المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..155
الفصاحة في لغات المسيح الموعود عليه السلام..2
المعيار الثاني: النسبة الصفرية للّغات الشاذة، والاختيار لا الاضطرار في أستعمالها يجعلها في عداد الفنّ اللغوي
لا يخفى على المنصف العادل مدى الفصاحة والبلاغة في لغة المسيح الموعود العربية، حيث إن مجرد قراءة فقرة بسيطة من كتبه العربية الإعجازية تراها تدخل إلى قلب القارئ وتؤثر فيه وتؤدي إليه المعنى المقصود بكلماتها العذبة، وهذا ما يتطابق مع أحد تعريفات البلاغة في اللغة كما أوضحه الرماني حيث قال: ” البلاغة هي إيصال المعنى إلى القلب، في أحسن صورة من اللفظ” . [ البلاغة العربية مقدمات وتطبيقات ص 26]
وقد اختلف العلماء في تعريف الفصاحة والبلاغة وأعطوها تعريفات مختلفة. والفصاحة في تعريفها الأصلي هي الظهور والبيان، فقال ابن الأثير: “الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم” [ البلاغة العربية مقدمات وتطبيقات ص 17-18] . ومن تعريفات فصاحة المتكلم أنها “ ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح” [ السابق ص 23].
ولا يخفى كل هذا الظهور والبيان ونفاذ المعنى إلى القلب في لغة المسيح الموعود العربية، ليصدق فيها وبحق الإلهام الذي تلقاه عليه السلام ” “كلامٌ أُفصحتْ مِن لدن ربٍّ كريمٍ” وقوله عليه السلام:”فالآن أُيّدتُ من الحضرة، وعلّمني ربي من لدنه بالفضل والرحمة، فأصبحت أديبا ومن المتفرّدين، وألّفت رسائل في حُلل البلاغة والفصاحة، وهذه آية من ربي لأولي الألباب والنصفة، وعليكم حُجّة الله ذي الجلال والعزّة” [نجم الهدى (3/ 38)].
ويؤكد المسيح الموعود هذه المفهوم للفصاحة فيقول:
“أن مدار الفصاحة على ألفاظ مقبولة سواء كانت من لسان القوم أو مِن كلمٍ منقولة مستعمَلة في بلغاء القوم غيرِ مجهولة، وسواء كانت من لغة قوم واحد ومن محاوراتهم على الدوام، أو خالطَها ألفاظٌ استحلاها بلغاءُ القوم، واستعملوها في النظم والنثر من غير مخافة اللَّوْم، مختارين غير مضطرين. فلما كان مدار البلاغة على هذه القاعدة فهذا هو معيار الكلمات الصاعدة في سماء البلاغة الراعدة، فلا حرج أن يكون لفظٌ من غير اللسان مقبولاً في أهل البيان، بل ربما يزيد البلاغة من هذا النهج في بعض الأوقات، بل يستملحونه في بعض المقامات، ويتلذذون به أهلُ الأفانين.” [نور الحق (3/ 79)]
لقد جاء هذا الكلام للمسيح الموعود عليه السلام، في معرض الرد على الطعن بوجود كلمات في القرآن الكريم ليست من لغة قريش التي تعد أفصح قبائل العرب، مما يقدح بفصاحة القرآن الكريم على زعم من اعترض. فهو عليه السلام على الأغلب يتحدث عن فصاحة اللفظ، إلا أننا نستطيع أن نستقي من كلامه عليه السلام النتائج العامة التالية:
- إن الفصاحة تكمن في ما هو معروف ومألوف من اللغة ولا ريب
- هذه الفصاحة لا تمنع استعمال ألفاظ أو لغات غير تلك المستعملة على الدوام
- بل استعمال ما هو غير مستعمل على الدوام لا يقدح بفصاحة المتكلم، لأنه مما استساغه بلغاء القوم واستعملوه في نثرهم ونظمهم
- كون استعمال ما هو غير مشهور، نابع من اختيار المتكلم الفصيح وليس مضطرا إليه لجهله بغيره، يجعله عاضدا لهذه البلاغة والفصاحة التي تجاوره ولا يؤثر فيها سلبا. فقضية الاختيار والاضطرار في الاستعمال معيار واضح للحكم على فصاحة وبلاغة المتكلم.
- لا بد للحكم على الفصاحة والبلاغة من النظر بنظرة شمولية في لغة المتكلم فإن كانت تغلب عليها الفصاحة والبلاغة الظاهرة إلا أنها تشمل ما أدرجه المتكلم الفصيح مما هو غير مشهور برغبته الشخصية واختياره الشخصي غير مضطرا لذلك فإن هذا القليل من غير المشهور لا يضر بهذه الفصاحة بل يزيدها فصاحة وبلاغة؛ بل إنه يرقى إلى مستوى كونه فنّا من الأفانين اللغوية.
وبما أننا في توجيهنا للغات المسيح الموعود عليه السلام قد اعتمدنا على بعض اللغات النحوية غير المشهورة، إلا أنها مما استساغه بلغاء القوم من النحويين والقرّاء والمحدثين والرواة وورد في الوحي القرآني . فلنا أن نبيّن قدر الفصاحة والبلاغة فيها.
وهنا نقول أولا، إن هذه اللغات الشاذة أو غير المشهورة التي ارتكزنا عليها، نسبتها في لغة المسيح الموعود عليه السلام صفرية، ولا يمكن أن تكون هي المقياس في الحكم على الفصاحة والبلاغة بشكل عام. وما دام ثبتت فصاحة وبلاغة المسيح الموعود عليه السلام في المواضع الأخرى التي تشكل معظم ما تكلم به المسيح الموعود عليه السلام، فلا ضير من استعمال هذه اللغات الشاذة أو غير المشهورة لأن ما يقابلها مهيمن وحكم عليها.
ثانيا: فإن استعمال هذه اللغات قد جاء بها الوحي المتنزل على المسيح الموعود عليه السلام، أو المسيح الموعود عليه السلام بنفسه طواعية واختيارا لإراءة جانب من جوانب الإعجاز اللغوي عند حضرته عليه السلام، وإراءة بسطته على اللغة العربية والإحاطة بأدق دقائقها، ومن هنا فإن هذا الجانب الاختياري يجعل من هذه اللغات في عداد الفصيح والفنّ الذي يقوي فصاحة وبلاغة المسيح الموعود عليه السلام، ويثبت هذه البلاغة والفصاحة والبسطة في العلم.
ونذكّر بالمعيار الأول الذي أوردناه نقلا عن ابن جني في المقال الفائت، بأن التكلم بلغات العرب القديمة وغير المعروفة لا يقدح بفصاحة الفصيح الذي ثبت وظهر فصاحته.
لنزيد عليه هذا المعيار الثاني وهو أنه ما دام نسبة اللغات غير المشهورة في كلام المسيح الموعود عليه السلام صفرية مقارنة بالفصاحة والبلاغة الظاهرة التي تجاورها، وما دام استعمال هذه اللغات جاء اختياريا و ليس اضطراريا، وما دامت هذه اللغات قد أكّدها وصدّق عليها بلغاء القوم واستحسنها الكثير منهم، وما دامت هذه اللغات كلها تؤدي المبتغى المطلوب من الفصاحة وهو الظهور والبيان، فإن هذه اللغات تزيد من فصاحة وبلاغة المسيح الموعود وتضفي إليها بعدا فنيّا إعجازيا من الفصاحة والبلاغة، يثبت معجزة حضرته في تعلم اللغة العربية من الله تعالى.