المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية… 24
حذف اسم كان للعلم به وقيام القرينة الدالة عليه…
أعجمة هذه يا أعاجم العرب!؟
الاعتراض:
وردت في كتابات المسيح الموعود عليه السلام الفقرة التالية:
“أتصول أيها الجاهل الكاهل على الذي أفحمَ أكابرَ بلغاء الزمان، وأتمّ الحجة على فصحاء أهل اللسان، وخضعتْ له أعناق الأدباء، وآمن به نوابغ الشعراء، وجاءوا خاضعين مقرّين؟ أأنت أسبَقُ منهم في معرفة مواد الأقاويل وتمييز الصحيح من العليل، أو أنت من المجنونين؟ ألا تعلم أنهم كانوا أهل اللسان، وقد غُذُّوا بلبان البيان، وكان يُصبون القلوب بأفانين العبارات ومُلح الأدب ونوادر الإشارات، وكانوا في هذه السكك وعلمِ محاسنها من الماهرين؟ (نور الحق )
وقد اعترض بعض المعارضين على ورود كلمة “كان” -المشار إليها في الخط العريض– بصيغة المفرد، رغم أن فاعلها أو اسمها وكذلك خبرها جمع، فكان لا بد من القول (كانوا يصبون) وليس كان يصبون. وقيل بأن كل هذا مرده إلى العجمة وعدم التمرس في اللغة.
الردّ:
إن هذا الاعتراض يتهاوى دفعة واحدة حين يعلم هؤلاء أن “كان” هذه يسري عليها قاعدة لم يجمع عليها النحاة، من جواز حذف اسم “كان، كما سنبينه من خلال هذا البحث. فكاد يجمع أكابر النحاة على عدم جواز حذف اسم “كان”، أقول” كادوا؛ ولكنهم لم يجمعوا!! ولنا في هذا الصدد أن نتتبع النصوص التالية:
جاء في النحو الوافي عن “كان”:
“وبقى حذف خبرها وحده أواسمها وحده، وكلاهما وهذا ممنوع فى الرأى الأصح عند جمهرة النحاة.” {النحو الوافي (1/ 582)}
وجاء في همع الهوامع في شرح جمع الجوامع عن كان وأخواتها ما يلي: التركيز على ما في الخط العريض
“وَحذف أَخْبَارهَا لقَرِينَة ضَرُورَة وَثَالِثهَا إِلَّا لَيْسَ وَلَو دونهَا ش قَالَ أَبُو حَيَّان نَص أَصْحَابنَا على أَنه لَا يجوز حذف اسْم كَانَ وَأَخَوَاتهَا وَلَا حذف خَبَرهَا لَا اختصارا وَلَا اقتصارا أما الِاسْم فَلِأَنَّهُ مشبه بالفاعل وَأما الْخَبَر فَكَانَ قِيَاسه جَوَاز الْحَذف لِأَنَّهُ إِن روعي أَصله وَهُوَ خبر الْمُبْتَدَأ فَإِنَّهُ يجوز حذفه أَو مَا آل إِلَيْهِ من شبهه بالمفعول فَكَذَلِك لكنه صَار عِنْدهم عوضا من الْمصدر لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا إِذْ الْقيام مثلا كَون من أكوان زيد والأعراض لَا يجوز حذفهَا قَالُوا وَقد تحذف فِي الضَّرُورَة كَقَوْلِه : رَمَانى بأمْر كنتُ مِنْهُ ووالدي … بَريئًا، وَمن أجل الطَّويِّ رمانى
وَقَوله: لَهْفِى عَلَيْك لِلَهْفةٍ من خائفٍ … يَبْغى جوارَك حِين لَيْسَ مُجيرُ
أَي لَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَكنت بَرِيئًا وَمن النَّحْوِيين من أجَاز حذفه ( اي الخبر) لقَرِينَة اخْتِيَارا )وَفصل ابْن مَالك فَمَنعه فِي الجمييع إِلَّا لَيْسَ فَأجَاز حذف خَبَرهَا اخْتِيَارا وَلَو بِلَا قرينَة إِذا كَانَ اسْمهَا نكرَة عَامَّة) تَشْبِيها ب لَا كَقَوْلِهِم فِيمَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ لَيْسَ أحد أَي هُنَا وَقَوله :فأمّا الجُود مِنْكِ فَلَيْسَ جُودُ ..” (إ.هـ) {همع الهوامع في شرح جمع الجوامع }(1/ 425- 426)
وجاء في شرح الأشمونى لألفية ابن مالك في سياق الحديث عن أحكام الفاعل ما يلي:
“الثاني: كونه عمدة، لا يجوز حذفه؛ لأن الفعل وفاعله كجزأي كلمة لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وأجاز الكسائي حذفه تمسكا بنحو قوله “من الطويل”: فإن كان لا يرضيك حتى تردني … إلى قطري لا إخالك راضيا.
وأوله الجمهور على أن التقدير: فإن كان هو، أي: ما نحن عليه من السلامة.
وفي الهامش جاء:
الشاهد: قوله “كان لا يرضيك” حيث حذف اسم “كان” المرفوع، وقد تمسك الكسائي بهذا فأجاز حذف الفاعل.” (إ.هـ) { شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1/ 387-388)}
يتضح من كل هذا ما يلي:
- أن الرأي الراجح لدى أغلبية النحاة في عدم جواز حذف اسم “كان” كما هو الأمر في عدم جواز حذف الفاعل.
- لم يجمع النحاة على هذا المنع، بل خالفهم بذلك الكسائي، فأخذ بجواز الحذف مستدلا بالبيت: فإن كان لا يرضيك حتى تردني … إلى قطري لا إخالك راضيا)؛ بالرغم من أن هنالك مَن أوّل هذا البيت بتقدير ضمير مستتر بعد كان.
ولم يقتصر الأمر على الكسائي في تجويزه لحذف اسم “كان” بل أخذ بهذا أيضا الإمام الشافعي كما يظهر في رسالته، حيث جاء حذف اسم “كان” في الموضع التالي في الخط العريض:
“فَلَمَّا أَمَرَ رسولُ الله مَنْ سلَّف أن يُسَلِّفَ في كيْلٍ معلوم ووَزْنٍ معلوم وأجَلٍ معلوم، أو إلى أجل معلوم: دخل هذا بيعُ ما ليس عند المرء حاضراً ولا مملوكاً حين باعه.
ولَمَّا كانَ هذا مضْموناً على البائع بصفة يؤخذ بها عند مَحَلِّ الأجل: دلَّ على أنه إنما نهى عن بيع عين الشيء في ملك البائع، والله أعلم.
وقد يَحتملُ أن يكون النهيَ عن بيع العين الغائبة،كانتْ في ملك الرجل أو في غير ملكه، لأنها قد تَهْلِكُ وتنقص قبل أن يراها المشتري.” (إ.هـ) {الرسالة للشافعي {(1/ 340)
وقد أكّد على ذلك محقق الرسالة العلامة أحمد شاكر حيث قال في الهامش عن نصب كلمة النهيَ ما يلي: “كذا ضُبط هذا الحرف في الأصل بالنصب، وهو الوجه، وهو الصواب،لأنه خبر “يكون” واسمها محذوف للعلم به، كأنه قال: وقد يحتمل أن يكون “المرادُ” النهيَ ألخ،وضبط في نسخة ابن جماعة بالرفع على انه الاسم، فلا بد من تقدير حذف الخبر، والصواب المناسب للسياق هو الأول“.
ومن هنا نرى بأن أحمد شاكر يؤكد إمكانية حذف اسم كان، ويأخذ به على أنه الوجه الصائب في هذا السياق، ويعلل الحذف “بالعلم به”؛ فقدّر المحذوف على أنه كلمة ” المراد” تقديرا عقليا بناء على السياق.
وبذلك يكون قد اجتمع لدينا ثلاثة من جهابذة اللغة العربية ونحاتها ومحققيها في تجويزهم لحذف اسم “كان”، وهم: الكسائي، والإمام الشافعي الذي يعتبر لغةً وحجةً لوحده، وكذلك العلامة أحمد شاكر.
ولا بد لنا أن نذْكر هنا القاعدة العامة لجواز الحذف والتي يعتمدها النحاة بشكل عام، وهي جواز الحذف بشرطين، الأول” وجود قرينة في سياق الكلام تدل على المحذوف، والثاني: عدم تأثر المعنى وعدم اللبس. وهذا ما يقرّ به النحو الوافي حيث جاء فيه، في سياقات مختلفة للحديث عن الحذف:
“وكل ذلك مع ملاحظة المحذوف ولا يصح شئ مما سبق إلا إذا قامت قرينة تدل على المحذوف مع عدم تأثر المعنى بالحذف، وهذه قاعدة لغوية عامة أشرنا إليها من قبل؛ هى جواز حذف ما لا يتأثر المعنى بحذفه. بشرط أن تقوم قرينة تدل عليه“. {النحو الوافي (1/ 641)}
وعن نفس هذه القاعدة جاء:
“أما في غير تلك الحالة، وكذا في باقي الأخبار، فيجوز حذف الخبر وحده لدليل، عملا بالقاعدة اللغوية التي تبيح عند أمن اللبس حذف ما لا يتأثر المعنى بحذفه كما سيجيء في “أ” ص 641. {النحو الوافي (1/ 635)}
فيتضح مما جاء في رسالة الإمام الشافعي حسب قول المحقق أحمد شاكر، ومن قاعدة الحذف العامة المذكورة في النحو الوافي، بأن الحذف يجوز عند توفر الأمور التالية:
- قيام القرينة التي تدل على المحذوف أو العلم به، وكل ذلك يتأتى من خلال السياق. والقرائن قد تكون لفظية مذكورة في السياق نفسه، وقد تكون قرائن عقلية يستنتجها القارئ من السياق، وفق ما ذهب إليه أحمد شاكر في توجيهه لحذف اسم كان في رسالة الشافعي، حيث قال “للعلم به”؛ وكما تؤكده كتب البلاغة في أقسام القارئن وأنواعها.
- عدم اللبس وعدم تأثر المعنى.
وبالرغم من هذه القاعدة إلا أننا نجد بعض النحاة من لم يشترط قيام القرينة لتجويز الحذف في بعض الأحيان، وإنما نذكر هذا ليتبين القارئ أن هذه القواعد ليست قطعية وليست سارية على الإطلاق في كل موضع، ومثال ذلك في اختلافهم عند تجويز حذف خبر كان وأخواتها؛ فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من أجازه في “ليس” فقط ومنهم من حصره بالضرورة الشعرية، ومنهم من قيّده بوجود القرينة ومنهم من لم يشترط وجود القرينة لكي يتم الحذف مثل ابن مالك؛ كما يتضح من النص المسوق أعلاه من كتاب همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (1/ 425- 426 )
فما ذكرناه أعلاه من ذهاب بعض النحاة واللغويين إلى تجويز حذف اسم كان، بناء على شروط الحذف التي تقول بقيام القرينة ومنع اللبس، نراه ينطبق على فقرة المسيح الموعود عليه السلام المعترض عليها والمذكورة أعلاه تمام الانطباق.
فقد حذف فيها اسم “كان” للعلم به ولقيام القرينة اللفظية عليه من خلال السياق، وهي بعض الكلمات المذكورة في السياق نفسه، وهي: ” فصحاء أهل اللسان”؛ كما أننا لا نرى أي لبس حاصل عند هذا الحذف، فما قبله وما بعده يدل عليه نظرا لوحدة الفكرة والحديث، فلا مناص لأي عاقل إلا أن يفهم ” على الطاير” أن الحديث هو عن فصحاء العرب؛ ليكون التقدير كما يلي:”وكان فصحاء أهل اللسان يصبون”.
وبذلك يثبت أنه لا خطأ وارد في مثل هذه الجملة ولا سهو حاصل فيها ولا تأثير لأي عجمة في كل هذا، إنما هي لغة عربية أصيلة، أخذ بها كبار النحاة واللغويين، وما هي إلا وجه جديد من وجوه الإعجاز اللغوي عند المسيح الموعود عليه السلام، والذي يتمثل بالقاعدة التي تجيز “حذف اسم كان للعلم به أو لقيام القرينة عليه”. هذه اللغة التي جاءت لتدل على تمرس حضرته عليه السلام باللغة العربية وامتلاكه ناصيتها، ولتكون مصداقا لتحقق معجزته عليه السلام في تعلمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة، ونكتة أدبية أخرى من نكاته عليه السلام.