المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..221

توجيهات خارجة عن آراء النحاة

بين التضمين وزيادة الباء على المفعول والنصب على نزع الخافض

في مسألة تعدية الفعل اللازم ولزوم المتعدي التي اعترض عليها المعارضون متهمين المسيح الموعود عليه السلام أنه يخلط بين الفعل اللازم والمتعدي، وجّهنا كل هذه الفقرات على التضمين، وهو بالفعل التوجيه الأساسي لكل تلك الفقرات، على اعتبار أن مجمع اللغة العربية المصري وثلة من كبار النحاة من قبلهم، قد أقرّوا بأن التضمين قياسي وأنه فاشٍ في اللغة وكلام العرب.

ولكننا قد أثبتنا بمحاذاة ذلك في المقال السابق بأن تصنيفات النحاة لما هو مقيس أو غير مقيس، ليست ذات دلالة قطعية ويشوبها ويعتريها الكثير من اللغط والتضارب والاختلاف.كما واتضح لنا جليا معالم معجزة المسيح الموعود عليه السلام العربية، بأنه يتحدث على لغات العرب المختلفة بتعليم الوحي الإلهي له.

ونظرا لكل هذا  بإمكاننا أن نتجاوز اختلافات النحاة هذه، وأن ننظر في لغات العرب المختلفة نظرة خالصة بعيدة عن تصنيفات النحاة لها بما هو مقيس ومطرد وكثير وقليل وشاذ وغير مقيس؛ لأنها اعتبارات قد جاءت متأخرة عن لغات العرب الفصحاء الخلّص الذين لم يدُر بخلدهم كل هذه المسائل والمعايير عند نطقهم بهذه اللغات العربية، التي خُلقت على ألسنتهم وارتجلوها ارتجالا.

وعليه إذا ما وضعنا تصنيفات النحاة هذه جانبا، على اعتبار أنها قرارات إنسانية، وعلى اعتبار ان الله تعالى عندما يقرر أن يوحي إلى نبيّ من أنبيائه بلغات العرب المختلفة، فهو ليس ملزما بأخذ الإذن من نحاة العرب ولا لاستشارتهم في ما هو مقيس من لغات العرب وما هو غير مقيس، فإننا لا نستبعد أن يكون بعض ما أوحى الله تعالى به للمسيح الموعود عليه السلام من قبيل اللغات التي صنفها بعض أو أكثر النحاة بأنها ليست مما يقاس عليه.

ومن بين هذه اللغات هو:

1: زيادة حرف الباء على المفعول به للتوكيد.

2: النصب على نزع الخافض أو ما عُرف بالحذف والإيصال.

 

في إلزام المتعدي:

وعليه فإن العديد من الفقرات في لغة المسيح الموعود  والتي وجهناها على التضمين  لتعدّي الفعل فيها بحرف الجر الباء رغم كونه متعديا بنفسه، فإن من توجيهاتها الأخرى هي أنها على لغة “زيادة حرف الباء على المفعول” والتي هي كثيرة في اللغة العربية؛ ولكن رغم كثرتها فقد أقر النحاة بعدم قياسيتها. والسؤال الذي نسأله هنا: لماذا يا ترى يُحكم على هذه اللغة بعدم القياس رغم كثرتها في اللغة، أولم يصرح النحاة أنفسهم ومن بينهم أبي حيان الأندلسي بأن المقاييس في اللغة تبنى على الكثرة!!!؟

وقد جاء عن زيادة حرف الباء على المفعول ما يلي:

“وأما الباء الزائدة فتكون في ستة مواضع: الأول: الفاعل. وزيادتها معه ثلاثة أضرب….

الثاني: المفعول، وزيادتها معه غير مقيسة، مع كثرتها. نحو: ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة “، ” وهزي إليك بجذع النخلة “، و ” فليمدد بسبب “، ” ومن يرد فيه بإلحاد “. قال ابن مالك: وكثرت زيادتها في مفعول (عَرَف) وشبهه، وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين، كقول حسان:

تبلت فؤادك، في المنام، خريدة … تسقي الضجيع، ببارد، بسام

ومن شواهد زيادتها مع المفعول قول الشاعر:

نحن، بني ضبة، أصحاب الفلج … نضرب بالسيف، ونرجو بالفرج

أي: نرجو الفرج. وأبيات أخر، لا فائدة في التطويل بإنشادها، لشهرتها في كتب النحو. وفي بعضها احتمال.

والمختار أن ما أمكن تخريجه، على غير الزيادة، لا يحكم عليه بالزيادة، وتخريج كثير من هذه الشواهد ممكن، على التضمين، أو حذف المفعول. وقد خرج عليهما قوله تعالى ” ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ” فقيل: لا تلقوا مضمن معنى: لا تفضوا. وقيل: حذف المفعول والباء للسببية، أي: لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. قاله المبرد.”  [الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 48-51) ]

وأما سبب هذه الزيادة للباء فهو التوكيد حيث يقول النحو الوافي في معاني حرف الجر الباء ما يلي:

“التوكيد؛ “وهي الزائدة” جوازًا في مواضع معينة…” [النحو الوافي (2/ 494)]

فها هو الجنى الداني يقر أن زيادة الباء على المفعول كثيرة في اللغة، وعلى كثرتها فهي غير مقيسة. كما أنه يقرّ بأن التوجيه والتخريج على التضمين يبقى أولى من التوجيه على زيادة حرف الجر.

وبناء عليه وعلى كثرة زيادة الباء على المفعول به في اللغة، فإننا لا نستبعد أن تكون الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام، قد حاكت هذه اللغة ونحَت نحوَها ، والجمل هي:

1: “يا داود عامِلْ بالناس رفقًا وإحسانًا.( التذكرة)

2: لا يفكّرون في فعل الله وفيما عامل بعبده. ؟  (الاستفتاء)

3: وإنّهم آلوا أن لا يعاملوا به إلا ظلمًا وزُورا. (الاستفتاء)

4: أتجوّز عقولكم أن تلك المعاملات كلّها (يعامل الله برجل) يعلم أنه يفتري عليه، ويكذب أمام عينيه؟ (الاستفتاء)

5: ألا يرون الآيات من ربي، أو رأوا كمثله ((معاملة الله برجل)) افترى؟ ( الاستفتاء)

6: ” فما لنا أن ((نناضل بهذا الفاضل)) الأجلّ، إنّا من الجاهلين الأميين.” (مكتوب احمد )

7: وكلّمني كما كلّم برسله الكرام. (الاستفتاء)

8: فيكلم بعضهم بالبعض كأنه لا حجاب بينهم وكأنهم متقاربون.(التبليغ)

9: ولعنةُ الله على مَن أنكر بإعجاز القرآن وجوهرِ حُسامه. (الهدى والتبصرة لمن يرى)

10: “وإني أَعزِمُ عليكم بالله الرحمن، أن تَذَرُوني (مجادِلاً بأعداء) المصطفى والفرقان، وتُمِدُّوني بكَفِّ اللسان. (دافع الوساوس)

 

فكل هذه الأفعال التي تعدت بحرف الباء قد تكون جاءت مقيسة على اللغة المذكورة في زيادة الباء على المفعول، أو أنها من الأفعال التي زاد العرب حرف الباء على مفعولها للتوكيد بناء على هذه اللغة، غير أن إثبات كل  هذا يتطلب إحصاء وحصر كل الأفعال التي استعملها العرب على هذه اللغة، سواء في اللغة التي وصلتنا من العربية أو من الجزء الأكبر الضائع من اللغة العربية، وهذا أمر دونه خرط القتاد بل مستحيل. وعليه فإننا لا نستبعد أن تكون الفقرات والأفعال جاءت كجزء من هذه اللغة أو قياسا عليها؛ غير أن التضمين يبقى هو التوجيه الأساسي لها لأنه الأولى على حدّ اعتبارات النحاة.

 

في تعدية الفعل اللازم:

وأما الجمل التي جاء الفعل اللازم فيها متعديا بنفسه، ووجّهناها على تضمين اللازم معنى المتعدي، فهذه الجمل ليس من البعيد أن تكون على قياس لغة ” النصب على نزع الخافض” أو ما عرف “بالحذف والإيصال”، والتي اختلف النحاة أيضا في قياسيتها رغم أن الأغلبية تقرّ بأنها لغة غير مقيسة بل مقصورة على السماع.

وعن هذه اللغة جاء في النحو الوافي في سياق إدراجها كإحدى الوسائل لتعدية الفعل اللازم، ما يلي:

 

إسقاط حرف الجر توسعًا، ونصب المجرور على ما يسمى: “نزع الخافض”، وهذا – مقصور على السماع الوارد فيه نفسه، دون استعمال آخر … كقوله تعالى: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} ، أي: عن أمره، وهذا -كسابقه- يكون فيه الفعل في حكم المتعدي وليس بالمتعدي حقيقه، مراعاة لأنه العامل في المجرور معنى، ولكن لا دخل له في نصبه.

إلى هنا انتهى الكلام على أشهر الوسائل لتعدية الفعل اللازم، ومنها يتضح ما أشرنا إليه قبل سردها، وهو:

أن كل وسيلة تؤدي مع تعدية الفعل اللازم معنى خاصا لا تؤديه أختها -في الغالب- وأن تلك الوسائل قياسية مطردة، ما عدا: إسقاط حرف الجر توسعا، مع نصب المجرور على نزع الخافض، فإن إسقاطه بهذه الصورة مقصور على السماع.” [النحو الوافي (2/ 171- 172) ]

وقد اختُلف في قياسية هذه اللغة، فالأغلب يقول بعدم قياسيتها والآخرون يقولون بقياسيتها إذا وجد حرف جر سابق نظير للحرف المحذوف. حيث ذكر النحو الوافي ذلك في الهامش وقال:

“قال الصبان في هذا الوضع ما نصه في حكم النصب على نزع الخافض: “إنه مخصوص بالضرورة؛ فلا يجوز لنا استعماله نثرًا – أي: في غير الضرورة: الشعرية ولو في منصوبه المسموع”. ا. هـ.

وقال في أول باب المفعول له – ج 2: “إن النصب به سماعي على الأرجح”. ا. هـ.

وقد سبقت الإشارة الوافية لهذه المسألة في ص 159، “وفي ج 1 في رقم 3 من هامش ص 103 – م 7 عند شرح بيت ابن مالك الذي أوله -وسيأتي هنا- فارفع بضم وانصبن فتحًا … “.

ولا داعي للأخذ بالرأي القائل إنه قياسي إذا وجد حرف جر سابق نظير للحرف المحذوف، ولو فصل بينهما فاصل، كبيت ابن مالك:

فارفع بضم، وانصبن فتحًا وجر … كسرًا، كذكر الله عبده يسر”  [النحو الوافي (2/ 171- 172)]

وكما نرى في بيت ابن مالك المذكور قد نصب الكلمات (فتحا وكسرا) على نزع الخافض رغم إقرار النحاة بأنه سماعي، وفي هذا جاء في النحو الوافي:

“وكلمتا فتحا وكسرا في البيت الأخير منصوبتان على ما يسمى “نزع الخافض” (او الحذف والإيصال)، إذا أصلهما: “بفتح – بكسر” وحذف حرف الجر قبلهما فنصب المجرور على ما يسمى: “نزع الخافض….” والمشهور أن النصب على نزع الخافض غير قياسي، كما سيجيء البيان في موضعه من باب: “تعدية الفعل ولزومه”، جـ2 ص 139 م 71” حيث قلنا هناك: لا داعي للأخذ بالرأي الذي يعتبره قياسيا، لأنه يؤدي إلى الخلط والغموط والإلباس، إذ يوقع في وهم كثيرين أن الفعل متعد بنفسه، ولن يتنبه إلى نصبه على نزع الخافض إلى قلة معدودة مشتغلة بالشئون اللغوية.” [النحو الوافي( 1/ 104)]

 

فما دام النحاة مختلفين في قياسية النصب على نزع الخافض ، أيكون الله تعالى -والحال هذه-  ملزما للأخذ برأي النحاة في القياس على هذه اللغة ومحاكاتها!؟ أم أنه هو خالق العرب وخالق لغاتهم ومجريها على ألسنتهم والأعلم بدقائقها وكيفية محاكاتها والوحي بها لمسيح آخر الزمان، حتى يقرر بمعزل عن آراء النحاة وتضارباتهم في هذه الأمور أن يحاكيها ويوحي بها!؟ أنا شخصيا أميل إلى الإمكانية الثانية ومن كان لديه اعتراض فليبديه لنا وليقل لنا بأن الله تعالى -والعياذ بالله- مقيد بالنحاة وآرائهم.

وبناء عليه فإنني لا أستبعد أن يكون تعدية الأفعال اللازمة في فقرات المسيح الموعود عليه السلام المشار إليها، قد جاء أيضا على محاكاة هذه اللغة من الحذف والإيصال والنصب على نزع الخافض. ولكن يبقى التضمين هو التوجيه الأساسي لكل هذه الفقرات على اعتبار قياسيته.

ولعل ما يؤيدنا في هذين التوجيهين الثانويين، هو الرأي الذي أبداه عباس حسن في التضمين، وأشرنا إليه في مقال سابق،  حيث يرى بأن التضمين ليس من الأمور التي يمكن إثباتها بشكل قطعي، وأن هذه الأفعال التي وردت على غير المألوف في تعديتها ولزومها، ولجأ النحاة إلى القول بأنها على هذه الحال تضمينا، من الممكن أن تكون في أصلها جاءت بهذه الصورة من التعدية واللزوم.