المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..109
فنون التذكير والتأنيث الإعجازية 9
سرّ تأنيث كلمة “الكَلِم” .. 1
التوجيه الأول: جواز تأنيث وتذكير كلمة “الكَلِم” لفظا
الاعتراض: تأنيث كلمة “الكَلِم”
اعترض المعارضون على ورود كلمة “الكَلِم” في كتابات المسيح الموعود عليه السلام مؤنثة، رغم أنها في القرآن الكريم مذكّرة، وخلاصة الاعتراض ما يلي:
- سبب تأنيث المسيح الموعود عليه السلام لهذه الكلمة هو كونها مؤنثة باللغة الأردية، أي لتأثير العجمة فيه، ولولا أن هذا هو السبب الحقيقي لكان ذكرها ولو مرة واحدة .
- تأنيث المسيح الموعود عليه السلام لهذه الكلمة رغم ورودها في القرآن الكريم مذكرة، دليل على ضعف صلته بالقرآن الكريم.
- ضعّف المعارضون قول ابن منظور بأن هذه الكلمة مما تذكر وتؤنث في اللغة.
- ضعّف المعارضون استناد ابن منظور على عبارة سيبويه “باب الوقف في أَواخر الكلم المتحركة في الوصل” للتدليل على كون كلمة “الكلِم” مؤنثة، وقالوا إن كلمة “المتحركة” تعود إلى كلمة “أواخر” وليس إلى كلمة “الكلم”.
- هذه الكلمة هي فقط مذكرة في العربية لورودها هكذا في القرآن الكريم، في المواضع التالية: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النساء 46)،{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (المائدة 13)، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (المائدة 41)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر 10).
الردّ:
نقول، إن اعتراضات المعارضين هذه ستبقى دليلا صارخا على مدى جهلهم وقلة علمهم في اللغة العربية، لأنها تدل على أنهم يجهلون الأساسيات في اللغة العربية وليس فقط الدقائق التفصيلية.
*****************************************
تذكير وتأنيث كلمة “الكَلِم” حملا على اللفظ
ليس الأمر متوقفا فقط على عبارة سيبويه التي فهم منها ابن منظور أن “الكَلِم” يجوز تأنيثها، وليس الأمر متوقفا فقط على رأي ابن منظور في هذا الأمر؛ فهنالك العديد من النحاة الذين يقرّون بأن هذه الكلمة واردة عن العرب بالتأنيث ومنهم عباس حسن صاحب النحو الوافي فيقول:
“وهم (العرب) -في أغلب الفصيح- يذكّرون من أسماء الأجناس الجمعية: “البنان” “والكلم”، فيقولون: بنان مخضب. ويقول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، كما يقول: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ويترتب على هذا تأنيث اسم العدد؛ نحو: خمس من البنان المخضب، وسبع من الكلم الطيب” {النحو الوافي (4/ 543)}
فهو يقرّ أن تذكير “الكلم” هو في أغلب الفصيح وليس في كله، أي أنه وارد عن العرب في كلامهم الفصيح أيضا بالتأنيث.
وهنا لا بدّ من التنويه إلى أن “الكلم” هي اسم جنس جمعي، أي ما يفرق بينه وبينه مفرده بالتاء، مثلا بقر/ بقرة، شجر/شجرة، كلِم/كلمة؛ وقد ورد عن العرب الفصحاء في هذا النوع من اسماء الجنس التذكير والتأنيث على السواء؛ فيقول في هذا النحو الوافي ما يلي:
“والأحسن في اسم الجنس الجمعي الأخذ بما ارتضيناه في الجزء الأول “ص21 ورقم 3 من هامشها م1” ونصه كما في الهامش:
“وفي كل ما سبق خلاف أشار إله “الصبان” في باب: “العدد”، وقد تخيرنا أقوى الأوجه. ويؤيد ما تخيرناه ما جاء في “المصباح المنير، مادة: النخل”، ونصه الحرفي: “النخل اسم جمع -كذا يقول- الواحدة: “نخلة”. وكل جمع بينه وبين واحدة الهاء -يريد تاء التأنيث المربوطة- قال: ابن السكيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثره؛ فيقولون: هي التمر، وهي البر، وهي النخل، وهي البقر … ، وأهل نجد وتميم يذكرون. فيقولون: نخل كريم، وكريمة، وكرائم. وفي التنزيل: “نخل منقعر” “نخل خاوية”، وأما النخيل بالياء فمؤنثة. قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك”. ا. هـ. كلام المصباح.
“لكن يتضح من أمثلة النص أن أهل نجد وتميم لا يقتصرون على التذكير وإنما يؤنثون أيضا. ..
ومما يؤيد ما تخيرناه أولا ما جاء في كتاب: “بصائر ذوي التمييز” تأليف: الفيروز آبادي صاحب: “القاموس المحيط” في البصيرة 51 ص277 ونصه عند الكلام على كلمة: “بنيان”: “البنيان: واحد لا جمع له. وقال بعضهم: جمع واحدته: “بنيانة” على حد: “نخل ونخلة”. وهذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه”. ا. هـ.” {النحو الوافي} (4/ 544)
فمما نقله النحو الوافي نرى بأنه بالإضافة إلى ابن منظور وسيبويه، هنالك غيرهم من النحاة الذين يقرّون بإنمكانية وجواز تأنيث كلمة “الكلم” من منطلق كونها اسم جنس جمعي يستوي فيه التذكير والتأنيث في لغات العرب. فمنهم الفيروز أبادي في كتابه “بصائر ذوي التمييز”، ومنهم أبو العباس صاحب المصباح المنير، ومنهم ابن السكيت الذي يقرّ بأن أهل الحجاز كثيرا ما يؤنثون هذا النوع من أسماء الجنس، ومن أمثلته يظهر أنه حتى أهل نجد وتميم يذهبون إلى تأنيثها رغم أنهم يكثرون من تذكيرها. وكذلك عباس حسن صاحب النحو الوافي كما يظهر من نقله رغم أنه ذهب إلى تأنيثها حملا على معنى الجماعة.
ويؤكد كل هذا الأخفش في معاني القرآن والسمين الحلبي في الدر المصون حيث جاء:
“وكذلك كل [ما كان] من نحو “البَقَرِ” ليس بين الواحد والجماعة [فيه] الا الهاء، فمن العرب من يذكره ومنهم من يؤنثه، ومنهم من يقول: “هي البُرُّ والشعير” وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} فأنث على تلك اللغة وقال “باسقات” فجمع لان المعنى جماعة.” {معانى القرآن للأخفش (1/ 112)}
وجاء في الدر المصون للسمين الحلبي:
“قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} : صفةٌ أخرى، أي: مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ..: أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء:ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً … لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: «هو كقولِه: {جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] {الشجر الأخضر} [يس: 80] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن….” . {الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (10/ 528)}
ويلخّص كل هذا الدكتور علي عبد الله العنبكي في كتابه الحمل على المعنى في العربية، عند حديثه عن اسم الجنس الجمعي فيقول: “ويرى النحويون أن اسم الجنس يذكر ويؤنث فنقول فيه: هذا نخل وهذه نخل وهذا بقر وهذه بقر، ونُسب ذلك إلى العرب، وذكر الأخفش أن من العرب من يذكره ومنهم من يؤنثه أي: فيه لغتان لغة التذكير ولغة التأنيث؛ وقد نُسبت لغة التأنيث إلى أهل الحجاز ولغة التذكير إلى تميم وأهل نجد، وجاء القرآن باللغتين. وإذا كان فيه لغتان فلا تعليل ولا تأويل للتذكير والتأنيث.” { الحمل على المعنى 191}
ومن هنا يتضح أن في اسم الجنس الجمعي ككلمة “الكلم” هنالك لغتان واردتان عن العرب وهي التذكير والتأنيث ويقرّ بها النحويون، كل ذلك دون تأويل ولا تعليل، ولا حمل على المعنى، بل بأخذ اللفظ على ما هو عليه. وهذا هو التوجيه الأول لجواز التذكير فيها.
****************************************
بطلان الجزم بتذكير “الكلم” لوقوعها مذكرة في القرآن الكريم:
أقول إن الجزم بتذكير هذه الكلمة لوقوعها هكذا في القرآن الكريم، إنما ينم عن جهل المعترضين المدقع في أصول اللغة العربية ومصادرها! ففصيح الكلام العربي ليس مقصورا على القرآن الكريم.
فرغم كون القرآن الكريم قمة الفصاحة والبلاغة العربية، إلا أن مصادر الكلام الفصيح تعود أيضا إلى لغاة العرب الفصحاء الموغلين في البداوية أمثال القبائل العربية التي سكنت الحجاز ونجد وقبيلة تميم، وهنالك الكثير من فصيح الكلام الذي تحدثت به هذه القبائل والذي قد يقل بدرجة بسيطة عن القرآن الكريم، إلا أنه لا نجده في القرآن الكريم، بل نجد العديد من هذا الفصيح في القراءات القرآنية المختلفة والحديث الشريف والشعر ولغة الإمام الشافعي وغيرها من المصادر.
لذا نقول، أن ورود تعبير أو كلمة معينة على خلاف ما وردت به في القرآن الكريم، فإن هذا لا يمكن أن يقدح بصحتها وفصاحتها، وإن كانت أقل درجة من القرآن الكريم نفسه.
كما أنه لا بدّ من الإشارة إلى أن الكاتب في أساليبه العديدة للتفنن في اللغة والكلام العربي، ليس ملزما للتقيد فقط بما ورد في القرآن الكريم ، فالمسيح الموعود عليه السلام يقرّ بأن الوحي الذي كان يتلقاه كان يعلمه بعض الآيات القرآنية مع بعض التصرف فيها، وليست كما وردت في القرآن الكريم بحذافيرها وحرفيتها. وكل هذا لا يقدح في فصاحته وبلاغته عليه السلام.
*****************************************
صلة المسيح الموعود بالقرآن الكريم:
وبناء عليه فإن تصرف الكاتب في الكلمات والأساليب اللغوية على غير ما وردت في القرآن الكريم، لا يمكن أن يعزى إلى ضعف صلة الكاتب بالقرآن الكريم، لأن الأساليب التي اعتمدها منبعها خياره الشخصي وتصرفه الشخصي بها وحريته في الكتابة، وليست منبعها اضطراريا لعجزه عن كتابة غيرها وعدم معرفته بما جاء في القرآن الكريم نفسه .
ومما يؤكد بطلان زعم المعارضين، بأن حضرته لا يدري كيفية ورود كلمة “الكلم” في القرآن الكريم، وزعمهم بضعف صلته عليه السلام بالقرآن الكريم؛ هو أن هذه الكلمة “الكلم” قد ذكرها في كتاب حمامة البشرى بصورة التأنيث حيث قال:
ويحرّفون الكلم عن مواضعها {حمامة البشرى}؛ ثم في نفس الكتاب أورد حضرته الآية القرآنية التي تحوي هذه الكلمة بصيغة المذكر، وهي :
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ اُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (حمامة البشرى).
وكل من يقرأ كلام المسيح الموعود لا يتأكد من صلته الوثيقة بالقرآن الكريم فقط، بل بالقراءات القرآنية المختلفة وعلوم القرآن التي لا تنتهي، ولا يمكن أن يتهمه بالبعد عن القرآن الكريم إلا مجنون!!!!
كما أن تأنيث حضرته عليه السلام لهذه الكلمة “الكلم” لهو دليل واضح على مدى صلة حضرته عليه السلام الوثيقة بالقرآن الكريم ولغته العربية الفصيحة، وما احتواه القرآن الكريم من أسرار لغوية ونحوية؛ حيث تنبّه حضرته عليه السلام إلى أن القرآن الكريم قد جاء باللغتين في تذكير وتأنيث اسم الجنس الجمعي، كما في الآيات: أعجاز نخل منقعر وأعجاز نخل خاوية؛ فذُكّر وأُنثّ النخل؛ وبناء عليها أجاز لنفسه تأنيث “الكلم” استنادا إلى هذه القاعدة النحوية القرآنية، ولغة العرب هذه. وكل هذا دليل على أن المعارضين هم الذين يجهلون القرآن الكريم ولغته وأساليبه اللغوية وقواعده النحوية، رغم ان منهم من سمى نفسه شاعرا أو حمل نفسه شهادة في اللغة؛ وهم في الحقيقة بعيدون عن القرآن الكريم وأسراره اللغوية سنوات ضوئية لا تحصى.
*****************************************
الخلاصة:
لقد عمد المسيح الموعود عليه السلام على تأنيث كلمة “الكلم” في كل مواضعها، كأمر اختياري يدل على سعة علمه باللغة العربية. وقد جاء هذا التأنيث لهذا اللفظ لجوازه وصحته ولورده عن العرب الفصحاء والقبائل العربية الفصيحة، حيث ورد عنها تأنيث وتذكير اسم الجنس الجمعي كمثل كلمة “الكلم”.
فالتوجيه الأول لتأنيث “الكلم” هو أن هذه الكلمة تندرج تحت اسم الجنس الجمعي، وهو الذي يفرَّق بينه وبين مفرده بالتاء، مثل: بقر /بقرة، شجر/ شجرة، كلم /كلمة. وقد ورد عن العرب الفصحاء تأنيث وتذكير مثل هذا النوع من الأسماء، أي أن فيها لغتان دون اللجوء إلى التأويل، أي بتأنيث وتذكير اللفظ على ما هو عليه؛ وأقرّ بذلك العديد من النحاة كما فصّلناه أعلاه.
وما دامت هذه الكلمة “الكَلِم” وأمثالها من أسماء الجنس الجمعية، واردة في القرآن الكريم وعن العرب بالتأنيث ويجوز فيها ذلك، فلا يبقى للعجمة أية صلة فيها؛ فهي لغة عربية صحيحة وفصيحة ورَغِم أنفُ الكافرين.