المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..208

المقبَّلين على معنى المكفَّلين والمكفولين

الاعتراض:

يدعي المعترض متحديا إيانا بأن المسيح الموعود عليه السلام قد اخطا في اشتقاق اسم المفعول (المقبّلين) في الفقرات التالية :

1: وفي الآية إشارة إلى علامات تُعرَف بها قبولية الدعاء على طريق الاصطفاء، وإيماءٌ إلى آثار المقبَّلين (كرامات الصادقين، ص 65). الصحيح: المقبولين، لأنها من الفعل: قُبِل، وليس قُبِّل.

2: وأرجو أن يسمع ربي ندائي، ويقبل دُعائي، إنه كان بي حفيًّا، وإنه نور عيني وقوة أعضائي، والله إني لمن المقبَّلين (تحفة بغداد، ص 18).

فحسب رأيه لا بدّ أن يكون اسم المفعول (المقبولين) المشتق من الفعل (قبل/ قُبل) إذ لا مكان هنا للفعل (قبّل/قُبّل) ليشتق منه اسم المفعول (مقبّلين).

الرد:

يظن المعترض لجهله وتهوره أن الفعل (قبّل- تقبيلا) لا يعني في اللغة العربية إلا اللّثم والقبلات، ولذا لم يجد له مكانا في فقرات المسيح الموعود عليه السلام التي اعترض عليها. ويظهر بأن المعترض لم يفهم المعنى المقصود من كلام المسيح الموعود عليه السلام، ولم يفهم المقصود من كلمة (المقبّلين) التي استعملها حضرته.

الحق أن المسيح الموعود عليه السلام لم يقصد من عباراته هذه معنى (المقبولين)، بل معنًى آخر مشتقا من الجذر (ق ب ل)، وهو الفعل (قبَل) الذي بمعنى (كفَل)، والذي يمكن أن يُنقل بالتضيف إلى الفعل (قبّل) من أجل التعدية إلى أكثر من مفعول واحد فنقول: قبّلتُ العاملَ العملَ تقبيلا ، فالعامل مقبّل بالعمل أي مكفّل به والعمل مقبَّل بالعامل أي مكفول ومضمون به. ومنه جاء القبيل أي الكفيل والضامن.

وفي هذا جاء في لسان العرب:

“والقَبِيل: الْكَفِيلُ والعَرِيف، وقد قَبَل [قَبِل] «6» بِهِ يَقْبُلُ ويَقْبَلُ ويَقْبِلُ قَبَالةً: كَفَله. وَنَحْنُ فِي قَبالَته أَي فِي عِرافَته، وأَنشد:

إِنَّ كَفِّي لَكِ رَهْنٌ بالرِّضا، … فاقْبُلي يَا هندُ، قَالَتْ: قَدْ وَجَبْ

قَالَ أَبو نَصْرٍ: اقْبُلي مَعْنَاهُ كُوني أَنت قَبِيلًا، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ كُتِبَتْ عَلَيْهِمُ القَبالة. وَيُقَالُ: قَبَّلْتُ العامِلَ تَقْبيلًا، وَالِاسْمُ القَبَالة، وتَقَبَّله العامِلُ تَقَبُّلًا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِياكم والقَبالات فإِنها صِغَارٌ وَفَضْلُهَا رِباً، هُوَ أَن يتَقَبَّل بخَراج أَو جِباية أَكثر مِمَّا أَعطى، فَذَلِكَ الْفَضْلُ رِباً، فإِن تقبَّل وَزَرَعَ فَلَا بأْس. والقَبَالة، بِالْفَتْحِ: الْكَفَالَةُ وهي في الأصل مصدر قَبَل إِذا كَفَل. وقَبُلَ، بِالضَّمِّ، إِذا صَارَ قَبِيلًا أَي كَفِيلًا. وتَقَبَّلَ بِهِ: تَكَفَّلَ كقَبَل. وَقَالَ: قَبَّلْت العامِلَ الْعَمَلَ تَقَبُّلًا، وَهَذَا نَادِرٌ، وَالِاسْمُ القَبالة، وتَقَبَّله الْعَامِلُ تَقْبِيلًا، نَادِرٌ أَيضاً. وَقَدْ رُوِيَ قَبِلْتُ بِهِ وقَبَلْتُ: فِي مَعْنَى كفَلْت عَلَى مِثَالِ فَعِلْت وفَعَلْت.” [لسان العرب (11/ 544)]

 

وجاء في تاج العروس :

 “والقَبيلُ، كأَميرٍ: الكَفيلُ، وَبِه فُسِّرَ قولُه تَعَالَى: وحَشَرْنا علهِم كُلَّ شيءٍ قَبيلاً فِي قراءَةِ مَن قرأَ، ويكونُ المَعنى لَو حُشِرَ عَلَيْهِم كُلُّ شيءٍ فَفَلَ لهُم بصِحَّةِ مَا يقولُ مَا كَانُوا لِيؤمِنوا. والقَبيلُ: العريفُ. أَيضاً: الضّامِنُ، وَهُوَ قريبٌ من معنى الكَفيلِ، وجَمعُ الكُلِّ قُبُلٌ وقُبَلاءُ. وَقد قَبَلَ بِهِ كنَصَرَ وسَمِعَ وضَرَبَ، الثانيةُ نقلهَا الصَّاغانِيُّ، يَقْبُلُ ويَقْبِلُ قَبالَةً، بِالْفَتْح: كَفَلَهُ وضَمِنَه، قالَ:

(إنَّ كَفِّي لَكِ رَهْنٌ بالرِّضا … فاقْبَلي يَا هِنْدُ، قَالَت: قدْ وَجَبْ)

قَالَ أَبو نَصْرٍ: اقْبَلي مَعناهُ كوني أَنتِ قَبيلاً، قَالَ اللِّحيانِيُّ: وَمن ذلكَ قيلَ: كتَبْتُ عَلَيْهِم القَبالَةَ، ويُقال: نحنُ فِي قِبالَتِهِ، بالكسْرِ: أَي عَرافَتِه. وقَبَّلْتُ العامِلَ العملَ تَقَبُّلاً، وَهَذَا نادرٌ لِخُرُوجِهِ عَن الْقيَاس، والاسمُ القُبالَة. وتقَبَّلَه العاملُ تَقبيلاً، وَهُوَ نادرٌ أَيضاً لِخُرُوجِهِ عَن القياسِ، وَحكى بعضٌ وُرودَهُما على القياسِ: قَبَّلْتُهُ إيّاهُ تَقبيلاً، وتقَبَّلَهُ تَقَبُّلاً. وَفِي الأَساسِ: وكُلُّ مَنْ تَقَبَّلَ بشيءٍ مُقاطَعَةً وكُتِبَ عَلَيْهِ بذلكَ الكتابُ فعَملَه القِبالَةُ، والكِتابُ المَكتوبُ عَلَيْهِ هُوَ: القَبالَة، انْتهى. وَفِي حَدِيث ابنِ عبّاسٍ: إيّاكُمْ والقَبالاتِ فإنَّها صَغارٌ، وفَضْلُها رِباً، هُوَ أَن يَتَقَبَّلَ بخَراجٍ أَو جِبايَةٍ أَكثرَ مِمّا أَعطى فذلكَ الفَضْلُ رِباً، فإنْ تَقَبَّلَ وزَرَعَ فَلَا بأْسَ. والقَبيلُ: الزَّوجُ. أَيضاً: الجَماعَةُ، تكونُ من الثلاثةِ فصاعِداً من أَقوامٍ شَتّى، كالزَّنْجِ والرُّومِ والعرَبِ، وَقد يكونونَ من نَجْرٍ واحِدٍ، وَفِي بعضِ الأُصولِ: من نَحوٍ واحِدٍ، ورُبَّما كَانُوا بني أَبٍ واحِدٍ، كالقبيلَةِ،” [تاج العروس (30/ 215-214)]

وقد جاءت في هذا المعنى الآيات التالية :

1: { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } (الإسراء 93)

2: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} (الأَنعام 112)

كما أكّد ذلك مجمع بحار الأنوار:

“«كل شيء “قبلا”» جمع قبيل أو كفيل، أي كفلوا بصحة ما نقول. «والملائكة “قبيلا”» أي جميعا أو كفيلا يكفلون بما تقول: قبلت قبالة وتقبلت، أو تراهم مقابلة..” [مجمع بحار الأنوار (4/ 199)]

وجاء في هذا المعنى الفعل قبّل في الحديث التالي:

“الْقَبِيلُ الْكَفِيلُ حَدِيثُ إِسْمَاعِيلَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ

358 – حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: نا الْمَدَائِنِيُّ أَبُو الْحَسَنِ، قَالَ: خَاصَمَ أَعْرَابِيٌّ مِنَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ امْرَأَتَهُ، فَادَّعَى عَلَيْهَا دَعْوًى، وَجَحَدَتْ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: هَاتِ بَيِّنَتَكَ، قَالَ: قَبِّلْهَا حَتَّى أَجِئَ بِشُهُودِي، قَالَ: لَا أُقَبِّلُهَا، قَالَ: فَارْطُمْهَا، قَالَ: لَا أَرْطُمُهَا.

مَعْنَى قَبِّلْهَا، يَقُولُ: خُذْ مِنْهَا كَفِيلًا، وَارْطُمْهَا: يَعْنِي: احْبِسْهَا فِي السِّجْنِ.” [الدلائل في غريب الحديث (2/ 678)]

وعليه فإذا قبّلها فتصبح هي مقبَّلة أو من المقبَّلين بشخص كفيل لها، فهي من المكفولين والمكفَّلين.

وبناء على ما ورد في هذه المصادر نرى بأن الفعل (قبّل) المضعف بمعنى (كفّل) مسموع ووارد عن العرب فهو صحيح فصيح، هذا بالإضافة إلى صحته وفصاحته بناء على القاعدة التي أقرّها مجمع اللغة العربية المصري بقياسية الانتقال من صيغة (فعَل) إلى وزن (فعّل) من أجل التعدية والتكثير والمبالغة. (ينظر: مظاهر الإعجاز 207 على الرابط التالي: https://wp.me/pcWhoQ-5ha )

فالفعل الأصلي (قبَل) أي (كفَل) يتعدى لمفعول واحد فنقول: قبَل زكريا مريمَ فهو قبيلها، وبالتضعيف يتعدى إلى مفعولين فنقول: قبّل اللهُ زكريا مريمَ ، فزكريا مقبَّل بمريم فهو كفيلها وقبيلها، ومريم مقبّلة بزكريا فهي مكفولة به.

وكما يُعدّى الفعل (قبَل) بالتضعيف، كذلك يُعدّى الفعل الذي بمعناه (كفَل)، فنقول كفّله إياها أي قبّله إياها أي جعله كفيلا وقبيلا لها، ومنه جاءت الآية الكريمة :

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } (آل عمران 38)

وفي هذا جاء في لسان العرب:

“والكافِل: العائِل، كَفَلَه يَكْفُله وكَفَّلَه إِيّاه. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ:

وكَفَلَها زَكَرِيَّا؛ وَقَدْ قُرِئَتْ بِالتَّثْقِيلِ وَنَصْبِ زَكَرِيَّا، وَذَكَرَ الأَخفش أَنه قُرِئَ:

وكَفِلَها زَكَرِيَّا، بِكَسْرِ الفاء. … والكَافِل والكَفِيل: الضَّامِنُ، … وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا، أَي ضمَّنها إِياه حَتَّى تكفَّل بِحَضَانَتِهَا، وَمَنْ قرأَ: وكَفَلَها زَكَرِيَّا، فَالْمَعْنَى ضمِن الْقِيَامَ بأَمرها. وكَفَلَ المالَ وبالمالِ: ضَمِنه. وكَفَلَ بِالرَّجُلِ «3» يَكْفُلُ ويَكْفِلُ كَفْلًا وكُفُولًا وكَفَالَةً وكَفُلَ وكَفِلَ وتَكَفَّلَ بِهِ، كُلُّهُ: ضمِنه. وأَكْفَلَه إِياه وكَفَّلَه: ضمَّنه، وكَفَلْت عَنْهُ بِالْمَالِ لِغَرِيمِهِ وتَكَفَّلَ بِدَيْنِهِ تَكَفُّلًا. أَبو زَيْدٍ: أَكْفَلْت فُلَانًا المالَ إِكْفالًا إِذا ضمَّنته إِياه، ..”  [لسان العرب (11/590 -589)]

وبناء عليه فإن زكريا عليه السلام قد كفَل وقبَل مريم عليها السلام، بعد أنّ الله تعالى قد كفّله وقبّله إياها، فهي من المكفّلين والمقبّلين والمكفولين بزكريا، وزكريا من المكفّلين والمقبّلين بها على اعتباره من عُهد إليه الكفالة والضّمان.

وبناء على هذا المعنى للفعل (قبَل- قبَّل) يمكن فهم كلام المسيح الموعود عليه السلام كما يلي:

1: وفي الآية إشارة إلى علامات تُعرَف بها قبولية الدعاء على طريق الاصطفاء، وإيماءٌ إلى آثار المقبَّلين (كرامات الصادقين، ص 65).

يقصد حضرته أنه في الآيات: {إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} إشارة إلى علامات قبولية الدعاء في سبيل وطريق اصطفاء الله لعباده المصطفَين، وفيها إشارة إلى الآثار التي يقفوها هؤلاء الأصفياء من دعاء الله تعالى وقبولية أدعيتهم، حتى يصبحوا من عباده المقبّلين أي المكفولين المكفَّلين، وكأن الله تعالى قد كفّل وقبّل الملائكةَ هؤلاء الأخيار فأصبحوا من عباد الله المقبّلين.  وعلى هذا المعنى جاءت الفقرة التالية:
2: وأرجو أن يسمع ربي ندائي، ويقبل دُعائي، إنه كان بي حفيًّا، وإنه نور عيني وقوة أعضائي، والله إني لمن المقبَّلين (تحفة بغداد، ص 18).

فقول حضرته عليه السلام أن الله كان به حفيا،  فيه معنى الكفالة والاعتناء الشديد به، حيث معنى (كان بي حفيا) هو أن ربي يغمرني بالحفاوة والإكرام، ، ويعتني بي جدًّا؛ فيُقسم حضرته عليه السلام أنه من المكفولين والمكفّلين والمقبّلين، كأن الله كفّل وقبّل الملائكة إياه للاعتناء به عناية شديدة وإكرامه إكراما شديدا.

وبناء على هذه المعاني يثبت صحة كلام المسيح الموعود عليه السلام، وصحة وفصاحة استعماله للفعل (قبّل) والاشتقاق منه اسم مفعول (مقبّلون)، على معنى المكفَّلين والمكفولين، بما يتلاءم مع سياق ومعنى الفقرات التي وردت فيها هذه الكلمات.