المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..235

المكتفي بمعنى الكافي …

الاعتراض :

يدّعي المعارضون خطأ المسيح الموعود عليه السلام في اشتقاق اسم الفاعل في لفظ (مكتفية) الوارد في الفقرة التالية:

_  الإشارة مكتفية للعاقلين (حمامة البشرى)

وعلى حدّ زعم المعارضين لا بدّ أن يقول حضرته عليه السلام:(كافية)، والتي هي الصحيحة لكونها اسم الفاعل للفعل (كفى)؛ بينما (مكتفية) هي اسم الفاعل من الفعل (اكتفى) وهو ليس المقصود من الفقرة أعلاه.

كما يدعون خطأ المسيح الموعود عليه السلام في استعماله للفعل (يكتفي) بدلا من يكفي في الفقرة التالية:

_ وهو أن الملائكة .. هل يستطيعون أن يفعلوا ما أُمِروا في مقدار وقت لا يكتَفي لانتقالهم من مكان إلى مكان. (حمامة البشرى، ص 136).

ففي كلا العبارتين قد استعمل المسيح الموعود عليه السلام الفعل (اكتفى) بدلا من (كفى) رغم اختلاف دلالات هذين الفعلين. وكل هذا خطأ في استعمال الفعل أو في اشتقاق اسم الفاعل منه.

الرد:

لا خطأ في كلام المسيح الموعود عليه السلام الوارد أعلاه، فبنظرة ثاقبة نرى بأن كلمة (مكتفية) صحيحة وتعطي نفس الدلالة لكلمة (كافية)؛ كما ان الفعل (يكتفي) يعطي نفس الدلالة للفعل (يكفي)؛ حيث إن كل شيء كافٍ هو في الحقيقة مكتفٍ بنفسه مستغنٍ عن غيره لأداء الأمر أو الحاجة، فهو كاف أي مكتف بنفسه وباختصار الكلام نقول: هو مكتف.  كما أن كل شيء يكفي، فهو في الحقيقة يكتفي بنفسه يستغني عن غيره لأداة الأمر.

فقد جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة ما يلي في معنى (كفى):

” كفَى الشّيءُ/ كفَى به/ كفَى له: اكتفى وغنِي؛ حصل به الاستغناءُ عن سواه، ” (معجم اللغة العربية المعاضرة، 3/ 1947)

وبناء عليه فإننا إذا قلنا : النصّ كافٍ لفهم القضية جاز أن نقول : النصّ مكتفٍ بنفسه لفهم القضية أو لإفادة المعنى، بمعنى أنه غني ومستغن عن غيره لأداء الفهم وإفادة المعنى، وباختصار الكلام جاز أن نقول: النصّ مكتفٍ لفهم القضية.

فخلاصة القول أنه لا فرق من حيث المعنى بين (كافٍ) و(مكتفٍ)، إذا ما قُصد بمكتفٍ معنى: مكتفٍ بنفسه؛ ولا فرق بين الفعلين (يكفي) و(يكتفي) إذا قصد بـ يكتفي أنه يكتفي بنفسه.

واستعمال كلمة (مكتفٍ بنفسه) فاشٍ في المصادر اللغوية والدينية لا سيما كتب تفسير القرآن الكريم، للدلالة على معنى (كاف)، وليس بإمكاننا حصر هذا الاستعمال، لذا نسوق عليه بعض الأمثلة من التراث اللغوي والمصادر المختلفة:

1: فقه أشراط الساعة (ص: 181)

لأَن شرعنا مُكْتَفٍ بنفسه، فإذا لم يوجَدْ فيه نصّ؛ ففي النظر والاستدلال غِنًى عن سُؤَالِهِم

2: تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (17/ 205)

وعلى أن قوله (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده،

3: أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 164)

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] هَذَا كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا مِنْ لَفْظِهِ

4: أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 197)

فَهَذَا كَلَامٌ نَاقِصُ الْبَيَانِ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ حُكْمِ

5: أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 197)

وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ [وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ] مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِحُكْمِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ

6: تفسير آيات الأحكام للسايس (ص: 57)

الأساس الذي بُني عليه الخلاف هو: أصدر الآية كلام مكتف بنفسه؟ أم هو غير مكتف بنفسه، بل محتاج إلى العجز؟

7: روائع البيان تفسير آيات الأحكام (1/ 176)

فالحنفية يقولون: إن صدر الآية مكتف بنفسه، وقد تم الكلام عند قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} وسائر الأئمة يقولون: لا يتم الكلام هاهنا، وإنما يتم عند قوله: {والأنثى بالأنثى} فهو تفسير له وتتميم لمعناه، والآية وردت لبيان التنويع والتقسيم.

8: تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص: 122)

 وَالْكِتَابُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ , وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ , وَهُوَ الْجَلِيسُ الَّذِي لَا يُطْرِيكَ , وَالصَّدِيقُ الَّذِي لَا يُغْرِيكَ , وَالرَّفِيقُ الَّذِي لَا يَمَلُّكَ

9: الفصول في الأصول (1/ 42)

وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ ظَاهِرِ

10: الفصول في الأصول (2/ 15)

قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ مِقْدَارِ الْعَدَدِ

 

ففي كل هذه الأمثلة، وغيرها الكثير، جاء استعمال التعبير (مكتفٍ بنفسه) على معنى (كافٍ)، كما هو واضح من السياقات المختلفة.

ومن هنا فإن استعمال المسيح الموعود لكلمة (مكتفية) في قوله: الإشارة مكتفية للعاقلين ، جاء على معنى (مكتفية بنفسها) أي كافية؛ وباختصار الكلام ولأمن اللَّبس، حيث لا يمكن أن تعني معنى آخر، حذف حضرته عليه السلام كلمة (بنفسها) واكتفى بـ (مكتفية).

كما أن قول حضرته عليه السلام (وقت لا يكتفي) جاء على معنى (لا يكتفي بنفسه) أي: لا يكفي، واختصرها بالقول (لا يكتفي).

هذه هي الدقائق اللغوية في الفصاحة والبلاغة، التي لا يمكن أن يتنبه لها سطحيو العلم والمعرفة.  فلا خطأ في كلام المسيح الموعود عليه السلام، بل هي دقائق ونكات لغوية تنمّ عن جهل المعترض عليها.

وبهذا يمكننا تلخيص هذا المقال بالقول: إن كل أمر كافٍ هو كافٍ ومكتفٍ في نفس الوقت؛ لأنه مكتفٍ بنفسه مستغنٍ عن غيره.