المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..256

فنون التذكير والتأنيث الإعجازية ..29

اللغة العربية في سابق عهدها لم تلتزم بعلامة التأنيث للمؤنث

الاعتراض :

يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في الجمل التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام :

1: رأيتُ زوجتي محلوق الرأس (التذكرة، ص 529).

2: فلا شك أن خلافته عاري الجلدة من حلل الثبوت، (سر الخلافة

3:  رَبِّ زِدْ في عمري وفي عمرِ زوجي زيادةً خارِقَ العادةِ (التذكرة، ص 414).

4: وإنّما الجذب في الآيات المشهودة، والكرامات الموجودة، وبها تتبدّل القلوب، وتزكّى النفوس وتزول العيو ب، فهي مختصّ بالإسلام، (الاستفتاء)

5: وكانت هذه الخُطّة مقدّرًا له في آخر الزمان من الله الرحمن. (الاستفتاء)

وموضع الخطأ المزعوم هو في تذكير الكلمات: محلوق، عاري، خارق، مختص، ومقدر. حيث جاءت هذه الكلمات خلاف ما هو معروف ومألوف من التذكير والتأنيث.

الردّ:

كنا قد خرّجنا هذه الألفاظ في المقالات السابقة، ووجهناها بتوجيهات مختلفة، منها حمل اللفظ على المعنى ، وكذا تذكير المؤنث للمبالغة والتشبيه. ولنا في هذا المقال أن نوجهها على توجيه آخر يُثبت من جديد، أن لا خطأ في كل هذه المواضع، كما ليس بالضرورة أن تكون مواضع سهو؛ بل كلها تندرج تحت ما سُمع عن العرب من تذكير اللفظ المؤنث؛ حيث إن اللغة العربية الأصيلة لم تلتزم التأنيث بالعلامة بشكل مطرد، ولم تكن علامة التأنيث مستقرة فيها؛ وهو ما يؤكد أن ورود ألفاظ مؤنثة منزوعة تاء التأنيث ليس بالأمر الغريب ولا هو من الخطأ، بل هو من أصل اللغة العربية الفصيحة السابقة لعصر الإسلام بعشرات أو مئات السنين. وهذا بحد ذاته ما يفسر  تذكير الألفاظ التي لا حظّ للذكر فيها بل هي مختصة في الإناث مثل:حائض وطاهر، و تذكير الألفاظ التي تكثر في المذكر فتبقى على حالها مع المؤنث، مثل: مؤذن ووكيل وشاهد.

وهذ ما أكده الدكتور إبراهيم السامرائي في أبحاثه المختلفة والتي أوردنا تفصيلها في مقال سابق (ينظر: مظاهر الإعجاز 125) نورد منها ما يلي مما أورده السامرائي:

_ “وإذا جئنا للفعل في العربية، واتصاله بتاء التأنيث لأن فاعله مؤنث، وجدنا هذه الحقيقة واضحة كل الوضوح، وهي أن العلامة ليست شيئا لازما، وأن ذلك يوضح شيئا من التطور التاريخي في تقرير هذه المادة اللغوية…”[ نقلا عن كتاب ابن كيسان النحوي ص 294]

 

_ “قلت: إن المسألة تثير كثيرا من المسائل، وذلك لأنها تبرز شيئا من التاريخ اللغوي. لكأن العربية القديمة كانت قد مرت بمرحلة تاريخية لم تكن فيها مسألة الجنس في التذكير والتأنيث واضحة تمام الوضوح. وسأعرض لما يدلنا على وجود هذه المرحلة كما لا نعدم النظر في اللغات السامية لنتبين ذلك” [ في التذكير والتأنيث، ص3]

_ ” أجتزئ بهذا القدر من شواهد لغة التنزيل، لأتخذ منها أمثلة على عدم لزوم هذه التاء لبيان المؤنث لزوما مطلقا مطردا، وفي هذا دليل على حدوث هذا وعدم أصالته. غير أن النحويين قد قرروا ما وجدوه في العربية فأفادوا منه قواعدهم في وجوب تأنيث الفعل وجوازه،كما حاولوا أن يكون استقراؤهم في هذه المسألة مستوعِبا جميع الأحوال” [في التذكير والتانيث 13-14]

_ “ويدل الاستقراء على أن التانيث في العربية حتى عصر القرآن الكريم لم يكن على شيء من الاستقرار”[ الفعل زمانه وأبنيته ص 216]

 

_ ” وكأني ميال إلى أن أقرر أن التأنيث بالعلامة طارئ في العربية من الناحية التاريخيةكما هو طارئ في غير العربية من اللغات الساميةكما سنرى، وعلى هذا نستطيع فهم كثير من أبنيتهم التي عريّت عن العلامة من صفات المؤنث كقولهم: امرأة رداح ورداحة وردوح.” [ في التذكير والتأنيث ص 12]

فهذه بعض من أقوال الدكتور السامرائي في هذا الصدد، والتي تدل على أن إلزام تاء التأنيث في المؤنث لم يكن مستقرا في اللغة العربية ولا مطردا، ولا هو بأمر أصيل فيها، بل عارض خلال تطور هذه اللغة مع مرّ الزمن؛ الأمر الذي يؤكد أن ورود ألفاظ مؤنثة دون علامة التأنيث لهو من صلب اللغة العربية الفصيحة.

وهذا الأمر بحد ذاته يفسر وجود مثل هذه الألفاظ في لغتنا العربية المعاصرة، وقد فصّل فيها الفراء في كتابه ” المذكر والمؤنث” ذكر منها ما يلي نعرضه مختصرا وبتصرف:

1: الألفاظ التي لا حظّ فيها للذّكر، وإنما هي خاصة بالمؤنث، كألفاظ الحيض والطمث ومنها: حائض، طاهر، طامث، وطالق، وحامل وعائذ (التي يعوذ بها ولدها)، وحلوب ورغوث، وناتق، وفارك، وعارك، وناشز، ومعضِّل، وجامح…. وهذه قد تدخلها الهاء لأمن اللبس. ومن هذه الألفاظ أيضا: (امراة مذكِر ومُحمِق) و( ذئبة مجرٍ) و( ظبية مخشِف ومُغزل ومُطفِل).

2: الألفاظ التي غلب عليها الاستعمال للرجال دون النساء، فأجريت على الأكثر حتى في استعمالها للنساء. مثل: مؤذن، شاهد، وكيل، وصيّ.

3: الألفاظ التي على صيغة فعيل بمعنى مفعول عند ذكر موصوفها من قبل، مثل : قتيل، وخضيب . فإن لم يذكر الموصوف فتدخلها الهاء .

4: الألفاظ التي على صيغة فعول بمعنى فاعل ، مثل: صبور ، شكور. فإن لم يُذكر الموصوف قبلها فتدخلها الهاء لأمن اللبس والتفريق بين المذكر والمؤنث.

وهذان الصنفان الأخيران، قد فسّر الفراء بقاءهما دون هاء التأنيث، بكونها معدولة عن صيغة (فاعل) و(مفعول) ولم تجد لها فعل تُبنى عليه فترُكت كالمذكر ، فكرهوا أن يُدخلوا الهاء فيما له الفعل وفيما ليس له الفعل، ففرقوا بالهاء بينهما.

5: الألفاظ التي على وزن (مِفعال) مثل أمراة مِحماق (التي تلد طفلا أحمق) ومذكار (التي تلد الذكور) ومئناث (اي التي تلد الإناث). وقد فسر الفراء انسلاخها عن تاء التأنيث لانعدالها عن الصفات وشبهها بالمصادر ولبنائها على غير فعل.

6: أسماء الجنس الجمعية، مثل: بقر وشجر وتمر؛ فهي تؤنث وتذكر.

7: الألفاظ التي تذكر وتؤنث وتختلف القبائل العربية في تذكيرها وتأنيثها مثل: العنق، اللسان (إذا قصد منه الرسالة أو القصيدة او غيره) ، الساق، العَقِب، الذراع، الإبهام، البطن، المتن، القِدر، الأضحى، الخمر، السلطان، الذهب، السبيل، الطريق، الهدى، الحال، العنكبوت، السماء.

8: تذكير المؤنث الذي ليس فيه الهاء أي هاء التانيث. وفي هذا يقول الفراء: والعرب تجترئُ على تذكير المؤنث إذا لم تكن فيه الهاء، مثل : الأرض والعين والريح في الأبيات التالية:

_ فلا مزنة ودقَتْ ودْقَها        ولا أرضٌ أبقلَ إبقالَها

_ إذ هي أحوى من الربعيِّ حاجبُه        والعين بالإثمد الحاري مكحولُ

 

_ كم من جراب عظيم جئت تحمله     ودهنة ريحها يغطِي على التّفلِ

( إلى هنا النقل بتصرف من كتاب المذكر والمؤنث للفراء تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب ص 51- ص63)

وما يهمنا في ما أورده الفراء ما يلي:

1: فكل هذه الظواهر اللغوية تقود وتومئ وتشير، إلى ما خلص إليه الدكتور إبراهيم السامرائي وتعضده، بأن العربية في مرحلة ما قبل الإسلام والقرآن لم تلتزم علامة التأنيث في المؤنث، وان التانيث بالعلامة لم يكن في حلة استقرار. وهذا بحد ذاته يقودنا للاستنتاج بان الكثير من الألفاظ المؤنثة، غير التي جاءت في التصنيفات أعلاه، لم تدخلها هاء التانيث في تلك المرحلة .

2:  أن العديد من هذه الألفاظ التي انتزعت منها علامة التأنيث، هي على صيغة اسم الفاعل واسم المفعول وصيغ أخرى، مثل : فاعل ، مُفعِل، مُفعِّل، فعيل، فعول . أي أنها ليست مقصورة على صيغة ووزن دون آخر.

3: ذهب الفراء -وغيره-  في تفسير هذه الألفاظ على ما هي عليه من التذكير للَفظ المؤنث بتفسيرات مختلفة، والتي قد يكون جزء كبير منها مبنيا على التصور والتوهم ، فالعربي الأصيل لم يدر في خلده كل هذه التفسيرات والتأويلات عند نطقه بهذه الألفاظ، مما يجعل هذه التفسيرات في عداد التخمين ليس إلا؛ وأن القضية برمتها تتلخص في أن مثل هذه الألفاظ وغيرها وارد عن العرب الفصحاء؛ بغض النظر عن تصنيفات وتفسيرات الفراء وغيره من النحاة لها.

وبالأخذ بعين الاعتبار ما أكده الدكتور إبراهيم السامرائي، بأن علامة التأنيث عارضة في اللغة العربية ولم تكن في حالة استقرار قبل القرآن، وبالأخذ بعين الاعتبار أن استقراء اللغة ناقص وأن ما وصلنا منها هو أقلها كما يؤكد النحاة أنفسهم؛ فإن لنا أن نصل إلى النتيجة التالية بكل وضوح وهي:

“ورورد ألفاظ مؤنثة منزوعة علامة التأنيث جائز في أصل اللغة العربية “

وليس بالضرورة ان تكون هذه الألفاظ مقصورة على تفسيرات النحاة لها، بل قد تكون العديد من الألفاظ فيها خارجة عن هذه التصنيفات والتقييدات والتفسيرات، لأن اللغة العربية لم تلتزم في سابق عهدها علامة التأنيث في كل لفظ. كما أن هذه الألفاظ لم تصلنا كاملة حتى نقيدها بما قيده النحاة في تصنيفاتهم.

وهذا بحد دوره يجوّز ورود ألفاظ مؤنثة عديدة أخرى ومشابهة لما سمع ونُقل عن العرب وهي منزوعة علامة التأنيث، وقد تكون مندرجة تحت التصنيفات المذكورة أعلاه أو خارجة عنها. وهذا ما يؤكد صحة العبارات الواردة في كلام المسيح الموعود عليه السلام أعلاه. فبالنظر إليها نرى أنها على صيغة اسم الفاعل واسم المفعول وشبيهة بالألفاظ التي أوردها الفراء في تصنيفاته. ولنا ان نقول بأن أحد توجيهاتها هو : عدم التزام اللغة العربية القديمة بعلامة التأنيث وورود مثل هذه الصيغ مؤنثة دون تاء التأنيث.

ولا بد لنا أن نشير إلى أمر هام أيضا يؤكد ما نقول، وهو أن هذه العبارات الواردة في كلام المسيح الموعود عليه السلام هي على صيغ اسم الفاعل واسم المفعول، وهذه الصيغ حقيقة شبيهة بالفعل وتعمل عمله وتسري عليها نفس أحكام الفعل، وقد أثبتنا في مقالات سابقة جواز تذكير الفعل المتقدم والمتأخر عن الفاعل المؤنث المجازي والحقيقي أيضا، وهذا بحد ذاته يؤكد صحة تذكير هذه الصيغ مع المؤنث الحقيقي والمجازي أيضا، كما هو في عبارات المسيح الموعود عليه السلام . ( يُنظر: مظاهر الإعجاز 101، 124، 125 على الروابط التالية:

 

https://wp.me/pa2lnY-4Dn    (مظاهر 101 )

https://wp.me/pa2lnY-4JJ       (مظاهر 124)

https://wp.me/pa2lnY-4JO     (مظاهر 125)

 

وبناء عليه فإن جاز القول : زيادة يَخرقُ العادة؛ جاز كذلك القول: زيادة خارقَ العادة

وإن جاز القول: رأيت زوجتي يُحلقُ؛ جاز كذلك:رأيتُ زوجتي محلوق.

وإن جاز القول: خلافته يتعرى؛ جاز أيضا: خلافته عاري.

وإن جاز: الكرامات يختصّ بالإسلام؛ جاز: الكرامات مختصّ.

وإن جاز: الخطة يُقدّر؛ جاز: الخطة مقدرٌ.

وقد جوّز ابن كيسان كل هذه الصيغ في الفعل مع المؤنث المجازي، وأثبتنا جوازها مع المؤنث الحقيقي أيضا في المقالات المذكورة أعلاه.