المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..237

وقوع جواب (لما الحينية) فعلا مضارعا

الاعتراض:

يدّعي المعارضون وقوع الخطأ في الفقرة التالية من كلام المسيح عليه السلام وهي:

_ ولما بلَغ أشُدَّه وبلغ الحُلم التامّ وأكمل الأيام، يدخل في الغلمان والخدام، ويستخدمه شَكِسٌ زُعْرُورٌ من اللئام (مكتوب أحمد).

ويقول المعترض معلقا على هذه الفقرة ومحاولا تصحيحها:

“والصحيح: وعندما يبلغ أشدّه ويبلغ الحلم ويكمل الأيام، أو: ولما بلَغ أشُدَّه … دخل في الغلمان. وسبب هذا الخطأ أنه اقتبس الآية القرآنية {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} (يوسف 22) من دون انتباه لزمان فعلها.” إ.هـ قول المعترض.

فعند المعترض يقع الخطأ في الأفعال المضارعة (يدخل) و (يستخدمه)، والتي حسب رأيه لا بدّ ان تكون ماضية لوقوع الفعل بعد (لما) ماضيا أيضا.

الرد:

لا خطأ في كلام المسيح الموعود عليه السلام هذا، وتخريجه على جواز ورود جواب (لما الحينية) فعلا مضارعا، كما تقرّ به المصادر اللغوية والنحوية، وكما أكده مجمع اللغة العربية المصري، وكما هو وارد في القرآن الكريم وفق التبيين التالي.

أولا، لا بد من التوضيح بأن (لما) الواردة في هذه الفقرة مختلَف في أمرها وتسميتها بين النحويين. فهي أداة شرط غير جازمة وتسمى لما الحينية أو التوقيتية أو الظرفية أو الوجودية، وعنها جاء في النحو الوافي ما يلي:

 

“- لما تكون ظرف زمان، بمعنى: حين، فتفيد وجود شيء لوجود آخر. والثاني منهما مترتب على الأول؛ فهو بمنزلة الجواب المعلق وقوعه على وقوع شيء آخر، نحو: لما جرى الماء شرب الزرع، ولهذا لا بد لها من جملتين، بعدها، تضاف وجوبًا إلى الأولى منهما؛ لأنها من الأسماء الواجبة الإضافة لجملة وتكون ثانيتهما متوقفة التحقق على الأولى، وعامل النصب في: “لما” هو الفعل أو ما يشبهه في الجملة الثانية.

والأغلب الأكثر شيوعًا في الجملتين ولا سيما الثانية أن تكونا معًا

ماضيتين لفظًا ومعنى؛ نحو: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ، أو معنى فقط كقول المعري يصف خيلًا سريعة:

ولما لم يسابقهن شيء … من الحيوان سابقن الظلالا

وقول المتنبي:

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا … فلما دهتني لم تزدني بها علما

وقد ورد في القرآن الكريم وقوع الجملة الثانية مضارعية في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} كما ورد فيه وقوعها جملة اسمية مقترنة بالفاء، أو إذا، حيث يقول: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، ويقول: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، وقد تأوّل النحاة هذه الآيات؛ بتقدير حذف الجواب أو بغير هذا، ولا داعي للتأول في القرآن بغير حاجة شديدة، وإذا كنا نقبل التأول في القرآن فلم لا نقبله في كلام من يحاكي القرآن؟ نعم نقبل محاكاته، وندع التأول لمن يتخذه شرطًا للقبول؛ فالنتيجة الأخيرة واحدة، هي صحة الاستعمال، وصحة تأليف الأسلوب على نسق القرآن،…”[ النحو الوافي (2/298 -296) ]

ومما نخلص إليه من هذا النص ما يلي:

1:  أنّ لما الحينية شرطها وجوابها يكونان على الأغلب ماضيين لفظا أو معنى، أي أن يكون الفعلان بعدها، إما ماضيان لفظا، أو ماضيان معنًى، كأن يكون الفعل مضارعا منفيا بلم. وهذا الغالب في أحوالها.

2: يجوز أن يأتي جوابها فعلا مضارعا كما في الآية القرآنية الكريمة: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (75) } (هود 75)  حيث جاء الجواب مضارعا (يجادلنا) رغم كون الشرط ماضيا (ذهب). وحري بنا محاكاة اللغة القرآنية دون تمحّل التأويل فيها.

وقد أكّد هذا الجواز في كون الجواب مضارعا، مصادرُ لغوية أخرى مثل “حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (2/ 391)”

كما أكد هذا الجواز مجمع اللغة العربية المصري في قرار خاص بلما الحينية جاء فيه:

” ترى اللجنة جواز وقوع المضارع في جواب لما، مستأنسة بقول الفراء وابن عصفور، وجواز وقوعه بعدها شرطا، توسعا في التعبير” [ في أصول اللغة، ج4، ص 458]

وقد جاء قرار المجمع هذا بناء على بحث قدمه عضو المجمع الدكتور محمد حسن عبد العزيز ، ونُشر هذا البحث في كتاب المجمع “في أصول اللغة ، ج4، ص 465-467” وأهم ما جاء في هذا البحث متعلقا ببحثنا هذا ما يلي:

“وقد أجاز ابن عصفور وقوع جوابها مضارعا، واستشهد لذلك بقوله تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (75) } (هود 75) بيد أن غيره من النحاة يؤوّل ذلك.

يقول أبو جعفر النحاس: مذهب الأخفش والكسائي أنّ يجادلُنا في موضع جادلَنا، ويقول أبو حيان جواب لما محذوف، وتقديره اجترأ على الخطاب إذ فطن إلى المجادلة، أو قال كيت كيت.

ويجيز الفراء وقوع المضارع جوابا، يقول:وقد يجوز فلما أتاني أثب عليه كأنه قال: أقبلت أثب عليه .  ..

و أقترحُ على اللجنة الموقرة: أن تجيز وقوع المضارع في جواب (لما) مستأنسة بقول الفراء وابن عصفور وأن تجيز وقوعه بعدها شرطا، توسعا في التعبير” إلى هنا بعض ما جاء في بحث الدكتور محمد حسن.

وقد أقرّت اللجنة هذا الاقتراح واعتمده مؤتمر المجمع وصادق عليه فيما بعد.  (ينظر:هامش صفحة 457 من كتاب في أصول اللغة الجزء الرابع)

ووفقا لهذا كله، نرى جواز وقوع المضارع جوابا للَمّا الحينية بإقرار الفراء وابن عصفور وعباس حسن في النحو الوافي وكذا مجمع اللغة العربية المصري، وما كل هذا إلا دحضا وسحقا لاعتراض المعترض على كلام المسيح الموعود عليه السلام، وإثبات صحة وفصاحة ما جاء في الفقرة المذكورة أعلاه من كلامه عليه السلام.

فعلى تفسير الفراء في قوله أعلاه (أقبلتُ أثبُ عليه) يكون قول المسيح الموعود محتملا التقدير التالي: ولما بلَغ أشُدَّه وبلغ الحُلم التامّ وأكمل الأيام، (أصبح/ بدأ ) يدخل في الغلمان والخدام، ويستخدمه شَكِسٌ زُعْرُورٌ من اللئام، غير أن محاكاة هذه اللغة القرآنية دون تقديرات مختلفة يكفينا للرد على المعترض وتبكيته.

وبعد كل هذا يتهاوى ادّعاء المعترض أن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في نقل الآية القرآنية، ويثبت جهل المعترض بالقرآن الكريم ومدى إلمام المسيح الموعود عليه السلام بالدقائق القرآنية واللغوية؛ حيث يحاكي المسيح الموعود عليه السلام اللغة القرآنية في آية غابت عن ذهن المعترض كليا، وهي {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (75) } (هود 75).