام … وليثَ الكتيبة في المردحم

وذا الرأي حين تغم الأمور … بذات الصليل، وذات اللجم

فقد نُصبت كلمتي: “ليث” و”ذا” على الاعتبار السابق …” [النحو الوافي (3/ 660) النحو الوافي (3/ 661)]

ويقول الدكتور فاضل السامرائي في كتابه معاني النحو في سياق الحديث عن القطع في النعوت ما يلي:

” ويقع القطع في النعت كثيرا، وقد يقع أيضا في العطف …. وقد اختفت هذه الظاهرة من التعبير منذ زمن بعيد. ويستعمل القطع لاداء معنى لا يتم بالاتباع، فهو يلفت نظر السامع إلى النعت المقطوع ويثير انتباهه، وليس كذلك الإتباع، وذلك لأن الأصل في النعت أن يتبع المنعوت، فإذا خالفت بينهما نبهتَ الذهن وحرّكته إلى شيء غير معتاد، فهو كاللافتة أو المصباح الأحمر في الطريق، يثير انتباهك ويدعوك إلى التعرف على سبب وضعه. فهذا التعبير يراد به لفت النظر، وإثارة الانتباه إلى الصفة المقطوعة ، وهو يدل على أن اتصاف الموصوف بهذه الصفة بلغ حدا يثير الانتباه.”  [معاني النحو ، مجلد3، ص 193]

ويضيف قائلا:

“وورد القطع في العطف أيضا للدلالة على أهمية المقطوع من بين المعطوفات، جاء في الكشاف في قوله تعالى: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} (البقرة 178) وأخرج الصابرين منصوبا على الاختصاص والمدح إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال.

وجاء في شرح شذور الذهب في قوله تعالى { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } (النساء 163) إن المقيمين نصب على المدح، وتقديره أمدح المقيمين، وهو قول سيبويه والمحققين وإنما قطعت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فضل الصلاة على غيرها. ” [ معاني النحو ، مجلد3، ص 199]

ويتابع ويقول:

“هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنك إذا قطعت فإنك تعني أن المخاطب يعلم من اتصاف الموصوف بهذه الصفة، ما يعلمه المتكلم، فإن القطع يدل على أن الموصوف مشتهر بهذه الصفة، معلوم بها عند السامع، كما عند المتكلم ولست تريد أن تعلمه بها، فإذا قلت (مررت بمحمد الكريم) كان المعنى: مررت بمحمد المعروف بالكرم المشتهر به بخلاف قولك (مررت بمحمد الكريمِ) فإنك قد تريد بذلك أن تميزه عن غيره، وتبينه به، فالقطع لا يكون إلا إذا كان الموصوف مشتهرا بالصفة، معلوما بها حقيقة أو ادعاء أي تدعي أنه مشهور بهذه الصفة، فإذا مدحته بالقطع ادعيت أنه معروف بهذه الصفة مشتهر بها فيكون أمدح له. وإذا ذممته كنت ادعيت أنه مشهور بهذه الخصلة الذميمة معلوم بها، فإنك قلت (مررت بخالد الدنيء) لم ترد أن تعلم المخاطب بأن خالدا دنيء لأن المخاطب لا يجهل ذلك، وإنما أردت ذكره بأمر يعلمه كل أحد فيكون أهجى له، وأذم، قال تعالى: {وامرأته حمالة الحطب} [المسد: 4]، فنصب لأنه لم يرد أن يخبر بأمر مجهول، وإنما ذكرها بأمر مشهور يعرفه كل أحد إضافة إلى الذم بصيغة المبالغة فهو ذمها بصيغة المبالغة أولا ثم بالقطع بأن جعل هذا أمرًا معلوما لا يخفى على أحد.

ولهذا إذا كانت الصفة لقصد التوضيح والتبيين، وتمييز الموصوف من غيره، لا يصح قطعها ” إذ لا قطع مع الحاجة” فالموصوف إذا احتاج إلى مائة صفة ليتميز من غيره لم يصح….” [معاني النحو (3/ 195)]

وقد أفرد سيبويه لكل هذا في كتابه بابا خاصا بعنوان ما ينتصب على التعظيم والمدح جاء فيه:

“باب ما ينتصب على التعظيم والمدح

وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعتَه فابتدأتَه. وذلك قولك: الحمد لله الحميدَ هو، والحمد لله أهلَ الحمد، والمُلك لله أهلَ المُلك. ولو ابتدأته فرفعتَه كان حسنا، كما قال الأخطل:

نفسي فداءُ أميرِ المؤمنين إذا … أبْدَى النواجذَ يومٌ باسلٌ ذكَرُ

الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه … خليفةُ الله يُستسقى به المطرُ

وسمعنا بعض العرب يقول: ” الحمد لله ربَّ العالمين “، فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية.

….

وزعم يونس أن من العرب من يقول: ” النازلون بكل معترك والطيبين ” فهذا مثل ” والصابرين “. ومن العرب من يقول: الظاعنون والقائلين، فنصبُه كنصب الطيبين إلا أن هذا شتمٌ لهم وذمٌّ كما أن الطيبين مدحٌ لهم وتعظيم. وإن شئت أجريتَ هذا كله على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأتَه جميعا فكان مرفوعا على الابتداء. كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما، كلُّ ذلك واسع…..

زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا مَن تخاطب بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فجعله ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكرُ أهلَ ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعلٌ لا يستعمل إظهارُه…..

ومن هذا الباب في النكرة قول أميةَ بن أبى عائذ:

ويَأْوِى إلى نِسوة عُطّلٍ … وشُعثاً مراضيعَ مِثْلِ السَّعالِى

كأنه حيث قال: إلى نسوة عُطّل صِرنَ عنده ممن عُلم أنهن شُعثٌ، ولكنه، ذكر ذلك تشنيعا لهن وتشويها. قال الخليل: كأنه قال: وأذكرهن شُعثاً، إلا أن هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه. وإن شئت جررت على الصفة….

وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرامَ، إذا جعلت المخاطَب كأنه قد عرفهم، كما قال مررت برجلٍ زيدٌ، فتُنزله منزلةَ من قال لك من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تُنزله هذه المنزلة وإن كان لم يعرفهم. [الكتاب لسيبويه (2/ 62-70)]

 

وفي باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم يقول سيبويه :

“وقد يجوز أن يُنصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا يريد مدحا ولا ذما ولا شيئا مما ذكرت لك. وقال:

وما غرّني حوزُ الرِّزاميّ مِحصَناً … عَواشِيَها بالجَوّ وهو خصيبُ

ومِحصن: اسم الرزامى، فنصبه على أعني، وهو فعل يظهر، لأنه لم يرد أكثر من أن يعرفه بعينه، ولم يرد افتخارا ولا مدحا ولا ذما. وكذلك سُمع هذا البيت من أفواه العرب، وزعموا أن اسمه مِحصَنٌ.” [ الكتاب لسيبويه (2/ 74)]

وأهم ما نستشفه من أقوال سيبويه والسامرائي  هذه ما يلي:

_ أن القطع يصير إليه المرء عندما يكون الأمر معروفا عند المخاطب أو السامع حيث يعلم السامع ما يعلمه المتكلم. أو أن يُنزَّل الأمر هذه المنزلة على أنه معروف وإن لم يكن السامع أو المخاطب قد عرفه.  وهذا يتوافق مع ما نقلناه عن الأستاذ فاضل السامرائي حيث قال إن الشهرة تكون إما حقيقة أو ادعاء .

_ قد يجيء القطع لا على معنى التعظيم ولا الشتم ولا الترحم بل على معان أخرى مثلا بحذف الفعل (أعني) أو (أخص) وغيرها..

_ وكما نرى فقد اشترط النحاة للقطع في النعت العديد من الشروط وأهمها أن يكون المنعوت متعَيَّنا ومعروفا دون احتياجه للنعت المقطوع من أجل تعيينه، وأن يكون النعت المقطوع صفة اشتهر بها المنعوت، فالقطع لا يكون إلا إذا كان الموصوف مشتهرا بالصفة، معلوما بها، حقيقة أو أدعاء، أي تدعي أنه مشهور بهذه الصفة، هذا بالإضافة إلى العديد من الشروط التي تختص بالقطع في النعوت وليست بالضرورة منسحبة على القطع في المعطوفات.

فكيف يمكن أن ينطبق الشرط الأول من وجوب أن يكون المنعوت متعيَّنا مسبقا في حالة العطف الذي أصله ليس صفة ؟ أيجب وفق هذا أن يكون المعطوف عليه متعيَّنا مسبقا؟ وما علاقة أن تكون الصفة مشهورة بحالة المعطوف المقطوع، إذا لم يكن أصله صفة؟ أيجب أن يكون المعطوف مشهورا أيضا؟؟. لا نجد مثل هذا التفصيل في المصادر النحوية عند الحديث عن القطع في المعطوفات.

وإنما كل ما نجده هو تناقل هذه المصادر أن القطع في النعت كثير وأنه قد يقع في المعطوفات، دون تفصيل مسهب للقطع في العطف وشروطه. فالسامرائي في معانيه نراه يذيّل كلامه المسهب عن القطع في النعت بقول مقتضب عن القطع في العطف ويقول: وورد القطع في العطف أيضا للدلالة على أهمية المقطوع من بين المعطوفات، ” ثم يذكر بعض الأمثلة القرآنية التي ذكرناها أعلاه. فهل من شروط لهذا القطع كما في النعت؟ وهل تنسحب الشروط في النعت على العطف أيضا؟ وكيف لها أن تنسحب وبأي مفهوم؟ لا نجد تفصيلا لكل هذا..

لذا فإن هذه الشروط التي وضعها النحاة في حالة النعت قد لا تنطبق على القطع في المعطوفات، فها هو النحو الوافي نراه يسهب في شرح شروط القطع في النعت واضعا إياها تحت عنوان خاص: “أحكام خاصة بالقطع في هذا الباب” يقصد باب النعت، وفي تصنيفه هذا ما يدل على أن هذه الأحكام لا تسري على القطع في باب العطف. كما أننا لا نجد أمثلة لهذا القطع في المعطوفات التي أصلها ليس صفات، وكأن أصحاب المصادر ينأون بأنفسهم من الخروج عن إطار المنقولات وما ألفوه في المراجع السابقة القديمة دون محاولة لتقديم شرح إضافي مسهب في حق المعطوف المقطوع.

وليس بإمكاننا التغاضي عن بعض التضارب في أقوال النحاة في هذا الباب، فمن ناحية يقرون ويتشددون بأن القطع لا يرد إلا إذا كانت الصفة مشهور بها الموصوف ومعروفة عند المخاطب، ومن ناحية أخرى يقولون بإمكان تنزيلها منزلة المشهور وإن لم يكن يعلم بها المخاطب.

ثم إننا نجد النحاة يصرون على أن القطع لا يرد  إلا إذا تعين الموصوف مسبقا، وإن احتاج إلى التعيين بهذه الصفة فلا تقطع، بينما نجد سيبويه على النقيض من هذا يقول بإمكانية تنزيل الموصوف منزلة المعروف وإن لم يعرف.حيث جاء في شرح قطر الندى ما يلي:

“وَلَا فرق فِي جَوَاز الْقطع بَين ان يكون الْمَوْصُوف مَعْلُوما حَقِيقَة أَو ادِّعَاء فالاول مَشْهُور وَقد ذكرنَا امثلته وَالثَّانِي نَص عَلَيْهِ سيويه فِي كِتَابه فَقَالَ وَقد يجوز ان تَقول مَرَرْت بقومك الْكِرَام يَعْنِي بِالنّصب أَو بِالرَّفْع إِذا جعلت الْمُخَاطب كَأَنَّهُ قد عرفهم ثمَّ قَالَ نزلتهم هَذِه الْمنزلَة وَإِن كَانَ لم يعرفهُمْ اه” [شرح قطر الندى وبل الصدى (ص: 288)]

 

كما وجدنا في ما نقلناه أعلاه بأن القطع وارد في التعيين على معنى (أقصد و أعني)؛ فهل ما قُصد وعُني كان متعيّنا من قبل، وإن كان كذلك فلماذا يُقصد ويُعنى من جديد على غير المدح والذم!؟؟ فأي لغط وأي تضارب وأي عبث في كل هذا!؟؟؟؟ أولم يكن من الأيسر الاقتصار على جواز القطع على التقديرات المختلفة بغض النظر عن كون الموصوف متعينا مسبقا وبغض النظر عن شهرته وشهرة اتصافه بالصفة، ليكون القطع وحده دليل على التقدير المرجوّ من مدح وذم وتخصيص وغيرها.

لذا فإننا نقول بأن هذه الشروط والتقييدات والتأويلات التي ذهب إليها النحاة ليست بالضرورة قطعية، إذ ليست هي بالضرورة ما كان يجول في خلد العربي الفصيح الذي تكلم بالقطع على سليقته العربية، فهل كان يدور في خلده أن الأمر مشهور ولشهرته يجوز فيه القطع!؟ أم أنه أخذ بالقطع لمجرد اختصار الكلام في إضمار فعل ك: أخص وأمدح وأقصد؛ بغض النظر عن شهرة الأمر الذي يتحدث عنه!؟ لا إثبات في كل هذا ، إذ ليس عبثا أن تكون أقوال النحاة في هذا الباب مبنية فقط على مجرد الزعم، حيث زعم الخليل ذلك وقد يكون هذا الزعم مصيبا أو مخطئا. فهل أحصى الخليل كل مواضع القطع عند العرب؟ واستجوبهم في سبب لجوئهم لهذا القطع يا ترى؟ وإن كان كذلك فهل شمل استجوابه كل من استعمل القطع من العرب؟ وهل شمل استجوابه هذا ما ضاع من اللغة وهو أكثرها!؟؟

كل هذا يجعلنا نميل إلى القول أن القطع ما هو إلا مسألة حذف وإضمار لمبتدأ أو فعل بغض النظر عن مسألة الشهرة والتعيين المسبق للموصوف أو عدمها أو مسائل الذم والمدح وأشباههما ، ولذا نراه واردا في العطف كما في النعت، وكذا على غير معنى التعظيم والمدح والذم والترحم، في معنى (أخص، وأذكر ، وأقصد و أعني )  أيضا. ونميل للقول أن القطع في العطف لا تسير عليه الشروط التي وضعها النحاة في قطع النعت من الشهرة والتعيين المسبقين، وإنما في حالة العطف فالقطع قائم لمجرد تبيان أهمية المعطوف المقطوع بتقديرات مختلفة مثل أخص أعني أذكر وأقصد.

ولكن رغم كل هذا وفي محاولة لمجاراة النحاة واتّباع أقوالهم، أو بعضها، نقول إن ما يمكن أن ينطبق من هذه الشروط على القطع في حالة العطف، هو ما زعمه الخليل عن القطع حيث قال سيبويه : زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا مَن تخاطب بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ… “

 فالأصل في القطع وفق كلام الخليل أن يتحدث القائل بشيء معروف وغير مجهول للسامع أو القارئ.  وهو ما عبر عنه الدكتور السامرائي بقوله إن القطع يعني بأن المخاطب يعلم ما يعلمه المتكلم .

وبناء على كل هذا نرى بأن الفقرات المذكورة أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام والمعترض عليها ، تتوجه وتتخرج على هذه الظاهرة من القطع في المعطوفات، حيث إننا نرى بأن المسيح الموعود عليه السلام يتحدث في هذه الفقرات عن أمور معروفة ومشهورة يعلمها القارئ والسامع مسبقا. كما يلي:

1:  في قول حضرته عليه السلام: فيُجعَلُ رجلٌ مهديا ويُلقَى الروح عليه، ويُنوَّر قلبه وعينيه.

فقد جعل حضرته تنوير العينين للمهدي الذي يُلقى عليه الروح وينوَر قلبه أمرا معروفا ومشهورا وليس ما يجب الإعلام به، لذلك فقد قطع (العينين) على التخصيص بفعل محذوف تقديره (أخصّ عينيه)، ليدلل على أن هذا المهدي يرى ما لا يراه الآخرون .

2: في قوله عليه السلام:  وأن لكل إنسان لسانٌ وأذنين، وأنفٌ وعينين . واضح أن حضرته يحدّث بأمر مشهور لا يخفى على أحد بأن كل إنسان له لسان وأذنان وأنف وعينان، ولشهرته قطع ال(أذنين) و(عينين) على التخصيص بتقدير فعل محذوف على النحو التالي: وأن لكل إنسان لسانٌ وأخصّ أذنين، وأنفٌ وأخصّ عينين. وقد جاء هذا القطع ليدلل على مسؤولية الأذنين والعينين في تحري السراط المستقيم والبحث عنه والإيمان به، إذ جاءت هذه الفقرة في سياق القول إن الإيمانيات ليست من البديهيات، ولا بد من الاجتهاد من أجل الوصول إليها. ومن الطبيعي أن هذا الاجتهاد لا بد أن يتم بإعمال حاستي السمع والبصر، فنبّه إليهما بالقطع.

3: وفي قوله عليه السلام:  وكان الميّت حيًّا ما دام عيسى قائمٌ عليه أو قاعدًا. فقد جاءت هذه الفقرة في سياق تبيان حقيقة معجزات المسيح عيسى ابن مريم في إحياء الموتى وخلقه على هيئة الطير، فمن المعروف بداهة أن هذا الخلق والإحياء كان يحدث بحضور سيدنا عيسى ووجوده على الميت والطير  إما قائما أو قاعدا وليس في هذا من أمر جديد، ولكونه أمرا معروفا قطع حضرته كلمة (قاعدا) على التخصيص ليدلل على أن هذا الخلق كان منوطا بحضور المسيح ومكوثه وبمجرد، غيابه فإن الميت أو الطين يعود إلى حالته الطبيعية، وأن الخلق هو خلق مجازي إعجازي لا حقيقي. والتقدير : وكان الميّت حيًّا ما دام عيسى قائمٌ عليه أو (أخص/ أقصد) قاعدًا. فدلل على أن هذا الإحياء والطيران مؤقت وملازم لمكوث عيسى عليه السلام وبغيابه يضمحل كل هذا الإحياء.

وفي كل هذا مما أسهبناه في شرح هذه الفقرات وسبب اللجوء إلى القطع فيها، يكمن الهدف البلاغي الذي ارتآه المسيح الموعود عليه السلام من هذا القطع، لما فيه من التنبيه إلى معان لا تتحق في الإتباع، ولما فيه من اختصار الكلام والتعبير عن معان مختلفة في جملة واحدة، بدلا من جمل متعددة لتفيد نفس هذه المعاني.

وبغض النظر عن هذه التأويلات المبنية على أقوال النحاة، ولو أردنا تنحية هذه التقييدات والتأويلات جانبا، نظرا لأنها لم تدر في خلد العربي الفصيح حين لجوئه للقطع؛ لنا أن نقول بأن كل هذه الفقرات جاء القطع فيها على اعتبار فعل محذوف تقديره : أخص أو أعني أو أقصد على النحو التالي:

_  فيُجعَلُ رجلٌ مهديا ويُلقَى الروح عليه، ويُنوَّر قلبه وأخص عينيه. (سر الخلافة، ص 63).

_  وأن لكل إنسان لسانٌ وأذكر/ أخص أذنين، وأنفٌ وأذكر / أخص عينين (حمامة البشرى)

_  وكان الميّت حيًّا ما دام عيسى قائمٌ عليه أو أقصد/ أعني/ أخص قاعدًا. (حمامة البشرى)

فلا خطأ في كل ما ورد من العطف في هذه الجمل من كلامه عليه السلام، وإنما إعجاز لغوي في ظاهرة لغوية منقرضة من التعبير العصري.